زوجة إمام
جلسَ جماعةُ أصحابِ الحديث في مسجد الكوفة، يَتَنَظَّرون قدومَ شيخِهم الإمامِ «أبي محمدٍ سليمانَ الأعمشِ» ليسمعوا منه الحديث، فأبطأ عليهم، فقال منهم قائل: هلمُّوا نتحدث عن الشيخ فنكون معه وليس معنا. فقال أبو معاوية الضرير: إلى أن يكون معنا ولسنا معه! فخطرتِ ابتسامةٌ ضعيفة تهتز على أفواه الجماعة، لم تبلغ الضحك، ومرَّت لم تُسمع، وكأنها لم تُرَ، وانطلقت من المباح المعفوِّ عنه؛ ولكن أَكبَرَها أبو عَتَّاب منصورُ بنُ المعتمر، فقال: ويلك يا أبا معاوية! أتتندَّر بالشيخ وهو منذ الستين سنة لم تفُتْه التكبيرة الأولى في هذا المسجد، وعلى أنه محدِّث الكوفة وعالمها، وأقرأُ الناس لكتاب الله، وأعلمُهم بالفرائض، وما عرفت الكوفةُ أعبدَ منه ولا أفقهَ في العبادة؟!
فصاح أبو معاوية الضرير: ويحك يا محمد! دَعِ الرجل وشأنه؛ إن لله عبادًا متاعهم مما لا نعرف، كأنهم يأكلون ويشربون في النوم، فحياتهم من وراء حياتنا، وأبو عتَّاب في دنيانا هذه ليس هو الرجل الذي اسمه «منصور»، ولكنه العمل الذي يعمله «منصور». هل أتاكم خبرُ قارئِ المدينةِ «أبي جعفر الزاهد»؟
قال الجماعة: ما خبرُهُ يا أبا معاوية؟ قال: لقد تُوفي من قريب، فرُئي بعد موته على ظهر الكعبة؛ وسترَوْنَ أبا عتَّاب — إذا مات — على منارة هذا المسجد!
فصاح أبو عتَّاب: تَخَلَّلْ يا أبا معاوية؛ أما حفظتَ خبرَ ابنِ مسعودٍ: كنا عند النبي ﷺ فقام رجل، فوقع فيه رجلٌ من بعده، فقال النبي ﷺ: «تخلل.» قال: «ممَّ أتخلل؟ ما أكلت لحمًا؟» قال: «إنك أكلتَ لحم أخيك»؟!
فأسفر وجه أبي معاوية، وسُرِّيَ عنه، واهتزَّ عِطفاه، وأقبل عليهم بعفو القادر … وأنشأ يحدثهم، قال: إن هشامًا — قاتله الله — بعث إلى الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم
فلما فصل الرسول قال لي الشيح: إنه كان في خراسان محدِّث اسمه «الضحاك بن مزاحم الهلالي»، وكان فقيهَ مكتبٍ عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي يتعلمون؛ فكان هذا الرجل إذا تعب ركب حِمارًا ودار به في المكتب عليهم، فيكون إقبالُ الحمار على الصبي همًّا وإدبارُه عنه سرورًا. وما أرى الشيطان إلا قد تعب في مكتبه وأعيا، فركب أمير المؤمنين … ليدور علينا نحن يسألنا: ماذا حفظنا من مساوئ علي؟
قلت: فلماذا ألقمتَ كتابَه الشاة؟ ولو غسلتَه أو أحرقتَه كان أفهم له وكان هذا أشبه بك. فقال: ويحك يا أبله! لقد شابت البلاهة في عارضيك؛ إن هشامًا سيتقطَّع منها غيظًا، فما يُخفي عنه رسوله أنِّي أطعمت كتابَهُ الشاة، وما يُخفي عنه دهاؤه أن الشاة سَتَبْعَرُهُ من بَعْدُ …!
قلت: أفلا تخشى أمير المؤمنين؟
قال: ويحك! هذا الأحولُ عندكَ أميرُ المؤمنين؟! أبما ولدته أمه من عبد الملك؟! فهَبْها ولدته من حائك أو حجَّام! إن إمارة المؤمنين يا أبا معاوية، هي ارتفاع نفس من النفوس العظيمة إلى أثر النبوة؛ كأن القرآن عرض المؤمنين جميعًا ثم رضي منهم رجلًا للزمن الذي هو فيه، ومتى أُصيب هذا الرجل القرآني، فذاك وارث النبي في أمته وخليفته عليها، وهو يومئذٍ أمير المؤمنين، لا من إمارة المُلْكِ والترف، بل من إمارة الشرع والتدبير والعمل والسياسة.
هذا الأحول الذي التفَّ كدودة الحرير في الحرير، وأقبل على الخيل لا للجهاد والحرب، ولكن للهو والحَلْبَة، حتى اجتمع له من جياد الخيل أربعة آلاف فرس لم يجتمع مثلُها لأحدٍ في جاهلية ولا إسلام، وعمل الخز وقُطُف الخز، واستجاد الفرش والكسوة، وبالغ في ذلك وأنفق فيه النفقات الواسعة، وأفسد الرجولة بالنعيم والترف، حتى سلك الناس في ذلك سُنَّتَهُ، فأقبلوا بأنفسهم على لهو أنفسهم، وصنعوا الخير صنعةً جديدة بصرفه إلى حظوظهم، وتركوا الشرَّ على ما هو في الناس، فزادوا الشر وأفسدوا الخير، ولم يعد الفقراء والمساكين عندهم هم الفقراء والمساكين من الناس، بل بطونهم وشهواتهم …! ولقد كان الرجل من أغنياء المسلمين يقتصد في حظ نفسه؛ ليسع ببره مائة أو مائتين أو أكثر من إخوانه وذوي حاجته، فعاد هذا الغني يتسع لنفسه ثم يتسع، حتى لا يكفيه أن يأكل رزقه مائة أو مائتين أو أكثر!
إن هذا الإسلام يجعل أحسن المسرات أحسنها في بذلها للمحتاجين، لا في أخذها والاستئثار بها، فهي لا تضيِّع على صاحبها إلا لتكون له عند الله، وكأنَّ الفقر والحاجة والمسكنة والإنفاق في سبيل الله، كأنَّ هذه أرَضُون يُغرس فيها الذهب والفضة غرسًا لا يؤتي ثمره إلا في اليوم الذي ينقلب فيه أغنى الأغنياء على الأرض، وإنه لأفقر الناس إلى درهم من رحمة الله وإلى ما دون الدرهم؛ فيقال له حينئذ: خذ من ثمار عملك، وخذ ملء يديك!
إن هذه الإمارة يا أبا معاوية، إنما تكون في قُرب الشبه بين النبي ومن يختاره المؤمنون للبيعة، وللنبي جهتان: إحداهما إلى ربه، وهذه لا يطمع أحد أن يبلغ مبلغه؛ والأخرى إلى الناس، وهذه هي التي يقاس عليها، وهي كلها رفق ورحمة وعمل، وتدبير وحياطة وقوة، إلى غيرها مما يقوم به أمر الناس، وهي حقوق وتَبِعات ثقيلة تنصرف بصاحبها عن حظ نفسه، وبهذا الانصراف تُجذَب الناسُ إلى صاحبها. فإمارة المؤمنين هي بقاء مادة النور النبوي في المصباح الذي يضيء للإسلام، بإمداده بالقدْرِ بعدَ القدر من هذه النفوس المضيئة، فإن صَلُحَ الترابُ أو الماء مكانَ الزيتِ في الاستضاءة، صَلُحَ هشامٌ وأمثالُه لإمارة المؤمنين!
ويلٌ للمسلمين حين ينظرون فيجدون السلطان عليهم بينه وبين النبي مثلُ ما بين دينين مختلفين! ويل يومئذٍ للمسلمين! ويل يومئذٍ للمسلمين!
•••
فلما أتمَّ الضريرُ حديثَه قال ابن جُحادة: إن شيخنا على هذا الجد ليمزح، وسأحدِّثكم غير حديث أبي معاوية؛ فقد رأيتُ الدنيا كأنما عرفَتِ الشيخَ ووقفتْ على حقيقته السماوية فقالت له: اضحك مني ومن أهلي. ولكنَّ وقارَه ودينَه ارتفعا به أن يضحك بفمه ضحكَ الجهلاء والفارغين، فضحك بالكلمة بعد الكلمة من نوادره.
والعجيب أن النادرة البارعة التي لا تتفق إلا لأقوى الأرواح، يتَّفق مثلها لأضعف الأرواح؛ كأنها تسخر من الناس كما يسخرون بها؛ فهذا «أبو حسن» معلِّم الكتَّاب، جاءه غلامان من صِبيته قد تعلَّق أحدهما بالآخر؛ فقال: يا معلِّم، هذا عضَّ أذني. فقال الآخر: ما عضضتُها، وإنما عض أُذُنَ نفسِه … فقال المعلم: وتمكر بي يا ابن الخبيثة؟ أهو جَمَل طويل العنق حتى ينالَ أُذن نفسه فيعضَّها …؟!
•••
وطلعَ الشيخ عليهم وكأنما قرأ نفس أبي معاوية في وجهه المتفتِّح، ومن عجائب الحكمة أن الذي يُلمَحُ في عينَي المبصر من خوالج نفسه، يُلمح على وجه الضرير مُكبَّرًا مجسَّمًا. وكان الشيخُ لا يأنس بأحدٍ أُنسَه بأبي معاوية؛ لذكائه وحفظه وضبطه، ولِمُشاكلة الظرف الروحي بينهما؛ فقال له: «فيمَ كان أبو معاوية؟»
– «كان أبو معاوية في الذي كان فيه!»
– «وما الذي كان فيه؟»
– «هو ما تسأل عنه؟»
– «فأجبني عما أسأل عنه.»
– «قد أجبتُك!»
– «بماذا أجبت؟»
– «بما سمعت!»
فقبض وجه الشيخ وقال: «أها هنا وهناك معًا؟ لو أن هذا من امرأة غضبَى على زوجها لكان له معنى، بل لا معنى له ولا من امرأة غضبى على زوجها، أَحْسَبُ لولا أن في منزلي من هو أبغض إليَّ منكم ما خَرَجْتُ؟» فقال الضرير: «يا أبا محمد، كأننا زوجاتُ العلم، فأيَّتُنا التي حَظِيَتْ وبظيت …؟»
قال الشيخ: كان الحديث بهذا اللفظ، ولم يقل النبي ﷺ: «هلاك الرجل طاعته لامرأته.» فإن هذا لا يستقيم؛ إذ يكون بعضُ النساء أحيانًا أكملَ من بعض الرجال، وأوفر عقلًا وأسدَّ رأيًا، وقد تكون المرأة هي الرجل في الحقيقة عزمًا وتدبيرًا وقوة نفس، ويتليَّن الرجل معها كأنه امرأة. وكثيرٌ من النساء يكنَّ نساءً بالحِلية والشكل دون ما وراءهنَّ، كأنما هُيِّئنَ رجالًا في الأصل ثم خُلقنَ نساءً بعدُ؛ لإحداث ما يريد الله أن يُحدِث بهن، مما يكون في مثل هذه العجيبة عملًا ذا حقيقتين في الخير أو الشر.
والمرأة ضعيفة بفطرتها وتركيبها، وهي على ذلك تأبى أن تكون ضعيفةً أو تُقِرُّ بالضعف، إلا إذا وجدت رجلها الكامل، رجلها الذي يكون معها بقوته وعقله وفتنته لها وحبها إياه، كما يكون مثال مع مثال. ضع مائة دينار بجانب عشرة دنانير، ثم اترك للعشرة أن تتكلم وتدَّعي وتستطيل؛ قد تقول: إنها أكثر إشراقًا، أو أظرف شكلًا، أو أحسن وضعًا وتصفيفًا؛ ولكن الكلمة المحرَّمة هنا أن تزعم أنها أكبرُ قيمة في السوق …!
قال الشيخ: ومَنْ مِنَ النساءِ تصيب رجلَها الكامل أو القريب من كماله عندها؛ أي طبيعته بالقياس إلى طبيعتها، كمالَ جسم مُفَصَّلٍ لجسم؛ تفصيلَ الثوب الذي يلبسه ويختال فيه؟ أمَا إن هذا من عمل الله وحده، كما يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، يبسط مثل ذلك للنساء في رجالهن ويقدر.
قال الشيح: وكأن في الحديث الشريف إيماءً إلى أن بعض الحق على النساء أن ينزلن عن بعض الحق الذي لهنَّ؛ إبقاءً على نظام الأمة، وتيسيرًا للحياة في مجراها؛ كما ينزل الرجل عن حقه في حياته كلها إذا حارب في سبيل أمته؛ إبقاءً عليها وتيسيرًا لحياتها في مجراها. فصبر المرأة على مثل هذه الحالة هو نفسه جهادها وحربها في سبيل الأمة، ولها عليه من ثواب الله مثلُ ما للرجل يُقْتَلُ أو يُجْرَحُ في جهاده.
ألا وإن حياةَ بعضِ النساء مع بعض الرجال تكون أحيانًا مثل القتل، أو مثل الجرح، وقد تكون مثل الموت صبرًا على العذاب! ولهذا قال رسول الله ﷺ لمُزَوَّجَةٍ يسألها عن حالها وطاعتها وصبرها مع رجلها: «فأين أنتِ منه؟» قالت: ما آلوه إلا ما عجزتُ عنه! قال: «فكيف أنت له؟ فإنه جنتك ونارك.»
آه! آه! حتى زواج المرأة بالرجل هو في معناه مرور المرأة المسكينة في دنيا أخرى إلى موت آخر، ستحاسب عنده بالجنة والنار، فحسابها عند الله نوعان: ماذا صنعتِ بدنياك ونعيمها وبؤسها عليك؟ ثم ماذا صنعت بزوجك ونعيمه وبؤسه فيك؟
وقد رُوينا أن امرأة جاءت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، إني وافدةُ النساء إليك. ثم ذكرتْ ما للرجال في الجهاد من الأجر والغنيمة؛ ثم قالت: فما لنا من ذلك؟
فقال ﷺ: «أبلغي مَنْ لقيتِ من النساء أن طاعةً للزوج، واعترافًا بحقه، يعدل ذلك، وقليل منكنَّ من يفعله!»
وقال الشيخ: تأمَّلوا، اعجبوا من حكمة النبوة ودقتها وبلاغتها؛ أيقال في المرأة المحِبَّة لزوجها المفتتنة به المعجبة بكماله: إنها أطاعته واعترفت بحقه؟ أَوَلَيس ذلك طبيعة الحب إذا كان حبًّا؟ فلم يبقَ إذن إلا المعنى الآخر، حين لا تصيب المرأةُ رجلَها المفصَّلَ لها، بل رجلًا يسمى زوجًا؛ وهنا يظهر كرم المرأة الكريمة، وها هنا جهاد المرأة وصبرها، وها هنا بذلها لا أخذها؛ ومن كل ذلك ها هنا عملها لجنتها أو نارها.
قال الشيخ: والقلوب في الرجال ليست حقيقة أبدًا، بطبيعة أعمالهم في الحياة وأمكنتهم منها، ولكن القلب الحقيقي هو في المرأة؛ ولذا ينبغي أن يكون فيه السمو فوق كل شيء إلا واجبَ الرحمة؛ ذلك الواجب الذي يتجه إلى القوي فيكون حبًّا، ويتجه إلى الضعيف فيكون حنانًا ورقة؛ ذلك الواجب هو اللطف؛ ذلك اللطف هو الذي يثبتُ أنها امرأة.
•••
قال أبو معاوية: وانفضَّ المجلس، ومنعني الشيخ أن أقوم مع الناس، وصرف قائدي؛ فلما خلا وجهه قال: يا أبا معاوية، قم معي إلى الدار. قلت: ما شأنٌ في الدار يا أبا محمد؟ قال: إن «تلك» غاضبة علي، وقد ضاقت الحال بيني وبينها، وأخشى أن تتباعد، فأريد أن تُصلح بيننا صلحًا.
قلت: فممَّ غضبُها؟ قال: لا تسأل المرأة ممَّ تغضب، فكثيرًا ما يكون هذا الغضب حركة في طباعها، كما تكون جالسة وتريد أن تقوم فتقوم، وتريد أن تمشي فتمشي!
قلت: يا أبا محمد، هذا آخر أربع مرات تغضب عليك غضب الطلاق، فما يحبِسُك عليها والنساء غيرها كثير؟
قال: ويحك يا رجل! أبائع نساء أنا! أما علمتَ أن الذي يُطلق امرأة لغير ضرورة ملجئة، هو كالذي يبيعها لمن لا يدري كيف يكون معها وكيف تكون معه؟ إن عمرَ الزوجة لو كان رقبةً وضُربت بسيف قاطع لكان هذا السيف هو الطلاق!
وهل تعيش المطلقة إلا في أيامٍ ميتة؟ وهل قاتِلُ أيامها إلا مطلِّقها؟
قال أبو معاوية: وقمنا إلى الدار، واستأذنتُ ودخلتُ على «تلك» …