الطائشة (١)
ولها طبعٌ شديدُ الطرب للحياة، مسترسل في مرحه، خفيفٌ طَيَّاشٌ، لو أثقلتَهُ بجبل لخفَّ بالجبل؛ تحسبها دائمًا سَكْرى تتمايل من طربها، كأن أفكارها المرحة هي في رأسها أفكارٌ وفي دمها خمرٌ …
وكان هذا الطبع السكران بالشباب والجمال والطرب يعمل عملين متناقضين؛ فهو دلال متراجع منهزم، وهو أيضًا جرأة مندفعة متهجِّمة.
وهزيمة الدلال في المرأة إنْ هي إلا عملٌ حربي، مضمَرةٌ فيه الكرَّةُ والهجوم؛ وكثيرًا ما تُرَى فيها النظرة ذات المعنيين نظرة واحدة؛ بها تُؤَنِّبُكَ المرأة على جراءتك معها، وبها أيضًا تَعْذُلُكَ على أنك لستَ معها أجرأ مما أنت …!
قلتُ: ويحك يا هذا! أتعرف ما تقول؟
قلت: وثلاثة أرباع العلم الباقية؟
قال: يأخذنها من الروايات والسيما.
علم المدارس، ما علم المدارس؟ إنهنَّ لا يصنعن به شيئًا إلا شهاداتٍ هي مكافأة الحفظ وإجازة النسيان من بعد؛ أما علم السيما والروايات فيصنعن به تاريخهن … ورُبَّ منظرٍ يشهدُهُ في السيما ألفُ فتاةٍ بمرة واحدة، فإذا استقرَّ في وعيهن، وطافت به الخواطر والأحلام، سلبهنَّ القرار والوقار فمثَّلْنَهُ ألفَ مرة بألفِ طريقة في ألف حادثة!
يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة بعد واحدة، من حرية المرأة وعلمها؛ أما أنا فأرى حرية المرأة وعِلمها لا يُوجِدان إلا العقبات النسائية عقبة بعد عقبة. وقد كان عيب الجاهلة المقصورة في دارها أن الرجلَ يحتال عليها، فصار عيب المتعلمة المفتوح لها الباب أنها هي تحتال على الرجل؛ فمرة بإبداع الحيلة عليه، ومرة بتلقينه الحيلة عليها. والغريب في أمر هذا العلم أنه هو الذي جعل الفتاة تبدأ الطريق المجهول بجهل …!
قلت: وما الطريق المجهول؟
قال: الطريق المجهول هو الرجل، وإطلاقُ الحرية للفتاة أطلق ثلاث حريات: حرية الفتاة، وحرية الحب، والأخرى حرية الزواج، ولمَّا انطلق ثلاثتهن معًا، تغيَّر ثلاثتهن جميعًا إلى فساد واختلال.
أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج، فعادت للزواج في الأقل وفي الأكثر للَّهو والغزل؛ وكان لها في النفوس وقار الأم وحرمة الزوجة، فاجترأ عليها الشبان اجتراءَهم على الخليعة والساقطة؛ وكانت مقصورةً لا تُنال بعيب ولا يتوجه عليها ذم، فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت إليها العيوب بأقدام كثيرة … وكانت بجملتها امرأة واحدة، فعادت مما ترى وتعرف وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى، وأعصابها امرأة ثالثة …
وأما الحب، فكان حبًّا تتعرف به الرجولة إلى الأنوثة في قيود وشروط، فلما صار حرًّا بين الرجولة والأنوثة، انقلب حيلةً تغترُّ بها إحداهما الأخرى؛ ومتى صار الأمر إلى قانون الحيلة، فقد خرج من قانون الشرف، ويرجع هذا الشرف نفسه كما نراه، ليس إلا كلمة يُحتال بها.
وأما الزواج، فلما صار حرًّا جاء الفتاة بِشِبْهِ الزوج لا بالزوج … وضعُفت منزلته، وقل اتفاقه، وطال ارتقاب الفتيات له، فَضَعُفَ أثرُه في النفس المؤنثة؛ وكانت من قبلُ لَفْظَتَا «الشابِّ، والزوجِ» شيئًا واحدًا عند الفتاة وبمعنًى واحد، فأصبحتا كلمتين متميزتين؛ في إحداهما القوة والكثرة والسهولة، وفي الأخرى الضعف والقلة والتعذر؛ فالكل شبان، وقليل منهم الأزواج، وبهذا أصبح تأثير الشباب على الفتاة أقوى من تأثير الشرف، وعاد يُقنعها منه أخس برهاناته، لا بأنه هو مُقنع، ولكن بأنها هي مهيَّأة للاقتناع …
وفي تلك الأحوال لا يكون الرجل إلا مغفلًا في رأي المرأة، إذا هو أحبها ولم يكن محتالًا حيلةَ مِثْلِهِ على مثلها، ويظل في رأيها مغفلًا حتى يخدعها ويستزلَّها؛ فإذا فعل كان عندها نَذْلًا لأنه فعل … وهذه حرية رابعة في لغة المرأة الحرة، والزواج الحر، والحب الحر!
وانظر — بعيشك — ما فعلتِ الحريةُ بكلمة «التقاليد»، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهه حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها فجعلتها في هذا العصر أشهر كلمة في الألسنة، يُتَهَكَّمُ بها على الدين والشرف وقانون العُرْفِ الاجتماعي في خوف المعَرَّةِ والدناءة والتَّصاون من الرذائل والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك «تقاليد» …
وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك، وأَجْرَيْنَهَا في اعتبارهن مكروهةً وحشيةً، وأَضَفْنَ إليها من المعاني حَوَاشِيَ أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند أكثر المتعلمات من «التقاليد» … أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهل العصر وحماقته وفجوره وإلحاده؟ أهي كلمة تَعَلَّقَها الفتياتُ المتعلماتُ لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة ما يُحْبِبْنَهُ …؟
•••
وأساس المرأة في الطبيعة أساس بدني لا عقلي، ومن هذا كانت هي المصنع الذي تُصنَع فيه الحياةُ، وكانت دائمًا ناقصة لا تتم إلا بالآخر الذي أساسه في الطبيعة شأن عقله وشأن قوته …
مثلُ هذه إنما يكون الثناء عندها حينما يكون أقلُّه باللسان العلمي ولغته، وأكثره بالنظر الفني ولغته، وهذا على أنها عالمة الجنس ونابغته، ودليل شذوذه العقلي، والواحدة التي تجيء كالفَلتَةِ المُفْرَدَةِ بين الملايين من النساء؛ فكيف بمن دونَها؟ وكيف بالنساء فيما هن نساء به؟
دَعْ جماعةً من العلماء يمتحنون هذا الذي بَيَّنْتُ لك، فيأتون بامرأة جميلة نابغة، فيضعونها بين رجال لا تسمع من جميعهم إلا: ما أعقلَها، ما أعقلها، ما أعقلها! ولا ترى في عينَي كلٍّ منهم من أنواع النظر وفنونه إلا نظرَ التلميذِ لِمعلمةٍ في سنِّ جَدَّته … فهذه لن تكون بعدَ قريبٍ إلا في حالة من اثنتين: إما أن يخرجَ عقلُها من رأسها، أو … أو تخرجَ في وجهها لحيةٌ …!
وكأن العقل الإنساني قد غضب لمهانةِ كلمته وما عرَّها به النساء، فأراد أن يُثبت أنه عقل، فاستطاع بحيلته العجيبة أن يجعل لكلمة: «ما أعقلها» كلَّ الشأن والخطر، وكلَّ البلاغة والسحر، عند … عند الطفلة … تفرح الطفلة أشد الفرح إذا قيل: ما أعقلها …!
قال محدثي: فهذا هذا. إن إحساسَ المرأةِ بالعالَم وما فيه من حقائق الجمال والسرور، إنما هو في إحساسها بالرجل الذي اختارتْه لقلبها، أو تَهُمُّ أن تختارَه، أو تودُّ أن تختارَه؛ ثم إحساسها بعد ذلك بالصور الأخرى من رجُلِها في أولادها، وحياة المرأة لا أسرار فيها ألبتة، حتى إذا دخلها الرجل عرفتْ بذلك أن فيها أسرارًا، وتبيَّنتْ أن هذا الجسم الآخر هو فلسفة لجسمها وعقلها.
قال: ومذهبي في الحبِّ الكبرياءُ، كما قلتَ أنت، غير أنها الكبرياءُ التي تُدرك المرأةُ منها أني قوي لا أنِّي متكبِّر؛ كبرياء الرجل إما مَهيبٌ مَرِحٌ يملك أفراحَ قلبِها، وإما حزينٌ مهيبٌ يملك أحزان هذا القلب.
إن المرأة لا تحب إلا رجلًا يكون أولُ الحُسنِ فيه حُسنُ فهمِها له، وأول القوة فيه قوة إعجابها به، وأول الكبرياء فيه كبرياءها هي بحبه وكبرياءها بأنه رجل. هذا هو الذي يجتمع فيه للمرأة اثنان: إنسانُها الظريف، ووحشُها الظريف!
•••
قلت: لقد بَعُدْنا عن القصة، فما كان خبر صاحبتك تلك؟
قال: كانت صاحبتي تلك تعلمُ أني متزوج، ولكنَّ إحدى صديقاتها أنبأتها بكبريائي في الحب، ووصفتني لها صفةَ الإحساسِ لا وصفَ الكلام؛ فكأنما تنبَّهتْ فيها طبيعةُ زَهْوِ الفتاة بأنها فتاة، وغريزة افتتان الأنثى بأن تكون فاتنة؛ فرأت في إخضاعي لجمالها عملًا تعملُه بجمالها.
ومتى كانت الفتاةُ مستخفَّةً «بالتقاليد» كهذه الأديبة المتعلمة، رأت كلمة «الزوج» لفظًا على رجل كلفظ الحب عليه، فهما سواءٌ عندها في المعنى، ولا يختلفان إلا في «التقاليد» …
إن المعجزة أن هذه الفتاة صارت مدرِّسة، أو مفتِّشة، أو ناظرة في وزارة المعارف، أو مؤلِّفة كتب وروايات، أو محرِّرة في صحيفة من الصحف. ولا يَصْغُرَنَّ عندك شأنُ هذه المعجزة، فهي — والله — معجزة ما دام يتحقَّق بها خروج الفتاة من حكم الطبيعة عليها، وبقاؤها في الاجتماع المصري امرأةً بلا تأنيث، أو انقلابُها فيه رجلًا بلا تذكير!
وكيف لا يكون من المعجزات أن تأليف رواية قد أغنى عن تأليف أُسْرَةٍ؛ وأن فتاةً تعيش وتموت وما ولدتْ للأمَّة إلا مقالاتٍ …؟
فقلت: يا صاحبي، دَعْ هؤلاء وخُذِ الآن في حديث الطائشة الخارجة على التقاليد، وقد قلتَ إنها عَرضتْ لك كما يعرض المصارع للمصارع.
أما أنا فأحببتُها حبًّا عقليًّا، وكان هذا يشتدُّ عليها؛ لأنه إشفاق لا حب. وكانت إذا سألتني عن أمرٍ ترتابُ فيه، قالت: أجبني بلسان الصدق لا بلسان الشفقة. وكانت تقول إنَّ في عينيها بكاءً لا تستطيع أن تزيله مع الدمع، وسيقتلها هذا البكاء الذي لا يُبْكَى، وقد اتخذتْ لها في دارِها خَلوة سَمَّتْها: «محرابَ الدمع!» قالت: لأنها تبكي فيها بكاءَ صلاةٍ وحبٍّ، لا بكاءَ حبٍّ فقط!
ثم طاشتِ الطيْشةَ الكبرى …!
•••
قلت: وما الطيشةُ الكبرى؟
عزيزي رغم أنفي …
لقد أذللتني بشيئين: أحدهما أنك لم تَذِلَّ لي، وجعلتني — على تعليمي — أشدَّ جهلًا من الجاهلة؛ وقد نَسِيتَ أن المرأة المتعلمة تعرف ثم تعرف مرتين: تعرف كيف تخطئ إذا وجب أن تخطئ، وهذه هي المعرفة الأولى؛ أما المعرفة الثانية فتَوهَّمْها أنت، فكأني قلتُها لك …
اعلم — يا عزيزي رغم أنفي — أني إذا لم أكن عزيزتَك رغم أنفك، فسآتي ما يجعلك سَلَفًا ومَثَلًا، وستكتب الصحفُ عنك أول حادث يقع في مصر عن أول رجل اختطفتْهُ فتاةٌ …!
وبعدُ؛ فقد أرسلتُ روحي تُعانق روحَك، فهل تشعرُ بها؟!
فقلت لها: أهذا هو العلم الذي تَعَلَّمْتِهِ؟ ألا يكون علمُ المرأةِ خليقًا أن يجعلَ صاحبتَهُ ذاتَ عقلين إذا كانت الجاهلةُ بعقلٍ واحد؟
قالت: العِلْم؟
قلت: نعم، العلم.
•••
قال صاحبها: فقلت لها: كأنَّ العلمَ إفسادٌ للمرأة! وكأنه تعليمُ معرَّاتِها ونقائِصِها، لا تعليمُ فضائلها ومحاسنها …
قالت: لا، ولكنَّ عقل المرأة هو عقلُ أنثى دائمًا، ودائمًا عقلُ أنثى؛ وفي رأسها دائمًا جوُّ قلبِها، وجوُّ قلبها دائمًا في رأسها؛ فإذا لم تكن مدرستُها متممةً لدارها وما في دارها، تَمَّمَتْ فيها الشارعَ وما في الشارع.
أما بغير هذا الشرط، فالمرأة الفلَّاحة في حِجْرِها طفلٌ قَذِر، هي خيرٌ للأمة من أكبرِ أديبةٍ تُخْرِجُ ذرِّيةً من الكتب …
… وأنا أعيش اليومَ في الجمال؛ لأني أعيش في بعض خفايا الحبيب …
وفي الحياةِ موتٌ حُلْوٌ لذيذٌ؛ عرفْتُ ذلك حينما نسيتُ نفسي على صدره القوي، وحينما نسيتُ على صدره القوي صدري …
•••
قلْتُ لصاحبِنا: ثم ماذا؟