الطائشة (٢)
والعقل الذي به التفكير يكون أحيانًا غيرَ العقل الذي به العمل؛ ففي بعض الجاهلات يكون عقل الحياء والعفة والشرف والدين، غريزة كغرائز الوحش، هي الفكرة وهي العمل جميعًا، وهي أبدًا الفكرة والعمل جميعًا لا تتغير ولا تتبدل، ولا يقع فيها التنقيح الشعري ولا الفلسفي … وما غريزة الوحش إلا إيمانه بمن خلقه وحشًا؛ وكذلك غريزة الشرف في الأنثى هي عندي حقيقة إيمانها بمن خلقها أنثى.
لقد غفلتِ الحكوماتُ عن معنى الدين وحقيقته، فلو عرفَتْ لعرفَتْ أن الإنسانية لا تقوم إلا بالدين والعلم كليهما؛ فإن في الرجل إنسانًا عامًّا ونوعًا خاصًّا مذكرًا، وفي المرأة إنسانٌ عامٌّ كذلك، ونوعٌ خاصٌّ مؤنثٌ. والدين وحده هو الذي يُصلِح النوع بتحقيق الفضيلة وتقرير الغاية الأخلاقية، وهو الذي يحاجز بين الغريزتين، وهو الذي يضع القوة الروحية في طبيعة المتعلم؛ فإن كانت طبيعة التعليم قوية، كانت الروحية زيادةٌ في القوة؛ وإن كانت ضعيفةً كما هي الحال في هذه المدنية، لم تجمعِ الروحيةُ على المتعلم ضَعْفَيْن، يبتلي كلاهما الآخر ويزيده.
•••
وأما المتعلمة فيقول «فلانها»: إنها ككلِّ امرأة، وإن صدودها ثورة، ولكنْ من دلالها تُرضي به أول ما تُرضي وآخرَ ما تُرضي، كبرياءَ الجمال فيها لا الإيمان ولا الفضيلة؛ فكأنها إيحاء للطامع أن يزيد طمعًا أو يزيد احتيالًا …
•••
يقول كاتب «الطائشة»: أما أنا، فقد صحَّ عندي أن سياسة أكثر المتعلمات هي سياسة فتح العين حَذَرًا من الشبان جميعًا؛ وإغماض العين لواحد فقط …
وهذا الواحد هو البلاء كله على الفتاة؛ فإنها بطبيعتها تتقيَّد ولا تنفصل إلا مكرهة، وهو بطبيعته قيدُهُ لذَّتُهُ، فيتصل وينفصل؛ غير أنها لا بد لها من هذا الواحد، ففكرُها المتعلم يوحي إليها بالحياة لا يجعل في ذلك موضعًا للنكير عندها، والحياة نصف معانيها النفسية في الصديق؛ فالأنوثة بغيره مُظلمة في حياتها، راكدةٌ في طباعها، ثقيلة على نفسها، ما دام «الشعاع» لا يلمسُها …
والدِّين يأبى أن يكون ذلك الصديق إلا الزوج في شروطه وعهوده؛ كيلا تتقيد المرأة إلا بمن يتقيد بها؛ والعلم لا يأبى أن يكون الصديق هو الحب؛ والفنُّ يوجب أن يكون هو الحب؛ وليس في الحب شروط ولا عهود، إلا وسائل تُخْتَلَقُ لوقتها، وأكثرها من الكذب والنفاق والخديعة. ولفظُ الحب نفسه لصٌّ لغويٌّ خبيث، يَسْرِقُ المعاني التي ليست له ويُنفق مما يسرق. وليس من امرأة يخدعها عاشق إلا انكشف لها حبُّه كما ينكشف اللص حين يُمسَك.
يقول كاتب «الطائشة»: تلك فلسفة لا بد منها في التوطئة للكتابة عن «عزيزتي رغم أنفي». ومَن كانت مثلها في أفكارها واستدلالها وحججها وطريقتها، كان خليقًا بمَن يكتب قصتها أن يجعل القصة من أولها مُسلَّحة …
لقد تكارهتُ على بعض ما أرادت مني ما دام الحبُّ «رغم أنفي»، وما دامت السياسةُ أن أُداريَها وأتَّبعَ محبَّتَها؛ غير أني صارحْتُها بكلمةٍ شمسيةٍ تلمع تحت الشمس؛ أنها الصداقة لا الحب، وأنما هو اللهو البريء لا غيره، وأن ذلك جهد ما أنا قويٌّ عليه وفيٌّ به.
•••
أنا لا أتألم في هواكَ بالألم، ولكن بأشياء منكَ أقلُّها الألم؛ ولا أحزن بالحزن، ولكن بهمومٍ بعضُها الحزن.
إنك صنعتَ لي بكاءً ودموعًا وتنهدات، وجعلتَ لي ظلامًا منك ونورًا منك يا نهاري وليلي. تُرى ما اسم هذا النوع من الصداقة؟
اسمه الحب؟ لا.
اسمه الكبرياء؟ لا.
اسمه الحنان؟ لا.
اسمه حبُّك أنتَ، أنتَ أيها الغامض المتقلِّب. ألا ترى ألفاظي تبكي؟ ألا تسمع قلبي يصرخ؟ بأي عدلك أو بأي عدلِ الناس تريد أن أحيا في عالم شمسه باردة …؟ هذا قتل، هذا قتل.
إن لم يكن هذا جنونًا، فإنه لقريب منه.
أتكاتبُني بأسلوب التلغراف …؟! لو أهديتَ إليَّ عِقْدًا من الزمرد حبَّاتُه بعدد هذه الكلمات لكنتَ بخيلًا، فكيف وهي ألفاظ؟ إني لأبكي في غمضةٍ واحدة بدموع أكثر عددًا من كلماتك، وهي دموع من آلامي وأحزاني؛ وتلك ألفاظ من لهوك وعبثك!
ما كان ضرَّك لو كتبتَ لي بضعة أسطر تنسخها من تلغرافاتِ رُوتر … ما دمتَ تسخر مني؟ أأنت الشباب وأنا الكهولة، فليس لك بالطبيعة إلا الانصراف عني، وليس لي بالطبيعة إلا الحنين إليك؟
لا أدري كيف أحببتُها، ولا كيف دَعَتْنِي إليها نفسي، ولكنَّ الذي أعلمُه أني تخادعتُ لها وقلتُ: إن المستحيلَ هو منع الشر، والممكن هو تخفيفه. ثم أقبلتُ أرثي لها، وأخفِّف عنها، وأقبلتْ هي تُضاعِف لي مكرَها وخديعتها، وكان الأمر بيننا كما قالت: «في الحب والحرب لا يكون الهجومُ هجومًا وفيه رفقٌ أو تراجع.»
إن المرأة وحدها هي التي تعرف كيف تقاتل بالصبر والأناة؛ ولا يشبهها في ذلك إلا دهاةُ المستبدين.
•••
سألتْنِي أن أُهديَ إليها رسمي، فاعتللتُ عليها بأن قلتُ لها: إن هذا الرسمَ سيكونُ تحتَ عينيكِ أنتِ رسمَ حبيب، ولكنه تحت الأعين الأخرى سيكون رسمَ متَّهمٍ.
وأصررتُ على الإباء، ونافرتني القول في ذلك، تردُّ عليَّ وأردُّ عليها، وتغاضبنا وانكسرتْ حزنًا وذهبت باكية؛ ثم تسبَّبت إلى رضاي فرضيتُ.
قالت: إنها تحمل شهادة … وهي تلتمسُ عملًا وقد طال عليها؛ فزعمتْ لذويها أنها عثرت في كتاب كذا على رُقية من رُقى السحر، فتريد أن تتعاطى تجربتها بعد نصف الليل إذا مُحِقَ القمر، وأنها ستُطلق البخور وتبقى تحت ضبابته إلى الفجر تُهمهم بالأسماء والكلمات …
هكذا قالت؛ وما أدري أهو خبرٌ عن تلك الصديقة وفلانِها، أم هو اقتراح عليَّ أنا من «فلانتي» لأكون لها عفريت الضبابة …؟!
•••
لم يخْفَ عليها أنَّ لَذْعة حبِّها وقعت في قلبي، وأن صبرها قد غلب كبريائي، وأن كثرة التلاقي بين رجلٍ وامرأة يُطْمِعُ أحدَهما في الآخر، لا بد أن ينقل روايتهما إلى فصلها الثاني، ويجعل في التأليف شيئًا منتظرًا بطبيعة السياق … وإلحاحُ امرأةٍ على رجل قد خَلَبَها وجفا عن صلتها، إنما هو تعرُّضها للتعقيد الذي في طبيعته الإنسانية؛ فإنْ هي صابَرَتْهُ وأَمْعَنَتْ، فقلَّما يَدَعُها هذا التعقيد من حلٍّ لمعضلتها. وبمثل هذه العجيبة كان تعقيدًا وكان غير مفهوم ولا واضح. وقد ينقلب فيه أشد البغض إلى أشد الحب، وقد تعمل فيه حالة من حالات النفس ما لا يعمل السحر؛ وكذلك يقع للرجل إذا أحبَّ المرأة فَنَبَتْ عن مودته فعرض للتعقيد الذي في طبيعتها، وأمعن وثبت وصابر.
أنا لم أشرب خمرًا قط، ولكني لا أراني أنظر إلى مفاتنك ومحاسنك إلا وفي عينيَّ الخمر، وفي عقلي السُّكْرُ، وفي قلبي العربدة، جعلتِ لي — ويحك — نظرة سكِّير فيها نسيان الدنيا وما في الدنيا ما عدا الزجاجة …
آه، لو استطعتُ أن أجعلَ كلامي في نفسِك ناعمًا، ساحرًا، مُسْكِرًا، مثلَ كلام الشَّفَةِ للشفة حين تقبُّلها …!
عند هذا وقع الشيء المنتظر في الفصل الثاني من الرواية، وخُتم هذا الفصل بأول قبلةٍ على شَفتي «الممثلة».
•••
وجاءتني اليوم بآبدة من أوابدها، قالت: أنت رجعيٌّ محافظ على التقاليد. قلت: لأني أرى هذه التقاليد كالصباح الذي يتكرر في كل يوم، وهو في كل يومٍ ضياءٌ ونورٌ.
قالت: أو كالمساء الذي يتكرر، وهو في كل يوم ظلام وسَوَاد!
قلت: ليس هذا إليَّ ولا إليك، بل الحكم فيه للنفع أو الضرر.
قالت: بل هو إلى الحياة، والحياة اليوم عِلْمية أوروبية، والزمن حَثِيث في تقدُّمه، وأصحاب «التقاليد» جامدون في موضعهم قد فاتهم الزمن؛ ولذلك يسمونهم «متأخرين». أَمَا علمتَ أن الفضيلة قد أصبحت في أوروبا زيًّا قديمًا، فأخذ المِقَصُّ يعمل في تهذيبها، يقطع من هنا ويشق من هنا …؟!
اسمع أيها «المتأخر»، وتأمَّل هذا البرهان الأوروبي العصري:
ولم تبلغ إلى القاهرة حتى كانت قد سحرت ذلك «المتأخر» ووقعت من نفسه، ودفعته إلى الزمن الذي هو فيه. فلمَّا همَّت بوداعه سألهما: أين تذهبان؟
فأغضَتْ صاحبة الشهادة الابتدائية، وأطرقت حياءً، ورأت في السؤال تهمةً وريبة، فأنَّبَتْهَا الصديقة وأيقظتها من حيائها، وقالت لها: ألا تزالين شرقية متأخرة؟! إن لم يُسعدنا الحظ أن تكون لنا حرية المرأة الأوروبية في المجتمع وفي أنفسنا؛ أفلا يسعنا أن تكون لنا هذه الحرية ولو في أنفسنا؟!
ولم تستطع الفتاة الماكرة أن ترجع إلى دارها وهي سَكْرى كما زعمت للشاب، فأوَتْ إلى فندق، وخُتمت روايتهما بإعراضٍ من الشاب، أجابت هي عليه بقولها: ألا زلت «متأخرًا» …؟!
قالت «الطائشة»: نعم يا عزيزي «المتأخر»، إن مذهب المرأة الحرة … في الفرق بين الزوج وغير الزوج؛ أن الأول رجل ثابت، والآخر رجل طارئ، والثابت ثابت معها بحقه هو، والطارئ طارئ عليها بحقها هي … فإن كانت حرة فلها حقها …
قال كاتب الطائشة: وهنا، هنا، هنا، كاد الشيطان يرفع الستار عن فصل ثالث في هذه الرواية، رواية «الطائشة» …
•••
نقول نحن: وإلى هنا ينتهي نصف الرواية؛ أما النصف الآخر فيكاد يكونُ قصةً أخرى اسمُها: «الطائش والطائشة» …