بنتُهُ الصغيرةُ (٢)
وقال منهم قائل: أيها الشيخ، جُعِلْتُ فداك، ما كان تأويل الحَسَنِ لتلك الآية من كلام الله تعالى؟ وكيف رجع الكلامُ في نفسك مَرْجِعَ الفكر تتبعه، وأصبح الفكرُ عندك عملًا تحذو عليه، واتصل هذا العمل فكان ما أنت في ورعك و…؟
فقطع الإمام عليه وقال: هوِّن عليك يا هذا؛ إن شيخك لأهونُ من أن تذهب في وصفه يمينًا أو شمالًا، وقد روى لنا الحسنُ يومًا ذلك الخبرَ الواردَ فيمن يُعَذَّبُ في النار ألف عام من أعوام القيامة، ثم يدركه عفو الله فيخرج منها، فبكى الحسن وقال: «يا ليتني كنتُ ذلك الرجل!» وهو الحسن يا بني، هو الحسن …!
فضجَّ الناس وصاح منهم صائحون: يا أبا يحيى، قتلتَنَا يأسًا. وقال الأول: إذا كان هذا فأوشَكَ أن يعمَّنَا اليأس والقنوط، فلا ينفعنا عمل، ولا نأتي عملًا ينفع.
فانطلقَ، حتى إذا نَصَّفَ الطريق أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط. فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوه حكمًا بينهم، فقال: «قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضتْهُ ملائكة الرحمة!»
قال الشيخ: فهذا رجلٌ لما مشى بقلبه إلى الله حُسِبَتْ له الخطوة الواحدة، بل الشبر الواحد؛ ولو أنه طوَّف الدنيا بقدميه ولم يكن له ذلك القلب، لكان كالعظام المحمولة في نعش؛ قبرُها في المشرق هو قبرُها في المغرب، وليس لها من الأرض ولا للأرض منها إلا معنى واحد لا يتغير؛ هو أنه بجملته ميت، وأنها بجملتها حفرة.
إن هذه الأخلاق الفاضلة في هذا الإنسان لا تجد تمام معناها إلا في حالة بعينها من أحوال القلب، وهي حالة خشوعه على وصفها الذي شرحتْهُ الآية الكريمة: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.
فالأخلاق الفاضلة محدودةٌ بالله والحق معًا، وهي كلُّها في خشوع القلب لهذين؛ فإن من القلب مخارجَ الحياةِ النفسيةِ كلِّها.
إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجرُّه على الإنسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارفته الشهوات، وبإحساسه غرور القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان عن نفسه ليجلبها على نفسه في صور أخرى!
•••
قال الشيخ: وكان مما حفظتُهُ من تفسير الحسن قوله:
إن كلَّ كلمة في الآية تكاد تكون آية، وليست الكلمةُ في القرآن كما تكون في غيره، بل السمو فيها على الكلام، أنَّها تحمل معنى، وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى؛ وهذا ما ليس في الطاقة البشرية، وهو الدليل على أنه كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ.
يقول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.
تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى «الآن» دون غيره، على كثرة المعاني.
ثم قال: لِلَّذِينَ آمَنُوا، وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقوم بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعالِمهم وجاهلهم سواء؛ لا يخشعان إلا للمادة؛ وكأنَّ إنسانهم إنسان تُرابيٌّ، لا يزال يضطرب على مكر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان: عَيْشِهِ وموتِه؛ وما تقسو الحياةُ قسوتَهَا على الناس إلا بهم، وما ترِقُّ رِقَّتَها إلا بالمؤمنين.
وجعل الخشوعَ للقلوب خاصة؛ إذ كان خشوعُ القلبِ غيرَ خشوعِ الجسمِ، فهذا الأخير لا يكون خشوعًا، بل ذلًّا، أو ضعَة، أو رياءً، أو نفاقًا، أو ما كان؛ أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصًا مخلصًا محض الإرادة.
واشترط «القلب» كأنه يقول: إنما القلب أساس المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعًا لله وللحق. فإن لم يكن قلبُهُ على تلك الحال، نبع منه الفاسق والظالم الطاغية وكلُّ ذي شر. ما أشبه القلبَ تتفرعُ منه معاني الخُلُق، بالحبَّة تنسرح منها الشجرة؛ فخذْ نَفسَكَ من قلبك كما شئت؛ حُلوًا من حلو، ومرًّا من مرٍّ.
وقد تخشعُ القلوبُ لبعض الأهواء خشوعًا هو شرٌّ من الطغيان والقسوة؛ فتقيُّد خشوع القلب «بذكر الله» هو في نفسه نفي لعبادة الهوى، وعبادة الذات الإنسانية في شهواتها، وما الشهوة عند المخلوق الضعيف إلا إله ساعتها. فيا ما أحكمَ وأعجبَ قول النبي ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن.» جعل نزع الإيمان موقوتًا «بالحين» الذي تُقْتَرَفُ فيه المعصيةُ؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك «الحين».
والخشوع لِمَا «نزل من الحق» هو في معناه نفيٌ آخر للكبرياء الإنسانية التي تُفْسِدُ على المرءِ كلَّ حقيقةٍ، وتخرج به من كل قانون؛ إذ تجعلُ الحقائقَ العامةَ محدودةً بالإنسان وشهواته لا بحدودها هي من الحقوق والفضائل.
ويخرج من هذا وذلك تقريرُ الإرادة الإنسانية، وإلزامُها الخير والحق دون غيرهما، وقهرها للذات وشهواتها، وجعلُها الكبرياءَ الإنسانيةَ كبرياءً على الدنايا والخسائس، لا على الحقوق والفضائل؛ وإذا تقرر كلُّ ذلك انتهى بطبيعته إلى إقرار السكينة في النفس، ومحو الفوضى منها، وجَعْلِ نظامها في إحساس القلب وحدَه؛ فيحيا القلب في المؤمن حياةَ المعنى السامي، ويكون نبضه علامة الحياة في ذاتها، وخشوعُهُ لله وللحق علامة الحياة في كمالها.
وقال: وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ كأنه يقول: إن هذا الحق لا يكون بطبيعته ولا بطبيعة الإنسان أرضيًّا، فإذا هو ارتفع من الأرض وقرَّره الناس بعضهم على بعض، لم يجاوز في ارتفاعه رأس الإنسان، وأفسدتْهُ العقول؛ إذ كان الإنسان ظالمًا متمردًا بالطبيعة، لا تحكمه من أول تاريخ إلا السماء ومعانيها، وما كان شبيهًا بذلك مما يجيئه من أعلى؛ أي بالسلطان والقوة؛ فيكون حقًّا «نازلًا» متدفِّعًا كما يَتصَوَّبُ الثِّقْلُ من عالٍ ليس بينه وبين أن ينفُذَ شيءٌ.
والخشوعُ لما نزل من الحق ينفي خشوعًا آخر هو الذي أفسد ذات البين من الناس، وهو الخشوع لما قام من المنفعة وانصراف القلب إليها بإيمان الطمع لا الحق.
وبحمل الآية على ذلك الوجه يتحقَّقُ العدل والنَّصَفَةُ بين الناس؛ فيكون العدل في كل مؤمن شعورًا قلبيًّا، جاريًا في الطبيعة لا متكلَّفًا من العقل؛ وبهذا وحدَه يكون للإنسانِ إرادةٌ ثابتةٌ عن الحق لكل طريق، لا إرادةٌ لكل طريق، وتستمر هذه الإرادة متَّسقة في نظامها مع إرادة الله، لا نافرة منها ولا متمردة عليها؛ وهذا وذلك يُثَبِّتُ القلبَ مهما اختلفتْ عليه أحوال الدنيا، فلا يكون من إيمانه إلا سُموُّه وقوته وثباته، وينزل العمر عنده منزلة اللحظة الواحدة، وما أيسرَ الصبرَ على لحظة! وما أهون شر «الآن» إن كان الخير فيما بعده!
ألم يأنِ؛ ألم يأنِ؛ ألم يأنِ …
•••
قال الشيخ: وكان الحسن في معانيه الفاضلة هو هذه الآية بعينها؛ فما كانت حياته إلا إسلامية كهذا الكلام الأبيض المشرق الذي سمعتُهُ منه؛ شعاره أبدًا: «الآن قبل ألا يكون آنٌ»، وإمامه: «خُذْ نفسَك من قلبك»، وطريقته: «شرف الحياة لا الحياة نفسها».
وآلةُ الوقوع والطيران بالإنسان شهواته ورغباته؛ فإن حطَّتْه شهوة لا ترفعه؛ فقد أوبقتْهُ وأهلكتْهُ وقذفتْ به ليُؤخَذ.
لقد رُوينا عن النبي ﷺ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.» وهذا ضربٌ من خشوع القلب المؤمن فيما يحلُّ له: يدع أشياءَ كثيرة لا بأس عليه فيها لو أتاها؛ ليقوى على أن يدع ما فيه بأس، فإنَّ الذي يترك ما هو له يكون أقوى على ترك ما ليس له.
ومثل هذا المسرف على نفسه لا يكون تمييزه في الدين، ولا إحساسه بالخير، إلا كذلك السِّكِّير الذي زعموا أنه أراد التوبة، وكانت له جَرَّتانِ من الخمر، فلما اتَّعظ وبلغ في النظر إلى نفسه وحظِّ إيمانه، وأراد أن يطيع الله ويتوب، نظر إلى الجرَّتَيْن ثم قال: أتوب عن الشرب من هذه حتى تفرغ هذه …!
•••
قال الشيخ: ثم إني تبتُ على يد الحسن، وأخلصتُ في التوبة وصحَّحتها، وعلمتُ من فِعْلِه وقولِه أن حقيقةَ الدين هي كبرياء النفس على شرها وظلمها وشهواتها، وأن هذه الكبرياء القاتلة للإثم، هي في النفس أخت الشجاعة القاتلة للعدو الباغي: يفخر البطل الشجاع بمبلغه من هذه، ويفخر الرجل المؤمن بمبلغه من تلك؛ وأن خشوع القلب هو في معناه حقيقة هذه الكبرياء بعينها.
إن البنت هي أمٌّ ودارٌ، وأبواها فيما يكابدان من إحسان تربيتها وتأديبها وحياطتها والصبر عليها واليقظة لها، كأنما يحملان الأحجار على ظهريهما حجرًا حجرًا؛ ليبتنيا تلك الدارَ في يومٍ يومٍ إلى عشرين سنة أو أكثر، ما صَحِبَتْهُ وما بقيتْ في بيته.
فليس ينبغي أن ينظرَ الأبُ إلى بنته إلا على أنها بنته، ثم أمُّ أولادها، ثم أمُّ أحفاده؛ فهي بذلك أكبر من نفسها، وحقُّها عليه أكبر من الحق، فيه حرمتها وحرمة الإنسانية معًا؛ والأب في ذلك يُقرضُ اللهَ إحسانًا وحنانًا ورحمة، فحقٌّ على الله أن يُوَفِّيَهُ من مثلها، وأن يُضْعِفَ له.
فهذه ثلاثٌ لا بد منها معًا، ولا تجزئ واحدة عن واحدة في ثواب البنت: تربيةُ عقلها تربيةَ إحسان، وتربية جسمها تربية إحسان وإلطاف، وتربية روحها تربية إكرام وإلطاف وإحسان.
قال الشيخ: واللهُ أرحم أن تضيعَ عندَه الرحمةُ؛ واللهُ أكرمُ أن يضيعَ الإحسانُ عندَه، والله أكبر …
وهنا صاح المؤذن: الله أكبر.
فتبسَّم الشيخ وقام إلى الصلاة.