الأجنَبيَّة
أحبَّها وأحبَّته، حتى ذهب بها في الحب مذهبًا قالت له فيه: «لو جاءني قلبي في صورة بشرية لأراه كما أحسُّه، لَمَا اختار غيرَ صورتك أنت في رقَّتك وعطفك وحنانك.» وحتى ذهبت به في الحب مذهبًا قال لها فيه: «إن الجنة لا تكون أبدع فنًّا ولا أحسن جمالًا، ولا أكثر إمتاعًا، لو خُلقتِ امرأةً يهواها رجلٌ إلا أن تكون هي أنتِ!» فقالت له: «ويكون هو أنتَ …!»
وافتتنَ بها حتى أخذتْ منه كل مأخذ، فملأت نفسه بأشياء، وملأت عينه من أشياء، فكان يقول لها في نجواه: «إني أرى الزمن قد انتسخ مما بيني وبينك، فإنما نحن بالحب في زمن من نفسَيْنا العاشقتين، لا يسمى الوقتَ ولكن يسمى السرورَ؛ وإنما نعيش في أيام قلبية، لا تدل على أوقاتها الساعةُ بدقائقها وثوانيها، ولكن السعادة بحقائقها ولَذَّاتها.»
تحابَّا ذلك الحب الفَوَّار في الدم، كأن فيه من دورته طبيعة الفراق والتلاقي بغير تلاقٍ ولا فِراق؛ فيكونان معًا في مجلسهما الغزلي، جنبُهُ إلى جنبها وفاهها إلى فيهِ، وكأنما هربت ثم أدركها، وكأنما فرَّت ثم أمسكها، وبين القبلة والقبلة هِجران وصُلح، وبين اللفتة واللفتة غضب ورضًى.
•••
وضربَ الدهرُ من ضرباته في أحداثٍ وأحداثٍ؛ فأبغضتْهُ وأبغضها، وفسدتْ ذاتُ بَيْنِهما، وأدبر منها ما كان مُقبلًا؛ فوثب كلاهما من وجود الآخر وثبةَ فزعٍ على وجهه. أما هو فسَخِطها لعيوبِ نفسها، وأما هي … وأما هي فتكرَّهتْه لمحاسنِ غيرِه!
•••
ألا ما أعظمك يا مصر! وما أعظم تعنُّتك في هذا السحر الفاتن! أينبغي أن يغتربَ كلُّ أهلِكِ حتى يدركوا معنى ذلك الحديث النبوي العظيم: «مصر كنانة الله في أرضه»، فيعرفوا أنكِ من عزتك معلَّقة في هذا الكون تعليقَ الكنانة في دار البطل الأروع؟!
قال «الدكتور محمد»: واجتمعنا في الدار التي أنزلُ فيها، فراع ذلك صاحبةَ مثواي، فقلتُ لها: إن ها هنا ليلةً مصريةً ستحتل ليلتكم هذه في مدينتكم هذه، فلا تجزعوا. ثم دعوتُها إلى مجلسنا لتشهد كيف تستعلِنُ الروحُ المصريةُ الاجتماعيةُ برقِّتها وظرفها وحماستها، وكيف تفسِّر هذه الروح المصرية كلَّ جميل من الأشياء الجميلة بشوقٍ من أشواقها الحنانة، وكيف تكون هذه الروح في جو موسيقيَّتها الطبيعية حين تناجي أحبابها، فيجيء حديثها بطبيعته كأنه ديباجة شاعر في صفائها وحلاوتها ورنين ألفاظها!
وقالت السيدة الظريفة: يا لها سعادة! سأتَّخِذُ زينتي، وأُصلح من شأني، وأكون بعدَ خمسِ دقائق في مصر!
ولما قطعتُ التفتُّ إليها في كبرياء تلك الموسيقى وعظمتها، وقلت لها: هذا هو غناؤنا نحن الشبانَ المصريين.
ثم راجَعْنا صاحبَنا الضيفَ، وأحفيناه بالمسألة، فقال بعد أن دافَعَنَا طويلًا إنه يُحْسِنُ شيئًا من الموسيقى، وإن له لحنًا سيطارحنا به لنأخذه عنه. فطِرْنا بلحنه قبل أن نسمعه، وقلنا له: افعل متفضلًا مشكورًا. وما زلنا حتى نهض متثاقلًا، فجلس إلى البيانة وأطرق شيئًا، كأنه يسوِّي أوتارًا في قلبه، ثم دقَّ يتشاجى بهذا الصوت:
فأطفنا به وقلنا له: لقد كتمْتَنا نفسَك حتى نَمَّ عليها ما سمعْنَا، وما هذا بغناء، ولكنه همومٌ مُلَحَّنَةٌ تلحينًا، فلن ندعَكَ أو تخبرَنَا ما كان شأنك وشأنها.
فاعتلَّ علينا ودافَعَنا جهدَه، فقلنا له: هيهات؛ والله لن نُفْلِتَكَ وقد صِرْتَ في أيدينا، وإنك ما تزيد على أن تَعِظنا بهذه القصة؛ فإن أمسكتَ عنها فقد أمسكتَ عن موعظتنا، وإن بخلتَ فما بخلتَ بقصتك، بل بعلمٍ من علم الحياة نفيده منك؛ وأنت ترانا نعيش ها هنا في اجتماع فاسد كأنه قِصَصٌ قلبية، بين نساءٍ لا يَلْبَسْنَ إلا ما يعرِّي جمالَهن، وفي رجالٍ أفرطتْ عليهم الحرية، حتى دُخِل فيها مَخدعُ الزوجة …!
وكأنما مَسَسْتُ البارودَ بتلك الشرارة، فانفجرتْ نفسُ الرجلِ عن قصةٍ ما أفظعَها!
•••
قال: يا إخواني المصريين، قبل أن أنْفُضَ لكم ذلك الخبرَ أُسديكم هذه النصيحة التي لم يضعها مؤلفٌ تاريخيٌّ لسوء الحظ، إلا في الفصل الأخير من رواية شقائي: إياكم إياكم أن تغترُّوا بمعاني المرأة، تحسبونها معاني الزوجة؛ وفرِّقوا بين الزوجة بخصائصها، وبين المرأة بمعانيها؛ فإن في كل زوجة امرأة، ولكن ليس في كل امرأة زوجة.
واعلموا أن المرأة في أنوثتها وفنونها النسائية الفردية، كهذا السحاب الملون في الشفق حينَ يبدو؛ له وقتٌ محدودٌ ثم يُمْسَخُ مَسْخًا؛ ولكنَّ الزوجة في نسائيَّتها الاجتماعية كالشمس؛ قد يحجبها ذلك السحاب، بيد أن البقاء لها وحدها، والاعتبار لها وحدها، ولها وحدها الوقت كله.
- الأولى: بَوارُ امرأةٍ مصرية وضياعُها بضياع حقها في هذا الزوج؛ وتلك جريمة وطنية، فهذه واحدة.
- والثانية: إقحامُ٢٠ الأخلاق الأجنبية عن طباعنا وفضائلنا في هذا الاجتماع الشرقي، وتوهينُهُ٢١ وصدعُهُ؛٢٢ وهي جريمة أخلاقية.
- والثالثة: دسُّ العروق الزائغة في دمائنا ونسلنا؛ وهي جريمة اجتماعية.
- والرابعة: التمكين للأجنبي في بيت من بيوتنا، يملكه ويحكمه ويصرِّفه على ما شاء؛ وهي جريمة سياسية.
- والخامسة: للمسلم منا إيثارُهُ غير أخته المسلمة، ثم تحكيمه الهوى في الدين، ما يعجبه وما لا يعجبه؛ ثم إلقاؤه السم الديني في نبع ذريته المقبلة، ثم صيرورته خِزيًا لأجداده الفاتحين الذين كانوا يأخذونهن سبايا، ويجعلونهن في المنزلة الثانية أو الثالثة بعد الزوجة؛ فأخذته هي رقيقًا لها، وصار معها في المنزلة الثانية أو الثالثة بعد٢٣ … وهذه جريمة دينية.
- والسادسة: بعد ذلك كله: أن هذا المسكين يُؤثر أسفلَه على أعلاه … ولا يبالي في ذلك خمس جرائم فظيعة.
وهذه السادسة جريمة إنسانية!
•••
ما كنتُ أحسب يا إخواني، وقد رجعتُ بزوجتي الأوروبية إلى مصر، أنِّي أحضرتُ معي من أوروبا آلةً تصنع أحزاني ومصائبي! ولم يكن وَعَظَني أحدٌ بما أَعِظكم به الآن، ولا تَنَبَّهْتُ بذكائي إلى أن الزوجة الأجنبية تُثْبِتُ لي غربتي في بلادي! وتُثبت عليَّ أني غيرُ وطنيٍّ أو غيرُ تامِّ الوطنية، ثم تكون مني حماقةً تثبت للناس أني أحمق فيما اخترت؛ ثم تعود مشكلةً دولية في بيتي، يزورها أبناء جنسها ويستزيرونها رغم أنفي وفمي ووجهي كله! ويستطيلون بالحماية، ويستترون بالامتيازات، ويرفعون ستارًا عن فصل، ويُرخون ستارًا على فصل … وأنا وحدي أشهد الرواية …!
إن الشيطان في أوروبا شيطانٌ عالمٌ مخترعٌ؛ فقد زيَّن لي من تلك الزوجة ثلاثَ نساءٍ معًا: زوجة عقلية، وزوجة قلبية، وزوجة نفسية؛ ثم نَفَث اللعينُ في رُوعي أن المرأة الشرقية ليس فيها إلا واحدة، وهي مع ذلك ليست من هؤلاء الثلاث ولا واحدة. قال الخبيث: لأنها زوجة الجسم وحده، فلا تسمو إلى العقل، ولا تتصل بالقلب، ولا تمتزج بالنفس؛ وأنها بذلك جاهلة، غليظة الحسن، خَشِنة الطبع، لا تكون مع المصري إلا كما تكون الأرض المصرية مع فلَّاحها …
عندنا يا إخواني تعدُّدُ الزوجات، يتهموننا به من عمًى وجهل وسخافة. انظروا، هل هو إلا إعلان لشرعية الرجولة والأنوثة، ودينيةِ الحياة الزوجية في أي أشكالها! وهل هو إلا إعلان بطولة الرجل الشرقي الأَنُوفِ الغَيور، أنَّ الزوجة تتعدد عند الرجل ولكن … ولكن ليس كما يقع في أوروبا من أن الزوج يتعدد عند المرأة …!
يتهموننا بتعدد المرأة على أن تكون زوجةً لها حقوقها وواجباتها — بقوة الشرع والقانون — نافذةً مؤدَّاة؛ ثم لا يتهمون أنفسهم بتعدد المرأة خليلةً مخادنةً ليس لها حقٌّ على أحد، ولا واجبٌ من أحد، بل هي تتقاذفها الحياة من رجل إلى رجل، كالسِّكِّير يتقاذفه الشارعُ من جدار إلى جدار.
لعنةُ الله على شيطان المدنية العالم المخترع المخنَّث، الذي يجعل للمرأة الأوروبية بعد أن يتزوجها الرجل الشرقي أصابع «أوتوماتيكية»، ما أسرع ما تمتدُّ في نَزْوَةٍ من حماقاتها إلى رجلها بالمسدس، فإذا الرصاص والقتل! وما أسرع ما تمتد في نزوة من عواطفها إلى عاشقها بمفتاح الدار، فإذا الخيانةُ والعُهر!
ماذا تتوقعون يا إخواني من تلك الرقيقة الناعمة، المتأنِّثة بكل ما فيها من أنوثة تكفي رجالًا لا رجلًا واحدًا، وقد ضعُفتْ روحية الأسرة في رأيها، وابتُذلتِ الروحية في مجتمعها ابتذالًا، فأصبح عندها الزواج للزواج على إطلاقه، لا لتكون امرأة واحدة لرجل واحد مقصورة عليه؟! وبذلك عاد الزواج حقًّا في جسم المرأة دون قلبها وروحها؛ فإن كان الزوج مشئومًا منكوبًا لم يستطع أن يكون رجل قلبها، فعليه أن يدع لها الحرية لتختار زوج قلبها …! ومعنى ذلك أن تكون هذه المرأة مع الزوج الشرعي بمنزلة المرأة مع فاسق؛ ومع الفاسق بمنزلة المرأة مع الزوج الشرعي …! وإن كان الرجل منحوسًا مُخَيَّبًا، وكان قد بلغ إلى قلبها زمنًا ثم ملَّه قلبها، فعليه أن يدع لها الحرية لتتنقَّل وتلذَّ بلذات الهوى، ويقول لها: شأنك بمن أحببتِ! فإن هذا المنحوس المخيَّب ليس عندها إنسانًا، ولكنه رواية إنسانية انتهى الفصل الجميل منها بمناظره الجميلة، وبدأ فصل آخر بحوادث غير تلك. فَلِمَنْ يشهد الرواية أن يتبرَّمَ ما شاء، ويستثقل كما يشاء، ومتى شاء انصرف من الباب …!
امرأةُ هذه المدنية هي امرأة العاطفة؛ تتعلَّق باللفظ حين تُلبِسُهُ العاطفة من زينتها، وإن ضاع فيه المعنى الكبير من معاني العقل، وإن فاتت به النعمة الكبيرة من نعم الحياة.
أما — والله — إن الرجل الشرقي حين يأتي بالأجنبية لتلوين حياته بألوان الأنثى … لا يكون اختار أزهى الألوان إلا لتلوين مصائب حياته! وقد يكون هناك ما يشذُّ، ولكن هذه هي القاعدة.
•••
أما قصتي يا إخواني …
قال الدكتور محمد: قد حَكَيْتَها — يرحمك الله!