الجمال البائس (١)
«وكيف يُشعَبُ
١ صَدْعُ
٢ الحبِّ في كبدي؟» كيف يُشعَب صدع الحب؟
لَعمري ما رأيتُ الجمال مرَّةً إلا كان عندي هو الألم في أجمل صوره وأبدعها! أتُراني
مخلوقًا بجُرْحٍ في القلب؟
ولا تكون المرأةُ جميلةً في عيني، إلا إذا أحسستُ حين أنظر إليها أن في نفسي شيئًا
قد
عرفها، وأن في عينيها لحظات موجَّهة، وإن لم تنظر هي إليَّ.
فإثباتُ الجمالِ نفسَهُ لعيني، أن يُثْبِت صداقتَهُ لروحي باللَّمحة التي تدلُّ وتتكلَّم:
تدلُّ نفسي، وتتكلَّم في قلبي.
•••
كنتُ أجلس في «الإسكندرية» بين الضحى والظهر، في مكان على شاطئ البحر، ومعي صديقي
الأستاذ
«ح» من أفاضل رجال السلك السياسي، وهو كاتب من ذوي الرأي، له أدب غَضٌّ
٣ ونوادرُ وطرائف، وفي قلبه إيمان لا أعرف مثلَه في مثلِه، قد بلغ ما شاء الله
قوة وتمكُّنًا، حتى لأحسب أنه رجلٌ من أولياء الله قد عُوقب فحُكِم عليه أن يكون محاميًا،
ثم زيد الحكم فجُعل قاضيًا، ثم ضُوعفت العقوبة فجُعل سياسيًّا …
وهذا المكان ينقلب في الليل مسرحًا ومرقصًا وما بينهما … فيتغاوى
٤ فيه الجمال والحب، ويَعرض الشيطان مصنوعاته في الهزل والرقص والغناء، فإذا
دَخَلْتَهُ في النهار رأيتَ نور النهار كأنه يغسلُهُ ويغسلُكَ معه، فتُحسُّ للنور هناك
عملًا في نفسك.
ويُرى المكان صدرًا من النهار كأنه نائم بعد سهر الليل، فما تجيئه من ساعةٍ بين الصبح
والظهر، إلا وجدته ساكنًا هادئًا كالجسم المستثقل نومًا؛ ولهذا كنتُ كثيرًا ما أكتب فيه،
بل
لا أذهب إليه إلا للكتابة.
فإذا كان الظهر أقبل نساء المسرح ومعهنَّ مَن يطارحهنَّ الأناشيدَ
٥ وألحانَها، ومن يُثقِّفهن في الرقص، ومن يُرَوِّيهنَّ ما يُمثِّلن إلى غير ذلك
مما ابتلتهن به الحياة لِتُساقِطَ عليهن اللياليَ بالموت ليلةً بعدَ ليلة.
وكنَّ إذا جئنَ رأينَني على تلك الحال من الكتابة والتفكير، فينصرفن إلى شأنهن، إلا
واحدة
كانت أجملهن. وأكثرُ هؤلاء المسكينات يظهرن لعين المتأمل كأن منهن مثلَ العَنز التي كُسر
أحد قرنيها، فهي تحمل على رأسها علامة الضعف والذلَّة والنقص، ولو أن امرأة تتبدَّد حينًا
فلا تكون شيئًا، وتجتمع حينًا فتكون مرة شيئًا مقلوبًا، وأخرى شكلًا ناقصًا، وتارة هيئة
مشوَّهة؛
٦ لكانت هي كلَّ امرأةٍ من هؤلاء المسكينات اللواتي يمشين في المسرَّات إلى
المخاوف، ويعشن ولكن بمقدمات الموت، ويجدن في المال معنى الفقر، ويتلقَّين الكرامةَ فيها
الاستهزاء، ثم لا يعرفن شابًّا ولا رجلًا إلا وقعت عليهن من أجله لعنةُ أبٍ أو أمٍّ أو
زوجةٍ.
•••
وتلك الواحدةُ التي أومأتُ إليها كانت حزينة متسلِّبة،
٧ فكأنما جذبها حزنُها إليَّ، وكانت مفكرةً، فكأنما هداها إليَّ فكرها، وكانت
جميلة فدلَّها عليَّ الحُبُّ، وما أدري — والله — أي نفسَيْنا بدأت فقالت للأخرى أهلًا
…
ورأيتُها لا تصرف نظرها عني إلا لتردَّه إليَّ، ولا تردُّه إلا لتصرفه؛ ثم رأيتُها
قد جال
بها الغزل جولةً في معركته … فتشاغلْتُ عنها
٨ لا أُريها أني أنا الخصم الآخر في المعركة …
بيد أنِّي جعلتُ آخذها في مطارح النظر،
٩ وأتأملها خلسةً
١٠ بعد خلسةٍ في ثوبها الحريري الأسود، فإذا هو يشُبُّ لونَها
١١ فيجعله يتلألأ، ويُظْهِرُ وجهها بلون البدر في تِمِّه، ويبديه لعينيَّ أرقَّ
مِنَ الورد تحتَ نورِ الفجر.
ورأيتُ لها وجهًا فيه المرأة كلُّها باختصار، يُشرق على جسمٍ بَضّ ألين من خَمْلِ
النعام،
تَعرِض فيه الأنوثةُ فنَّها الكامل؛ فلو خُلِق الدلالُ امرأةً لكانَتْهَا.
وتَلُوح للرائي من بعيد كأنها وضعت في فمها «زِرَّ وَرْدٍ» أحمر منضمًّا على نفسه:
شفتان
تكاد ابتسامتهما تكون نداءً لشفتَيْ مُحِبٍّ ظمآن …!
أما عيناها فما رأيتُ مثلهما عينَي امرأة ولا ظبية؛ سوادُهما أشدُّ سوادًا من عيون
الظباء؛ وقد خُلِقتا في هيئةٍ تُثْبِتُ وجودَ السحر وفعله في النفس؛ فهما القوة الواثقة
أنها النافذة الأمر، يمازجها حنانٌ أكثرُ مما في صدر أمٍّ على طفلها؛ وتمام الملاحة أنهما
هما، بهذا التكحيل، في هذه الهيئة، في هذا الوجه القمري.
يا خالقَ هاتين العينين! سبحانك سبحانك!
•••
قال الراوي: وأتغافَلُ عنها أيامًا؛ وطالَ ذلك مني وشقَّ عليها، وكأني صَغَّرْتُ إليها
نفسَها، وأرهقتُها بمعنى الخضوع، بيد أن كبرياءها التي أبتْ لها أن تُقدِمَ، أبتْ عليها
كذلك أن تنهزم.
وأنا على كل أحوالي إنما أنظرُ إلى الجمال كما أستنشي
١٢ العِطر يكونُ مُتَضَوِّعًا في الهواء: لا أنا أستطيعُ أن أمَسَّهُ ولا أحدٌ
يستطيع أن يقول: أخذتَ مني. ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشِّعر والإحساس الروحاني، دون
فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسستُ جمالَ المرأة أحسستُ فيه بمعنى أكبر من المرأة، أكبر
منها، غير أنه هو منها.
قال الراوي: فإني لجالسٌ ذات يوم وقد أقبلتُ على شأني من الكتابة، وبإزائي
١٣ فتى رَيِّق الشباب، في العمر الذي ترى فيه الأعين بالحماسة والعاطفة، أكثر مما
ترى بالعقل والبصيرة، ناعمٌ أملدُ تم شبابُه ولم تتم قوتُه، كأنما نكصتِ
١٤ الرجولة عنه إذ وافته فلم تجده رجلًا … أو تلك هي شيمة أهل الظرف والقصف من
شبان اليوم: ترى الواحدَ منهم فتعرف النضج في ثيابه أكثر مما تعرفُه في جسمه، وتأبى الطبيعة
عليه أن يكون أنثى فيجاهد ليكون ضربًا من الأنثى …! إني لجالسٌ إذْ وافت الحسناء فأومأتْ
إلى الفتى بتحيَّتِها، ثم ذهبتْ فاعتلَت المِنَصَّةَ مع الباقيات، ورقصت فأحسنت ما شاءت،
وكأن في رقصها تعبيرًا عن أهواءٍ ونزعاتٍ تريد إثارتها في رجلٍ ما … فقلتُ لصاحبنا الأستاذ
«ح»: إن كلمة الرقص إنما هي استعارة على مثل هذا، كما يستعرْنَ كلمة الحب لجمع المال؛
ولا
رقص ولا حب إلا فجورٌ وطمعٌ.
ثم إنها فرغَتْ من شأنها فمرَّت تتهادى حتى جاءت فجلست إلى الفتى … فقال الأستاذ «ح»
—
وكان قد ألمَّ بما في نفسها: أتُراها جعلته ها هنا محطة …؟
قال الراوي: أما أنا فقلت في نفسي: لقد جاء الموضوع … وإني لفي حاجة — أشد الحاجة
— إلى
مقالة من المكحولات، فتفرَّغْتُ لها أنظر ماذا تصنع، وأنا أعلم أن مثل هذه قليلًا ما
يكون
لها فكر أو فلسفة؛ غير أن الفكر والفلسفة والمعاني كلها تكون في نظرها وابتساماتها وعلى
جسمها كله.
•••
وكان فتاها قد وضع طربوشه على يده؛ فقد انتهينا إلى عهدٍ رجع حكم الطربوش فيه على
رأس
الشاب الجميل، كحكم البرقع على وجه الفتاة الجميلة … فأسفر ذاك من طربوشه، وأسفرت هذه
من
نقابها. قال الراوي: فما جلستْ إلى الفتى حتى أدنت رأسها من الطربوش، فاستنامت إليه،
فألصقت
به خدها …
ثم التفتت إلينا التفاتةَ الخِشْفِ
١٥ المذعور استروحَ
١٦ السَّبُعُ ووجد مقدماته في الهواء، ثم أرْخَتْ عينيها في حياء لا يستحي
…
وأنشأتْ تتكلَّم وهي في ذلك تسارقنا النظر،
١٧ كأن في ناحيتنا بعضَ معاني كلامها …
ثم لا أدري ما الذي تضاحكتْ له، غير أن ضِحْكَتَها انشقَّت نصفين، رأينا نحن أجملَهما
في
ثغرها …
ثم تزعزعت في كرسيها كأنما تهمُّ أن تنقلبَ؛ لتمتدَّ إليها يدٌ فتمسكها أن تنقلب …
ثم تساندتْ على نفسها، كالمريضة النائمة تتناهض من فراشها فيكاد يَئِنُّ بعضها من
بعضها،
وقامت فمشت، فحاذتْنا،
١٨ وتجاوزتْنا غير بعيد، ثم رجعت إلى موضعها متكسِّرة كأن فيها قوة تعلن أنها
انتهت.
•••
قال الراوي: ونظرتُ إليها نظرةَ حزنٍ، فتغضَّبَتْ واغتاظت، وشاجرتْ هذه النظرةَ من
عينيها
الدَّعْجَاوين بنظرات متهكِّمة، لا أدري أهي توبِّخنا بها، أم تتهمنا بأننا أخذنا من
حسنِها
مجانًا …؟
فقلتُ للأستاذ «ح»، وأنا أجهر بالكلام ليبلُغَها: أما ترى أن الدنيا قد انتكستْ في
انتكاسها، وأن الدهر قد فسد في فساده، وأن البلاء قد ضُوعف على الناس، وأن بقيةً من الخير
كانت في الشر القديم فانتُزعت؟
قال: وهل كان في الشر القديم بقيةُ خيرٍ وليس مثلها في الشر الحديث؟!
قلت: ها هنا في هذا المسرح قِيَانٌ لو كانتْ إحداهن … في الزمن القديم، لتنافس في
شرائها
الملوكُ والأمراءُ وسَرَاةُ الناس وأعيانُهم، فكان لها في عَهَارة الزمن صَوْنٌ وكرامة،
وتتقلَّب في القصور، فتجعل لها القصورُ حرمةً تمنعها ابتذالَ فنِّها لكل من يدفع خمسة
قروش،
حتى لِرُذَّال الناس وغوغائهم
١٩ وسِفْلتهم؛ ثم هي حين يُدبِرُ شبابُها تكون في دار مولاها حميلةً على كرمٍ
يحملها، وعلى مروءة تعيش بها.
وقديمًا أخذتْ سَلَّامة الزرقاء في قُبْلَتِها لؤلؤتين بأربعين ألف درهم، تبلغ ألفي
جنيه.
فهل تأخذ القَيْنَةُ من هؤلاء إلا دَخِينةً
٢٠ بمليمين …؟!
قال الأستاذ «ح»: ما أبعدَك يا أخي عن «بورصة» القُبْلَةِ وأسعارِها … ولكن ما خبرُ
اللؤلؤتين؟
قال الراوي: كانت سلَّامة هذه جارية لابن رَامين، وكانت من الجمال بحيث قيل في وصفها:
كأن
الشمسَ طالعةٌ من بين رأسها وكتفيها؛ فاستأذنَ عليها في مجلس غنائها الصيرفيُّ الملقَّب
بالماجن، فلمَّا أذِنتْ له، دخل فأقعى
٢١ بين يديها، ثم أدخل يده في ثوبه فأخرج لؤلؤتين، وقال: انظري يا زرقاء جُعلتُ
فداكِ. ثم حلف أنه نُقِد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم. قالت: فما أصنع بذاك؟ قال: أردتُ
أن
تعلمي …
ثم غنَّت صوتًا وقالت: يا ماجن، هِبْهُمَا
٢٢ لي — ويحك! … قال: إن شئتِ — والله — فعلتُ. قالت: قد شئتُ. قال: واليمين التي
حلفتُ بها لازمةٌ لي إن أخذْتِهما إلا بشفتيك من شفتيَّ …
•••
قال الراوي: ورأيتُها قد أذنتْ لي، وأنصتت لكلامي، وكأنما كانت تسمعني أعتذر إليها،
واستيقنَتْ أن ليس بي إلا الحزنُ عليها والرثاءُ لها، فبدتْ أشدَّ حياءً من العذراء في
أيام
الخِدْر …
ثم قلت: نعم، كان ذلك الزمن سفيهًا، ولكنها سفاهةُ فنٍّ … لا سفاهةُ عربدة وتصعلُك
٢٣ كما هي اليوم.
فنظرتْ إليَّ نظرةً لن أنساها؛ نظرةً كأنها تدمع، نظرةً تقول بها: ألستُ إنسانةً؟
فلم
أملك أن قُلْتُ لها: تعالَيْ تعالَي.
وجاءت أحلى من الأمل المعترض سنحتْ به الفرصةُ، ولكن ماذا قلتُ لها وماذا قالت؟ …