الجمال البائس (٢)
جاءت أحلى من الأمل المعترض سنحتْ
١ به فرصة؛ وعلى أنها لم تَخْطُ إلينا إلا خُطوةً
وتمامها؛ فقد كانت تجد في نفسها ما تجده لو أنها سافرت من أرض إلى أرض، ونقلها البُعد
النازح من أُمَّةٍ إلى أمَّةٍ.
يا عجبًا! إن جلوس إنسان إلى إنسان بإزائه، قد يكون أحيانًا سَفرًا طويلًا في عالم
النفس:
فهذه الحسناء تعيش في دنيا فارغة من خِلال كثيرة: كالتقوى، والحياء، والكرامة، وسمو الروح،
وغيرها؛ فإذا عَرَضَ لها مَنْ يُشْعِرُهَا بعضَ هذه الخلال، وينتزعها من دنيا اضطرارها
وأخلاق عيشها ولو ساعة، فما تكون قد وجدتْ شخصًا، بل كشفتْ عالَمًا تدخله بنفس غير النفس
التي تُدَبِّرها في عالم رزقها …
ولا أعجبَ من سحر الحب في هذا المعنى؛ فإن العاشق ليكون حبيبه إلى جانبه، ثم لا يحس
إلا
أنه طوى الأرض والسماوات ودخل جنة الخلدِ في قُبْلَةٍ …
•••
جلستْ إلينا كما تجلس المرأة الكريمة الخَفِرَةُ: تُعطيك وجهها وتبتعد عنك بسائرها،
وتُريك الغصن وتَخبأُ عنك أزهاره. فرأيناها لم تستقبل الرجلَ منا بالأنثى منها كما اعتادت،
بل استقبلتْ واجبًا برعاية، وتلطُّفًا بحنان، وأدبًا من فنٍّ بأدبٍ من فنٍّ آخر. وكان
هذا
عجيبًا منها؛ فكلَّمها في ذلك الأستاذ «ح»، فقالت: أمَّا واحدةٌ، فإننا نَتَّبِعُ دائمًا
محبَّة من نجالسهم، وهذه هي القاعدة؛ وأما الثانية، فإننا لا نجد الرجل إلا في الندرة،
وإنما نحن مع هؤلاء الذين يتسوَّمون
٢ بسيما الرجال، كحيلة المحتال على غفلة المغفَّلِ؛ وهم معنا كالقدرة بالثمن ما
يشتريه الثمن، ليسوا علينا إلا قهرًا من القهر، ولسنا عليهم إلا سَلْبًا من السَّلب،
مادةٌ
مع مادة، وشرٌّ على شر؛ أما الإنسانية منا ومنهم فقد ذهبتْ أو هي ذاهبة.
قال «ح»: ولكن …
فلم تدعْهُ يستدرك،
٣ بل قالت: إن «لكن» هذه غائبة الآن … فلا تجيء في كلامنا. أتريد دليلًا على هذا
الانقلاب؟ إنَّ كلَّ إنسان يعلم أن الخط المستقيم هو أقرب مسافةٍ بين نقطتين، ولكن كل
امرأة
منا تعلم أن الخط المعوج هو وحده أقرب مسافة بينها وبين الرجل …
قالت: فإذا وجدَتْ إحدانا رجلًا بأخلاقه لا بأخلاقها … ردَّتْها أخلاقُهُ إلى المرأة
التي
كانت فيها من قبل، وزادتها طبيعتُها الزَّهْو
٤ بهذا الرجل النادر، فتكون معه في حالةٍ كحالةِ أكمل امرأةٍ، بيد أنه كمالُ
الحلم الذي يستيقظ وشيكًا؛ فإن الرجل الكامل يكمل بأشياء، منها — وا أسفا …! منها ابتعاده
عنَّا. ثم قالت: وصاحبُكَ هذا منذ رأيتُهُ، رأيتُهُ كالكتاب يشغَلُ قارئَه عن معاني نفسِه
بمعانيه هو …
•••
وضحكتُ أنا لهذا التشبيه؛ فمتى كان الكتاب عند هذه كتابًا يشغل بمعانيه؟ غير أني رأيتُها
قد تكلَّمت واحتفلت، وأحسنت وأصابت؛ فتركتُها تتحدث مع الأستاذ «ح»، وغبتُ عنهما غيبةَ
فكرٍ. وأنا إذا فكَّرتُ انطبق عليَّ قولُهم: خَلِّ رجلًا وشأنَه. فلا يتصل بي شيء مما
حولي،
وكان كلامها يسطع لي كالمصباح الكهربائي المتوقِّد، فقدَّمها فكرُها إليَّ غير ما قدمتْها
إليَّ نفسُها، ورأيتُ لها صورتين في وقت معًا، إحداهما تعتذر من الأخرى …
وكنتُ قبل ذلك بساعة قد كتبتُ في تذكرة خواطري هذه الكلمة التي استوحيتُها منها؛
لأضعها
في مقالة عنها وعن أمثالها، وهي:
إذا خرجتِ المرأة من حدود الأسرة وشريعتها، فهل بقي منها إلا الأنثى مجردة
تجريدَها الحيواني المتكشِّف المتعرِّض للقوة التي تناله أو ترغب فيه؟ وهل تعمل هذه
المرأة عند ذلك إلا أعمالَ هذه الأنثى؟
وما الذي استرعاها
٥ الاجتماعُ حينئذٍ فترعاه منه وتحفظه له، إلا ما استرعى أهلُ المال أهلَ
السرقة؟! إن الليل ينطوي على آفتين: أولئك اللصوص، وهؤلاء النساء.
وكيف ترى هذه المرأة نفسها إلا مشوَّهةً ما دامت رذائلها دائمًا وراء عينيها، وما
دام بإزاء عينيها دائمًا الأمهات والمحصنات من النساء،
٦ وليس شأنها من شأنهن؟ إن خيالها يحرز في وعيه صورتَها الماضيةَ من قبل
أن تَزِلَّ؛ فإذا خَلَتْ إلى نفسِها كانت فيها اثنتان، إحداهما تلعن الأخرى، فترى
نفسها من ذلك على ما ترى.
وهي حين تُطالِع مرآتها لتتبرَّجَ وتحتفل في زينتها، تنظر إلى خيالها في المرآة
بأهواء الرجال لا بعينَيْ نفسِها؛ ولهذا تُبالغ أشدَّ المبالغة؛ فلا تُعنَى بأن
تظهرَ جميلة كالمرأة، بل مثمرة كالتاجر … وتَكَسُّبُها بجمالها يكون أول ما تفكر
فيه؛ ومن ذلك لا يكون سرورُها بهذا الجمال إلا على قدر ما تكسب منه؛ بخلاف الطبع
الذي في المرأة، فإن سرورَها بمَسْحَةِ الجمال عليها هو أول فكرها وآخره.
إن الساقطة لا تنظر في المرآة — أكثر ما تنظر — إلا ابتغاء أن تتعهد من جمالها
ومن جسمها مواقعَ نظراتِ الفجورِ وأسبابَ الفتنةِ، وما يستهوي
٧ الرجل وما يفسد العِفَّةَ عليه؛ فكأنَّ الساقطة وخيالها في المرآة،
رجلٌ فاسقٌ ينظر إلى امرأة، لا امرأة تنظر إلى نفسها …
ذهبتُ أفكر في هذه الكلمة التي كتبتُها قبل ساعة، ولم أستطع أن ألمس في هذه القضية
وجهَ
القاضي؛ فدخلتني رِقَّة شديدة لهذا الجمال الفاتن، الذي أراه يبتسم وحولَه الأقدار العابسة،
ويلهو وبين يديه أيامُ الدموع، ويجتهد في اجتذاب الرجال والشبان إلى نفسه، والوقت آتٍ
بالرجال والشبان الذين سيجتهدون في طرده عن أنفسهم.
وتغشَّاني الحزن،
٨ ورأتْ هي ذلك وعرفتْه؛ فأخرجتْ مِنْدِيلَها المعطر ومسحت وجهها به، ثم هزَّته
في الهواء، فإذا الهواء منديلٌ معطر آخر مسحت به وجهي …
وقال الأستاذ «ح»: آه من العطر! إن منه نوعًا لا أستنشيه
٩ مرَّةً إلا ردَّني إلى حيث كنتُ من عشرين سنة خلت، كأنما هو مُسَجَّلٌ بزمانه
ومكانه في دماغي …
فضحكتْ هي وقالت: إن عطرنا نحن النساءَ ليس عطرًا، بل هو شعور نُثبته في شعور آخر
…
فقلت أنا: لا ريب أن لهذه الحقيقة الجميلة وجهًا غير هذا. قالت: وما هو؟
قلت: إن المرأة المعطَّرة المتزينة، هي امرأة مسلحة بأسلحتها؛ أفي ذلك ريب؟ قالت:
لا.
قلت: فلماذا لا يسمَّى هذا العطر بالغازات الخانقة الغرامية …؟
فضحكتْ فنونًا؛ ثم قالت: وتسمَّى «البودرة» بالديناميت الغرامي.
ونقلني ذلك إلى نفسي مرة أخرى، فأطرقتُ إطراقةً، فقالت: ما بك؟ قلت: بي كلمة الأستاذ
«ح»،
إنها ألهبت في قلبي جمرةً كانت خامدة.
قالت: أو حرَّكتْ نقطةَ عطرٍ كانت ساكنة …!
فقلت: إن الحبَّ يضع روحانيته في كل أشيائه، وهو يغيِّر الحالة النفسية للإنسان، فتتغيَّر
بذلك الحالة للأشياء في وهم المحب، «فعطرُ كذا» مثلًا … هو نوعٌ شذيٌّ من العطر، طيِّب
الشَّمِيم، عاصف النشوة، حادُّ الرائحة؛ لكأنه ينشر في الجو روضةً قد مُلئت بأزهاره تُشَمُّ
ولا تُرى! وإنه ليجعل الزمن نفسَه عَبِقًا بريحه، وإنه ليُفعِمُ كلَّ ما حوله طيبًا،
وإنه
ليسحر النفسَ فيتحول فيها …
وهنا ضحكتْ وقطعتْ عليَّ الكلامَ قائلةً: يظهر لي أن «عطر كذا» هاجِرٌ أو مخاصِم …
قلت: كلا، بل خرج من الدنيا، وما انتشقتُ أَرَجَهُ
١٠ مرة إلا حَسِبْتُهُ ينفَح من الجنة.
فما أسرع ما تلاشى من وجهها الضحك وهيئته، وجاءت دمعة وهيئتها، ولمحتُ في وجهها معنًى
بكيتُ له بكاءَ قلبي.
جمالها، فتنتها، سحرها، حديثها، لهوها؛ آه حين لا يبقى لهذا كلِّه عينٌ ولا أثر، آه
حين
لا يبقى من هذا كله إلا ذُنُوبٌ، وذنوبٌ، وذنوبٌ!
•••
وأردنا أنا و«ح» بكلامنا عن الحب وما إليه، ألا نُوحِشها
١١ من إنسانيتنا، وأن نَبُلَّ شوقها إلى ما حُرِمَتْه من قدرها قدر إنسانة فيما
نتعاطاه بيننا. والمرأة من هذا النوع إذا طَمِعَتْ فيما هو أغلى عندها من الذهب والجوهر
والمتاع، طمعتْ في الاحترام من رجل شريف متعفِّف، ولو احترام نظرة، أو كلمة. تَقْنَعُ
بأقل
ذلك وترضى به؛ فالقليل مما لا يُدرَك قليله، هو عند النفس أكثرُ من الكثير الذي يُنال
كثيرُه.
ومثل هذه المرأة، لا تدري أنت: أطافت بالذنب أم طاف الذنب بها؟ فاحترامها عندنا ليس
احترامًا بمعناه، وإنما هو كالوُجُوم أمام المصيبة في لحظةٍ من لحظات رهبة القدر وخشوع
الإيمان.
وليستِ امرأةٌ من هؤلاء إلا وفي نفسها التَّنَدُّمُ والحسرة واللهفة مما هي فيه،
وهذا هو
جانبهنَّ الإنساني الذي يُنظَر إليه من النفس الرقيقة بلهفةٍ أخرى، وحسرةٍ أخرى، وندمٍ
آخر.
كم يرحمُ الإنسانُ تلك الزوجةَ الكارهةَ المُرْغَمَةَ على أن تعاشر من تكرهه، فلا يزال
يغلي
دمها بوساوسَ وآلامٍ من البُغض لا تنقطع! وكم يرثي الإنسان للزوجة الغيور، يغلي دمها
أيضًا
ولكن بوساوس وآلام من الحب! ألا فاعلم أن كلَّ مَنْ مثل هذه الحسناء تحمل على قلبها مثل
همِّ مائة زوجة كارهةٍ مرغَمةٍ مستعبَدةٍ، يخالطه مثلُ همِّ مائة زوجة غيور مكابدة منافسة؛
ولقد تكون المرأة منهن في العشرين من سنها وهي مما يكابد
١٢ قلبُها في السبعين من عمر قلبها أو أكثر.
وهذه التي جاءتنا إنما جاءتنا في ساعةٍ منَّا نحن لا منها هي، ولم تكن معنا لا في
زمانها
ولا في مكانها ولا في أسبابها، وقد فتحتِ الباب الذي كان مغلقًا في قلبها على الخفَر
١٣ والحياء، وحوَّلت جمالها من جمال طابَعُه الرذيلة، إلى جمال طابعه الفن،
وأشعرتْ أفراحها التي اعتادتها روح الحزن من أجلنا، فأدخلتْ بذلك على أحزانها التي اعتادتها
روح الفرح بنا.
من ذا الذي يعرف أن أدبه يكون إحسانًا على نفسٍ مثل هذه ثم لا يُحسِن به؟!
•••
تتجدَّد الحياة متى وَجَدَ المرء حالةً نفسيةً تكون جديدةً في سرورها. وهذه المرأة
المسكينة لا يعنيها مِنَ الرجل مَن هو، ولكن كم هو …! لم تَرَ فينا نحن الرجلَ الذي هو
«كم»، بل الذي هو «مَن». وقد كانت من نفسها الأولى على بُعد قصيٍّ كالذي يمد يده في بئر
عميقة ليتناول شيئًا قد سقط منه؛ فلما جلستْ إلينا، اتصلتْ بتلك النفس من قُرْبٍ؛ إذ
وجدت
في زمنها الساعة التي تصلح جِسْرًا على الزمن.
قال الراوي: كذلك رأيتُها جديدةً بعد قليل، فقلتُ للأستاذ «ح»: أَمَا ترى ما أراه؟
قال: وماذا ترى؟ فأومأتُ إليها وقلت: هذه التي جاءت مِن هذه. إن قلبها ينشر الآن حولها
نورًا كالمصباح إذا أضيء، وأراها كالزهرة التي تفتَّحت؛ هي هي التي كانت، ولكنها بغير
ما
كانت.
فقالت هي: إني أحسبُكَ تحبُّني؛ بل أراكَ تحبُّني؛ بل أنتَ تحبُّني … لم يخفَ عليَّ
منذ
رأيتُك ورأيتَني.
قلت: هَبِيه
١٤ صحيحًا؛ فكيف عرفْتِه ولم أُصانِعكِ، ولم أتملَّق لكِ، ولم أَزِد على أن أجيء
إلى هنا لأكتب؟
قالت: عرفتُهُ من أنك لم تصانعني، ولم تتملَّق لي،
١٥ ولم تَزِد على أن تجيء إلى هنا لتكتب …
قلت: ويحكِ، لو كُحِّلَتْ عين «المكرسكوب» لكانت عينَكِ. وضحكنا جميعًا، ثم أقبلتُ
على
الأستاذ «ح» فقلت له: إن القضايا إذا كثُر ورودُها على القاضي جعلت له عينًا باحثة.
•••
قال الراوي: وأنظر إليها، فإذا وجهها القمري الأزهرُ قد شَرِقَ لونُه، وظهر فيه من
الحياء
ما يظهر مثله على وجه العذراء المخدَّرة
١٦ إذا أنت مسستها برِيبة؛
١٧ فما شككتُ أنها الساعة امرأةٌ جديدةٌ قد اصطلح وجهُها وحياؤها، وهما أبدًا
متعاديان في كلِّ امرأة مكشوفةِ العِفَّةِ …
وذهبتُ أستدرك وأتأوَّل، فقلت لها: ما ذلك أردتُ، ولا حَدَسْتُ
١٨ على هذا الظن، وإنما أنا مشفقٌ عليك متألِّم بك، وهل يعرض لك إلا الطبقة
النظيفة … من المجرمين والخبثاء وأهل الشر؛ أولئك الذين أعاليهم في دُور الخلاعة والمسارح،
وأسافلهم في دور القضاء والسجون؟
فقالت: أعترف بأنك لم تُحسِن قلبَ الثوب، فظهر لكلِّ عينٍ أنه مقلوب، لكنك تحبُّني
… وهذا
كافٍ أن ينهض منه عُذْر!
قال الأستاذ «ح»: إنه يحبُّكِ، ولكن أتعرفينَ كيف حبُّه؟ هذا باب يضع عليه دائمًا
عدَّةً
من الأقفال.
قالت: فما أيسر أن تجد المرأة عدَّةً من المفاتيح …
قال: ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه؛ فكأنه هو وحبيبته تحتَ أعين الناس: ما تطمع
إلا أن
تراه، وما يطمع إلا أن يراها، ولا شيء غير ذلك؛ ثم لا يزال حسنُها عليه ولا يزال هواه
إليها، وليس إلا هذا.
قالت: إن هذا لعجيب!
قال: والذي هو أعجب أنْ ليس في حبِّه شيء نهائي، فلا هجرٌ ولا وصلٌ؛ ينساكِ بعد ساعة،
ولكنكِ أبدًا باقية بكل جمالك في نفسه. والصغائر التي تُبكي الناس وتتلذَّع
١٩ في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرةً في همِّهم ويطفئوها وينتهوا منها ككل شهوات
الحب، تُبكِيه هو أيضًا، وتعتلج في قلبه،
٢٠ ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر؛ وهذا هو تَجَبُّرُهُ على جَبَّار
الحب.
•••
قال الراوي: ونظرتُ إليها ونظرتْ، وعاتبَتْ نفسٌ نفسًا في أعينهما، وسألتِ السائلة
وأجابت
المجيبة، ولكن ماذا قُلْتُ لها وماذا قالت؟ …