في اللهب ولا تحترق
أفي الممكن هذا؟!
•••
هي حسناء فاتنة، لو سطع نور القمر من شيء في الأرض لسطع من وجهها. وما تراها في يوم إلا ظهرت لك أحسن مما كانت، حتى لتظنَّ أن الشمس تزيد وجهها في كل نهار شُعَاعةً ساحرة، وأن كل فجر يترك لها في الصبح بريقًا ونضرة من قطرات الندى.
وتحسب أن لها دمًا يَطْعم فيما يطعم أنوارَ الكواكب، ويشرب فيما يشرب نسمات الليل.
وإذا كانت في وَشْيها وتطاريفها وأصباغها وحلاها لم تجدْها امرأة، ولكن جمرة في صورة امرأة؛ فلها نور وبَصِيص ولهب، وفيها طبيعة الإحراق … إن الذي وضع على كل جمال ساحر في الطبيعة خاتم رهبة، وضع على جمالها خاتم قرص الشمس.
فإن رأيتَها بتلك الزينة في رقصها وتثنِّيها، قلتَ: هذه روضةٌ مُفْتنَّة اشتهت أن تكون امرأة فكانت، وهذا الرقص هو فن النسيم على أعضائها.
وهي متى نفذَتْ إلى البقعة المجدبة من نفسِكَ أنشأتْ في نفسِكَ الربيعَ ساعةً أو بعضَ ساعةٍ.
وتنسجم أنغام الموسيقى في رشاقتها نَغْمة إلى حركة؛ لأن جسمها الفاتن الجميل هو نفسه أنغامٌ صامتة تُسمَع وتُرَى في وقت معًا.
وتنسكب روحها الظريفة بين الرقص والموسيقى؛ لِتُخرجَ لك بظَرفِها صراحة الفن من إبهامين، كلاهما يُعاونُ الآخرَ.
وهي في رقصها إنما تفسر بحركات أعضائها أشواق الحياة وأفراحها وأحزانها، وتزيد في لغةِ الطبيعةِ لغةَ جسمِ المرأة.
وكأن الليل والنهار في قلبها؛ فهي تبعث للقلوب ما شاءت ضَوءًا وظُلْمة.
وهي إلى القِصَر، غير أنك إذا تأملت جمالها وتمامها، حسبتها طالت لساعتها.
وإلى النحافة، غير أنك تنظر فإذا هي رابية كأن بعضها كان مختبئًا في بعض.
ومهما يكن طيش الفن في تأوُّدها ولفتتها ونظرتها وابتسامها وضحكها، ففي وجهها دائمًا علامة وقار عابسة تقول للناس: افهموني.
•••
ولما رأيتُها شهد قلبي لها بأن على وجهها مع نور الجمال نورَ الوضوء، وأنها متحرِّزة ممتنعة في حصن من قلبها المؤمن، يبسط الأمن والسلامة على ظاهرها، وأن لها عينًا عذراء لا تحاول التعبير، لا سؤالًا ولا جوابًا ولا اعتراضًا بينهما؛ وأن قوة جمالها تستظهر بقوة نفسها، فيكون ما في جمالها شيئًا غير ما في النساء؛ شيئًا عبقريًّا بالغ القوة، يكفُّ الدواعي ويحسم الخواطر، ويُرغمُ الإعجابَ أن يكون ذُهولًا وحيرة، ويُكرِه الحب أن يرجع مَهَابة واحتشامًا.
والرواية كلها في باطنها تظهر على ضوء من مصباح قلبها، وما وجهها إلا الشاشة البيضاء لهذه «السيما»، وهل يكون على الوجه إلا أخيلة القلب أو الفكر؟
•••
قالت الياقوتة؛ أعني الراقصة: أخذني أبي من عهد الطفولة بالصلاة، وأثبت في نفسي أن الصلاة لا تَصِحُّ بالأعضاء إن لم يكن الفكر نفسُهُ طاهرًا يصلي لله مع الجسم، فإن كانت الصلاةُ بالجسم وحدَه لم يزدَدِ المرءُ من روح الصلاة إلا بُعْدًا، وقرَّ هذا في نفسي واعتدتُهُ؛ إذ كنتُ أتعبَّد على مذهب الإمام الشافعي — رضي الله عنه — فأصحِّح الفكر، وأستحضر النية في قلبي، وأنحصر بكلِّي في هذا الجزء الطاهر قبل أن أقول: «الله أكبر!» وبذلك أصبح فكري قادرًا على أن يخلع الدنيا متى شاء ويلبسها، وأن يخرج منها ثم يعود إليها؛ ونشأت فيه القوة المصمِّمة التي تجعله قادرًا على أن ينصرف بي عما يُفْسِدُ روحَ الصلاة في نفسي، وهي سرُّ الدين وعمادُه.
ويا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات؛ لتبقى الروح أبدًا إما متصلة أو مهيأة لتتصل. ولن يعجزَ أضعفُ الناس مع روح الدين أن يملك نفسَه بضعَ ساعات، متى هو أقرَّ اليقين في نفسه أنه متوجِّه بعدها إلى ربه، فخاف أن يقف بين يديه مخطئًا أو آثمًا؛ ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى، وأنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمرٍ على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير، كأنه بجملته — مهما طال — عملُ بضعِ ساعاتٍ.
قالت الياقوتة: ورأيت أبي يصلي، وكذلك رأيت أمي، فلا تكاد تُلِمُّ بي فكرة آثمة إلا انتصبا أمامي، فأكره أن أستلئم إليهما فأكونَ الفاسدةَ وهما الصالحان، واللئيمة وهما الكريمان؛ فدمي نفسُه — ببركة الدين — يحرسني كما ترى.
قلت: فهذا الرقص …؟
ها أنت ذا تُغَلغل نظرتك في عينيَّ إلى المعاني البعيدة، فهل ترى عينَيْ راقصة؟
قلت: لا والله، ما أرى عينَيْ راقصة، ولكن عينَيْ مجاهد يهزم كل يوم شيطانًا أو شياطين.
ولست أُنْكِرُ أنَّ أكثرَهم، بل جميعهم، يخطئ في طريقة تناوله السيَّال الكهربائي المنبعث من نفسي، ولكن لا عليَّ؛ فهذا السيال نفسه ينبعث مثله من الزهر، ومن القمر والكواكب، ومن كل امرأة جميلة تمشي في الطريق، ومن كل جميل في الطبيعة، وحتى من الأمكنة والبقاع إذا كان لإنسان فيها ذكرياتٌ قديمةٌ، أو نَبَّهَتْ ببعض معانيها بعضَ معانيه؟
وليس يُبْطِلُ هدايةَ هذه الحاسة في المرأة إلا طمعُها الماديُّ في المال والمتاع والزينة؛ فإن هذا الطمعَ هو القوةُ التي يغلبُ بها الرجلُ المرأةَ، فبنفْسِها غَلَبَها! وإذا تبذَّلَ طمعُ امرأةٍ في رجلٍ فهي مومس، وإن كانت عذراءَ في خِدْرِها.
قلت: وما صفعتُك؟
قالت: إنها صفعةٌ لا تَضْرِبُ الوجهَ ولكن تُخجِلُه.
قلت: وما هي؟
قالت الياقوتة: هي هذه الكلمة: أما تعرف يا سيدي أني أصلي وأقول: «الله أكبر!» فهل أنت أكبر …؟ أأقيم لك البرهان على صَغارِك وحقارتك؟ أأنادي الشرطي …؟!
•••
تختنق بالرقص وتنتعش بالصلاة، وفي كل يوم تختنق وتنتعش.
ولكني لا أزال أقول: أفي الممكن هذا؟!
أفي المترادفِ شَرْعًا: رَقَصَتْ وصلَّتْ …؟!