المشكلة (١)
•••
نعم، إن المشكلة التي أعضلتْ على الفساد هي في الرجل القوي الرجولة يعرف حقيقة وجوده وشرف منزلته؛ ولهذا أوجبَ الإسلامُ على المسلم أن يكون بين الوقت والوقت في اليوم خارجًا من صلاة.
وإنما الرجولة في خلالٍ ثلاث: عملُ الرجل على أن يكون في موضعه من الواجبات كلها قبل أن يكون في هواه؛ وقبولُهُ ذلك الموضع بقبول العامل الواثق من أجره العظيم، والثالثة: قدرتُهُ على العمل والقبول إلى النهاية.
ولهذه الحكمة أسقطت الأديان من فضائلها مبدأ إرضاء النفس في هواها، فلا معاملة به مع الله في إثم أو شر؛ وأسقطه الناسُ من قواعد معاملتهم بعضهم مع بعض، فلا يقوم به إلا الغشُّ والمكرُ والخديعة، وكل خارج على شريعة أو فضيلة أو منفعة اجتماعية، فإنما ينزع إلى ذلك؛ إرضاءً لنفسه، وإيثارًا لها، وموافقة لمحبَّتها، وتوفية لحظها؛ وعملُهُ هذا الذي يُلبسه الوصف الاجتماعي الساقط ويسميه باسمه في اللغة، كالرجل الذي يُرْضِي نفسَهُ أن يسرقَ ليغتني، فإذا أعطى نفسَه رضاها فهو اللصُّ؛ وكالتاجر في إرضاء طمعه هو الغاشُّ، وكالجندي في إرضاء جبنه هو الخائن، وكالشاب في إرضاء رذيلته هو الفاسق، وهلمَّ جرًّا وهلمَّ جَرْجَرَة …
•••
قال: فقدتُ أمي وأنا غلامٌ أحوج ما يكون القلب إلى الأم، فخشيَ عليَّ أبي أن أستكينَ لذلةِ فَقْدِهَا فيكون في نشأتي الذلُّ والضَّراعة، وكَبُرَ عليه أن أُحِسَّ فقدَها إحساسَ الطفل تموتُ أمُّهُ فيحملُ في ضياعها مثلَ حُزنِها لو ضاع هو منها؛ فعلَّمني هذا الأبُ الشفيقُ أن الرجل إذا فقد أمه كان شأنُهُ غيرَ شأنِ الصبيِّ؛ لأن له قوة وكبرياء؛ وألقى في رُوعي أني رجلٌ مثلُه، وأن أمَّه قد ماتت عنه صغيرًا فكان رجلًا مثلي الآن …
وكان من بعدها إذا دعاني قال: أيها الرجل! وإذا أعطاني شيئًا قال: خذ يا رجل! وإذا سألني عن شأني قال: كيف الرجل؟ وقلَّ يومٌ يمر إلا أسمعنيها مرارًا، حتى توهمت أن معي رجلًا في عقلي خلقَتْه هذه الكلمة. وتمامُ الرجل بشيئين: اللحية في وجهه، والزوجة في داره، فتجيء الزوجة بعد أن تظهر اللحية؛ لتكون كلتاهما قوة له، أو وقارًا، أو جمالًا، أو تكون كلتاهما خشونة، أو لتكونا معًا سوادين في الوجه والحياة.
وفلانةٌ هذه طفلةٌ من ذوات القربى، فأفرحني ذلك وأبهجني؛ وقلت للرجل الذي في عقلي: أصبحتَ زوجًا أيها الرجل …
وكان هذا الرجل الجاثم في عقلي هو غروري يومئذٍ وكبريائي، فكنتُ أقع في الخطأ بعد الخطأ وآتي الحماقة بعد الحماقة، وكنتُ طفلًا ولكن غروري ذو لحية طويلة …
•••
وترامت حريتي بهذا الخيال فجاوزتْ حدودها المعقولة، وبهذه الحرية الحمقاء وذلك الخيال الفاسد، كذبت عليَّ الفكرةُ والطبيعةُ.
وذهبتُ بكل ذلك أرى فلانة زوجتي، فأغلقَتِ الباب في وجهي واختبأتْ مني، فقلت في نفسي: أيها الرجل، إن هذا نشوز وعصيان، لا طاعة وحب! وساءني ذلك وغمَّني وكبر عليَّ، فأضمرت لها الغدر، فثبتَتْ بذلك في ذهني صورة «الباب المغلق»، وكأنه طلاق بيننا لا باب …
وعرف الرجل من الفلسفة التي درسها أنه يجب أن يكون حرًّا بأكثر مما يستطيع، وبأكثر من هذا الأكثر … فقالها بملء فيه، وقال للحرية: أنا لكِ وأنتِ لي!
قالها للحرية، فما أسرع ما ردَّت عليه الحرية بفتاة أخرى …!
•••
نقول نحن: وكان قد مضى على «الباب المغلق» تسع سنوات، فصار منهن بين الشاب وبين زوجته العقلية تسعةُ أبواب مغلقة، ولكنها مع ذلك مسمَّاة له، يقول أهله وأهلها: «فلان وفلانة.» وليس «الباب المغلق» عندهم إلا الحياء والصيانة، وليستِ الفتاة من ورائه إلا العفاف المنتظر؛ وليس الفتى إلا ابن الأب الذي سمَّى الفتاة له وحبسها على اسمه؛ وليست القربى إلا شريعة واجبة الحق، نافذة الحكم.
وعند أهل الشرف، أنه مهما يبلغ من حرية المرء في هذا العصر فالشرف مقيَّد.
وعند أهل الدين، أن الزواج لا ينبغي أن يكون كزواج هذا العصر قائمًا من أوله على معاني الفاحشة.
وعند أهل الفضيلة، أن الزوجة إنما هي لبناء الأسرة، فإن بلغ وجهها الغاية من الحسن أو لم يبلغ، فهو على كل حال وجهٌ ذو سلطة وحقوق «رسمية» في الاحترام؛ لا تقوم الأسرة إلا بذلك، ولا تقوم إلا على ذلك.
وعند أهل الكمال والضمير، أن الزوجة الطاهرة المخلصة الحب لزوجها، إنما هي معامَلةٌ بين زوجها وبين ربه؛ فحيثما وضعها من نفسه في كرامة أو مهانة، وضع نفسه عند الله في مثل هذا الموضع.
وعند أهل العقل والرأي، أنَّ كل زوجة فاضلة، هي جميلة جمال الحق؛ فإن لم تُوجِب الحب، وجبت لها المودة والرحمة.
وعند أهل المروءة والكرم، أن زوجة الرجل إنما هي إنسانيته ومروءته؛ فإن احتملها أعلن أنه رجل كريم، وإنْ نَبَذَها أعلن أنه رجل ليس فيه كرامة.
أما عند الشيطان — لعنه الله — فشروط الزوجة الكاملة ما تشترطه الغريزة: الحب، الحب، الحب!
•••
إذا التقينا قالت لي بعينيها: ها أنا ذي قد أرخيتُ لك الزمام، فهل تستطيع فرارًا مني؟ ونلتصق فتقول لي بجسمها: أليست الدنيا كلها هنا، فهل في المكان مكانٌ إلا هنا؟ ونفترق فتحصر لي الزمن كله في كلمة حين نقول: غدًا نلتقي.
كلامها كلامٌ متأدِّب، ولكنه في الوقت نفسه طريقة من الخلاعة، تلفتك إلى فمها الحلو؛ والحركة على جسمها حركة مستحية، ولكنها في الوقت عينه كالتعبير الفني المتجسِّم في التمثال العاري.
إنها — والله — قد جعلتْ شيطاني هو عقلي؛ أما هذا العقل الذي ينصح ويعظ ويقول: هذا خيرٌ وهذا شرٌّ، فهو الشيطان الذي يجب أن أتبرأ منه …
•••
وقال: إن البيئة في العهد الذي كان من أخلاقه الشرفُ والدينُ والمروءةُ والغَيرةُ على العِرْضِ، لم يكن فيها شيء من هذا؛ ولم يكن الأبناء يومئذٍ يعترضون آباءهم فيمن اختاروهن؛ إذ النسل هو امتداد تاريخ الأب والابن معًا، والأب أعرف بدنياه وأجدر أن يكون مبرَّأ من اختلاط النظرة، فيختار للدين والحسب والكمال، لا للشهوة والحب وفنون الخلاعة؛ ولا محلَّ للاعتراض بالعشق في باب من أبواب الأخلاق، بل محلُّه في باب الشهوات وحدها.
ثم جزم الأب أن الولد الذي يجيء من عاشقَيْن، حريٌّ أن يرث في أعصابه جنون اثنين وأمراضهما النفسية وشهواتهما الملتهبة؛ ولهذا وقف الشرع في سبيل الحب قبل الزواج؛ لوقاية الأمة في أولها؛ ولهذا يكثر الضعف العصبي في هذه المدنية الأوروبية وينتشر بها الفساد، فلا يأتي جيل إلا وهو أشد ميلًا إلى الفساد من الجيل الذي أعقبه.
ولم يكد ينتهي الأب إلى حيث انتهى الرأي به، حتى أسرع إلى «الباب المغلق» يهيئ للزفاف ويتعجل لابنه المطيع … نكبةً ستجيء في احتفال عظيم …
•••
قال: قبَّح الله حبًّا يجعل أباك في قلبك لصًّا أو كاللص.
قلت: ولكني حرٌّ أختار من أشاء لنفسي …
قال: إن كنتَ حرًّا كما تزعم، فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتَها؟ ألا تكون حرًّا إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا؟!
قلت: ولكني متعلِّم، فلا أريد الزواج إلا بمن …
وَهَبْكَ لا تحب ذات رحمك ثم أكرمتها وأحسنت إليها وسترتها، أفيكون عندك أجمل من شعورها أنك ذو الفضل عليها؟ وهل أكرم الكرم عند النفس إلا أن يكون لها هذا الشعور في نفس أخرى؟ إن هذا يا بني إن لم يكن حبًّا فيه الشهوة، فهو حب إنساني فيه المجد.
•••
ووقعت المشكلة وزُفَّت المسكينة؛ فكيف يصنع الرجل بين المحبوبة والمكروهة؟!