المشكلة (٣)
وقد تمنَّى أحد القراء من فلسطين أن يرزقه الله مثل هذه الزوجة المكروهة كراهة حبٍّ، ويضعه موضع صاحب المشكلة؛ ليُثبت أنه رجلٌ يحكم الكره ويصرفه على ما يشاء، ولا يرضى أن يحكمه الحب وإن كان هو الحب.
والمرأة التي تجد من زوجها الكراهية لا تعرفها أنها الكراهة إلا أولَ أولَ؛ ثم تنظر فإذا الكراهة هي احتقارها وإهانتها في أخص خصائصها النسوية؛ ثم تنظر فإذا هي إثارة كبريائها وتحدِّيها، ثم تنظر فإذا هي دَفْع غريزتها أن تعمل على إثبات أنها جديرة بالحب، وأنها قادرة على النقمة والمجازاة؛ ثم تنظر فإذا برهانُ كلِّ ذلك لا يجيء من عقل ولا منطق ولا فضيلة، وإنما يأتي من رجل … رجل يحقق لها هي أن زوجها مغفل، وأنها جديرة بالحب.
•••
وكأن هذا المعنى هو الذي أشارت إليه الأديبة «ف. ز.» وإن كانت لم تبسطه؛ فقد قالت: «إن صاحب هذه المشكلة غبي، ولا يكون إلا رجلًا مريض النفس مريض الخُلُق، وما رأيتُ مثله رجلًا أبعدَ من الرجل … ومثل هذا هو نفسه مشكلة، فكيف تُحَلُّ مشكلته؟ إنه من ناحية زوجته مغفل، لا وصف له عندها إلا هذا؛ ومن جهة حبيبته خائن، والخيانة أول أوصافه عندها.
وهذا الزوج يسمِّم الآن أخلاق زوجته ويُفسد طباعها، وينشئ لها قصة في أولها غباوته وإثمه، وسيتركها تتم الرواية فلا يعلم إلا الله ما يكون آخرها. وبمثل هذا الرجل أصبح المتعلمات يعتقدن أن أكثر الشبان — إن لم يكونوا جميعًا — هم كاذبون في ادعاء الحب، فليس منهم إلا الغواية؛ أو هم محِبُّون يكذب الأمل بهم على النساء، فليس منهم إلا الخيبة.»
قالت: «وخير ما تفعله صاحبةُ المشكلة أن تصنع ما صنعتْهُ أخرى لها مثل قصتها: فهذه حين علمتْ بزواج صاحبها قذفتْ به من طريق آمالها إلى الطريق الذي جاء منه، وأنزلتْهُ من درجة أنه كلُّ الناس إلى منزلة أنه ككلِّ الناس، ونبَّهت حزمها وعزيمتها وكبرياءها، فرأته بعد ذلك أهون على نفسها من أن يكون سببًا لشقاء أو حسرة أو هم، وابتعدت بفضائلها عن طريق الحب الذي تعرف أنه لا يستقيم إلا لزوجة وزوجها، فإذا مشت فيه امرأة إلى غير زواج، انحرف بها من هنا، واعوجَّ لها من هنا، فلم ينتَهِ بها في الغاية إلا أن تعود إلى نفسها وعليها غُبارُهُ، وما غبار هذا الطريق إلا سواد وجه المرأة …
ثم قالت الأديبة: «وهي كانت تحبُّه، بل كانت مستهامة به، غير أنها كانت أيضًا طاهرة القلب، لا تريد في الحبيب رجلًا هو رجل الحيلة عليها فتُخدَع به، ولا رجل العار فتُسبُّ به؛ وفي طهارة المرأة جزاءُ نفسها من قوة الثقة والاطمئنان وحسن التمكن؛ وهذا القلب الطاهر إذا فقدَ الحبَّ لم يفقد الطمأنينة، كالتاجر الحاذق إن خَسِرَ الربحَ لم يُفْلِسْ؛ لأن مهارته من بعض خصائصها القدرة على الاحتمال، والصبر للمجاهدة.»
قالت: «فعلى صاحبة المشكلة التي عرفَتْ كيف تحبُّ وتجِلُّ، أن تعرف الآن كيف تحتقر وتزدري.»
•••
وللأديبة «ف. ع.» رأيٌ جَزْل مسدَّد؛ قالت: «إنها هي قد كانت يومًا بالموضع الذي فيه صاحبة المشكلة، فلما وقعت الواقعة أَنِفتْ أن تكون لصَّة قلوب، وقالت في نفسها: إذا لم يُقْدَر لي، فإن الله هو الذي أراد، وإني أستحي من الله أن أحاربه في هذه الزوجة المسكينة! ولئن كنتُ قادرة على الفوز، إن انتصاري عليها عند حبيبي هو انتصارها عليَّ عند ربي، فلأخسرْ هذا الحب لأرابح الله برأس مالٍ غزير خسرته من أجله، لأُبْقِ على أخلاق الرجل ليبقى رجلًا لامرأته، فما يسرُّني أن أنال الدنيا كلها وأهدم بيتًا على قلب، ولا معنى لحبٍّ سيكون فيه اللؤم، بل سيكونُ ألأمَ اللؤمِ.»
قالت: «وعلمتُ أن الله — تعالى — قد جعلني أنا السعادة والشقاء في هذا الوضع؛ ليرى كيف أصنع، وأيقنتُ أن ليس بين هذين الضدين إلا حكمتي أو حمقي، وصحَّ عندي أن حُسن المداخلة في هذه المشكلة هو الحل الحقيقي للمشكلة.»
قالت: «فتغيرتُ لصاحبي تغيرًا صناعيًّا، وكانت نيتي له هي أكبر أعواني عليه، فما لبث هذا الانقلاب أن صار طبيعيًّا بعد قليل. وكنتُ أستمد من قلب امرأته إذا اختانني الضعف أو نالني الجزع، فأشعر أن لي قوة قلبين؛ وزدتُ على ذلك النصح لصاحبي نصحًا ميسَّرًا قائمًا على الإقناع وإثارة النخوة فيه وتبصيره بواجبات الرجل، وترفَّقْتُ في التوصل إلى ضميره؛ لأثبت له أن عزة الوفاء لا تكون بالخيانة، وبيَّنت له أنه إذا طلق زوجته من أجلي فما يصنع أكثر من أن يقيم البرهان على أنه لا يصلح لي زوجًا؛ ثم دلَلْتُه برفق على أن خير ما يصنع وخير ما هو صانع لإرضائي أن يقلِّدني في الإيثار وكرم النفس، ويحتذيني في الخير والفضيلة، وأن يعتقد أن دموع المظلومين هي في أعينهم دموع، ولكنها في يد الله صواعق يضرب بها الظالم.»
قالت: «وبهذا وبعد هذا، انقلب حبُّه لي إكبارًا وإعظامًا، وسما فوق أن يكون حبًّا كالحب؛ وصار يجدني في ذات نفسه وفي ضميره كالتوبيخ له كلما أراد بامرأته سوءًا أو حاول أن يَغُضَّ منها في نفسه. واعتاد أن يُكرِمَها فأكرمها، وصلحت له نيته فاتصل بينهما السبب، وكبرت هذه النية الطيبة فصارت ودًّا، وكبر هذا الود فعاد حبًّا، وقامت حياتهما على الأساس الذي وضعتُه أنا بيدي، أنا بيدي …
أما أنا …»
•••
وكتب فاضلٌ من حُلوان: «إن له صديقًا ابتُلي بمثل هذه المشكلة فركب رأسه، فما ردَّه شيء عن الزواج بحبيبته، وزُفَّ إليها كأنه ملك يدخل إلى قصر خياله؛ وكان أهله يعذلونه ويلومونه ويخلِصون له النصح، ويجتهدون في أمره جُهْدَهم؛ إذ يرون بأعينهم ما لا يرى بعينه، فكان النصح ينتهي إليه فيظنُّه غِشًّا وتلبيسًا، وكان اللوم يبلغه فيراه ظلمًا وتحاملًا، وكان قلبُهُ يُترجِم له كلَّ كلمة في حبيبته بمعنًى منها هي لا من الحقائق؛ إذ غلبت على عقله فبها يعقل، وذهبت بقلبه فبها يحسُّ، واستبدَّت بإرادته فلها ينقاد؛ وعادت خواطره وأفكاره تدور عليها كالحواشي على العبارة المغلقة في كتاب؛ واستقرَّت له فيها قوة من الحب، وأمرها إذا أرادت شيئًا أن تقول له كن …
وضربَتِ الحياة ضربة أو ضربتين، فإذا أبنية الخيال كلها هدم هدم، وإذا الطبيعة مؤلِّفة الرواية … قد ختمت روايتها وقوَّضت المسرح، وإذا الأحلام مفسَّرة بالعكس: فالحب تأويله البغض، واللذة تفسيرها الألم، و«البودرة» معناها الجير … وتغيَّر كل ما بينهما إلا الشيطان الذي بينهما، فهو الذي زوَّج، وهو بعينه الذي طلَّق …»
•••
وكتب أديبٌ من بغداد يقول: «إنه كان في هذا الموضع القَلِق موضع صاحب المشكلة، وإن ذات قرباه التي سُمِّيت عليه كانت ملفَّفَةً له في حُجُبٍ عدَّة لا في حجاب واحد، وقد وُصفت له باللغة … وفي اللغة: ما أحسنَ وما أجملَ وما أظرفَ، وكأنها ظَبْيٌ يتلفَّت، وكأنها غُصنٌ يميل، وكأن سنة وجهها البدر!»
قال: وشُبِّهت له بكل أدوات التشبيه، وجاءوا في أوصافها بمذاهب الاستعارة والمجاز، فأخذها قصيدة قبل أن يأخذها امرأة، وكان لم يرَ منها شيئًا، وكانت لغة ذوي قرابته وقرابتها كلغة التجارة في ألسنة حُذَّاق السماسرة، ما بهم إلا تنفيق السلعة، ثم يُخَلُّون بين المشتري وحظه.
إنها كانت حاجة النفس إلى المتاع فانقلبت حاجةً إلى الثواب، وكانت شهوة فرجعت حكمة، وكنتُ أريد أن أبلغ ما أحب فسأبلغ ما يجب. ثم قلت: اللهم إن هذه امرأة تنتظرها ألسنة الناس إما بالخير إذا أمسكتُها، وإما بالشر إذا طلقتُها، وقد احتمت بي؛ اللهم سأكفيها كلَّ هذا لوجهك الكريم!»
قال: «ورأيتُني أكون ألأم الناس لو أني كشفتها للناس وقلت انظروا … فكأنما كنتُ أسأتُ إليها فأقبلتُ أترضَّاها، وجعلتُ أمازحها وألاينها في القول، وعدلتُ عن حظ نفسي إلى حظ نفسها، واستظهرت بقوله — تعالى: فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا واعتقدت الآية الكريمة أصحَّ اعتقادٍ وأتمَّه، وقلت: اللهم اجعلها من تفسيرها.»
قال: «فلم تمضِ أشهرٌ حتى ظهر الحمل عليها، فألقى الله في نفسي من الفرح ما لا تعدله الدنيا بحذافيرها، وأحسستُ لها الحبَّ الذي لا يقال فيه جميل ولا قبيح؛ لأنه من ناحية النفس الجديدة التي في نفسها (الطفل)، وجعلتُ أرى لها في قلبي كل يومٍ مداخلَ ومخارجَ دونها العشق في كل مداخله ومخارجه، وصار الجنين الذي في بطنها يتلألأ نوره عليها قبل أن يخرج إلى النور، وأصبحتِ الأيام معها ربحًا من الزمن، فيه الأمل الحلو المنتظر.»
•••
ويرى صديقنا الأستاذ «م. ح. ج.» أن صاحب المشكلة في مشكلة من رجولته لا من حبه؛ فلو أن له ألف روح لما استطاع أن يعاشرَ زوجتَه بواحدة منها؛ إذ هي كلها أرواحٌ صِبيانية تبكي على قطعة من الحلوى ممثَّلة في الحبيبة … ولو عرف هذا الرجل فلسفة الحب والكره؛ لعرف أنه يصنع دموعه بإحساسه الطفلي في هذه المشكلة؛ ولو أدرك شيئًا لأدرك أن الفاصل بين الحب والكره منزوعٌ من نفسه؛ إذ الفاصل في الرجل هو الحزم الذي يوضع بين ما يجب وما لا يجب.
إنه ما دام بهذه النفس الصغيرة، فكلُّ حلٍّ لمشكلته هو مشكلة جديدة، ومثله بلاءٌ على الزوجة والحبيبة معًا، وكلتاهما بلاء عليه، وهو بهذه وهذه كمحكوم عليه أن يُشْنَقَ بامرأة لا بمشنقة …
هذا عندي ليس بالرجل ولا بالطفل إلى أن يثبت أنه أحدهما؛ فإن كان طفلًا فمن السخرية به أن يكون متزوجًا، وإن كان رجلًا فليحل هو المشكلة بنفسه، وحلُّها أيسر شيء؛ حلها تغيير حالته العقلية.
•••
ونحن نعتذر للباقين من الأدباء والفضلاء الذين لم نذكر آراءهم؛ إذ كان الغرض من الاستفتاء أن نظفر بالأحوال التي تشبه هذه الحادثة، لا بالآراء والمواعظ والنصائح. أما رأيُنَا ففي البقية الآتية.