حقيقةُ المسلم
لا يعرف التاريخُ غيرَ محمد ﷺ رجلًا أفرغ اللهُ وجوده في الوجود الإنساني كله؛ كما تنصبُّ المادةُ في المادة، لتمتزج بها فتحولها، فتُحدِث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذا هو ﷺ وجودٌ سارٍ فيها فما تبرح هذه الإنسانية تنمو به وتتحول.
•••
ولهذا سُمِّي الدين «بالإسلام»؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها؛ أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية؛ كأن المسلم يُنكر ذاته فيُسْلِمها إلى الإنسانية تصرِّفها وتعتملها في كمالها ومعاليها؛ فلا حظ له هو من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية بها الحظ.
•••
وهذا الوجود الروحي هو مبعث الحالة العقلية التي جاء الإسلام ليهدي الإنسانية إليها: حالة السلام الروحاني الذي يجعل حرب الدنيا المُهلكة حربًا في خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدَّرة بما يعامل الله والإنسانية عليه؛ فلا يكون ذهبه وفِضَّته ما كتبت عليه الدول: «ضُرِبَ في مملكة كذا»، ولكن ما يراه هو قد كُتِب عليه: «صُنِع في مملكة نفسي»؛ ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي للأخذ حَسْب، بل للعطاء أيضًا، فإن قانون المال هو الجمع، أما قانون العمل فهو البذل.
بالانصراف إلى الصلاة وجَمْع النية عليها، يستشعر المسلم أنه قد حطَّم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يُحَدُّ فيها إلا بالله وحده.
وبالقيام في الصلاة، يحقِّق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله، ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبِّح بحمده.
وبالركوع والسجود بين يدَي الله، يُشعِر المسلمُ نفسَه معنى السمو والرفعة على كل ما عدا الخالق من وجود الكون.
وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالسًا فوق الدنيا يحمد الله ويسلِّم على نبيِّه وملائكته ويشهد ويدعو.
وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة، يُقبِل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالًا جديدًا: من جهتَي السلام والرحمة.
هي لحظات من الحياة كلَّ يوم في غير أشياء هذه الدنيا؛ لجمع الشهوات وتقييدها بين وقت وآخر بسلاسلها وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء خمس مرات كل يوم عن النفس؛ فيرى المسلم من ورائه حقيقة الخلود، فتشعر الروح أنها تنمو وتتسع.
هي خمس صلوات، وهي كذلك خمس مرات يفرغ فيها القلب مما امتلأ به من الدنيا، فما أدقَّ وأبدعَ وأصدقَ قوله ﷺ: «جُعِلت قرَّة عيني في الصلاة»!
•••
لم يكن الإسلام في حقيقته إلا إبداعًا للصيغة العلمية التي تنتظمُ الإنسانية فيها؛ ولهذا كانت آدابه كلها حرَّاسًا على القلب المؤمن، كأنها ملائكةٌ من المعاني؛ وكان الإسلام بها عملًا إصلاحيًّا وقع به التطور في عالم الغريزة، فنقله إلى عالم الخلق، ثم ارتقى بالخُلُق إلى الحق، ثم سما بالحق إلى الخير العام؛ فهو سموٌّ فوق الحياة بثلاث طبقات، وتدرُّج إلى الكمال في ثلاث منازل، وابتعاد عن الأوهام بمسافة ثلاث حقائق.
وبتلك الأعمال والآداب كانت الدنيا المسلمة التي أسَّسها النبي ﷺ دنيا أسلمتْ طبيعتُها، فأصبحت على ما أراد المسلمون لا ما أرادت هي؛ وكأنها قائمة بنواميس من أهليها، لا على أهليها؛ وكان الظاهر أن الإسلام يغزو الأمم بالعرب ويفتتحها، ولكن الحقيقة أن إقليمًا من الدنيا كان يحارب سائر أقاليم الأرض بالطبيعة الأخلاقية الجديدة لهذا الدين.
وكأن الله — تعالى — ألقى في رمال الجزيرة روح البحر، وبعثها بعثه الإلهي لأمره، فكان النبي ﷺ هو نقطة المد التي يفور البحر منها، وكان المسلمون أمواجه التي غُسِلت بها الدنيا …
وحقَّقوا في كماله ﷺ وجودهم النفسي؛ فكانوا من زخارف الحياة وباطلها في موضع الحقيقة الذي يُرى فيه الشيء لا شيء.
ورأوا في إرادته ﷺ النقطة الثابتة فيما يتضارب من خيالات النفس؛ فكانوا أكبر علماء الأخلاق على الأرض، لا من كُتُب ولا علم ولا فلسفة، بل من قلب نبيهم وحده.
وبذلك لا تتسلَّط ضرورةٌ على الجسم — كالجوع والفقر والألم ونحوها — إلا كان تسلُّطها كأنه أمرٌ من قوة في الوجود إلى قوة في هذا الجسم: أن تظهر لتعمل عملها المُعجِز في إبطال هذه الضرورة. وهذا الجنس من الناس كالأزهار على أغصانها الخضر؛ لو قالت شيئًا لقالت: إن ثروتي في الحياة هي الحياة نفسها، فليس لي فقرٌ ولا غنًى، بل طبيعة أو لا طبيعة.
•••
ولقد كان المسلم يُضرَب بالسيف في سبيل الله، فتقع ضربات السيوف على جسمه فتمزقه، فما يحسُّها إلا كأنها قُبَل أصدقاء من الملائكة يلقَوْنه ويعانقونه!
ولم تكن أثقال المسلم من دنياه أثقالًا على نفسه، بل كانت له أسباب قوة وسمو؛ كالنَّسر المخلوق لطبقات الجو العليا، ويحمل دائمًا من أجل هذه الطبقات ثقل جناحَيْه العظيمين.
وكانت الحقيقة التي جعلها النبي ﷺ مَثَلَهم الأعلى، وأقرَّها في أنفسهم بجميع أخلاقه وأعماله، أنَّ الفضائل كلها واجبة على كل مسلم لنفسه؛ إذ إنها واجبة بكل مسلم على غيره، فلا تكون في الأمة إلا إرادة واحدة متعاونة، تجعل المسلم وما هو روح أمته تعمل به أعمالها هي لا أعماله وحدها.
المسلم إنسانٌ ممتدٌّ بمنافعه في معناه الاجتماعي حول أمته كلها، لا إنسانٌ ضيِّق مجتمِعٌ حول نفسه بهذه المنافع؛ وهو من غيره في صدق المعاملة الاجتماعية كالتاجر من التاجر؛ تقول الأمانة لكليهما: لا قيمة لميزانك إلا أن يصدِّقه ميزان أخيك.
ولن يكون الإسلام صحيحًا تامًّا حتى يجعل حامله مثلًا من نبيه في أخلاق الله؛ فما هو بشخص يضبط طبيعته؛ يقهرها مرة وتقهره مرارًا؛ ولكنْ طبيعةٌ تضبط شخصها فهي قانونُ وجوده.
لا يضطرب من شيء، وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟
لا يخاف من شيء، وكيف يخاف ومعه الطمأنينة؟
لا يخشى مخلوقًا، وكيف يخشى ومعه الله؟
أيها الأسد! هل أنت بجملتك إلا في طبيعة مخالبك وأنيابك …؟