فوقَ الآدميَّة الإسراءُ والمعراج
قصة الإسراء والمعراج هي من خصائص نبينا محمد ﷺ، هذا النجم الإنساني العظيم؛ وهو النور المتجسِّد لهداية العالم في حَيْرة ظلماته النفسية؛ فإن سماء الإنسان تظلم وتضيء من داخله بأغراضه ومعانيه. والله — تعالى — قد خلق للعالم الأرضي شمسًا واحدة تنيره وتحييه وتتقلَّب عليه بليله ونهاره، بيد أنَّه ترك لكل إنسان أن يصنع لنفسه شمس قلبه وغمامها وسحائبها وما تُسفر به وما تُظلم فيه. ولهذا سُمِّي القرآن نورًا لعمل آدابه في النفس، ووُصِف المؤمنون بأنهم يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم، وكان أثر الإيمان والتقوى في تعبير القرآن الكريم أن يجعل الله للمؤمنين نورًا يمشون به.
وقد حار المفسرون في حكمة ذكر «الليل» في آية «الإسراء» من قوله — تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا. فإن السُّرَى في لغة العرب لا يكون إلا ليلًا.
والحكمة هي الإشارة إلى أن القصةَ قصةُ «النجم» الإنساني العظيم الذي تحوَّل من إنسانيته إلى نوره السماوي في هذه المعجزة، ويتمِّم هذه العجيبة أن آيات «المعراج» لم تجئ إلا في سورة: «والنجم».
وأنا ما يكاد ينقضي عجبي من قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا. مع أن الألفاظ كما ترى مكشوفة واضحة، ويخيَّل إليك أن ليس وراءها شيء، ووراءها السرُّ الأكبر؛ فإنها بهذه العبارة نصٌّ على إشراف النبي ﷺ فوق الزمان والمكان يرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه؛ بخلاف ما لو كانت العبارة: «ليرى من آياتنا»؛ فإن هذا يجعله لنفسه في حدود قوتها وحواسها وزمانها ومكانها، فيضطرب الكلام، ويتطرق إليه الاعتراض ولا تكون ثَمَّ معجزة.
وتحويلُ فعلِ «الرؤية» من صيغة إلى صيغة — كما رأيتَ — هو بعينه إشارة إلى تحويل الرائي من شكل إلى شكل كما ستعرفه، وهذه معجزةٌ أخرى يسجد لها العقل؛ فتبارك الله منزل هذا الكلام!
وإذا كان ﷺ نجمًا إنسانيًّا في نوره، فلن يأتي هذا إلا من غلبة روحانيته على مادته؛ وإذا غلبت روحانيتُهُ كانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالتها في الأخرى؛ فهو في هذه المعجزة أشبه بالهواء المتحرك. فقل الآن: أيُعترض على الهواء إذا ارتفع بأنه لم يرتفع في طيَّارة …؟
ومن ثم كان الإنسان إذا سما درجة واحدة في ثبات قواه الروحية، سما بها درجات فوق الدنيا وما فيها، وسُخِّرت له المعاني التي تسخِّر غيره من الناس، ونشأت له نواميس أخلاقية غير النواميس التي تتسلط بها الأهواء. ومتى وُجد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه؛ فالنار مثلًا إذا هي تضرَّمت أوجدت الإحراق فيما يحترق، فإن وُضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسها وغلب عليها.
•••
والنبي لا يكون نبيًّا حتى يكون في إنسانه إنسانٌ آخر بنواميس تجعله أقرب إلى الملائكة في روحانيتها، وما ينزل إنسانه الظاهر من الإنسان الباطن فيه إلا منزلة من يتلقَّى ممن يعطي؛ فذاك الباطن هو للحقائق التي لا تحملها الدنيا، وهذا الظاهر لِمَا يمكن أن يبلغ إليه الكمال في المثل الإنساني الأعلى، ولولا ذلك الباطن ما استطاع نبي من الأنبياء أن يحمل هموم أمة كاملة لا تُضنيه ولا تُغيِّره ولا تُعجِزه.
فحقيقة النبوة أنها قوة من الوجود في إنسان مختارٍ جاءت تُصلِح الوجودَ الإنساني به لتُقرَّ في هذه الحيوانية المهذبة مثلها الأعلى، بدلالتها على طريقها النفسي مع طريقها الطبيعي، فيكون مع الانحطاط الرقي، ومع النقص الكمال، ومع حكم الغريزة التحكم في الغريزة، ومع الظلمة المادية الإشراق الروحاني.
وما المعجزات إلا شأن تلك القوة الباطنة لا شأنُ إنسانها الظاهر، ومن الذي ينكر أن قوى الوجود هي في نفسها إعجاز للعقل البشري؟ وهل ينكر اليوم أحدٌ شأنَ هذه القوة في «الراديو» حين مسَّته فجعلت الكلمة التي تُرسَل بين الشرق والغرب، كالكلمة بين اثنين يتحدثان في مجلس واحد؟
ونحن نرى معجزات التنويم المغناطيسي وما يبصره النائم وما يسمعه، وما ينكشف له مما وراء الزمان والمكان؛ وليس التنويم شيئًا إلا تسليط الذات الباطنة بقواها الروحية العجيبة، على الذات الظاهرة المقيَّدة بحواسها المحدودة، فتطغى عليها، فتصبح الحواس مطلقة شائعة في الوجود بمقدار ما فيها من قواه لا بمقدار ما فيها من قوة شخصها.
•••
وفي علماء عصرنا من يفكر في الصعود إلى القمر، وفيهم من يعمل للمخاطبة مع الأفلاك، وفيهم من تقع له العجائب في استحضار الأرواح وتسخيرها؛ وكلُّ ذلك أول البرهان الكوني الذي سيُلزِم العلم فيضطرُّه في يوم ما إلى الإقرار بصحة الإسراء والمعراج.
ونحن قبل أن نُبدي رأينا في القصة نلمُّ بها إلمامة موجزة؛ فقد اختلفت فيها الأحاديث ووقع فيها تخليط كثير، فجاءت فنونًا وأنواعًا من طرق شتى، حتى جمعها بعضهم في جزءين، وما تحتمل كل ذلك ولا بعضه، ولكن روح الرواية في ذلك الزمن كانت كروح الصحافة في هذا العصر: متى فارت فورها استحدثت من كل عبارةٍ عبارةً أخرى، وعلى هذه الطريقة تخرج من العبارتين عبارةٌ ثالثة، فيكون الأصل معنًى واحدًا وإذا هو يمدُّ من يمينه ويساره.
ولا يرون بذلك بأسًا؛ فإنهم يشدُّون به الرأي، ويُضاعِفون منه اليقين، ويزيدون ضوءًا في نور المعنى، وما داموا قد أثبتوا الأصل واستيقنوه، فلا حرج أن يؤيد القول بعضه بعضًا، باجتهاد في عبارة، واستنباط من أخرى، وزيادة في الثالثة مما هو بسبيل منها، على نحو ما نرى من فن الرواية القصصية؛ إذ تتعدد الأساليب والعبارات مختلفة متنوعة، وليس تحتها إلا حقيقة واحدة لا تختلف. والقصص الديني في هذه اللغة العربية فنٌّ كامل قائم بنفسه، ولا يُبدع العقل والخيال والعاطفة أقوى منه ولا أعجب ولا أغرب.
هذا في متن القصة، أما في واقعتها فقد اختلفوا اختلافًا آخر: هل كان الإسراء والمعراج يقظة أو منامًا؟ وبالروح وحدها، أو بالروح والجسم معا؟ وإنما ذكرنا هذا الخلاف لأنه الدليل القاطع على أن النبي ﷺ لم يُخبِر بشيء من ذلك، فلم يعيِّن لهم وجهًا من هذه الأوجه، والحكمة في ذلك أن عقولهم لم تكن تحتمل الإدراك العلمي الذي أساسه ما عُرف اليوم من أمر الكهرباء والأثير …
أمَّا وَشْي القصة وطرازها فبابٌ عجيبٌ من الرموز الفلسفية الإنسانية التي يُرمز بها إلى تجسيد الأعمال في هذه الحياة: تكون تعبًا وتقع فائدة، أو تُلتمس منفعةً وشهوة وتقع مضرَّة وحماقة، ثم تفنى من هذه وتلك الصورة الزمنية التي توهَّمها أصحابها، وتخلد الصور الأبدية التي جاءت بها حقائقها.
•••
والذين قالوا إن الإسراء والمعراج كانا رؤيا رآها النبي ﷺ احتجُّوا لذلك بقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ. وقد خلط المفسرون في هذا أيضًا، وإنما كان التعبير بلفظ «الرؤيا» — وهي التي تكون منامًا — لنفي تأثير الحواس على الرائي، وإثبات أن الطبيعة الآدمية بجملتها كانت فيه كالنائمة عن حياتها الأرضية بحقائقها وأخيلتها معًا، فليس نائمًا كالنائم، ولا مستيقظًا كالمستيقظ.
وفي أساس القصة جبريل والبراق، وهما القوة الملائكية والقوة الطبيعية، أو الروح الملائكي والروح الطبيعي. ولم يُوصف البراق بأنه دابة إلا رمزًا؛ إذ لا يأتي للعرب أن يفهموا ما يُراد منه؛ وعندنا أنَّه سُمِّي البراق من البرق، وما البرق إلا الكهربائية، وهذا هو المراد منه؛ فتلك قوة كهربائية متى نبضت جمعت أول العالم بآخره؛ وهذه هي الحكمة في أن آية الإسراء لم تذكر أنه كان محمولًا على شيء؛ إذ لم يكن محمولًا إلا على روح الأثير.
وما دامت القوة الملائكية والقوة الطبيعية قد سُخِّرتا له ﷺ فلا معنى لأن يكون ذلك للروح دون الجسم، بل اجتماعهما معًا في القصة دليل على أن سر المعجزة إنما كان في تيسير ملاءمة جسمه الشريف لهاتين الحالتين؛ فيتحول في صورة كونية ملائكية بين سر الملك وسر الطبيعة، وحينئذٍ لا تجري عليه أحكام الحواس ولا أحكام المادة.
وليس للعقل أن ينكر شيئًا من هذا ونحوه، فإن تركيب الطبيعة ردٌّ عليه، ونقصه هو ردٌّ على نفسه، والمستحيل على الأعمى هو أيسر الممكنات على المبصر.
فأنت ترى أن ذِكر البراق والمَلَك في أساس قصة الإسراء والمعراج هو صلة القصة بالمعجزة، وهو عينه صلتها بالبرهان؛ ولو لم يكونا فيها لما كان لها تفسير.
•••
والقصة بعد ذلك تُثبت أن هذا الوجود يرقُّ وينكشف ويستضيء كلما سما الإنسان بروحه، ويغلظ ويتكاثف ويتحجَّب كلما نزل بها، وهي من ناحية النبي ﷺ قصةٌ تَصِفه بمظهره الكوني في عظمته الخالدة كما رأى ذاته الكاملة في ملكوت الله، ومن ناحيةِ كل مسلم من أتباعه هي كالدرس في أن يكون لقلب المؤمن معراج سماوي فوق هذه الدنيا، ليشهد ببصيرته أنوار الحق، وجمال الخير، وتجسُّد الأعمال الإنسانية في صورها الخالدة؛ فيكون بتدبُّره القصة كأنما يصعد إلى السماء وينزل؛ فيستريح إلى الحقائق الأساسية لهذه الحياة، فيدفع عن نفسه بذلك تعقُّد الأخيلة الذي هو أساس البلاء على الروح.
ومتى استنار القلب كان حيًّا في صاحبه، وكان حيًّا في الوجود كله. ومتى سلمت الحياة من تعقيد الخيال الفاسد لم يكن بين الإنسان وبين الله إلا حياة هي الحق والخير، ولم يكن بينه وبين الناس إلا حياة هي الرحمة والحب.