درسٌ من النبوَّة
قالوا: إنه لما نصر الله — تعالى — رسوله وردَّ عنه الأحزاب وفتح عليه قُريظة والنَّضير،
١ ظنَّ أزواجه
ﷺ أنه اختصَّ بنفائس اليهود وذخائرهم؛ وكنَّ تسع نسوة:
عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب، وجويرية؛ فقعدن حوله
وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول،
٢ ونحن ما تراه من الفاقة والضيق … وآلمنَ قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن
يعاملهنَّ بما تُعامِل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم؛ فأمره الله — تعالى — أن يتلو
عليهن ما نزل في أمرهن من تخييرهن في فراقه، وذلك قوله — تعالى:
يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا
* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ
فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا.
٣
قالوا: وبدأ ﷺ بعائشة — وهي أحبُّهن إليه — فقال لها: «إني ذاكرٌ لك أمرًا ما أحب
أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك.» قالت: ما هو؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك أستأمر
أبويَّ؟ بل أختار الله — تعالى — ورسوله.
ثم تتابعنَ كلُّهن على ذلك، فسمَّاهنَّ الله «أمهات المؤمنين»؛ تعظيمًا لحقهن، وتأكيدًا
لحرمتهن، وتفضيلًا لهن على سائر النساء.
•••
هذه هي القصة كما تُقرأ في التاريخ، وكما ظهرت في الزمان والمكان، فلنقرأها نحن كما
هي في
معاني الحكمة، وكما ظهرت في الإنسانية العالية؛ فسنجد لها غورًا
٤ بعيدًا، ونعرف فيها دلالة سامية، ونتبين تحقيقًا فلسفيًّا دقيقًا للأوهام
والحقائق.
وهي قبل كلِّ هذا ومع كل هذا تنطوي على حكمة رائعة لم يتنبَّه لها أحد، ومن أجلها
ذُكرت
في القرآن الكريم، لتكون نصًّا تاريخيًّا قاطعًا يدافع به التاريخ عن هذا النبي العظيم
في
أمر من أمور العقل والغريزة، فإن جَهَلة المبشِّرين في زمننا هذا، وكثيرًا من أهل الزيغ
٥ والإلحاد، وطائفة من قِصار النظر في التحقيق، يزعمون أن محمدًا
ﷺ إنما
استكثر من النساء لأهواءٍ نفسية محضة وشهوات كالشهوات؛ ويتطرَّقون من هذا الزعم إلى
الشُّبهة، ومن الشُّبهة إلى سوء الظن، ومن سوء الظن إلى قبح الرأي؛ وكلهم غبيٌّ جاهل؛
فلو
كان الأمر على ذلك، أو على قريب منه أو نحوٍ من قريبه، لما كانت هذه القصة التي أساسها
نفي
الزينة وتجريد نسائه جميعًا منها، وتصحيح النية بينه وبينهن على حياة لا تحيا فيها معاني
المرأة، وتحت جوٍّ لا يكون أبدًا جوَّ الزهر … وأمرُهُ من قِبَل ربه أن يخيِّرهن جميعًا
بين
سراحهن فيكنَّ كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا المرأة، وبين إمساكهنَّ فلا يكنَّ معه إلا
في
طبيعة أخرى تبدأ من حيث تنتهي الدنيا وزينتها.
فالقصة نفسها ردٌّ على زعم الشهوات؛ إذ ليست هذه لغة الشهوة، ولا سياسة معانيها،
ولا
أسلوب غضبها أو رضاها، وما ها هنا تمليق، ولا إطراء، ولا نعومة، ولا حرص على لذة، ولا
تعبير
بلغة الحاسة؛ والقصة بعدُ مكشوفة صريحة ليس فيها معنى ولا شبه معنى من حرارة القلب، ولا
أثرٌ ولا بقية أثرٍ من ميل النفس، ولا حرفٌ أو صوتُ حرف من لغة الدم. وهي على منطق آخر
غير
المنطق الذي تُستمال به المرأة؛ فلم تقتصر على نفي الدنيا وزينة الدنيا عنهنَّ، بل نفتِ
الأمل في ذلك أيضًا إلى آخر الدهر، وأماتت معناه في نفوسهن، بقَصْر الإرادة منهن على
هذه
الثلاثة: اللهُ في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته،
٦ والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها. فليس هنا ظرف، ولا رقة، ولا عاطفة، ولا
سياسة لطبيعة المرأة، ولا اعتبار لمزاجها، ولا زُلفى
٧ لأنوثتها، ثم هو تخيير صريح بين ضدين لا تتلوَّن بينهما حالة تكون منهما معًا،
ثم هو عامٌّ لجميع زوجاته لا يستثني منهن واحدة ولا أكثر.
والحريص على المرأة والاستمتاع بها لا يأتي بشيء من هذا، بل يخاطب في المرأة خيالها
أول
ما يخاطب، ويُشبِعه مبالغة وتأكيدًا، ويُوسِعه رجاءً وأملًا، ويقرِّب له الزمن البعيد،
حتى
لو كان في أول الليل وكان الخلاف على الوقت، لحقَّق له أن الظهر بعد ساعة …
•••
وبرهانٌ آخر؛ وهو أن النبي ﷺ لم يتزوَّج نساءه لمتاعٍ مما يُمتَّع الخيالُ به، فلو
كان وضع الأمر على ذلك لما استقام ذلك إلا بالزينة وبالفن الناعم في الثوب والحلية
والتشكُّل كما نرى في الطبيعة الفنية، فإن الممثلة لا تمثِّل الرواية إلا في المسرح
المهيَّأ بمناظره وجوِّه … وقد كانت نساؤه ﷺ أعرف به؛ وها هو ذا ينفي الزينة عنهن
ويخيِّرهن الطلاق إذا أصررن عليها. فهل ترى في هذا صورة فكرٍ من أفكار الشهوة؟ وهل ترى
إلا
الكمال المحض؟ وهل كانت متابعة الزوجات التسع إلا تسعة برهانات على هذا الكمال؟
وكأن النبي ﷺ يلقي بهذه القصة درسًا مستفيضًا في فلسفة الخيال وسوء أثره، على
المرأة في أنوثتها، وعلى الرجل في رجولته؛ وأن ذلك تعقيدٌ في الشهوات يقابله تعقيد في
الطبع، وكذبٌ في الحقيقة ينشأ عنه كذب في الخلق، وأنه صَرْفٌ للمرأة إلى حياة الأحلام
والأماني والطيش والبطر والفراغ، وتعويدها عادات تفسد عاطفتها، وتُضيف إليها التصنُّع
فتُضعِف قوتها النفسية القائمة على إبداع الجمال من حقيقتها لا من مظهرها، وتحقيق الفائدة
من عملها لا من شكلها.
وكلُّ محاسن المرأة هي خيالُ متخيِّلٍ ولا حقيقة لشيء منها في الطبيعة، وإنما حقيقتها
في
العين الناظرة إليها، فلا تكون امرأةٌ فاتنة إلا للمفتون بها ليس غير. ولو ردَّتِ الطبيعة
على من يشبِّب
٨ بامرأة جميلة فيقول لها: هذه محاسنك وهذه فتنتك وهذا سحرك وهذا وهذا؛ لقالت له
الطبيعة: بل هذه كلها شهواتك أنت …
وبهذا يختلف الجمال عند فقد النظر؛ فلا يفتن الأعمى جمالُ الصورة ولا سحرُ الشكل
ولا
فراهة المنظر، وإنما يفتنه صوت المرأة ومجسَّتها
٩ ورائحتها.
فلا حقيقة في المرأة إلا المرأة نفسها؛ ولو أُخذت كل أنثى على حقيقتها هذه لما فسد
رجلٌ
ولا شقيتِ امرأة، ولا انتظمت حياةُ كلِّ زوجين بأسبابها التي فيها. وذلك هو المثل المضروب
في القصة.
يريد النبي
ﷺ ليعلِّم أمَّته أن حَيف
١٠ الغريزة على العقل إفسادٌ لهذا العقل، وأنه متى أُخضِعتِ المرأة لحظِّ الغريزة
واختيارها، كانت حياتها استجابة لجنون الرجل، وملأتها معاني التزيُّد والتصنُّع؛ فيُوشك
أن
ينقلها هذا عن طبيعتها السامية التي أكثرها في الحرمان والإيثار والصبر والاحتمال، ويردَّها
إلى أضداد هذه الصفات، فيقوم أمرها بعدُ على الأثرة والمصلحة والتفادي والضجر والتبرُّم
١١ والإلحاح والإزعاج، ويُضعف معنى السلب الراسخ في نفسها من أصل الفطرة؛ فيتبدَّل
حياؤها، وفي الحياء ردُّها عن أشياء؛ ويقلُّ إخلاصها، وفي الإخلاص ردٌّ لها عن أشياء
أخرى؛
ويكثر طمعها، وفي قناعتها محاجَزَة بينها وبين الشر.
وبهذا ونحوه يفسد ما بين الرجل والمرأة المتصنِّعة؛ فإذا أكثر المتصنِّعات لا يكون
من
النساء مشاكلُ فقط بل تكون من حلول المشاكل معهن مشاكل أخرى …
•••
ولُباب هذه القصة أن النبي
ﷺ يجعل نفسه في الزواج المثَلَ الشعبي الأكمل كما هو دأبُهُ
١٢ في كل صفاته الشريفة، فهو يريد أن تكون زوجاته جميعًا كنساء فقراء المسلمين،
ليكون منهنَّ المثل الأعلى للمرأة المؤمنة العاملة الشريفة التي تَبْرع البراعة كلها
في
الصبر والمجاهدة والإخلاص والعفة والصراحة والقناعة، فلا تكون المرأة زينة تَطلب زينةً
لتتمَّ بها في الخيال، ولكن إنسانية تطلب كمالها الإنساني لتتمَّ به في الواقع.
وهذه الزينة التي تتصنَّع بها المرأة تكاد تكون صورة المكر والخداع والتعقُّد، وكلما
أسرفَتْ في هذه أسرفَتْ في تلك، بل الزينة لوجه المرأة وجسمها سلاح من أسلحة المعاني:
كالأظافر والمخالب والأنياب، غير أن هذه لوحشية الطبيعة الحية المفترسة، وتلك لوحشية
الغريزة الحية التي تريد أن تُفترس. ولا تُنكر المرأة نفسها أن الزينة على جسمها ثرثرة
طويلة تقول وتقول وتقول …
•••
وإنما يكون أساس الكمال الإنساني، في الإنسان العامل المجاهد: لا يحصُرُ نفسه في
شيء
يسمَّى متاعًا أو زينة، ولا يقدِّر نفسه بما يجمع لها أو بما يجمع حولها، ولا يعتدُّ
ما
يكون من ذلك إلا كالتعبير من عمل الشهوات عن الشهوات. ونبينا
ﷺ هو الغاية في هذا.
دخل عليه مرَّةً عمرُ بن الخطاب، فإذا هو على حصير وعليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا
الحصير
قد أثَّر في جنبه. قال عمر: وإذا أنا بقبضةٍ من شعير نحو الصاع، وإذا إهابٌ
١٣ معلَّق، فابتدرَتْ عيناي،
١٤ فقال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قال عمر: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا
الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار
والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزائنك؟
وجاء مرَّةً من سفر فدخل على ابنته فاطمة — رضي الله عنها — فرأى على بابها سترًا
وفي
يديها قُلبَيْن
١٥ من فضة، فرجع؛ فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي، فأخبرته برجوع أبيها، فسأله في
ذلك فقال
ﷺ: من أجل الستر والسوارين.
فلمَّا أخبرها أبو رافع هتكت
١٦ الستر ونزعت السوارين، فأرسلت بهما بلالًا إلى النبي
ﷺ وقالت: قد تصدقتُ
به، فضعه حيث ترى. فقال لبلال: اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصُّفَّة.
١٧ فباع القُلبَيْن بدرهمين ونصف (نحو ثلاثة عشر قرشًا) وتصدَّق به عليهم.
يا بنت النبي العظيم! وأنتِ أيضًا لا يرضى لكِ أبوكِ حلية بدرهمين ونصف وإنَّ في المسلمين
فقراء لا يملكون مثلها.
أيُّ رجل شعبي على الأرض كمحمد ﷺ، فيه للأمة كلها غريزة الأب، وفيه على كل أحواله
اليقين الذي لا يتحوَّل، وفيه الطبيعة التامة التي يكون بها الحقيقي هو الحقيقي.
يا بنت النبي العظيم! إن زينةً بدرهمين ونصف، لا تكون زينة في رأي الحق إذا أمكن أن
تكون
صدقةً بدرهمين ونصف؛ إن فيها حينئذٍ معنى غير معناها؛ فيها حق النفس غالبًا على حق الجماعة،
وفيها الإيمان بالمنفعة حاكمًا على الإيمان بالخير؛ وفيها ما ليس بضروري قد جار على ما
هو
الضروري؛ وفيها خطأ من الكمال إن صحَّ في حساب الحلال والحرام لم يصحَّ في حساب الثواب
والرحمة.
تعالوا أيها الاشتراكيون فاعرفوا نبيَّكم الأعظم؛ إن مذهبكم ما لم تحيِهِ فضائل الإسلام
وشرائعه، إنَّ مذهبكم لكالشجرة الذابلة تعلِّقون عليها الأثمار تشدُّونها بالخيط … كل
يوم
تَحِلُّون، وكل يوم تربطون، ولا ثمرة في الطبيعة.
ليست قصة التخيير هذه مسألة من مسائل الغنى والفقر في معاني المادة، ولكنها مسألة
من
مسائل الكمال والنقص في معاني الروح؛ فهي صريحة في أن النبي ﷺ أستاذ الإنسانية كلها؛
واجبُهُ أن يكون فضيلةً حيَّة في كل حياة، وأن يكون عزاءً في كل فقر، وأن يكون تهذيبًا
في
كل غنى، ومن ثم فهو في شخصه وسيرته القانون الأدبي للجميع.
وكأنه
ﷺ يريد ليعلِّم الأمة بهذه القصة أن الجماعات لا تَصلُح بالقوانين والشرائع
والأمر والنهي، ولكن بعمل عظمائها في الأمر والنهي؛ وأن الحاكم على الناس لا ينبغي أن
يحكم
إلا إذا كان في نفسه وطبيعته يحسُّ فتنة الدنيا إحساس المتسلِّط
١٨ لا الخاضع، ليكون أول استقلاله استقلال داخله.
فليس ذلك فقرًا ولا زهدًا كما ترى في ظاهر القصة، ولكنها جرأة النفس العظمى في تقرير
حقائقها العملية.
•••
وتنتهي القصة في عبارة القرآن الكريم بتسمية زوجاته ﷺ: «أمهات المؤمنين»، بعد أن
اخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ وعلماء التفسير يقولون: إن الله — تعالى — كافأهنَّ
بهذه
التسمية؛ وليس ذلك بشيء ولا فيه كبير معنى، وإنما تُشعِر هذه التسمية بمعنى دقيق هو آية
من
آيات الإعجاز؛ فإن الزوجة الكاملة لا تكمل في الحياة ولا تكمل الحياة بها إلا إذا كان
وصفها
مع رجلها كوصف الأم: ترى ابنها بالقلب ومعانيه، لا بالغريزة وحظوظها؛ فكلُّ حياة حينئذٍ
ممكنةُ السعادة لهذه الزوجة، وكل شقاء محتمَلٌ بصبر، وكل جهد فيه لذته الطبيعية؛ إذ يقوم
البيت على الحب الذي هو الحب الخالص لا المنفعة، وتكون زينة الحياة وجود الحي نفسه لا
وجود
المادة، وتُبنى النفس على الوفاء الطبيعي كوفاء الأم، وذلك خُلُق لا يَعسُر عليه في سبيل
حقيقته أن يتغلَّب على الدنيا وزينتها.
وآخِرُ ما نستخرج من القصة في درس النبوة هذه الحكمة:
بحسب المؤمن إذا دخل داره أن يجد حقيقة نفسه الطيبة، وإن لم يجد حقيقة كسرى ولا
قيصر.