شهرٌ للثورة: فلسفة الصيام
لم أقرأ لأحدٍ قولًا شافيًا في فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعتُهُ للجسم، وأنَّه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة في تدبيره؛ فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حَبَّة تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم. ولكنا الآن لسنا بصددٍ من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعَتْ هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملةً على استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدَّل النفس على تغيُّر الحوادث وتبدُّلها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.
•••
يضطرب الاشتراكيون في أوروبا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كُتب ورسائل؛ ولو أنهم تدبَّروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظامًا عمليًّا من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة؛ فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضًا ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئًا؛ كما يتساوى الناس جميعًا في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم؛ وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على مَن استطاع.
فقرٌ إجباري يُراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمِّها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
ولو حقَّقتَ لرأيتَ الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة، فمن البطن نكبةُ الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة، مدَّ البطن مدَّه من قوى الهضم فلم يُبقِ ولم يَذَر.
وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبَّس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويُطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلِّم الرحمة ويدعو إليها، فيُشبع فيها بهذا الجوع فكرةً معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين: «الاطمئنان والمساواة»، يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السَّلْب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني؛ وإذا أنت نزعتَ هذه الفكرة من الاشتراكية بقي هذا المذهب كله عبثًا من العبث في محاولة جَعْل التاريخ الإنساني تاريخًا لا طبيعة له.
•••
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ من الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم؛ إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقِّق كل التدقيق، في منع الغذاء شبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخِرها آخِر الطاقة؛ فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث؛ فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.
وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو — مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها — إثباتُ الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.
وهنا حكمة كبيرة من حِكَم الصوم، وهي عملُهُ في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يدرِّب الصائم على أن يُمنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته، مصرًّا على الامتناع، متهيئًا له بعزيمته، صابرًا عليه بأخلاق الصبر، مزاولًا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسَخُ لا تتغيَّر ولا تتحوَّل، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تَعرِض الفكرةُ مارَّة مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقرَّ وتتحقَّق. فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يومًا من كل سنة قد فُرضتْ فرضًا لتربية إرادة الشعب ومزاولته فكرةً نفسية واحدة بخصائصها وملابساتها حتى تستقرَّ وترسخ وتعود جزءًا من عمل الإنسان، لا خيالًا يمر برأسه مَرًّا.
شهرٌ هو أيام قلبية في الزمن؛ متى أشرفتْ على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي؛ فيُقبِل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو، يتعهَّد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أُجِيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أُفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما أُلزمت معاني التقوى كما أُلزمها هو. وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله — لو يومًا واحدًا — حاملةً في يدها السُّبحة …! فكيف بها على ذلك شهرًا من كل سنة؟
إنها — والله — طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي؛ وردِّ هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحرَّرة من القوانين في باطنها، إلى قانونٍ من باطنها نفسه يطهِّر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويَصرِفها إلى معاني إنسانيتها، ويهذِّب من زياداتها، ويحذف كثيرًا من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحوٍ من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفِكَر الأخرى. والنفس في هذا الشهر مُحتبَسة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت.
هذا على الحقيقة ليس شهرًا من الأشهر، بل هو فصلٌ نفساني كفصول الطبيعة في دورانها؛ ولهو — والله — أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
وسحْرُ العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرفُ كيف تدَّخر هذه القوة وتوفِّرها لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سرُّ أسلافنا الأوَّلين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.
•••
كلُّ ما ذكرتُهُ في هذا المقال من فلسفة الصوم، فإنما استخرجتُهُ من هذه الآية الكريمة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وقد فهمها العلماء جميعًا على أنها معنى «التقوى»، أما أنا فأوَّلتُها من «الاتقاء»؛ فبالصوم يتقى المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يُعامِل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتَّقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسانٌ مع إنسان كحمارٍ مع إنسان: يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي.
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسمَّاك: «مدرسة الثلاثين يومًا».