الانتحار (٣)
قال المسيَّب بن رافع: وكان الإمام قد شغل خاطره
١ بهذه القصة، فأخذتْ تمدُّ مدَّها في نفسه، ومكَّنت له من معانيها بمقدار ما
مكَّن لها في همِّه، وتفتَّق بها ذهنه عن أساليب عجيبة يتهيأ بعضها من بعض كما يلد المعنى
المعنى. فلما قال الرجلان مقالهما آنفًا وأجابهما بتلك الحكمة والموعظة الحسنة، انقدح
له من
كلامهما وكلامه رأيٌ فقال: يا أهل الكوفة: أنشدكم الله والإسلام أيما رجل منكم ضاق بروحه
يومًا فأراد إزهاقها إلا كشف لأهل المجلس
نفسه وصَدَقَنا عن أمره؛ ولا يجدنَّ في ذلك ثلبًا
٢ ولا عابًا، فإنما النكبة مذهبٌ من مذاهب القَدَر في التعليم، وقد يكون ابتداء
المصيبة في رجل هو ابتداء الحكمة فيه لنفسه أو لغيره؛ وما من حزين إلا وهو يشعر في بعض
ساعات حزنه أنه قد غُيِّبت فيه أسرار لم تكن فيه، وهذا من إبانة الحقيقة عن نفسها وموضعها
كما لألأ
٣ في سيفٍ بريقُهُ.
وعقل الهم عقل عظيم، فلو قد أُريد استخراج علمٍ يعلمه الناس من اللذات والنعم؛ لكان
من
شرح هذا العلم من الحمير والبغال والدواب ما لا يكون مثله ولا قُرابه في العقلاء، ولا
تبلغه
القوى الآدمية في أهلها؛ بيد أنه لو أريد علم من البؤس والألم والحاجة لما وُجد شرحه
إلا في
الناس، ثم لا يكون الخاص منه إلا في الخاصة منهم.
وما بان أهل النعمة ولا غمروا المساكين في تطاولهم بأعناقهم إلا من أنهم يعلون أكتاف
الشياطين؛ فالشيطان دابة الغني الذي يجهل الحق عليه في غناه ويحسب نفسه مخلًّى لشهواته
ونعيمه؛ كما هو دابة العالِم الذي يجهل الحق عليه في علمه، ويزعم نفسه مخلًّى لعقله أو
رأيه، وما طال الطويل بذلك ولا عن ذلك قَصُر القصير، وهل يصحُّ في الرأي أن يقال هذا
أطول
من هذا لأن الأول فوق السلم والآخر فوق رجليه …؟
قال المسيب: فقام شيخ من أقصى المجلس وأقبل يتخطَّى الرقاب والناس ينفرجون
٤ له حتى وقف بإزاء الإمام؛ وتفرَّستُه
٥ وجعلَتْ عيني تعجمُهُ،
٦ فإذا شيخ تبدو طلاقة وجهه شبابًا على وجهه، أبلج الغُرَّة متهلِّل، عليه بشاشة
الإيمان، وفي أساريره أثر من تقطيب قديم، ينطق هذا وذاك أن الرجل فيما أتى عليه من الدهر
قد
كان أطفأ المصباح الذي في قلبه مرة ثم أضاءه. وعجبتُ أن يكون مثل هذا الشيخ قد همَّ بقتل
نفسه يومًا، وأنا أرى بعينيَّ نفسَهُ هذه منبثقة في الحياة انبثاق النخلة السحوق.
وتكلم هذا الرجل فقال: أما إذ ناشدتنا
٧ الله والإسلام وميثاق العلم ووحي الأقدار في حكمتها، فإني محدِّثك بخبري على
وصفه ورصفه: أملقتُ
٨ منذ ثلاثين سنة، ووقف بي من الدهر ما كان يجري، وأصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر
الحجر يريد أن يشرب منه، وعجزتْ يدي حتى لَظُفر دجاجة في نبشها التراب عن الحبة والحشرة
أقدر مني؛ وطرقتني النوائبُ
٩ كأنما هي تساكنني في داري، وأكلني الدهر لحمًا ورماني عظامًا، فما كان يقف
عليَّ إلا كلاب الطريق؛ ولي يومئذٍ امرأة أعقبتُ منها طفلًا، ويلزمني حقهما ولا أستطيعه،
وكان بيننا حبٌّ فوق المعاشرة والألفة قد تركني من امرأتي هذه كالشاعر الغزل من صاحبته،
غير
أن الشعر في دمي لا في لساني.
فلما نهكتني
١٠ المصائب وتناولتني من قريب ومن بعيد، قلت للمرأة ذات يوم وقد شحبت وانكسر وجهها وتقبَّض
١١ من هُزاله: وايم الله يا فلانة، لو جاز أن يؤكل لحم الآدمي لذبحت نفسي لتأكلي
وتدرِّي على الصبي، ولقد هممت أن أركب رأسي وأذهب على وجهي لتفقداني فتفقدا شؤمي عليكما؛
ولكن ردَّني قلبي، وهو حبسني في هذه الدنيا الصغيرة التي بينكما، فليس لي من الأرض مشرق
ولا
مغرب إلا أنتِ وهذا الصبي. ولست أدري — والله — ما نصنع بالحياة وقد كنا من نباتها الأخضر
فرجعنا من حطبها اليابس؛ وعادت الشمس لا تغذوها بل تمتص منها ما بقي، ولا تستضيء لها،
ولكن
تستوقد عليها!
إن مَن فقد الخير ووقع في الشر، حريٌّ
١٢ أن يكون قد أصاب خيرًا عظيمًا إذا قتل نفسه فخلص من الشر والخير جميعًا، لا يُكدِي
١٣ ولا ينجح، ولا يألم ولا يلذُّ؛ وكما أنكرتْهُ الدنيا فلينكرها. أما إنه إن كان
القبر فالقبر ولكن في بطن الأرض لا على ظهرها كحالنا؛ وإن كان الموت فالموت ولكن بمرة
واحدة
وفي شيء واحد لا كهذا الذي نحن فيه أنواعًا أنواعًا. قد ماتت أيامنا، وتركنا نعيش كالموتى
لا أيام لهم، وزاد علينا الموتى في النعمة والراحة أنهم لا يتطفَّلون
١٤ على أيام غيرهم فيُطردوا عن يوم هذا ويوم ذاك.
قال: فاستعبرَتِ
١٥ المرأة باكية، ولما فرغتْ من كلام دموعها قالت: كأنك تريد أن تَفْجَعنا فيك؟
قلت: ما عدوتِ ما في نفسي؛ ولكن هل بقي فيَّ مَن تفجعين فيه؟ أما ذهب مني ذاك الذي كان
لك
زوجًا وكاسبًا، وجاء الذي هو همُّك وهمُّ هذا الصبي من رجلٍ كالحفرة لا تنتقل من مكانها
وتأخذ ولا تعطي؟
أمْ والله لكأني خُلقت إنسانًا خطأً، حتى إذا تبين الغلطُ أريد إرجاعي إلى الحيوان
فلم
يأتِ لا هذا ولا ذاك، وبقيت بينهما؛ يمر الناس بي فيقولون: إنسان مسكين. وأحسب لو نطقت
الكلاب لقالت عني: كلب مسكين. يا عجبًا! عجبًا لا ينتهي! أصبحتِ الدنيا في يدنا من العجز
واليأس كأنما هي بَعْرة نجهد في تحويلها ياقوتة أو لؤلؤة …
فقالت المرأة: والله لئن حييتَ على هذا إنَّ هذا لكفر قبيح، ولئن متَّ عليه إنه لأقبح
وأشد.
فقلت لها: ويحكِ! وماذا تنظر العينُ المبصرة في الظلام الحالك إلا ما تنظر
العمياء؟
قالت: ولمَ لا تنظر كما ينظر المؤمن بنور الله؟
قلت: فانظري أنت وخبريني ماذا ترين. أترَيْن رغيفًا؟ أترَيْن إدامًا؟ أترَيْن
دينارًا؟
قالت: والله إني لأرى كل ذلك وأكثر من ذلك. أرى قمرًا سيكشِف هذه السُّدْفة
١٦ المظلمة إن لم يطلُع فكأن قد.
قال: فغاظتني المرأة ورأيتُها حينئذٍ أشدَّ عليَّ بقلَّةِ ذات عقلها من قلَّةِ ذات
يدي؛
ولولا حبي إياها ورحمتي لها لأوقعت بها.
١٧ واستحكم في ضميري أن أزهق نفسي وأدعها لما كُتِب لها.
وقلت: إن جُبن المرأة هو نصف إيمانها حين لا يكون نصف عقلها، وللقَدَر يدٌ ضعيفة على
النساء تصفعهنَّ وتمسح دموعهنَّ، وله يدٌ أخرى على الرجال ثقيلة تصفع الرجل وتأخذ بحلقه
فتعصره.
•••
قال: وكنتُ قد سمعتُ قول الجاهلية في هذه الخليقة؛ أرحامٌ تَدْفع، وأرضٌ تَبْلع.
فحضرني
هذا القول تلك الساعة وشُبِّه لي، واعتقدت أن هذا الإنسان شيء حقير في الغاية من الهوان
والضعة: حملتْهُ أمُّه كرهًا، وأثقلت به كرهًا، ووضعته كرهًا؛ وهو من شؤمه عليها إذا
دنا
لها أن تضع لم يخرج منها حتى يضربها المخاض فتتقلب وتصيح وتتمزق وتنصدع؛
١٨ وربما نشب فيها فقتلها، وربما التوى فيُبْقَر بطنُها عنه. وإذا هي ولدته على أي
حالَيْها من عُسرٍ وتطريق بمثل المطارق المحطِّمة، أو سراح ورواح كما يتيسر — فإنما تلده
في
مشيمة ودماء وقذر من الأخلاط كأنما هو خارج من جرح، ثم تتناوله الدنيا فتضعه من معانيها
في
أقبح وأقذر من ذلك كله، ثم يستوفي مدته فيأخذه القبر فيكون شرًّا عليه في تمزيقه وتعفينه
وإحالته.
قال: وحضرني مع كلمة الجاهلية قول ذلك الجاهل الزنديق الذي يُعرف «بالبقلي»؛ إذ كان
يزعم
أن الإنسان كالبقلة، فإذا مات لم يرجع. وقلت لنفسي: إنما أنت بقلة حمقاء ذاوية في أرض
نشَّاشة،
١٩ فقتَلَها مِلحُ أرضها أكثر مما أحياها.
قال: وثُرت إلى المدية
٢٠ أريد أن أتوجَّأ بها، فتُبادرني المرأة وتحول بيني وبينها، وأكاد أبطش بها من
الغيظ، وكانت روح الجحيم تزفر من حولي لو سمعوا سمعوا لها شهيقًا وهي تفور؛ فما أدري
أيُّ
مَلَكٍ هبط بوحي الجنة في لسان امرأتي.
قلت لها: إنها عزمةٌ مني أن أقتل نفسي.
قالت: وما أريد أن أنقضها ولست أردُّك عنها وستُمضيها.
قلت: فخلِّي بين نفسي وبين المدية.
قالت: كلنا نفسٌ واحدة؛ أنا وأنت والصبي، فلنقضِ معًا؛ وما بنفسي عن نفسك رغبة، ولا
ندع
الصبي يتيمًا يصفعه من يطعمه، ويضربه ابن هذا وابن ذاك؛ إذ لا يستطيع أن يقول في أولاد
الناس أنا ابن ذلك ولا ابن هذا.
قلت: هذا هو الرأي.
قالت: فتعالَ اذبح الطفل …
•••
قال المسيب بن رافع: وما بلغ الرجل في قصته إلى ذبح صغيره حتى ضجَّ الناس ضجَّة منكرة؛
وتوهَّم كل أب منهم أن طفله الصغير ممدَّد للذبح وهو ينادي أباه ويشقُّ حَلْقه بالصراخ:
يا
أبي يا أبي؛ أدركني يا أبي.
أما الإمام فدمعت عيناه وكنتُ بين يديه، فسمعته يقول: إنا لله، كيف تصنع جهنم
حطبها؟
وأنا فما قَطُّ نسيتُ هذه الكلمة، وما قطُّ رأيت من بعدها كافرًا ولا فاسقًا فاعتبرت
أعماله إلا كان كل ذلك شيئًا واحدًا هو طريقةُ صنعتِهِ حطبًا … كأن الشيطان — لعنه الله
—
يقول لأتباعه: جفِّفوه …
وكانت هنيهات، ثم فاء الناس ورجعوا إلى أنفسهم وصاحوا بالمتكلم: ثم ماذا؟
•••
قال الرجل: ففتحتُ عيني وقلبي معًا ورمقتُ
٢١ الطفل المسكين الذي لا يملك إلا يديه الضعيفتين؛ ونظرتُ إلى مجرى السكين من
حلقه وإلى محزِّها
٢٢ في رقبته اللينة؛ ورأيتُهُ كأنما تفرَّق بصره من الفزع على كلِّ جهة، ورأيتُهُ
يتضرَّع لي بعينيه الباكيتين ألا أذبحه، ورأيتُه يتوسَّل بيديه الصغيرتين كأنه عرف أنه
منِّي أمام قاتله، ثم خُيِّل إليَّ أنه يتلوَّى وينتفض ويصرخ من ألم الذبح تحت يد أبيه؛
تحت
يد أبيه التعس.
يا ويلتاه! لقد أخذني ما كان يأخذني لو تهدَّمت السماء على الأرض، وحسبتُ الكون كله
قد
انفجر صراخًا من أجل الطفل الضعيف الذي ليس له إلا ربه أمام القاتل.
فهرولتُ
٢٣ مسرعًا وتركت الدار والمرأة والصبي وأنا أقول يا أرحم الراحمين، يا من خلق
الطفل عالَمُه أمُّه وأبوه وحدهما وباقي العالم هباء عنده، يا من دبَّر الرضيع فوهبه
مُلكًا
ومملكة وغنى وسرورًا وفرحًا، كل ذلك في ثدي أمه وصدرها لا غير، يا إلهي! أنسِنِي مثل
هذا
النسيان، وارزقني مثل هذا الرزق، واكفلني بمثل هذا التدبير، فإني منقطع إلا من رحمتك
انقطاع
الرضيع إلا من أمه.
•••
قال الرجل: ولقد كنتُ مغرورًا كالجيفة الراكدة تحسب أنها هي تفور حين فارت حشراتها.
ولقد
كنتُ أحقرَ من الذباب الذي لا يجد حقائقه، ولا يلتمسها إلا في أقذر القذر.
وما كدتُ أمضي كما تسوقني رجلاي حتى سمعتُ صوتًا نديًّا مطلولًا يرجِّع ترجيع الورقاء
٢٤ في تحنانها وهو يرتِّل هذه الآية:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا
تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطًا.
٢٥
قال: فوقفت أسمع، وماذا كنتُ أسمع؟ هذه شُعلٌ لا كلمات، أحرقتْ كلَّ ما كان حولي
ولمست
مصباح روحي المنطفئ فإذا هو يتوهج، وإذا الدنيا كلها تتوهج في نوره، وارتفعت نفسي عن
الجدب
٢٦ الذي كنتُ فيه وكأنما لفَّتني سحابة من السحب، ففي روحي نسيم الماء البارد
ورائحة الماء العذب.
لعن الله هذا الاضطراب الذي يُبتلى الخائف به. إننا نحسبه اضطرابًا وما هو إلا اختلاط
الحقائق على النفس وذهاب بعضها في بعض، وتضرُّبُ الشر في الخير والخير في الشر حتى لا
يبين
جنس من جنس، ولا يُعرف حدٌّ من حد، ولا تمتاز حقيقة من حقيقة. وبهذا يكون الزمن على المبتلى
كالماء الذي جمد لا يتحرك ولا يتساير. فيلوح الشر وكأنه دائمًا لا يزال في أوله ينذر
بالأهوال، وقد يكون هوله انتهى أو يوشك.
قال الرجل: وكنتُ أرى يأسي قد اعترى كل شيء، فامتد إلى آخر الكون وإلى آخر الزمن؛
فلما
سكن ما بي إذا هو قد كان يأسَ يومٍ أو أيام في مكان من الأمكنة؛ أما ما وراء هذه الأيام
وما
خلْفَ هذا المكان، فذلك حُكمه حكم الشمس التي تطلع وتغيب على الدنيا لإحيائها، وحكم الماء
الذي تهمي السماء به ليسقي الأرض وما عليها، وحكم استمرار هذه الأجرام السماوية في مدارها
لا تمسكها ولا تزنها إلا قوة خالقها.
أين أثر الإنسان الدنيء الحقير في كل ذلك؟ وهل الحياة إلا بكل ذلك؟
وما الذي في يد الإنسان العاجز من هذا النظام كله فيَسُوغ
٢٧ له أن يقول في حادثة من حوادثه إن الخير لا يبتدئ وإن الشر لا ينتهي؟
تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحو من نفسه الخسة والدناءة، وتكسر الشر والكبرياء،
وتفثأ
٢٨ الحدة والطيش؛ فلا يكون من حمقه إلا أن يزيد بها طيشًا وحِدة، وكبرياء وشرًّا،
ودناءة وخسة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك.
المصيبة هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبة.
•••
قال: وردَّدتُ الآية الكريمة في نفسي لا أشبع منها، وجعلت أرتِّلها أحسن ترتيل وأطربَهُ
وأشجاه؛ فكانت نفسي تهتز وترتج كأنما هي تبدأ تنظيم ما فيها لإقرار كل حقيقة في موضعها
بعد
ذلك الاختلاط والاضطراب.
صبر النفس مع الذين يمثِّلون روحانيتها تمثيلًا دائمًا بالغداة والعشي، وعلى نور
الحياة
وظلامها، يريدون وجه الله الذي سبيله الحب لا غيره من مال أو متاع. وتقييد العينين بهذا
المثل الأعلى كما يكون الأمر في الجمال والحب؛ والربط على الإرادة كيلا تتفلَّت فتسفَّ
٢٩ إلى حقائر الدنيا المسماة هزءًا وتهكمًا زينةَ الدنيا، تلك التي تشبه حقائق
الذباب العالية … فتكون قذرة نجسة، ولكنها مع ذلك زينة الحياة لهذا الخلق الذبابي.
تلك — والله — هي أسباب السعادة والقوة. أما المصائب كلها، فهي في إغفال القلب الإنساني
عن ذكر الله.
•••
قال: ولما صحَّت توبتي، وقَوِي اليقين في نفسي، كبُرَت روحي واتسعت، وانبعثت لها
بواعث من
غير حقائق الذباب، وأشرق فيها الجمال الإلهي ساطعًا من كل شيء، وكان الصبح يطلع عليَّ
كأنه
ولادة جديدة، فأنا دائمًا في عُمر طفل، وجاءني الخير من حيث أحتسب
٣٠ ولا أحتسب، وكأنما نِمْتُ فانتبهتُ غنيًّا وعَمِل القلبُ الحي في الزمن
الحي.
ولقد أفدتُ من الآية طبيعة لم تكن فيَّ، ولا يثبت معها الشر أبدًا، فأصبح من خصالي
أن أرى
الحاضر كله متحركًا يمر بما فيه من خيره وشره جميعًا، وأستشعر حركته مثلما ترى عيناي
من
قطار الإبل يهتز تحت رحاله وهو يُغِذُّ السير.
٣١
لم أُبعد قليلًا وأنا أمشي مطمئنًّا تائبًا متوكلًا حتى دعاني رجل ذو نعمة ومروءة
وجاه،
وكأنما كلَّمه قلبه أو كلَّمه وجهي في قلبه فاستنبأني، وبثثتُهُ
٣٢ حالي واقتصصت قصتي. فقال: سيُحييك الله بالطفل الذي كدتَ تقتله، فارجع إلى
دارك. ثم وجَّه إليَّ دنانير وقال: اتَّجرْ بهذه على اسم الله وبركته فسينمو فيها طفل
من
المال يبلغ أشدَّه. وقد صدق إيمانه وإيماني، فبارك لي الله ونما طفل المال وبلغ وجاوز
إلى
شبابه.
قال المسيَّب: وجلس الرجل وكان كالخطيب على المنبر، فقال الإمام: ما أشبه النكبة بالبيضة
تُحسب سجنًا لما فيها وهي تحوطه وتربِّيه وتُعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى
مدة،
والرضى إلى غاية، ثم تَنقُف البيضة فيخرج خلقًا آخر.
وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكوَّن فيها، وتمامه أن ينبثق
شخصه
الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل.