الانتحار (٥)
فسمعني أطنُّ على أذن «مجاهد الأزدي»؛ وكنت أعرفه شاعرًا في كلامه وشاعرًا في قلبه؛ فقلت له: إنه لم يبقَ من النهار يا مجاهد إلا مثل صبر المحب دنا له الموعد؛ ولم يبقَ من الشمس إلا مثل ما تتلفف صاحبته، تأخذ عليها ثوبها وغلائلها، ولكن بعد أن تسقطها من هنا ومن هنا، لترى جمال جسمها هنا وهنا!
فاهتزَّ الفتى لهذه الكلمات، وسالت الرقة في أعطافه، وقال: يا عم، أما ترى ما بقي من النهار كأنه وجهُ باكٍ مسح دموعه وليس حوله إلا كآبة الزمن …؟
قلت: كأن لك خبرًا يا فتى، فإن كان شأنك مما نحن فيه فقصُّه علينا وعلِّلنا به سائر الوقت إلى أن تجب الشمس، ولعلك طائر بنا طيرة فوق الدنيا.
قلت: تقوم فتتكلم، فإني أرى لك لسانًا وبيانًا.
قال: أَوَيحسن أن أتكلم في المسجد عن صرعة الحب وصريعه، وعاشقةٍ وعاشق؟
فبادر مجاهد فقال: ويحكَ يا فتى! لقد تحجَّرتَ واسعًا؛ إن المؤمن ليصلي بين يدي الله وكتاب سيئاته في عنقه منشور مقروء. وهل أوقات الصلاة إلا ساعات قلبية لكل يوم من الزمن، تأتي الساعة مما قبلها كما تأتي توبة القلب مما عمل الجسم؟ إنما يتلقى المسجد من يدخله لساعته التي يدخله فيها، ولو أنه حاسبه عن أمس وأول منه وما خلا من قبل، لطرده من العتبة! إن المسجد يا بني إنما يقول لداخله: ادخل في زمني ودع زمنك، وتعالَ إليَّ أيها الإنسان الأرضي، لتتحقق أن فيك حاسة من السماء، وجئني بقلبك وفكرك، ليشعرا ساعة أنهما فيَّ لا فيك. ولسنا الآن يا بني في متحدث كنديِّ القوم يتطارحون فيه أخبارهم، بل نحن في مجلس عالم تكلمت فيه رقبة هذا ورقبة هذا بما سمعتَ؛ فقم أنت فاذكر علم قلبك وقصَّ علينا خبر طيش الحبِّ والشباب الذي يشبه الكلام فيه أن يكون كلامًا عن الصعود إلى القمر والقبض من هناك على البرق!
•••
وتحدَّث الفتى، فإذا هو يدير بين فكيه لسان شاعر عظيم، يتكلَّم كلامه بنفسين: إحداهما بشرية تصنع المعنى واللفظ، والأخرى علوية فيها النار والنور.
قال: إن لي قصة أيها الشيخ، لم يبقَ منها إلا الكلام الذي دُفنتْ فيه معانيها؛ وقد تأتي القصة من أخبار القلب مفعمة بالآلام والأحزان، ولا يراد بآلامها وأحزانها إلا إيجاد أخلاق للقلب يعيش بها ويتبدل. والذي قُدِّر عليه الحب لا يكون قد أحب غيره أكثر مما يكون قد تعلم كيف ينسى نفسه في غيره، وهذه كما هي أعلى درجات الحب؛ فهي أعلى مراتب الإحسان.
ومتى صَدقَ المرء في حبِّه كانت فكرته فكرتين: إحدهما فكرة، والأخرى عقيدة تجعل هذه الفكرة ثابتة لا تتغير؛ وهذه كما هي طبيعة الحب فهي طبيعة الدين.
ولا شيء في الدنيا غير الحب يستطيع أن ينقل إلى الدنيا نارًا صغيرة وجنة صغيرة، بقدر ما يكفي عذاب نفس واحدة أو نعيمها، وهذه حالة فوق البشرية.
والفضائل عامتها تعمل في نقل الإنسان من حيوانيته، وقد لا تنقل إلا أقلَّه ويبقى في الحيوانية أكثره؛ ولكن الحب الصادق يقتلع الإنسان من حيوانيته بمرة واحدة، بيد أنه لا يكون كذلك إلا إذا قتله بآلامه؛ فهو كأعلى النسك والعبادة.
وستجري في قصتها ألفاظ القصة نفسها، لا أتأثم من ذلك ولا أتذمم؛ فقد ذكر الله الخمر ولم يقل: «الماء الذي فيه السكر»، ووصف الشيطان ولم يقل: «المَلَك الذي عمل عمل المرأة الحسناء في تكبُّرها»، وذكر الأصنام بأنها الأصنام، ولم يسمِّها: «حاملة السماء التي يصنعها الإنسان بيديه»، وحكاية ما بين الرجل والمرأة هي كلام يقبِّل بعضه بعضًا ويلتزم ويتعانق!
قال المسيب: فتبسم إمامنا ونظرت عيناه تسألان سؤالًا. أما مجاهد الأزدي فكان من هزة الطرب كأنه على قَتَب بعير، وقال: لله دره فتى، إن هذا لبيانٌ كحيل العين …
ثم قال الفتى: وذهبت إلى المجلس وقد جعلتْهُ هذه المغنية من حواشيه وأطرافه كأنه تفسير لها هي. أما هي فجعلت نفسها تفسيرًا لكلمة واحدة هي: «اللذة …»
قال المسيب: وطرب مجاهد طربًا شديدًا، وسمعته يخافت بصوته يقول: «لله درها امرأة؛ هذه، هذه عدوة الحور العين!»
•••
قال المسيب: وأطرقَ الفتى هنيهة وأطرق الناس معه؛ فرفع مجاهد صوته وقال: رحمها الله! فقال الناس جميعًا: رحمها الله.
وأسرع الشراب في القوم وأفرط عليهم السكر؛ فبقيت لي وحدي وبقيتُ لها وحدها؛ ثم تناولتْ عودها وضمته إليها ضمًّا شديدًا أكثر من الضم … وألمسته صدرها، ونهديها، ثم رنت إليَّ بمعنى، فما شككت أنها ضمَّة لي أنا والعود، ثم غنَّت هذا الصوت:
•••
•••
قال المسيب: فنظر إليَّ مجاهد وقال: عدوَّة الجنة — والله — هذه يا أبا محمد، لا تقبل الجنة من يكون معها، تقول له: كنتَ مع عدوتي!
ثم قال الفتى: وكان القوم قد انتشوا، فاعتراهم نصف النوم وبقي نصف اليقظة في حواسهم، فكل ما رأوه منا رأوه كأحلام لا وجود لها خلف أجفانهم المثقلة سكرًا ونعاسًا. ووثبت المغنية فجاءت إلى جنبي والتصقت بي، وأسرع الشيطان فوسوس لي: أن احذر فإنَّك رجل صدق، وإذا صدقْتَ في الخمر فلا تكذبَنَّ في هذه، ولئن مسستها إنها لضياعك آخر الدهر!
فعجبتُ أشد العجب أن يكون شيطاني أسلم وأُعِنْتُ عليه كما أعين الأنبياء على شياطينهم. ولكن اللعين مضى يصدني عن المرأة دون معانيها، وكان مني كالذي يدني الماء من عينَي القتيل المتلهب جوفُهُ ثم يجعله دائمًا فَوْت فمه، ولقد كنت من الفحولة بحيث يبدو لي من شدة الفورة في دمي وشبابي أن أجمع في جسمي رجالًا عدة، ولكن ضربني الشيطان بالخجل فلم أستطع أن أكون رجلًا مع هذه المرأة.
وعجبتْ هي لذلك، وما أسرع أن نطق الشيطان على لسانها بالموعظة الحسنة …! فقالت أحببتُك ما لم أحب أحدًا، وأحببت خجلك أكثر منك، فما يسرني أن تأثم فيَّ فتدخل النار بحبي، ولو أنك ابتعتني من مولاي؟ فقلت: بكم اشتراك؟ قالت: بألف دينار! قلت: وأين هي مني وأنا لو بعت نفسي ما حصلت لي؟
فتمم الشيطان موعظته، وقالت وأشارت إلى قلبها: إن قلبي هذا قَبِلك غنيًّا كنتَ أو فقيرًا، وأحسَّ بك وحدك حب العذارء أول ما تحب، وأنا — كما تراني — أعيش في السيئات كالمكرهة عليها، فسأعمل على أن تكون أنت حسنتي عند الله، أذهب إليه حاملة في قلبي حبي إياك وعِفَّتي عنك، ولئن كانت عفة من لا يشتهي ولا يجد تعدُّ فضيلة كاملة، إن عفة من يجد ويشتهي لتعد دينًا بحاله. ولا يزال حبي بكرًا، ولا أزال في ذلك عذراء القلب، وهؤلاء قد نزعوا الحياء عني من أجل أنفسهم، فألبسنيه أنت من أجلك خاصة؛ وإن قوة حبي كالذي سيتألم بك ويتعذَّب منك لطول ما يصبر عنك، ستكون هي بعينها قوة لفضيلتي وطهارتي.
ثم تناولت عودها وسوَّته وغنَّت:
وجعلت تتأوَّه في غنائها كأنها تذبح ذبحًا، ثم وضعت العود جانبًا وقالت: ما أشقاني! إذا اتفقت لي ساعة زواجي في غير وقتها فجاءت كالحلم يأتي بخيال الزمن فلا يكون فيه من الأشياء إلا خيال الأشياء.
ثم سألتني: ما بالك لم تشرب الخمر ولم تدخل في الديوان؟ فبدر شيطاني المؤمن … وساق في لساني خبر أمي وأبي، فانتضحت عيناها باكية وتمَّ لها رأيٌ فيَّ كرأيي أنا في المسكر؛ وكان شيطانها بعد ذلك شيطانًا خبيثًا مع أصحابها، وبَطريقًا زاهدًا معي أنا وحدي!
ولم يعد جمالي هو الذي يعجبها ويصبيها، بل كان يعجبها مني أني صنعة فضيلتها التي لم تصنع شيئًا غيري …
وانطلق الشيطان بعد ذلك فيَّ وفيها بدهائه وحنكته وبكل ما جرَّب في النساء والرجال من لدن آدم وحواء إلى يومي ويومها! … فكان يجذبني إليها أشد الجذب، ويدفعها عني أقوى الدفع، ثم يغريني بكل رذائلها ولا يغريها هي إلا بفضائلي. وألقى منها في دمي فكرة شهوة مجنونة متقلبة، وألقى مني في دمها فكرة حكمة رزينة مستقرة. وكنت ألقاها كل يوم وأسمع غناءها؛ فما هو بالغناء ولكنه صوت كلِّ ما فيها لكل ما فيَّ، حتى لو التصق جسمها بجسمي وسار البدن البدن، وهمس الدم للدم، لكان هو هذا الغناء الذي تغنِّيه.
وانحصرت نفسي فيها، فرجعتُ معها أشد غباوة من الجاهل ينظر إلى مدِّ بصره من الأفق فيحكم أن ها هنا نهاية العالم، وما ها هنا إلا آخر بصره وأول جهله. وانفلت مني زمام روحي، وانكسر ميزان إرادتي، واختلَّ استواء فكري، فأصبحت إنسانًا من النقائض المتعادية أجمعُ اليقين والشك فيه، والحب والبغض له، والأمل والخيبة منه، والرغبة والعزوف عنها، وفي أقل من هذا يخطف العقل، ويتدلَّه مَن يتدلَّه.
ورأيتنا كأننا في عالَمين لا صلة بينهما، ونحن معًا قلبًا إلى قلب، فذهب هذا بالبقية التي بقيت من عقلي، ولم أرَ لي منجاة إلا في قتل نفسي لأزهق هذا الوحش الذي فيها.
وذهبتُ فابتعتُ شعيرات من السم الوَحِيِّ الذي يُعجل بالقتل، وأخذتها في كفي وهممت أن أقمحها وأبتلعها، فذكرتُ أمي، فظهرت لخيالي مشدوخة الرأس في هيئة موتها، وإلى جانبها هذه المرأة في هيئة جمالها، وثبتت على عيني هذه الرؤيا، وأدمنتُ النظر فيها طويلًا فإذا أنا رجل آخر غير الأول، وإذا المرأة غير تلك، وطغت عِبرة الموت على شهوة الحياة فمحتها، وصح عندي من يومئذٍ أن لا علاج من هذا الحب إلا أن تقرن في النفس صورة امرأة ميتة إلى صورة المرأة الحية، وكلما ذكرت هذه جيء لها بتلك، فإذا استمر ذلك فإن الميتة تميتها في النفس وتميت الشهوة إليها، ما من ذلك بد، فليجربه مَن شَكَّ فيه.
أيتها النفس، ما الفرق بين سرقة لحم من دكان قصاب، وبين سرقة لحم امرأة من دار أبيها، أو زوجها، أو مولاها …؟
أيتها النفس، إن إيمان أسلافنا معنا؛ إن الإسلام في المسلم.
•••
قال المسيب: وهنا طاش مجاهد واستخفَّه الطرب، فصاح صيحة النصر: الله أكبر! وجاوبه أهل المسجد في صيحة واحدة: الله أكبر! ولم يكد يهتف بها الناس حتى ارتفعت صيحة المؤذن لصلاة المغرب؛ الله أكبر …