الانتحار (٦)
تتمة
قال المسيَّب بن رافع: وانفضَّ
١ مجلس الشيخ، ودَرَجَتْ
٢ بعده أعوام في عدة الشهور من حمل المرأة، بلغَتْ فيها أمور الناس مبلغها من خير
الدنيا وشرها، مما أعرف وما لا أعرف؛ ودخلتُ البصرة أنا ومجاهد الأزدي، نسمع الحسن ونأخذ
عنه؛ فإنا لسائران يومًا في سكة
٣ بني سمرة، إذ وافقنا الفتى صاحب النصرانية مقبلًا علينا، وكنا فقدناه تلك
المدة، فأسرعَ إليه مجاهد فالتزمه وقال: مرحبا بذي نسب إلى القلب. وسلَّمتُ بعده وعانقتُهُ،
ثم أقبلنا نسأله، فقلت له: ما كان آخر أوَّلِك؟ قال مجاهد: بل ما كان آخر أوَّلِها
هي؟
فضحك الرجل وقال: النصرانيَّةَ تعني؟ قال: آخرها من أولها كهذا مني؛ وأومأ إلى ظله
في
الأرض ممدودًا مشبوحًا مختلطًا غير متميز؛ كأنه ثوبٌ منشور ليس فيه لابسه، وكنا في الساعة
التي يصير فيها ظلُّ كل شيء مثلَيْه فهو مزج المسخ بالمسخ …
قال مجاهد: ما أفظَّ جوابك وأثقله يا رجل! كأنك — والله — تاجر لا صلة له بالأشياء
إلا من
أثمانها؛ فنظرُهُ إلى فراهة الدابة من الدواب وإلى فراهة الجارية من الرقيق سواء.
قال الرجل: فأنا — والله — تاجر، وأنا الساعة على طريق الإيوان
٤ الذي يلتقي فيه تجار العراق والشام وخراسان، وقد ضربتُ في هذه التجارات وحَسُنت
بها حالي وتأثَّلتُ منها، غير أن قلبَ التاجر غيرُ التاجر، فليس يزن ولا يقبض، ولا يبيع
ولا
يشتري. أما «تلك» فأصبحت نسيانًا ذهب لسبيله في الزمن!
قال مجاهد: فكيف كنت تراها وكيف عدت تنظر إليها؟
قال: كنتُ أنظر إليها بعيني وأفكاري وشهواتي، فكانت بذلك أكثر من نفسها ومن النساء،
وكانت
ألوانًا ما تنقضي، فلما دخل بيني وبينها الزمن والعقل، أبعدها هذا عن قلبي وأبعدها ذاك
عن
خيالي؛ فنظرتُ إليها بعينيَّ وحدهما، فرجعت امرأة ككل امرأة، وبنزولها من نفسي هذه المنزلة،
رجعتْ أقل من نفسها ومن النساء، وهذه القلة فيما عرفت لا تصيب امرأة عند محبِّها إلا
فعلت
بجمالها مثل ما تفعله الشيخوخة بجسمها، فأدبرت به ثم أدبرت واستمرت تدبر!
وأنتَ، فإذا أبصرت امرأة شيخة قد ذهبت التي كانت فيها … وأخطرت في ذهنك نية مما بين
الرجال والنساء، فهل تراك واجدًا الشهوة والميل إلا النفرة والمعصية؟ إن هذا الذي كان
الحب
والهوى والعشق، هو بعينه الذي صار الإثم والذنب والضلالة؟
قال مجاهد: كأنك لما ذهبت تقتل نفسك من حبِّها قتلتها هي في نفسك؟
قال: يا رحمة قد رحمتُ بها نفسي يومئذ! أما — والله — إن الذي يقتل نفسه من حب امرأة
لغبي. ويحه! فليتخلص من هذا الجزء من الحياة لا من الحياة نفسها. وقد جعل الله للحب طرفين:
أحدهما في اللذة، والآخر في الحماقة؛ ما منهما بدٌّ، فهذا الحب يُلقي صاحبه في الأحلام
ويغشِّي بها على بصره، ثم إن هو اتجه بطرَفِهِ السعيد إلى حظه المقبل، واتفقت اللذة للمحب،
أيقظته اللذة من أحلامه؛ وإن اتجه الحب بطرفه الشقي إلى حظه المدبر، وقعت الحماقات فنونًا
شتى بين الحبيبين وفعلت آخرًا فعل اللذة، فأيقظت العاشق من أحلامه أيضًا. وهذا تدبير
من
الرحمة في تلك القوة المدمرة المسماة الحب. أفلا يدل ذلك على أن اللذة وهمٌ من الأوهام
ما
دام تحققها هو فناءها؟
خذ عني يا مجاهد هذه الكلمة: «ليس الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها، ولا هو شيء يدرك،
ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو إدراكه.»
قال مجاهد: لقد علمت بعدنا علمًا، فمن أين لك هذا وعمَّن أخذت؟
قال: عن السماء!
قال: ويلك! أين عقلك؟ فهل نزل عليك الوحي؟
قال الرجل: لا، ولكن تعاليا معي إلى الدار فأحدِّثكما.
•••
قال المسيَّب: وذهبنا معه؛ فأُتِينا بطعام نظيف فأكلنا، وأشعرتنا الدار أن ربَّها
قد وقع
فيما شاء من دنياه وتواصلت عليه النعمة؛ فلما غسلنا أيدينا قال مجاهد: هيه يا أبا … يا
أبا
من؟ قال: أبو عبيد. قال: هيه يا أبا عبيد …
فأفكَرَ الرجلُ ساعة ثم قال: عهدكما بي منذ تسعٍ في مجلس الإمام الشعبي بالكوفة؛
وقد كنت
في بقية من النعمة أتجمَّل بها، وكانت تُمسكني على موضعي في أعين الناس؛ فما زالت تلك
البقية تَدِقُّ وتنفضُّ حتى نكِدَ عيشي ووقعتُ في الأيام المقعَدَة التي لا تمشي بصاحبها،
وانقلب الزمن كالعدو المغير جاء ليصطلم
٥ ويخرب ويفسد، فأثَّر فيَّ أقبح آثاره، فبعتُ ما بقي لي وتحمَّلت عن الكوفة إلى
البصرة، وقلت: إن لم تتغيَّر حالي تغيَّرتْ نفسي، ولا أكون في البصرة قد انتهيت إلى الفقر،
بل أكون قد بدأتُ من الفقر كما يبدأ غيري، وأدع الماضي في مكانه وأمضي إلى ما
يستقبلني.
فالتمست رفقة فالتأمنا
٦ عشرين رجلًا، فلما كنا في الطريق، سَلَبَنَا اللصوص وحازوا القافلة وما تحويه،
ونجوتُ أنا راكبًا فرسي وعمري، وأدركت حينئذٍ أن الحياة وحدها ملك عظيم، وأنها هي الأداة
الإلهية، والباقي كله هو من أنفسنا لأنفسنا والأمر فيه هين والخطب يسير.
وقلت: لو أن اللصوص قد مروا بنا كما يمر الناس بالناس لما نكبونا، ولكنهم عرضوا لنا
عروض
اللص للمال والمتاع لا للناس، فوضعوا فينا الأيدي الناهبة؛ ومِن هذا أدركت أن ليس الشر
إلا
حالة يتلبس بها من يستطيع أن يتخلص منها. فإذا كان ذلك فأصل السعادة في الإنسان ألا يعبأ
٧ بهذه الحالات متى عرضت
٨ له، وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا تمثَّل الشر كما يراه واقعًا في غيره؛ فالمرأة
العفيفة إذا عرضت لها حالة من الفجور، ونظرت إلى نفسها وحظ نفسها، فقد تعمى وتزل؛ ولكنها
إذا نظرت إلى ذلك في غيرها وإلى أثره على الفاجرة، كانت كأنما زادت على نفسها نفسًا أخرى
تريها الأشياء مجردة كما هي في حقائقها.
قال: ومضيتُ على وجهي تتقاذفني البقاع والأمكنة، وأنا أعاني الأرض والسماء، وأخشى
الليل
والنهار، وأكابد الألم والجوع، حتى دخلت البصرة دخول البعير الرازح، قَطَعَ الصحراء تأكل
منه ولا يأكل منها، فأنضاه
٩ السفر وحسره الكلال
١٠ ونحته الثقل الذي يحمله، فجاء ببنيةٍ غير التي كان قد خرج بها. وكانت أيامي هذه
عمرًا كاملًا من الشقاء، جعلتني أوقن أن هؤلاء الناس في الحياة إن هم إلا كالدواب تحت
أحمالها؛ لا تختار الدابة ما تحمل ولا مَن تحمل، ولا يُترك لها مع هذا أن تختار الطريق
ولا
مدة السير؛ وليس للدابة إلا شيئان: صبرها وقوتها، إن فقدتهما هلكت، وإن وهنا فيها كان
ضعفها
بحسب ذلك.
إن هناك أوقاتًا من الشقاء والبؤس تقذف بالإنسان وراء إنسانيته وإنسانية البشر جميعًا،
لا
تبالي كيف وقع وفي أي وادٍ هلك، فلا ينفع الإنسان حينئذٍ إلا أن يعتصم
١١ بأخلاق الحيوان في مثل رضاه الذي هو أحكم الحكمة في تلك الحال، وصبره الذي هو
أقوى القوة، وقناعته التي هي أغنى الغنى، وجهله الذي هو أعلم العلم، وتوكُّله الذي هو
إيمان
فطرته بفطرته. لا يبالي الحيوان مالًا ولا نعيمًا، ولا متاعًا ولا منزلةً، ولا حظًّا
ولا
جاهًا، ولن تجد حمار الملك يعرف مِن الملك أكثر مما يعرف حمار السقاء من السقاء، ولعلك
لو
سألتهما وأطاقا الجواب لقال لك الأول: إن الذي فوق ظهري ثقيل مقيت بغيض؛ ولقال لك الثاني:
إن الذي يركبه خفيف سهل سمح!
ولكن بلاء الإنسان أنه حين يطوِّحه البؤس
١٢ والشقاء وراء الإنسانية، لا ينظر لغير الناس، فيزيده ذلك بؤسًا وحسرة، ويمحق
١٣ في نفسه ما بقي من الصبر، ويقلب رضاه غيظًا، وقناعته سخطًا، ويبتليه كل ذلك
بالفكرة المهلكة أعجزها أن تُهلك أحدًا فلا تجد من تدمره غير صاحبها؛ فإذا هي وجدت مساغًا
١٤ إلى الناس فأهلكت وعاثت وأفسدت، فجعلت صاحبها إما لصًّا أو قاتلًا أو مجرمًا،
أي ذلك تيسَّر!
•••
قال: وكنت أعرف في البصرة فلانًا التاجر من سراتها
١٥ ووجوه أهلها، فاستطرقته؛
١٦ فإذا هو قد تحول
١٧ إلى خراسان، وليس يعرفني أحدٌ في البصرة ولا أعرف أحدًا غيره، فكأنما نُكبت مرة
ثانية بغارةٍ شرٍّ من تلك، غير أنها قطعت عليَّ في هذه المرة طريق أيامي، وسلبتني آخر
ما
بقي لنفسي، وهو الأمل!
ورأيتُ أنه ما من نزولي إلى الأرض بدٌّ، فأكون فيها إنسانًا كالدابة أو الحشرة: حياتها
ما
اتفق لا ما تريد أن يتفق؛ وأنه لا رأي إلا أن أسخر من الشهوات فأزهد فيها وأنا القوي
الكريم، قبل أن تسخر هي مني إذا جئتها وأنا الطامع العاجز!
وفي الأرض كفايةُ كلِّ ما عليها ومن عليها، ولكن بطريقتها هي لا بطريقة الناس؛ وما
دامت
هذه الدنيا قائمة على التغيير والتبديل وتحوُّل شيء إلى شيء، فهذا الظبي الذي يأكله الأسد
لا تعرف الأرض أنه قد أُكِل ولا أنه افتُرس ومُزِّق، بل هو عندها قد تحول قوة في شيء
آخر
ومضى؛ أما عند الناس فذلك خطب
١٨ طويل في حكاية أوهام من الخوف والوجل،
١٩ كما لو اخترعتَ قصة خرافية تحكيها عن أسدٍ قد زَرَعَ لحمًا … فتعهَّده فأنبته
فحصده فأكله، فذهب الزرع يحتجُّ على آكله، وجعل يشكو ويقول: ليس لهذا زرعتني أنت، وليس
لهذا
خرجتُ أنا تحت الشمس، وليس من أجل هذا طلعتِ الشمس عليَّ وعليك!
والإنسانُ يرى بعينيه هذا التغيير واقعًا في الإنسانية عامتها وفي الأشياء جميعها؛
فإذا
وقع فيه هو ضجَّ وسخط، كأنَّ له حقًّا ليس لأحد غيره، وهذا هو العجيب في قصة بني آدم،
فلا
يزال فيها على الأرض كلمات من الجنة لا تقال هنا ولا تُفهم هنا؛ بل محل الاعتراض بها
حين
يكون الإنسان خالدًا لا يقع فيه التغيير والتبديل. ومن هذا كان خيال اللذة في الأرض هو
دائمًا باعث الحماقة الإنسانية.
قال أبو عبيد: وذهبتُ أعتمل بيدي وجسمي على آلام من الفاقة والضر، ومن الخيبة والإخفاق،
ومن إلجاء المسكنة، وإحواج الخصاصة؛
٢٠ فلقد رأيتُني وإن يدي كَيَدِ العبد، وظهري كظهر الدابة، ورجلي كرجل الأسير،
وعنقي كعنق المغلول، ويطلعُ قرص الشمس على الدنيا ويغيب عنها وما أعتمِلُ إلا بقرصٍ من
الخبز، ولقد رأيتني أبذل في صيانة كل قطرة من ماء وجهي سحابة من العرق حتى لا أسأل الناس،
ويا بؤسًا لي إن سألت وإن لم أسأل!
وما كان يُمسكني على هذه الحياة المرمقة،
٢١ تأتي رمقًا بعد رمقٍ في يومٍ يوم، إلا كلام الشعبي، الذي سمعته في مسجد الكوفة،
وقوله فيمن قتل نفسه؛ فكان كلامه نورًا في صدري يشرق منه كل يوم مع الصبح صبحٌ لإيماني.
ولكن بقيت أيام نعمتي الأولى ولها في نفسي ضربان من الوجع كالذي يجده المجروح في جرحه
إذا
ضرب عليه، فكان الشيطان لا يجد منفذًا إليَّ إلا منها. وفقدتُ الصديق وعونه، فما كان
يُقبل
عليَّ صديقٌ إلا في أحلامي من وراء الزمن الأول!
قال مجاهد: والحبيب؟
فتبسَّم الرجل وقال: إذا فرغَتِ
٢٢ الحياة من الذي هو أقل من الممكن، فكيف يكون فيها الذي هو أكثر من الممكن؟ إنَّ
جوع يوم واحد يجعل هذه الحياة حقيقة جافية لا شِعر فيها، ويترك الزمن وما فيه ساعة واحدة
معطَّرة … والبؤس يقظةٌ مؤلمة في القلب الإنساني تحرَّم عليه الأحلامُ، وما الحب من أوله
إلى آخره إلا أحلام القلوب بعضها ببعض!
قال أبو عبيد: وتضعضعت
٢٣ لهذه الحياة المخزية، وأبرمتني
٢٤ أيامها، وحملتُ فيَّ الميت والحي، ورأيت الشيطان — لعنه الله — كأنما اتخذني
وعاء مطَّرحًا على طريقه يلقي فيه القمامة
٢٥ … وظهر لي قلبي في وساوسه كالمدينة الخربة ضربها الوباء، فأعمرُ ما فيها مقبرتها؛
وعاد البؤس وقاح الوجه لا يستحي، فلا أراه إلا في أرذل أشكاله وأبردها، ولقد يكون البؤس
لبعض الناس على شيء من الحياء فيأتي في أسلوب معتذرٍ كالمرأة الدميمة
٢٦ في نقابها.
٢٧
وقلت لنفسي: ما هو — والله — إلا القتل، فهذا عمرٌ أراه كالأسير أُقيم على النطع
٢٨ وسُلَّ عليه السيف، فما ينتقم منه المنتقم بأفظع من تأخير الضربة، وما يرحمه
الراحم بأحسن من تعجيلها!
وبِتُّ أؤامر هذه النفس في قتلها وأحدِّثها حديث الموت، فسدَّدَتْ رأيي فيه وقالت:
ما
تصنع بجسم كالمتعفن أصبح كالمقبور لا أيام له إلا أيام انقراضه وتفتيته؟ بيد أني ذكرت
كلام
«الشعبي» في ذلك المجلس وأنا أحفظه كله، فجعلت أهُذُّه
٢٩ ما أترك منه حرفًا، واتخذته متكلمًا مع نفسي لا كلامًا، كنت كلما غلبني الضعف
رفعتُ به صوتي وأصغيت كما أصغي إلى إنسان يكلمني، فرأيت الشيطان بعد ذلك كاللص إذا طمع
في
رجل ضعيف منفرد، ثم لما جاءه وجد معه رجلًا ثانيًا قويًّا فهرب!
قال أبو عبيد: ونالني روح من الاطمئنان وجدتُ له السكينة في قلبي فنِمْتُ، فإذا الفزع
الأكبر الذي لا ينساه من سمع به، فكيف الذي رآه بعينيه؟
رأيتني ميِّتًا في يد غاسله يقلبه ويغسله كأنه خِرقة؛ ثم حُملت على النعش كأن الحاملين
قد
رفعوني يقولون: انظروا أيها الناس كيف يصير الناس؛ ثم صلى عليَّ الإمام الشعبي في مسجد
الكوفة، ثم دُلِّيت في قعر مظلمة وهيل التراب عليَّ، وتُركت وحيدًا وانصرفوا!
وما أدري كم بقيت على ذلك ثم رأيتُ كأنما نُفخ في الصور
٣٠ وبُعثرت الأموات جميعًا، فطرنا في الفضاء، وكانت النجوم غبارًا حولنا كتراب
العاصفة في العاصفة، وإذا نحن في عَرَصَات القيامة وفي هول الموقف!
وتوجَّهت بكل شعرة في جسمي إلى الرجاء في رحمة الله؛ ورأيتُ أعمالي رؤيةً أحزنتني،
فهي
كمدينة عظيمة كل أهلها صعاليك إلا قليلًا من المستورين، أرى منهم الواحد بعد الواحد في
الساعة بعد الساعة نذروا وتبعثروا وضاعوا كأعمالي الصالحة!
وذكرت أني كدت أقتل نفسي فرارًا بها من العمر المؤلم؛ فنظرت فإذا الزمن قد ظهر في
أبديته،
ورجع الماضي حاضرًا بكل ما حوى كأنه لم يمضِ، وإذا عمري كله لا يكاد يبلغ طرفة عين من
دهر
طويل، فحمدت الله أن لم أفتدِ ألمَ اللحظة القصيرة القصيرة، بعذاب الأبد الخالد الخالد
الخالد.
وجيء على أعين الخلق بأنعم أهل الدنيا وأكثرهم لذَّات في تاريخ الدنيا كله، فصاح صائح:
هذا أنعمُ مَن كان على الأرض منذ خلقها الله إلى أن طواها. ثم غُمس هذ المنعَّم في النار
غمسة خفيفة كنبضة البرق، وأُخرج إلى المحشر، وقيل له والناس جميعًا يسمعون: هل ذُقت نعيمًا
قط؟ قال: لا والله.
ثم جيء بأتعس أهل الأرض وأشدهم بؤسًا منذ خُلقت الأرض، فغمس في الجنة غمسة أسرع من
النسيم
تحرَّك ومرَّ، ثم أُخرج إلى المحشر وقيل له: هل ذقت بؤسًا قط؟ قال: لا والله.
وسمعنا شهيق جهنم وهي تفور تكاد تميَّز من الغيظ؛ فأيقنت أن لها نفسًا خُلقت من غضب
الله،
وخرج منها عنق عظيم هائل، لو تضرَّمت
٣١ السماء كلها نارًا لأشبهته، فجعل يلتقط صنفًا صنفًا من الخلق، وبدأ بالملوك
الجبابرة فالتقطهم مرة واحدة كالمغناطيس لتراب الحديد؛ وقذف بهم إلى النار، ثم انبعث
فالتقط
الأغنياء المفسدين فأطارهم إليها؛ ثم جعل يأخذ قومًا قومًا، وقد ألجمني العرق من الفزع؛
ثم
طرت أنا فيه، ونظرت، فإذا أنا محتبس في مظلمة نارية كالهاوية، ليس حولي فيها إلا قاتلو
أنفسهم. ولو أن بِحَار الأرض جُعل فيها البحر فوق البحر فوق البحر، إلى أن تجتمع كلها
فيكون
العمق كبعد ما بين الأرض والسماء، ثم تُسجر
٣٢ نارًا تلظَّى، لكانت هي الهاوية التي نحن في أعماقها؛ وكنت سمعت من إمامنا
الشعبي: أنَّ عُصاة المؤمنين الموحدين إذا ماتوا على إيمانهم كانوا في النار أحياء وجوارحهم
موتى؛ لأن هذه الجوارح قد أطاعت الله وسبَّحته فكرُمت بذلك حتى على جنهم، ثم يعذبون عذابًا
فيه الرحمة، ثم يخرجون وينتظرهم إيمانهم على باب النار، فكان إلى جانبي رجل قتل نفسه،
فسمع
قائلًا من بعيد يقول لمؤمن: اخرُج فإنَّ إيمانك ينتظرك. فصاح الذي إلى جانبي: وأنا، أفلا
ينتظرني إيماني؟ فقيل له: وهل جئتَ به؟
ورأيتُ رجلًا ذبح نفسه يريد أن يصرخ يسأل الله الرحمة، فلا يخرج الصوت من حلقه؛ إذ
كان قد
فَرَاه وبقي مفريًّا! وأبصرتُ آخر قد طعن في قلبه بمدية، فهو هناك تسلخ الزبانية قلبه
تبحث
هل فيه نية صالحة، فلا تزال تسلخ ولا تزال تبحث!
ورأيتُ آخر كان تَحسَّى
٣٣ من السم فمات ظمآن يتلظَّى
٣٤ جوفه، فلا تزال تنشأ له في النار سحابةٌ رويَّة تبرق بالماء، فإذا دنت منه
ورجاها، انفجرت عليه بالصواعق ثم عادت تنشأ وتنفجر!
وقال رجل: إنما كنت مجنونًا ضعيفًا عاجزًا فأزهقت نفسي. فنودي: أَوَمَا علمت أن الله
يحاسبك على أنك عاقل لا مجنون، وقوي لا ضعيف، وقادر لا عاجز؟ كنتَ تعقل بالأقل أنك ستموت،
وكنت تقوى على أن تصبر، وكنت تقدر أن تترك الشر.
وقال رجل عالم قد حزَّ في يده بسكين فمات: «لم يكن الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها
ولا
هو شيء يُدرك.» فصرخ فيه صوت رهيب: «ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو
إدراكه!»
•••
قال أبو عبيد: ثمَّ انتصب بإزائي شيطانٌ مارد أحمر، يلتمع التماع الزجاج فيه الخمر،
فقام
في وجهي وقال: بماذا جئتَ إلى هنا يا عدو الخمر؟ فما كان إلا أن سمعتُ النداء: شَفَعَتْ
فيك
الخمر التي لم تشربها، اخرج، إن إيمانك ينتظرك.
فصِحتُ: الحمد لله! وتحرَّك بها لساني، فانتبهت.
لقد علمتُ أن الصبر على المصائب نعمة كبرى لا يُنعِم الله بها إلا في المصائب.