دُعابة إبليس١
أمَا إني سأقصُّ هذا الحكاية كما اتفقت، لا أُزينها بخيال، ولا أتزيد فيها بخبر،
ولا
أولِّد لها معنًى؛ فإنما هي حكاية خبث الخبيث، فنُّها حِذقُه
٢ ودهاؤه، ورِقَّتها غلظته وشره، ومعانيها بلاؤه ومحنته؛ وأعوذ بالله من الشيطان
الرجيم، والله المستعان.
لما فكرت في وضع مقالة «إبليس» من أحاديث «ابن مسكين»، وأدرت رأيي في نهجها وحدودها
ومعانيها، جعل فكري يتقطَّع في ذلك، يذهب ويجيء كأن بيني وبينه منازعة، أو كأن في نفسي
شيئًا يثنيني ويقطعني عن العزم؛ وخيل إلي حينئذٍ أن «إبليس» هذا منفعة من المنافع … وأنه
هو
قانون الطبيعة الذي نص مادته الأولى: ما أعجبك فهو لك. ونص مادته الأخيرة: ما احتجت إليه
فثمنه أن تقدر على أخذه …
وهجس في نفسي هاجس أن «إبليس» قائم في لفظ الحرية كما هو قائم في لفظ الإثم، وأنه
إنْ يكن
في قلوب الفُسَّاق فهو أيضًا في أدمغة الفلاسفة وإن كان في سقوط أهل الرذيلة إلى الرذيلة،
فهو كذلك في سمو أهل الفن إلى الفن … قال الهاجس:
٣ وإن «إبليس» أيضًا هو صاحب الفضيلة العملية في هذا العصر المادي، فهو من ثَمَّ
حقيق أن يلقبوه «صاحب الفضيلة».
ولكني لم أحفِل
٤ بهذه الوساوس ولم أعُج
٥ على شيء منها، واستعنت الله وأمضيت نيتي على الكتابة، وأخذت أقلب الموضوع،
وأنبه فكري له، وأستشرف
٦ لما يؤدي إليه النظر، وأتطلع لما يجيء به الخاطر، وألتمس ما أبني عليه الكلام
كما هي عادتي؛ فلم يقع لي شيء ألبته، كأنما ذهب أول ابتداء الموضوع؛ فلا أول له ولا سبيل
إلى اقتحامه، وكأنه من وراء العلم فلا يبلغ إليه، وكأنه من التعذر كمحاولة تصوير حماقة
الحياة كلها في كلمة. وإبليس كلمة فيها حماقة الحياة كلها.
•••
ومن عادتي في كتابة هذه الفصول التي تنشرها «الرسالة»، أن أدَعَ الفصل منها تقلبه
الخواطر
في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وأترك أمره للقوة التي في نفسي، فتتولد المعاني
من كل ما أرى وما أقرأ، وتنثال
٧ من ها هنا وها هنا، ويكون الكلام كأنه شيء حي أريد له الوجود فوُجد.
ثم أكتب نهار الجمعة، ومن ورائه ليل السبت وليل الأحد كالمدد من وراء الجيش إذا نالتني
فترة أو كنت على سفر أو قطعني عن الكتابة شيء مما يعرض.
وفي أسبوع إبليس — لعنه الله — مرَّت الأيام الثلاثة وفيها ثلاثة ألوان: ضجر لا روح
فيه،
وكسل لا نشاط معه، واضطراب لا مِساك له، وأطلت التفكير يوم الخميس، فكانت تعتريني خواطر
مضحكة، فيعرض لي مرة أن أصور إبليس امرأة ليكون إبليس الجميل … وتارة أتوهم أن إبليس
يريد
أن يكون شيخًا كبعض رجال الدين الذين لا تزال تطلع على خائنة منهم، ليقال: إبليس التقيُّ
المصلِّي … وحينا أظن أنه يريد أن يكون كاتبًا مؤلفًا شهيرًا ليقال: إبليس المفكر المصلح
…
وخطر لي أخيرًا أنه يريد أن يكون حاكمًا ملحدًا فاجرًا، ليكون إبليس التامَّ لا إبليس
الناقص …
•••
ولما ذهبت الأيام الثلاثة باطلًا، خُيِّل إليَّ أن إبليس — أخزاه الله — يسألني عن
المقالة: إلى أي شيء انقلبت …؟ فشقَّ
٨ ذلك عليَّ واغتممت به، غير أني اطمأننت إلى يوم الجمعة وأن وراءه ليلتين. وكانت
قد غربت شمس الخميس، فقلت: فلأخرج لأتفرج مما بي، وعسى أن أجمع نفسي للتفكير إذا جلست
في
الندي، ولعله يقع ما أستوحيه أو ينفتح لي باب في القراءة.
وخرجت، فلم أجاوز الدار حتى ابتدرني مَن هبط عليه الخبر من القاهرة أن نسيبًا لنا
من
العظماء تُوُفِّي أخوه اليوم. فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ ضاع يوم الجمعة. إذ لا
بد من
السفر لتشييع الجنازة وحضور المأتم ثم قلت: لعل في هذا السفر استجمامًا
٩ ونشاطًا فأستدرك الأسبوع كله في يومين، وإنما الاستكثار بالقوة لا بالزمن، ولا
يد لإبليس في الموت والحياة، فليس إلا اطِّراحه وقلة المبالاة به، وإنما هي خَطَرات من
وساوسه.
وأصبحت في القاهرة، ومشيت في الجنازة قبل الظهر مسيرة ساعة كاملة؛ وكانت الشمس ساطعة
تتلألأ، وأنا مثقل بثياب الشتاء وكنت أتوقع أن يكون اليوم من أيام الريح المجنونة، فلما
انتهينا إلى الصحراء، هبَّت الريح هبوبًا لينا، ثم زفَّت فكانت إلى الشدة ما هي؛ ولكنها
ماضية تسفي
١٠ الرمل في الأعين فيأخذ في أجفاني أُكَال
١١ وتهييج، وليس معي شيء أتقيها به؛ غير أني شغلت فكري برؤية المقابر، وجعلتها في
نفسي كالمقالة المكتوبة سطرًا وراء سطر، وقلت: ها هنا الحقيقة في أول تفسيرها، وغير المفهوم
في الحياة يفهم هنا.
ثم رجعت مُنَدَّى الجسم بالعرق وعليَّ نضح منه، وكان القميص من الصوف، وبصدري أثر
من
النزلة الشُّعبية،
١٢ وإذا تندى الصوف وجب نزعه وإلا فهي العِلَّة ما منها بدٌّ.
ثم لم تكن إلا ساعة حتى انخرقت الريح وجعلت تعصف وبَرَدَ الجوُّ، فأيقنت أنه الزكام،
وقلت
في نفسي: هذا باب على حدة، والمقالة ذاهبة لا محالة، فسيتخلف الذهن ويتبلد؛ والشيطان
كريم
في الشر يعطي من غير أن يُسأل …
وثقل ذلك عليَّ فكان الغمُّ به علةً جديدة، بيد أني لم أزل أرجو الفرصة في أحد اليومين:
السبت والأحد. وقلت: إن من البلاء الفكر في البلاء، ولعل من السلامة الثقة بالسلامة؛
فإذا
نبهت العزيمة رجوت أن يتغلغل أثرها في البدن كله فيكون علاجًا في الدم يحدث به النشاط
ويرهف
١٣ منه الطبع وتجم عليه النفس. وفي قوة العصب كهربائية لها عملها في الجسم إذ
أحسنَ المرءُ بعثها في نفسه وأحكم إفاضتها وتصريفها على طريقة رياضية؛ ولَهِيَ الدواء
حين
يعجز الدواء، وهي القوة حين تخذل القوة.
فاعتزمت وصممت، واحتلت على الإرادة، وتكثرت من أسباب الثقة وترصدت لها السوانح العقلية
التي تسنح في النفس، وقلت لإبليس: اجهد جهدك، فما تذهب مذهبًا إلا كان لي مذهب. ولكن
اللعين
أخطرَ في ذهني قولَ القائل يسخر فيه من ذلك الكاتب البغدادي.
لو قيل: كمْ خَمْسٌ وخَمْسٌ؟ لَاغْتَدَى
يومًا وليلتَه يعُدُّ ويحسُبُ
ويقول: معضلةٌ عجيبٌ أمْرُها
ولئنْ فهمتُ لها لَأَمْرِيَ أعجبُ
خمسٌ وخمسٌ ستةٌ، أو سبعةٌ
قولانِ قالهما الخليلُ وثعلبُ
ثم أجمعت الرجوع من يومي إلى «طنطا»، لأتقي البرد بعلاجه إن نالني أثره، وكان عليَّ
وقت
إلى أن يقوم القطار، فذهبت فقضيت واجبًا من زيارة بعض الأقارب في ضاحية «الجيزة»، ثم
ركبت
الترام الذي أعلم أنه ذاهب إلى محطة سكة الحديد.
وجلست أفكر في إبليس ومقالته، والترام ينبعث في طريقه نحو ثلث الساعة، حتى بلغ الموضع
الذي ينعرج
١٤ منه إلى المحطة وهو بحيال «جمعية الإسعاف»، حيث تنشعب
١٥ طرق أخرى؛ وكنت منصرفًا إلى التفكير مستغرقًا فيه، طائف النظارت على الجوِّ،
فما راعني إلا اختلاف منظر الطريق، وأنتبه، فإذا الترام يمرق مروق السهم في تلك السبيل
الصاعدة إلى «الجيزة» … من حيث جئت.
فلعنت الشيطان وتلبثت
١٦ حتى وقف هذا الترام، فغادرته ورجعت مهرولا إلى ذلك المنشعب، فصادفت تراما آخر،
فوثبت إليه كأني أحمل إليه حملًا، ودفعت الأجرة، وانطلق، فإذا هو مُنْصَبٌّ في تلك الطريق
عينها الذاهبة إلى الجيزة من حيث جئت … ولا أستطيع الانحدار منه وهو منطلق، فتسخَّطْتُ
١٧ ولعنت الشيطان مرة أخرى، ورأيت أن عبثه قد ترادف؛ فلمَّا سكن الترام رجعت
مهرولًا إلى ذلك المنشعب ولم يبقَ من الوقت غير قليل.
وأنظر ثَمَّ، فإذا ترام وراء ترام، وإذا قد وقعت حادثة لإحدى السيارات واجتمع الناس
وسُدَّت الطريق … فجعلت أغلي من الغيظ، ولعنت هذا الدَّعَّابة الخبيث. وأذكرني اللعين
نادرة الأعرابي الذي عضَّه ثعلب، فأتى راقيا، فقال له
الراقي: ما عضك؟ فاستحى أن يقول: ثعلب، وقال: كلب. فلما ابتدأ الرجل برقية الكلب، قال
له
الأعرابي: واخلط بها شيئًا من رُقية الثعالب …
•••
ثم إني لم أرَ بدًّا من بلوغ المحطة على قدميَّ لأتم على عزيمتي في مراغمة اللعين،
فأسرعت
أطوي الأرض وكأنما أخوض في أحشائه
١٨ وكان بصدري التهاب فهاج بي، غير أني تجلدت واتسعت لاحتماله وبلغت حيث أردت. ثم
ذهبت ألتمس في القطار عربة خاصة أعرفها، كانت من عربات الدرجة الأولى فجعلوها في الثانية
يرفِّهون بها بعض الترفيه على طائفة من المسافرين؛ وأصبت فيها مكانا خاليا كأنما كان
مهيأ
لي بخاصة … فانحططت فيه إلى جانب رجل أوروبي أحسبه ألمانيا لتفاوُت خَلْقه وعُنْجُهِيَّته؛
وجلست أُنفِّس عن صدري، ثم أقبلت أسْخَر من إبليس ونكايته، وجعلت أتعجَّب مما اتفق من
هذا
التدبير.
وتحرك القطار وانبعث، وكان الأوروبي إلى جانبي مما يلي النافذة وقد تركها مفتوحة،
فأحسست
الهواء ينصب منها كالماء البارد وأنا مُتَنَدٍّ بالعرق؛ وترقبت أن يغقلها الرجل فلم يفعل،
فصابرته قليلًا فإذا هو ساكن مطمئن يتروَّح بالهواء وكأنما يشربه، وتأملته فإذا شيخ في
حدود
الستين أو فوقها، غير أنه على بقية من قوة مصارع في اكتناز عضله واجتماع قوته ووثاقة
تركيبه، فأيقنت أن الهوء من حاجته، وهممت أن أنبهه أو أقوم أنا فأغلق النافذة، ولو شئت
أن
أفعل ذلك فعلت، غير أن الشيطان — أخزاه الله — وسوس لي أن هذا رجل أجنبي غربي، وأنت مصري
شرقي، فلا يحسن بك أن تُعلِمه وتعلم الحاضرين أمامكما أنك أنت الأضعف على حين أنه هو
الأسن،
وكيف لا تقوم لما يقوم له وقد كنت تباكر الماء البارد في صميم الشتاء، وكنت لا تلبس في
أشد
أيام البرد غير ثياب الصيف، وكنت تحمل كذا وكذا ثقلًا للرياضة، وتعاني كذا وكذا من ضروب
القوة، وكنت تلوي بيديك عود الحديد، وكنت وكنت …
فتذمَّمْت — والله — مما خطر لي؛ وأنِفْتُ أن أنبه الرجل، ورأيت عملي هذا ضعفًا وفُسولة،
١٩ ولم أعبأ بالهواء ولا بالعرق ولا بالنزلة الشعبية ولا بالزكام، وتركت الأوروبي
وشأنه، وأقبلت على كتاب كان في يدي، وتناسيت أن هذه النافذة جهة من تدبير إبليس؛ وكان
القطار مزدحما بالراجعين من المعرض الزراعي الصناعي، وبعض الناس وقوف فلا مطمع في مكان
آخر
…
ولبثت ساعة ونصف ساعة في تيار من هواء «فبراير» ينصبُّ انصبابا، ويعصف عصفًا، وكأني
أسبح
منه في نهر تحت ظلمة الليل الماطر، والناس معجبون بي وبالأوروبي، وهذا الأوروبي معجب
بي
أكثر منهم، وقد رأى مكاني وعرف موضعي، وكان إلى يميني مجلس بقي خاليا ولم يقدم أحد على
أن
يجلس فيه خوفًا من الرجل الأوروبي.
ثم تراءيت أنوار محطة «طنطا»، ولم يبقَ من هذه المحنة غير دقيقتين فوالله الذي لا
يحلف
بغير اسمه — عزَّ وجلَّ — لقد كان إبليس رقيعًا جِلْفا
٢٠ باردًا ثقيل المزاح؛ إذ لم أكد أتهيأ للقيام حتى رأيت الرجل الأوروبي قد مدَّ
يده فأغلق النافذة …
•••
ورجعت إلى داري وأنا أقول: ثم ماذا يا إبليس؛ ثم ماذا أيها الدُّعْبُب
٢١ وحاولت بجهدي أن أكتب أو أقرأ فلم أتحرك لشيء من ذلك، وكانت الساعة العاشرة
ليلًا، فصليت وأويت إلى مضجعي.
ثم أصبحت يوم السبت، فإذا كتاب من الأستاذ صاحب «الرسالة»: أنه سيطبع عددين معًا فيريد
لهما مقالتين، إذ تغلق المطبعة في أيام عيد الأضحى. وكان أملي في المقالة الواحدة مخذولا
مما قاسيت، فكيف لي باثنتين؟!
واختلط في نفسي همٌّ بهمٍّ، وما يفسد علي أمري شيء مثل الضيق، فإذا تضايقت كنت غيرَ
مَن
كنتُ؛ ولكني تيقظت وتنبهت وأمَّلت العافية مما أجده من ثَقْلة البرد وضَعْفته، وأحدثت
طمعًا
في النشاط إذ جلست للكتابة في الليل، فإني بالنهار أعمل للحكومة.
فلما كان الليل لم أجد أمري على ما أحب، وجلست متفتِّرًا معتلًّا، وثقل رأسي من ضربة
النافذة، وتسلط عليَّ ظن المرض والعجر عن الكتابة، وانتقض الأمر كله فرأيتني أشقُّ على
نفسي
بلا طائل، فكان من صواب التدبير عندي أن أستجمَّ بالنوم ثم أنهض في السَّحَر للكتابة،
فأوصيت مَن يوقظني؛ وحررنا الساعة المنبهة على تمام الثانية بعد منتصف الليل.
وأحسست أني جائع، وأن معدتي مشحوذة،
٢٢ ونسيت كل ما أعرف من الطب؛ وجاءوني بشواء وحلوى وما بينهما، فحططت فيه ولففت
الآخر بالأول، ثم قمت أريد النوم، فإذا الطعام كان أشد عليَّ من نافذة القطار، وكان الذي
في
الفكر من المقالة أثقل من الذي في المعدة من الطعام، وساء الهضم في الدماغ والبطن
جميعًا.
وجعلت أتناوم وأرخي أعضائي وأتوهَّم الكَرَى
٢٣ وأستدنيه بكل ما أعرف من وسيلة، ثم لا أزداد على ذلك إلا أرقا، وتمرد الفكر،
وأحسست رأسي يكاد ينفجر، وصرت أتململ ولا أتقارُّ، وتوهمت أن لو كان لي عقلان ما استطعت
كتابة المقالة عن إبليس — لعنه الله — وأذكرني الخبيث نادرة مضحكة: أن رجلًا كان يركب
حمارًا ضعيفا، وكان يبعثه فلا ينبعث، فجعل يضربه، فقيل له: ارفق به. فقال: إذا لم يقدر
يمشي
فلم صار حمارًا؟
•••
وقذفت بنفسي من الفراش ونظرت في الساعة، فإذا هي موشكة أن تبلغ الثانية ولم أُحِسَّ
الرقاد بعد، فأسرعت إلى المنبهة وحررتها على تمام الساعة الرابعة صباحا، وأيقنت أن الشيطان
يرهقني طغيانا وكيدا، فطفقت ألعنه، وما أحسبه إلا قد رأى اللعن مدحًا فهو يستزيدني …
ثم رجعت أحاول النوم، فما كان هذا الليل إلا شيئًا واحدًا أوله آخره إلى أن طلع
الفجر.
وجاء يوم الأحد وهو يوم عطلة الأوروبيين، فما أشدَّ عجبي إذ تركني فيه إبليس كأنهم
لا
يَدَعون له وقتًا في هذا اليوم! …
والآن يزيِّن لي الخبيث أن أختم هذه المقالة ﺑ … ﺑ … ولكن لا. لا.