تاريخ يتكلم …
أيعرف القرَّاء أن في الأحلام أحلاما هي قصص عقلية كاملة الأجزاء محكمة الوضع متسقة التركيب بديعة التأليف، تجعل المرء حين ينام كأنه أسلم نفسه إلى «شركة من الملائكة»، تسيح به في عالم عجيب كأنما سُحِر فتحوَّل إلى قصة؟
إن يكن في القراء مَن لا يعلم هذا فليعلمه مني؛ فإني كثيرًا ما أكتب وأقرأ في النوم؛ وكثيرا ما يلقى عليَّ من بارع الكلام، وكثيرًا ما أرى ما لو دوَّنته لعُدَّ من الخوارق والمعجزات.
وهذه القصة التي أرويها اليوم، كانت المعجزة فيها أني مشيت في التاريخ كما أمشي في طريق ممتدة؛ فتقدمتُ إلى أهل سنة ٣٩٥ للهجرة وما يليها، فعشت معهم وتخبرت من أخبارهم، ثم رجعت إلى زمني لأقصَّ ما رأيته على أهل سنة ١٣٥٣ …
ثم جئت إلى الدار والمعركة حامية في أعصابي؛ وما كان سوء الهضم مَنْوَمة فيدعو إلى النوم، فدخلت بيت كُتُبي وأردت كتابًا أيَّ كتاب تناله يدي، فخرج لي كتاب في خرافات الأولين وأساطيرهم وهذيانهم وسوء هضمهم العقلي … كالكلام عن أدونيس وأرطاميس وديونيس وسميراميس وإيسيس وأتوبيس وأثرغتيس … فاستعذت بالله وقلت: حتى الكتب لها في هذه الليلة أعصاب قد نالتها الثقلة والألم؟!
وبات الليل يقظان معي، وبقيت متململًا أتقلب حتى أخذ الصداع في رأسي، فانقلب التعب نومًا، وجاء من النوم تعب آخر، وقُذِفت إلى عالم الأحلام في قنبلة تستقر بي حيث تريد لا حيث أريد!
•••
قال: ماذا أسمع؟ الرجل مجنون فخذوه! وأحاط بي جماعة منهم، ولكنه ترجَّل عن حماره وأخذ بيدي ومشينا، فقلت: مَن أنت يا هذا؟ قال: أراك مِن غير هذا البلد؛ أما تعرف الحاكم بأمر الله؟ فأنا هو. قلت: انظر — ويحك — ما تقول! فما أظنك إلا ممرورا؛ لقد كتبت أمس كتابًا إلى مجلة «الرسالة» أرَّخْتُه ١٣ من ذي الحجة سنة ١٣٥٣ و١٨ من مارس سنة ١٩٣٥، وأرسلت به مقالة «الخروفين» …
قال: ماذا أسمع؟ نحن الآن في سنة ٣٩٥؛ فالرجل مجنون، أولا فأنت أيها الرجل من معجزاتي، لقد جئت بك من التاريخ، فسترى وتكتب، ثم تعود إلى التاريخ فتكون من معجزاتي، وتقص عني وتشهد لي …!
قلت: فإني أعرف أعمالك إلى أن قُتِلْتَ في سنة ٤١١ …!
قال: أوَ إله أنت فتخلقَ ستَّ عشرة سنة بحوادثها؟ لقد كدتَ من أفَنِك وغباوتك تفسد علي دعوى المعجزة!
ورأيته كأنما يعتدُّ نفسه مُخَّ هذه الأمة، فلا بد أن يكون عقلًا لعقولها، ثم لا بد أن يستعلي الناسَ ويستبدَّ بهم استبداد الشريعة في أمرها ونهيها، فكانت أعماله في جملتها هي نقضَ أعمال الشريعة الإسلامية، وظنَّ أنه مستطيع مَحْوَ ذلك العصر من أذهان الناس وقَتْلَ التاريخ الإسلامي بتاريخ قاتل سفَّاك.
•••
رأيتني أصبحت كاتبًا لهذا الحاكم، فجعلت أشهد أعماله وأدون تاريخه، وأقبلت على ما أفردني به وقلت في نفسي: لقد وضعتْني الدنيا موضعًا عزيزًا لم يرتفع إليه أحد من كُتَّابها وأدبائها، فسأكتب عن هذا الدهر بعقل بينه وبين هذا الدهر ٩٦٨ سنة صاعدة في العلم.
ودوَّنت عشرة مجلدات ضخمة انتبهت وأنا أحفظها كلها، فإذا هي جمل صغيرة، جعل الحُلم كل نبذة منها سِفْرًا ضخما كما يخيل للنائم أنه عاش عمرًا طويلًا وأحدث أحداثًا ممتدة، على حين لا تكون الرؤيا إلا لحظة.
وهذه هي المجلدات التي قلت: إن التاريخ يتكلم بها في التاريخ …
المجلدُ الأول
ابتُلِي هذا الطاغية بنقيصتين: إحداهما من نفسه، والأخرى من غيره، فأما التي من نفسه: فإني أراه قد خُلِق وفي مُخِّه لفافة عصبية من يهودية جدِّه رأس هذه الدعوة؛ فهو الحاكم بن العزيز بن المُعِزِّ بن القاسم المهدي عُبيد الله، ويقولون: إن عُبيد الله هذا كان ابن امرأة يهودية من حداد يهودي، فاتفق أن جرى ذكر النساء في مجلس الحسين بن محمد القدَّاح، فوصفوا له تلك المرأة اليهودية، وأنها آية في الحُسْن، وكان لها من الحداد ولد، فتزوجها الرجل وأدَّب ابنها وعلمه، ثم عرَّفه أسرار الدعوة العَلَوية وعهد إليه بها.
هذه اللفافة اليهودية في مخ هذا الطاغية ستحقق به قول الله — تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ فهو لن يكون العدو للإسلام دون أن يكون الأشد في هذه العداوة، ولن يكون فيها الأشد حتى يفعل بها الأفاعيل المنكرة. وما أرى هذه المآذن القائمة في الجو إلا تخرق بمنظرها عينه من بغضه للإسلام وانطوائه على عداوته، فويل لها منه!
وأما النقيصة الثانية: فقد ابتُلِي بقوم فتنوه بآرائهم ومذهبهم، وهم حمزة بن عليٍّ، والأخرم، وفلان، وفلان … وقد لفَّقوا للدنيا مذهبًا هو صورة عقولهم الطائشة، لا يجيء إلا للهدم، ثم لا يضع أول معاوله إلا في قبة السماء ليهدمها …! ولو أنا جمعتُ هذا المذهب في كلمة واحدة لقلت: هو حماقة حمقاء تريد إخراج الله من الوجود لإدخال الله في بعض الطغاة!
ويتلقَّبون في مذهبهم بهذه الألقاب: العقل، الإرادة، الإمام، قائم الزمان، علة العلل …!
المجلدُ الثاني
وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة من هذا الطاغية هي بعينها رِبَا اللفافة اليهودية في مخه؛ تصلح بإقراض مائة، وفيها نية الخراب بالستين في المائة …! فإنه ما كاد يتمكن من الناس ويعرف إقبالهم عليه وثقتهم به، حتى طلبت اللفافة اليهودية رأس المال والربا، فأمرهم بهدم تلك المدارس وإخرابها، وأبطل العيدين وصلاة الجمعة، وقتل الفقهاء وقتل معهم فقيهيه وأستاذيه، وعاد كالمريد المنافق مع شيخ الطريقة، يقول في نفسه: إن هناك ثلاثة تعمل عملًا واحدًا في الصيد: الفخُّ، والعمامة، واللحية …!
لقد أوْدى بأناس يقوم إيمانهم على أن الموت في سبيل الحق هو الذي يخلدهم في الحق، وأن انتزاعهم بالسيف من الحياة هو الذي يضعهم في حقيقتها، وأن هذه الروح الإسلامية لا يطمسها الطغيان إلا ليجلوها.
إنه — والله — ما قَتَل ولا شَنَق ولا عَذَّب، ولكن الإسلام احتاج في عصره هذا إلى قوم يموتون في سبيله، وأعوزه ذلك النوع السامي من الموت الأول الذي كان حياة الفكر ومادة التاريخ، فجاءت القملة تحمل طاعونها …!
لقد أحياهم في التاريخ، أما هم فقتلوه في التاريخ، وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين، أما هم فجاءوه باللعنة من المسلمين جميعًا!
المجلدُ الثالث
يرى هذا الطاغية أن الدين الإسلامي خُرافة وشعوذة عن النفس، وأن محو الأخلاق الإسلامية العظيمة هو نفسه إيجاد أخلاقه، وأن الإسلام كان جريئًا حين جاء فاحتل هذه الدنيا؛ فلا يطرده من الدنيا إلا جراءة شيطان كالذي توقَّح على الله حين قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. ولهذا أمر الناس بسبِّ الصحابة، وأن يُكتب ذلك على حيطان المساجد والمقابر والشوارع!
أخزاه الله! أهي رواية تمثيلية يُلصَق الإعلان عنها في كل مكان؟! لو سمع لسمع المساجد والمقابر والشوارع تقول: أخزاه الله …!
المجلدُ الرابع
هذا الفاسق لا يركب إلا حمارًا أشهب يسميه: «القمر»، وقد جعل نفسه محتسَبًا لغاية خبيثة؛ فهو يدور على حماره هذا في الأسواق ومعه عبد أسود، فمن وجده قد غشَّ أمر الأسود ﻓ …! ووقف هو ينظر ويقول للناس: انظروا …!
ولست أرى أكثر أعماله ترجع في مَرَدِّها إلا إلى طغيان هذه الغريزة فيه؛ فهو يحاول هدم الإسلام، لأنه دين العفة ودين صون المرأة، يُلزِمها حجاب عفتها وإبائها، ويمنعها الابتذال والخلاعة، ويعينها أن تتخلص ممن يشتهيها، ولو كان الحاكم … إنه يمقت هذا الدين القوي، كما يمقت اللص القانون؛ فهو دين يَثقُل على غريزته الفاسقة، ولكل غريزة في الإنسان شعور لا مهنأ لها إلا أن يكون حرًّا حتى في التوهُّم؛ وهل يُعجِب السكيرَ شيءٌ أو يرضيه أو يلَذُّه، كما يعجبه أن يرى الناس كلهم سكارى، فينتشي هو بالخمر، وتسكر غريزته برؤية السُّكْر؟
وما زال رأي الفُسَّاق في كل زمن أن الحرية هي حرية الاستمتاع، وأن تقييد اللذة إفساد للذة.
المجلدُ الخامس
يزعم الطاغية أنه يُعِزُّ قومه، وما أراه يعزهم، لكنه يمتحن ذلهم وضعفهم وهوانهم على الأمم؛ يتجرَّأ شيئًا فشيئًا، منتظرًا ما يتسهَّل، مترقبًا ما يمكن؛ وهو يرى أن أخلاقنا الإسلامية هي أمواتنا دفنوا أنفسهم فينا؛ فمن ذلك يهدم الأخلاق ويظن عند نفسه أنه يهدم قبورًا لا أخلاقًا.
اندلعت ثورة الفجور في المدينة، لا من العبيد، ولكن من الحيوان العتيق المستقر في هذا الطاغية.
المجلدُ السادس
وهذه رُعونة من أقبح رعوناته، كأن هذا الحيوان لا يحسب نساء الأمة كلها إلا نساءه، فيأمرهن بأمر امرأته، وكأن النساء في رأيه إن هن إلا استجابات عصبية تُطْلَق وتُرَدُّ.
إن لموجة الفسق في الغريزة الطاغية جَزْرًا ومَدًّا يقعان في تاريخ الفساق؛ فهذا الطاغية قد جزرت فيه الموجة، فأمر أن يُمنع النساء من الخروج ليلًا ونهارًا، لا تطأ أرض المدينة قدم امرأة، وأمر الخَفَّافين ألَّا يصنعوا لهن الأخفاف والأحذية؛ ولما علم أن بعض النساء خرجن إلى الحمامات هدم الحمامات عليهن!
ولو مَدَّت الموجة في تفسُّق الفاسق لفرض على النساء الخروج والاتصال بالرجال والتعرض للإباحة.
إن الصلاح والفساد كلاهما فساد ما لم يكن الصلاح نظافة في الروح وسموا في القلب.
المجلدُ السابع
يزعم الطاغية أنه سيهدم كل قديم؛ وإني لأخشى — والله — أن يأمر الناس في بعض سطوات جنونه أن كل من كان له أب أو أم بلغ الستين فليقتله، لتخلص الأمة من قديمها الإنساني …!
ولقد رأى المأفون أن أكل الناس الملوخيَّا الخضراء والفُقَّاع، والتُّرْمُس والجِرْجير، والزبيب والعنب — هوًى قديم في طباع الناس، فنهى عن كل ذلك، لا يباع ولا يؤكل، وظهر على أن جماعة باعوا أشياء منها فضربهم بالسياط، وأمر فطيف بهم في الأسواق، ثم ضرب أعناقهم؛ كأن الذي يحمل الملوخيا الخضراء على رأسه ليبيعها يلبس عمامة خضراء! …
أهذا — ويحه — تجديد في الأمة، أم تجديد في المعدة …؟!
المجلدُ الثامن
هذا الحاكم الأخرق هو عندي كالذي يقول لنفسه: لم أستطع أن أفتح دولة، فلأفتح دولة في مملكتي … لقد أمر بهدم الكنائس والبِيَع، حتى بلغ ما هدم منها ثلاثين ألفًا ونيِّفا.
أيُّ مجنون أسخف جنونا من هذا الذي يحسب النفوس الإنسانية كالأخشاب؛ تقبل كلها بغير استثناء أن تدق فيها المسامير …؟
سيعلم إذا نشِبت حرب بينه وبين دولة أخرى، أنه كسر أشد سيوفه مضاء حين كسر الدين!
المجلدُ التاسع
هذه هي الطامة الكبرى؛ فلا أدري كيف أكتب عنها؛ لقد تطاول المجنون إلى الألوهية فادَّعاها، وصار يكتب عن نفسه: باسم الحاكم الرحمن!
ولو كان أغبى الأغبياء في موضعه لاتَّقى شيئًا، لا أقول تقوى الدين والضمير، ولكن تقوى النفاق السياسي، فكان يحمل الناس على أن يقولوا عنه: «أبانا الذي في الأرضين …!»
وإلا فأيُّ جهل وخبط، وأي حُمق وتهوُّر، أن يكون إلهٌ على حمار، وإن كان اسم حماره القمر؟!
المجلدُ العاشر
•••
ورأيت أني اجتمعت بهما واطمأنا إليَّ، فأخذنا ندير الرأي؛
قالت الأميرة لسيف الدين فيما قالته: «والرأي عندي أن تُتْبِعه غِلْمانًا يقتلونه إذا خرج في غدٍ إلى جبل المقطَّم؛ فإنه ينفرد بنفسه هناك!»
فقلت أنا: «ليس هذا بالرأي ولا بالتدبير.»
قالت: «فما الرأي والتدبير عندك؟»
قال الأمير: «فإذا ماذا؟»
قلت: «فإذا خُصِيَ …»
فضحكت سِتُّ الملك ضحكة رنَّت رنينًا.
قلت: «نعم إذا خصي هذا الحاكم.»
فغلبها الضحك أشد من الأول، ورمتني بمنديل لطيف كان في يدها أصاب وجهي، فانتبهت وأنا أقول: «نعم إذا خصي هذا الحاكم …»