حديث قِطَّين
جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الابتدائية لهذا العام (١٩٣٤) في موضوع الإنشاء
ما
يأتي:
تقابلَ قِطَّان: أحدهما سمين تبدو عليه آثار النعمة، والآخر نحيف يدل منظره على
سوء حاله؛ فماذا يقولان إذا حدَّث كلٌّ منهما صاحبَه عن معيشته؟
وقد حارَ التلاميذ الصغار فيما يضعون على لسان القِطَّين، ولم يعرفوا كيف يوجِّهون
الكلام
بينهما، وإلى أي غاية ينصرف القول في محاورتهما، وضاقوا جميعًا — وهم أطفال — أن تكون
في
رءوسهم عقول السنانير؛
١ وأعياهم
٢ أن تنزل غرائزهم الطيبة في هذه المنزلة من البهيمية ومن عيشها خاصة، فيكتنهوا
تدبير هذه القطاط لحياتها، وينفُذُوا إلى طبائعها، ويندمجوا في جلودها، ويأكلوا بأنيابها،
ويمزقوا بمخالبها.
قال بعضهم: وسخطنا على أساتذتنا أشد السخط، وعِبناهم بأقبح العيب؛ كيف لم يعلِّمونا
من
قبلُ أن نكون حميرًا، وخيلًا، وبغالًا، وثيرانًا، وقردةً، وخنازيرَ، وفئرانًا، وقِطَطَة،
وما هبَّ ودبَّ، وما طار ودرج، وما مشى وانساح؟! وكيف — ويحهم — لم يلقنونا مع العربية
والإنجليزية لغات النهيق، والصهيل، والشحيج، والخُوار، وضَحِك القردِ، وقُبَاع الخنزير،
وكيف نصيء ونموء، ونلغط لغط الطير، ونَفُحُّ فحيح الأفعى، ونَكِشُّ كشيش الدبابات،
٣ إلى ما يتم به هذا العلمُ اللغوي الجليل، الذي تقوم به بلاغة البهائم والطير
والحشرات والهمج وأشباهها …؟!
وقال تلميذ خبيث لأستاذه: أما أنا فأوجزتُ وأعجزتُ. قال أستاذه: أجدتَ وأحسنتَ، ولله
أنت!
وتالله لقد أصبت! فماذا كتبتَ؟ قال: كتبت هكذا:
يقول السمين: ناوْ، ناوْ، ناوْ … فيقول النحيف: نوْ، ناوْ نَوْ … فيرد عليه السمين:
نَوْ، نَاوْ، نَاوْ … فيغضب النحيف ويكشر عن أسنانه، ويحرك ذيله ويصيح: نَوْ، نَوْ، نَوْ
…
فيلطمه السمين فيخدشه ويصرخ: ناوْ … فيثبُ عليه النحيف ويصطرعان، وتختلط «النَّوْنَوَةُ»
لا
يمتاز صوتٌ من صوت، ولا يَبين معنى من معنى، ولا يمكن الفهم عنهما في هذه الحالة إلا
بتعب
شديد، بعد مراجعة قاموس القِطاط …!
قال الأستاذ: يا بني، بارك الله عليك! لقد أبدعتَ الفن إبداعًا، فصنعت ما يصنع أكبر
النوابغ، يُظهر فنه بإظهار الطبيعة وإخفاء نفسه، وما ينطق القط بلغتنا إلا معجزة لنبي،
ولا
نبي بعد محمد
ﷺ، فلا سبيل إلا ما حكيتَ ووصفتَ، وهو مذهب الواقع، والواقع هو الجديد
في الأدب. ولقد أرادوك تلميذًا هِرًّا، فكنتَ في إجابتك هِرًّا أستاذًا، ووافقت السنانير
وخالفت الناس، وحققت للممتحنين أرقى نظريات الفن العالي؛ فإن هذا الفن إنما هو في طريقة
الموضوع الفنية، لا في تلفيق المواد لهذا الموضوع من هنا وهناك. ولو حفظوا حرمة الأدب
ورعوا
عهد الفن لأدركوا أن في أسطرك القليلة كلامًا طويلًا بارعًا في النادرة والتهكم، وغرابة
العبقرية، وجمالها وصدقها، وحسن تناولها، وإحكام تأديتها لما تؤدي؛
٤ ولكن ما الفرق يا بني بين «نَاوْ» بالمد، و«نَوْ» بغير مد …؟ قال التلميذ: هذا
عند السنانير كالإشارات التلغرافية: شَرْطة ونقطة وهكذا.
قال: يا بني، ولكن وزارة المعارف لا تقرُّ هذا ولا تعرفه، وإنما يكون المصحح أستاذًا
لا
هرًّا … والامتحان كتابيٌّ لا شفويٌّ.
قال الخبيث: وأنا لم أكن هرًّا بل كنتُ إنسانًا، ولكن الموضوع حديث قِطَّين، والحكم
في
مثل هذا لأهله القائمين به، لا المتكلفين له، المتطفلين عليه؛ فإن هم خالفوني قلت لهم:
اسألوا القِطاط؛ أو لا، فليأتوا بالقطين: السمين والنحيف، فليجمعوا بينهما، وليُحَرِّشوهما،
٥ ثم ليُحْضروا الرُّقباء هذا الامتحان، وليكتبوا عنهما ما يسمعونه، وليصفوا
منهما ما يرونه، فوالذي خلق السنانير والتلاميذ والممتحنين والمصححين جميعًا، ما يزيد
الهِرَّان على «نَوْ، ونَاوْ»، ولا يكون القول بينهما إلا من هذا، ولا يقع إلا ما وصفتُ،
وما بُدٌّ من المهارَشَة والمواثبة
٦ بما في طبيعة القوي والضعيف، ثم فرار الضعيف مهزومًا، وينتهي الامتحان!
•••
إنَّ مثل هذا الموضوع يشبه تكليف الطالب الصغير خلق هِرَّتين لا الحديث عنهما؛ فإن
إجادة
الإنشاء في مثل هذا الباب ألوهيةٌ عقليةٌ تخلق خلقها السوي الجميل نابضًا حيًّا، كأنما
وَضعتْ في الكلام قلب هر، أو جاءت بالهر له قلبٌ من الكلام! وأين هذا من الأطفال في الحادية
عشرة والثانية عشرة وما حولهما؟ وكيف لهم في هذه السن أن يمتزجوا بدقائق الوجود، ويُداخلوا
أسرار الخليقة، ويصبحوا مع كل شيء رهنًا بعلله، وعند كل حقيقة موقوفين على أسبابها؟ وقد
قيل
لهم من قبلُ في السنوات الخالية: «كن زهرةً وصِفْ، واجعل نفسك حبة قمح وقُلْ.» وإنما
هذا
ونحوه غاية من أبعد غايات النبوة أو الحكمة؛ إذ النبي تعبير إلهي تتخذه الحقيقة الكاملة
لتنطق به كلمتها التي تسمى الشريعة، والحكيم وجه آخر من التعبير، تتخذه تلك الحقيقة لتلقي
منه الكلمة التي تسمَّى الفن.
وقد كان في القديم امتحانٌ مثل هذا، لم ينجح فيه إلا واحد فقط من آلاف كثيرة؛ وكان
الممتحن هو الله — جل جلاله — والموضوع حديث النملة مع النمل، والناجح سليمان — عليه
السلام: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا.
إن الكون كله مستقرٌّ بمعانيه الرمزية في النفس الكاملة؛ إذ كانت الروح في ذاتها نورًا،
وكان سر كل شيء هو من النور، والشعاع يجري في الشعاع كما يجري الماء في الماء، وفي امتزاج
الأشعة من النفس والمادةِ تجاوبٌ روحاني هو بذاته تعبيرٌ في البصيرة وإدراكٌ في الذهن،
وهو
أساس الفن على اختلاف أنواعه: في الكلمة والصورة، والمثال والنغمة؛ أي الكتابةِ والشعرِ
والتصويرِ والحفرِ والموسيقى.
ومن ذلك لا يكون البيان العالي أتم إشراقًا إلا بتمام النفس البليغة في فضيلتها أو
رذيلتها على السواء؛ فإن من عجائب السخرية بهذا الإنسان أن يكون تمام الرذيلة في أثره
على
العمل الفني، هو الوجه الآخر لتمام الفضيلة في أثره على هذا العمل؛ والنقطة التي ينتهي
فيها
العلو من محيط الدائرة هي بعينها التي يبدأ منها الانحدار إلى السُّفْلِ؛ ومن ثم كانت
الفنون لا تعتبر بالأخلاق، حتى قال علماؤنا: إن الدين عن الشعر بمعزلٍ. فالأصل هناك سمو
التعبير وجماله، وبلاغة الأداء وروعته؛ ولا يكون السؤال الفني ما هي قيمة هذه النفس؟
ولكن
ما طريقتها الفنية؟ وأي عجيب في ذلك؟ أليس لجهنم حق في كبار أهل الفن، كما للجنة حق في
نوابغه؟ وإذا قالت الجنة: هذه فضائلي البليغة؛ أفلا تقول الجحيم: وهذه بلاغة رذائلي؟!
وكيف
لعمري يستطيع إبليس أن يؤدي عمله الفني … ويصوِّر بلاغته العالية إلا في ساقطين من أهل
الفكر الجميل، وساقطات من أهل الجسم الجميل …؟
•••
لقد بعدنا عن القِطَّين، وأنا أريد أن أكتب من حديثهما وخبرهما.
كان القط الهزيل مرابطًا في زقاق، وقد طارد فأرةً فانجحرت
٧ في شقٍّ، فوقف المسكين يتربص
٨ بها أن تخرج، ويؤامر نفسه كيف يعالجها فيبتزها، وما عقل الحيوان إلا من حرفة
عيشه لا من غيرها. وكان القط السمين قد خرج من دار أصحابه يريد أن يفرِّجَ
٩ عن نفسه بأن يكون ساعة أو بعض ساعة كالقططة بعضها مع بعض، لا كأطفال الناس مع
أهليهم وذوي عنايتهم، وأبصر الهزيلَ من بعيد فأقبل يمشي نحوه، ورآه الهزيل وجعل يتأمله
وهو
يتخلَّعُ تخلُّعَ الأسد في مشيته، وقد ملأ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، وبسطَتْه النعمة
من أطرافه، وانقلبت في لحمه غلظًا، وفي عصبه شدة، وفي شعره بريقًا، وهو يموج في بدنه
من قوة
وعافية، ويكاد إهابه
١٠ ينشقُّ سمنًا وكدنة، فانكسرت نفس الهزيل، ودخلته الحسرة، وتضعضع
١١ لمرأى هذه النعمة مرحة مختالة. وأقبل السمين حتى وقف عليه، وأدركته الرحمة له؛
إذ رآه نحيفًا متقبِّضًا، طاوي البطن،
١٢ بارز الأضلاع، كأنما هَمَّتْ عظامه أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأوًى
آخر.
فقال له: ماذا بك؟ وما لي أراك متيبسًا كالميت في قبره غير أنَّك لم تمت؟ وما لك
أُعطِيتَ
الحياة غير أنك لم تحيَ؟ أَوَليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد؟ فما لك — ويحك — رجعتَ
صورة مختزلة من الهر؟ أفلا يسقونك اللبن، ويطعمونك الشَّحمة واللحمة، ويأتونك بالسمك،
ويقطعون لك من الجبن أبيض وأصفر، ويفتُّون لك الخبز في المرق، ويُؤثرك الطفل ببعض طعامه،
وتدلِّلك الفتاة على صدرها، وتمسحك المرأة بيديها، ويتناولك الرجل كما يتناول ابنه …؟
وما
لجلدك هذا مغبرًّا كأنك لا تلطعه بلعابك،
١٣ ولا تتعهده بتنظيف، وكأنك لم ترَ قَطُّ فتى أو فتاة يجري الدهان بريقًا في شعره
أو شعرها، فتحاول أن تصنع بلعابك لشعرك صنيعهما؟ وأراك متزايل الأعضاء متفكِّكًا حتى
ضعُفتَ
وجَهدْتَ، كأنه لا يركبك من حب النوم على قدرٍ من كسلك وراحتك، ولا يركبك من حب الكسل
على
قدرٍ من نعيمك ورفاهتك، وكأنَّ جنبيك لم يعرفا طِنْفِسَةً ولا حَشِيَّةً ولا وسادةً ولا
بِساطًا ولا طِرازًا، وما أشبهك بأسد أهلكه ألا يجد إلا العشب الأخضر والهشيم اليابس،
فما
له لحم يجيء من لحم، ولا دم يكون من دم، وانحط فيه جسم الأسد، وسكنت فيه روح
الحمار؟!
قال الهزيل: وإن لك لحمة وشحمة، ولبنًا وسمكًا، وجبنًا وفُتاتًا، وإنك لتقضي يومك
تَلْطَع
جلدك ماسحًا وغاسلًا، أو تَتَطَرَّح
١٤ على الوسائد والطنافس نائمًا ومتمددًا؟! أما والله لقد جاءتك النعمة والبلادة
معًا، وصلحتْ لك الحياة وفسدت منك الغريزة، وأحكمتَ طبعًا ونقضت طِباعًا، وربحتَ شبعًا
وخسرتَ لذة! عطفوا عليك وأفقدوك أن تعطف على نفسك، وحملوك وأعجزوك أن تستقل، وقد صرتَ
معهم
كالدجاجة تُسَمَّن لتُذبح، غير أنهم يذبحونك دلالًا ومَلالًا.
إنك لتأكل من خِوَان
١٥ أصحابك، وتنظر إليهم يأكلون، وتطمع في مؤاكلتهم، فتشبع بالعين والبطن والرغبة
ثم لا شيء غير هذا، وكأنك مرتبط بحبال من اللحم تأكل منها وتحتبس فيها.
إن كان أول ما في الحياة أن تأكل فأهون ما في الحياة أن تأكل، وما يقتلك شيء كاستواء
الحال، ولا يحييك شيء كتفاوتها؛ والبطنُ لا يتجاوز البطنَ ولذَّتُه لذَّتُه وحدها، ولكن
أين
أنت عن إرثك من أسلافك، وعن العلل الباطنة التي تحركنا إلى لذات أعضائنا، ومتاع أرواحنا،
وتهبنا من كل ذلك وجودنا الأكبر، وتجعلنا نعيش من قِبَل الجسم كله، لا من قبل المعدة
وحدها؟!
قال السمين: تالله لقد أكسبك الفقر حكمة وحياة، وأراني بإزائك معدومًا بزوال أسلافي
مني،
وأراك بإزائي موجودًا بوجود أسلافك منك. ناشدتك الله إلا ما وصفت لي هذه اللذات التي
تعلو
بالحياة عن مرتبة الوجود الأصغر من الشبع، وتستطيل بها إلى مرتبة الوجود الأكبر من
الرضا؟
فقال الهزيل: إنك ضخم ولكنك أبله. أما علمتَ — ويحك — أن المحنة في العيش هي فكرة
وقوة،
وأن الفكرة والقوة هما لذة ومنفعة، وأن لهفة الحرمان هي التي تضع في الكسب لذة الكسب،
وسُعار الجوع هو الذي يجعل في الطعام من المادة طعامًا آخر من الروح، وأن ما عُدِل به
عنك
من الدنيا لا تعوِّضك منه الشحمة واللحمة؟ فإن رغباتنا لا بد لها أن تجوع وتغتذي كما
لا بد
من مثل ذلك لبطوننا؛ ليُوجِدَ كلٌّ منهما حياتَه في الحياة. والأمور المطمئنة كهذه التي
أنت
فيها هي للحياة أمراض مطمئنة، فإن لم تنقص من لذتها فهي لن تزيد في لذتها، ولكن مكابدة
الحياة زيادة في الحياة نفسها.
وسر السعادة أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعل الأحسن أحسن مما يكون، وتمنع الأسوأ
أن
يكون أسوأ مما هو، وكيف لك بهذه القوة وأنت وادع قار محصور من الدنيا بين الأيدي والأرجل؟
إنك كالأسد في القفص، صغُرتْ أَجَمَتُهُ ولم تزل تصغر حتى رجعت قفصًا يحده ويحبسه، فصغُرَ
هو ولم يزل يصغر حتى أصبح حركة في جلد؛ أما أنا فأسدٌ على مخالبي ووراء أنيابي، وغَيْضَتي
أبدًا تتسع ولا تزال تتسع أبدًا، وإن الحرية لتجعلني أتشمَّم من الهواء لذَّة مثل لذَّة
الطعام، وأستروح من التراب لذة كلذة اللحم، وما الشقاء إلا خَلَّتان
١٦ من خلال النفس: أما واحدةٌ فأن يكون في شرهك
١٧ ما يجعل الكثير قليلًا، وهذه ليست لمثلي ما دمتُ على حد الكَفَاف من العيش؛
١٨ وأما الثانية فأن يكون في طمعك ما يجعل القليلَ غيرَ قليل، وهذه ليس لها مثلي
ما دمتُ على ذلك الحد من الكفاف. والسعادة والشقاء كالحق والباطل، كلها من قِبَل الذات،
لا
من قِبَل الأسباب والعلل، فمن جاراها سَعِد بها، ومن عَكَسها عن مجراها فبها يشقَى.
ولقد كنتُ الساعة أَخْتِلُ فأرة انجحرتْ في هذا الشق، فطعِمتُ منها لذة وإن لم أُطعم
لحمًا، وبالأمس رماني طفلٌ خبيث بحجر يريد عَقْري فأحدث لي وجعًا، ولكن الوجع أحدث لي
الاحتراس، وسأغشَى
١٩ الآن هذه الدار التي بإزائنا؛ فأية لذة في السَّلَّة والخطفة والاستراق
والانتهاب ثم الوثب شدًّا بعد ذلك؟ هل ذقت أنت بروحك لذة الفرصة والنهزة،
٢٠ أو وجدت في قلبك راحة المخالسة
٢١ واستراق الغفلة من فأرة أو جُرَذ، أو أدركت يومًا فرحة النجاة بعد الرَّوَغان
٢٢ من عابث أو باغٍ أو ظالم؟ وهل نالتك لذة الظفر حين هوَّلك طفل بالضرب، فهوَّلته
أنت بالعض والعقر، ففرَّ عنك منهزمًا لا يلوي؟
قال السمين: وفي الدنيا هذه اللذات كلها وأنا لا أدري؟! هَلُمَّ أتوحش معك ليكون لي
مثل
نُكْرِك ودهائك واحتيالك، فيكون لي مثل راحتك المكدودة، ولذتك المتعبة، وعمرك المحكوم
عليه
منك وحدك، وسأتصدى معك للرزق أطارده وأواثبه، وأغاديه وأراوحه …
فقطع عليه الهزيل وقال: يا صاحبي، إن عليك من لحمك ونعمتك علامةَ أَسْرِك، فلا يلقانا
أول
طفل إلا أهوى لك فأخذك أسيرًا، وأهوى عليَّ بالضرب لأنطلق حرًّا، فأنت على نفسك بلاء،
وأنت
بنفسك بلاءٌ عليَّ.
وكانت الفأرة التي انجحرتْ قد رأت ما وقع بينهما، فسرَّها اشتغال الشر بالشر … وطالت
مراقبتها لها حتى ظنت الفرصة ممكنة، فوثبت وثبة من ينجو بحياته ودخلت في باب مفتوح، ولمحها
الهزيل كما تلمحُ العينُ برقًا أومض وانطفأ، فقال للسمين: اذهب راشدًا، فحسبك الآن من
المعرفة بنفسك وموضعها من الحياة، أنَّ الوقوف معك ساعة هو ضياع رزق، وكذلك أمثالك في
الدنيا، هم بألفاظهم في الأعلى، وبمعانيهم في الأسفل …