قصة الأيدي المتوضِّئة …
قال راوي الخبر: ذهبت إلى المسجد لصلاة الجمعة؛ المسجد يجمع الناس بقلوبهم ليخرج كل إنسان من دنيا ذاته، فلا يفكر أحد أنه أسمى من أحد؛ ولقد يكون إلى جانبك الصانع أو الأجير أو الفقير أو الجاهل، وأنت الرئيس أو العظيم أو الغني أو العالِم، فتنظر إليه وإلى نفسك فتحس كأن خواطرك متوضئة متطهرة، وترى كلمة الكبرياء قد فقدت روحها، وكلمة التواضع قد وجدت روحها؛ وتشعر بالنفس المجتمعة قد نصبت الحرب للنفس المنفردة؛ ولو خطر لك شيء بخلاف ذلك رأيت الفقير إلى جانبك توبيخًا لك، ونظرت إليه ساكتًا وهو يتكلم في قلبك، وشعرت بالله من فوقكما، واستعلنَتْ لك روح المسجد كأنها تهُمُّ بطردك منه، وخيل إليك أن الأرض ستلطم وجهك إذا سجدت عليها، وأيقنت من ذات نفسك أن لست هناك في دنياك وليس صاحبك في دنياه، وإنما أنتما هناك في إنسانية ميزانها بيد الله وحده؛ فلا تدري أيكما الذي يخف وأيكما الذي يثقل.
قال: والعجيب أن هذا الذي لا يجهله أحد من أهل الدين، يعرفه بعض علماء الدين على وجه آخر، فتراه في المسجد يمشي مختالا، قد تحلَّى بحليته، وتكلَّف لزهوه، فلبس الجُبَّة تسَعُ اثنين، وتطاول كأنه المئذنة، وتصدَّر كأنه القِبْلة، وانتفخ كأنه ممتلئ بالفروق بينه وبين الناس، وهو بعد كل هذا لو كشف الله تمويهه لانكشف عن تاجر علم بعضُ شروطه على الفضيلة أن يأكل بها، فلا يجد دنيا ذاته إلا في المسجد، فهو نوع من كذب العالِم الديني على دينه.
•••
قال الراوي: وصعد الخطيب المنبر وفي يده سيفه الخشبي يتوكأ عليه؛ فما استقر في الذروة حتى خيل إلي أن الرجل قد دخل في سِرِّ هذه الخشبة، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه، وكالهَرِم يُمسِكه ما يتوكأ عليه؛ ونظرت فإذا هو كَذِبٌ صريح على الإسلام والمسلمين، كهيئة سيفه الخشبي في كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها.
أفي سيف من الخشب معنوية غير معنى الهزل والسخافة، وبلاهة العقل وذلة الحياة، ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر، والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإرادة؟
•••
ويحكم أيها المسلمون! لو كنتُ بقية من خشب سفينة نوح التي أنقذ فيها الجنس البشري، لما كان لكم أن تضعوني هذا الموضع؛ وما جعلكم الله حيث أنتم إلا بعد أن جعلتموني حيث أنا، تكاد شرارة تذهب بي وبكم معًا، لأن فيَّ وفيكم المادة الخشبية والمادة المتخشبة.
ويحكم! لو أنه كان لخطيبكم شيء من الكلام الناري المضطرم، لما بقيت الخشبة في يده خشبة. وكيف يمتلئ الرجل إيمانًا بإيمانه، وكيف يصعد المنبر ليقول كلمة الدين من الحق الغالب، وكلمة الحياة من الحق الواجب — وهو كما ترونه قد انتهى من الذل إلى أن فقد السيف روحه في يده؟
قال: وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير في وجوههم، والصبر في أجسامهم، والقناعة في نفوسهم، والفضل في سجاياهم؛ إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زروعًا ومن أنفسهم زروعًا أخرى — فقال لرجل كان معه: إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه؛ فما ينبغي أن تكون خطبة المسلمين إلا في أخص أحوال المسلمين.
قال: ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنًى دقيق في حكمة هذه المنابر الإسلامية؛ فما يريد الإسلام إلَّا أن تكون كمحطات الإذاعة، يلتقط كل منبر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها في صيغة الخطاب إلى الروح والعقل والقلب، فتكون خطبة الجمعة هي الكلمة الأسبوعية في سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع، وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حيًّا بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد؛ ومن ثَمَّ يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل.
قال: وخيل إليَّ بعد هذا المعنى أن كل خطيب في هذه المساجد ناقص إلى النصف، لأن السياسة تُكْرِهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر، وألَّا يصعد إلا في إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ هو مع ذلك نصف وعظ … فالخطبة في الحقيقة نصف خطبة، أو كأنها أثر خطبة معها أثر سيف …
•••
وأدرت عيني في وجوههم، فإذا وقار وسَمْتٌ ونُور لم أر منها شيئًا في وجه صاحب «اللالحية»؛ وأنا فما أبصرت قط لحية رجل عالم أو عابد أو فيلسوف أو شاعر أو كاتب أو ذي فن عظيم، إلا ذكرت هذا المعنى الشعري البديع الذي ورد في بعض الأخبار، من أن لله — تعالى — ملائكة يُقْسِمون: والذي زين بني آدم باللحي.
وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافية على طبيعتها؛ فامتدَّت وعظُمت حتى نشرت حولها جوًّا روحانيًا من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بُعْد، فكان هذا أبلغ ردٍّ على ذلك.
•••
فقال آخر: وفي الحديث: «إن الله يحب إغاثة اللهفان.» ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون في خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب؟ فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث: «إن الله يحب إغاثة اللهفان.» لأسرع العامة إلى ما يحبه الله.
قال الثالث: ولكن جاءنا الأثر في وصف هذه الأمة: «إنها في أول الزمان يتعلَّم صغارها من كبارها، فإذا كان آخر الزمان تعلَّم كبارُهم من صغارهم.» فنحن في آخر الزمان، وقد سُلِّط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة.
قال الراوي: فقلت لصديق معي: قل لهذا الشيخ: ليس معنى الأثر ما فهمت، بل تأويله أن آخر الزمان سيكون لهذه الأمة زمن جهاد واقتحام، وعزيمة ومُغَالَبة على استقلال الحياة؛ فلا يصلح لوقاية الأمة إلا شبابها المتعلِّم القوي الجريء، كما نرى في أيامنا هذه، فينزلون من الكبار تلك المنزلة؛ إذ تكون الحماسة متممة لقوة العلم. وفي الحديث: «أمتي كالمطر؛ لا يُدرَى أوله خير أم آخره.»
•••
قال الراوي: ولم يكد الصديق يحفظ عني هذا الكلام ويهُمُّ بتبليغه، حتى وقعت الصيحة في المكان؛ فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد: لا يكرر إلا زمجرة واحدة؛ وكان الشيوخ الأجِلَّاء قد سمعوا كل ما قيل، فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة أو خامسة؛ وفرغ الشباب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدبًا ومتخشعًا ووضع الصندوق المختوم.
فقال أحد الشيوخ: لم يخف علينا مكانك، وقد بذلتم ما استطعتم؛ فبارك الله فيك وفي أصحابك.
وسكت الشاب، وسكت الشيوخ، وسكت الصندوق أيضًا …
وانتقلت العدوى إلى الباقين، فأخرج أحدهم منديله يتمخَّط فيه، وظهرت في يد الثالث سُبْحة طويلة، وأخرج الرابع سواكًا فمرَّ به على أسنانه، وجرَّ الخامس كراسة كانت في قَبائه، ومدَّ صاحب اللحية العريضة أصابعه إلى لحيته يخللها؛ أما السابع صاحب «اللالحية»، فثَبَتَتْ يده في جيبه ولم تخرج، كأن فيها شيئًا يستحيي إذا هو أظهره، أو يخشى إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة.
وسكت الشاب، وسكت الشيوخ، وسكت الصندوق أيضًا …
قال الراوي: ونظرت فإذا وجوههم قد لبست للشاب هيئة المدرِّس الذي يقرِّر لتلميذه قاعدة قررها من قبل ألف مرة لألف تلميذ، فخجل الشاب وحمل صندوقه ومضى …
•••