أحاديث الباشا
•••
فحدثني الصديق بعد موت هذا الباشا قال: إنه دعاه يومًا ليفاتحه الرأي في أمر من أموره، ثم قال له: إن الرئيس الإنجليزي غير مطمئن إليك لأن حقيقة من الحقائق الصريحة ظاهرة على وجهك، فأنت تنظر إليه وكأنك تقول له بعينيك: إنك مصري مستقل.
قال صاحب السر: لئن كان ذلك ما يغضبه إن الخَطْب لَهَيِّن، فلست أنظر إليه بعد اليوم إلا من وراء نظارة سوداء …
أتراك تفهم شيئًا لو قلت لك: رجل، أسد، جبل، مدينة، أسطول؟ إن تركيبنا الاجتماعي شيء كهذا الكلام: فيه من ضخامة اللفظ بقدر ما فيه من انحلال المعنى واضمحلاله. ولكل كلمة إذ أفردت معنًى صحيح يقوم بها وتقوم به، غير أنه يتحول في الجملة إلى معنًى كلا معنى.
أصبح الشرقي يعيش في أمته على قاعدة أنه منفرد لا صلة بينه وبين الأطراف لا في الزمان ولا في المكان، ونسي معنى الحديث الشريف: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا.» فماذا كان يريد أعظم المصلحين الاجتماعيين من قوله: «كأنك تعيش أبدًا»؟ إلَّا أن يقرر لأمته أن الفرد ينبوع الأجيال المقبلة كلها، فليعمل لها ولنفسه كأنها موقوفة عليه وكأنه مستمر فيها.
هذه حكمة إسلامية دقيقة، عندنا نحن لفظها ولسنا نعرف معناها، وعند الإنجليز معناها ولا يعرفون لفظها، أَهُمُ المسلمون أم نحن؟
وعلى قاعدة الانفراد انفراد كل شيء؛ فآثر الشرقي حياته على وطنه، وقدم لذته على واجبه، وتعامل بالمال في مواضع المعاملة بالأخلاق؛ وكان طبيعيًّا مع هذا أن يختصر الدين اختصارًا يجعله مقدارًا بين مقدارين، فلا هو دين ولا هو غير دين؛ وبذلك يناسب فرديته ويقعد تحت حكمه وهو خارج عليه؛ فترى الرجل من هذه الملايين يؤمن بالله وهو يحلف به كذبًا على درهم، ويصلي ويفْجُر في يوم واحد، ويتعبد في نفسه ويخون سواه في وقت معًا.
ومتى كانت الحالة النفسية للأمة هي هذه الفردية ومصالحها ودواعيها، كان الكذب أظهر خلال هذه الأمة، إذ هو انفراد الكاذب بحظه ومصلحته وداعيته؛ ولا يكذب عليك إلا مَن يرجو أن تكون مُغفَّلًا، أو مَن قدَّر في نفسه أن المعاملة العامة في الأمة هي على قاعدة المغفلين … ويكذبون في هذا أيضًا فيسمونه حذاقًا وبراعة «وشطارة».
وإذا عم الكذب فشا منه الهزل؛ فكل كاذب هازل، وهل يجِدُّ الكاذب وهو يكذب إلا إذا كان مجنونًا؟ ومن الهزل ضرب هو المباسطة بالكذب، ومنه ضرب من كذب الحقائق، ومنه من كذب الخيال، وكيفما درات الحال لا تجده إلا كذبًا.
ومتى صار الكذب أصلًا يعمل عليه، تقرر عند الناس أن الكلام أنما يقال ليقال فقط. أفلست ترى الرجلين إذا أخبر أحدهما صاحبه بالخبر فيه شيء من الغرابة أو البعد، لا يكلمه الآخر أول ما يتكلم إلا أن يسأله: صحيح؟ صدق؟
ولا أضرَّ على الأمة من هذه العقيدة — عقيدة أن الكلام يقال ليقال فقط — فإنها هي طابع الهزل على أخلاق الأمة، وعلى كل أحوالها، وعلى حكومتها أيضًا.
ومن الهزل والكذب ترانا مبالغين في كل شيء، حتى ليكون لنا الواحد كالآحاد في غيرنا فنجعله مائة بصفرين، نجيء بأحدهما من اعتيادنا الكذب على الحقيقة، ونجيء بالآخر من حقيقة إفلاسنا.
هذه مبالغة خطرة، وأخطر ما فيها أننا بها نريد المبالغة في الدلالة على الأشياء، فتنقلب مبالغة في الدلالة علينا نحن، وعلى كذب طباعنا، وعلى فوضى العقل فينا. نعم وحتى تثبت أننا لا عزم لنا، من كونها مبالغة لا تدقيق في معناها؛ وأن لا صبر لنا، من أنها لا ثبات لحقيقتها المهزومة؛ وأن لا شدة لنا في طلب الحق؛ لأننا بها من أهل الغفلة في وصف الحق؛ وأننا لا نتمثل العواقب إذ نرسل الكلام إرسالًا ولا نخشى ما يكون من عاقبته.
وأيسر ما يفهم من هذه المبالغات التي أصبحت طريقة من طرق الشعب في التعبير، أن هذا الشعب لا يصلح في شيء إلا بالحكومة، فهو نفسه كالمبالغة، والحكومة له كالتصحيح؛ وهذه هي العلة في أن الشعب الكذوب يلجأ إلى حكومته في كل كبيرة وصغيرة في العمل، كما أنها هي العلة في أن حكومته تكذب عليه بكل صغيرة وكبيرة في السياسة.
ومن أثر الكذب الشعبي والمبالغة الشعبية، ما نراه من اهتمام كل فرد بما يقول الناس عن أعماله، فيديرها على ذلك وإن قلَّت منفعتها، وإن فسدت حقيقتها، وإن جلبت عليه من الضرر في ماله ونفسه ما هي جالبة؛ فقاعدتهم هي هذه: ليس الشأن في الحياة للعمل في نفسه، ولكن فيما يقال عنه؛ فإن لم يُقَل شيء فلا تعمل شيئًا …
هذه يا بني أمة لا يكون حكامها إلا مبالغات أيضًا …
•••
قال صاحب السر: وراتفع من الطريق صوت بائع ينادي على سلعته: أحسن من التفاح يا طماطم …
فضحك الباشا وقال: هكذا يقولون لنا عن الطماطم السياسي العفِن: إنه ليس تفاحًا وحسب، بل هو أحسن من التفاح …
إن الأمة لن تكون في موضعها إلا إذا وضعت الكلمةَ في موضعها، وإن أول ما يدل على صحة الأخلاق في أمةٍ كلمةُ الصدق فيها، والأمة التي لا يحكمها الصدق لا تكون معها كل مظاهر الحكم إلا كذبًا وهزلًا ومبالغة.