الأخلاق المحاربة
كانت الثورة زلزلة وقعت في التاريخ، فجاءت تحت زمن راكد لا يتغيَّر إلا بأن يُنسَف، ولا ينسفه إلا مادة إلهية كالحركة الكونية التي تخرج اليوم الجديد من القديم؛ فكان القدر يعمل بأيدي الإنجليز عملًا مصريا، ويعمل بأيدي المصريين عملًا آخر.
وتعلَّم الشعب من دفن شهدائه كيف يَستنْبِت الدم فيُنبِت به الحرية، وكيف يزرع الدمع فيخرج منه العزم، وكيف يستثمر الحزن فيثمر له المجد.
وكان رصاص الإنجليز يصيب هدفين معا: فيصرع شهداءنا، ويقتل الموت السياسي الذي احتلَّ معهم هذه البلاد. وقد أنعموا على الشعب بالصدمة الأولى، فنشبت المعركة التي تقاتل فيها الأخلاق القومية لتنتصر؛ وشعرت مصر في جهادها بأنها مصر، فالتمس روحها التاريخي رمزه العظيم في الأمة ليظهر فيه عاتيا جبارًا؛ فكان هذا الرمز الجليل العظيم هو سعد زغلول.
•••
قال صاحب السر: وكان الطلبة قد غَدَوا من أول النهار يتظاهرون، وقد جعلتهم الثورة كالأرواح تخلصت من الموت بالموت فلا تخشاه ولا تباليه، واستقلت عن العقل بتحولها إلى شعور محض، وخرجت عن القوانين كلها إلا القانون الخفي الذي لا يُعلَم ما هو.
كانوا في معاني قلوبهم لا في غيرها، فلست تراهم إلا عظماء في عظمة المبدأ الذي ينتصرون له، أقوياء في قوة الإيمان الذي يعملون به، أجلَّاء في جلال الوطن الذي يحيون ويموتون في سبيله.
وكانوا في الشعب هم خيال الأمة العامل المُدْرِك، وشعورها الحي المتوثب، وقواها البارزة من أعماقها، وأملها الزاحف ليقهر الصعوبة.
يفادون بأنفسهم الغالية ويؤثرون عليها، وليس في أحد منهم ذاتُه ولا أغراضُ شخصه، فما أجَلَّ وما أعظمَ! وما أروعَ وما أسمَى! أيتها الحياة! هل فيك أشرف من هذه الحقيقة إلا حقيقة النبوة؟
•••
وكان في ذلك اليوم يقود «المظاهرة»، وحوله جماعة من خالصته وصفوة إخوانه، يمشون في الطليعة تحت جوٍّ مُتَّقِدٍ كأن فيه غضب الشباب، عنيف كأنما امتزج به السخط الذي يفورون به، رهيب كأنه متهيِّئٌ لينفجر؛ فلما بلغوا موضعًا من الطريق ينعطفون عنده انصبَّ عليهم المدفع الرشَّاش …
قال: فإني لَجالس بعد ذلك في الديوان إذ دخل عليَّ أخي هذا ينتفض غضبًا كأن المعاني تنبعث من جسده لتقاتل، ورأيت له عينين ينظر الناظر فيهما إلى النار التي في قلبه؛ فخشيت أن يكون القوم أطلقوا عليهم الجنون والرصاص معًا.
ثم قال: أين هذا الباشا؟ وما باله لم يصنع شيئًا في الاحتياط لهذه الفورة؟ يكاد الخزي — والله — يكون في هذه الوظائف على مقدار المُرَتَّب …
•••
قال صاحب السر: ولم يُتِمَّ كلمته حتى خرج علينا الباشا متكسِّر الوجه من الحزن قد تغرغرت عيناه، فأخذ بيد أخي إلى غرفته وتبعتهما، ثم قال: هَوْنًا ما يا بني، إن العلة فيكم أنتم يا شباب الأمة، فكل ما ابتُلِينا أو نُبتَلَى به هو مما يستدعيه خمولكم وتستوجبه أخلاقكم المتخاذلة؛ إننا من غيركم كالمدافع الفارغة من ذخيرتها؛ لا تصلح إلا شكلا، وبهذه العلة كان عندنا شكل الحكومة لا الحكومة.
أتدري يا فتى ما هي الحكومة الصحيحة في مثل حالتنا؟ هي أن تحكموا أنتم في الشعب حكومة أخلاقية نافذة القانون، فتضبطوا أخلاق النساء والرجال، وتردُّوها كلها أخلاقًا محاربة لا تعرف إلا الجد والكرامة وصرامة الحق؛ وإلا فكما تكونون يُوَلَّى عليكم …
هذا وحده هو الذي يُعِيد الأجانب إلى رشدهم وإلى الحقيقة، فما أراهم يعاملوننا إلا كأننا ثياب معلقة ليس فيها لابسوها …
نريد لهذا الشعب طبيعة جدية صارمة، ينظر من خلالها إلى الحياة فيستشعر ذاته التاريخية المجيدة فيعمل في الحياة بقوانينها؛ وهذا شعور لا تُحْدِثه إلا طبيعة الأخلاق الاجتماعية القوية التي لا تتساهل من ضعف، ولا تتسمَّح من كذب، ولا تترخَّص من غفلة. والحقيقة في الحياة كالحقيقة في المنطق؛ إذا لم يصْدُق البرهان على كل حالاتها، لم يصدق على حالة من حالاتها؛ فإذا كنا ضعفاء كرماء، أعزاء، سادة على التاريخ القديم، فنحن ضعفاء فقط …
إن الكبراء في الشرق كله لا يصلحون إلا للرأي، فلا تَسُوموهم غيرَ هذا، فهم قد تلَقَّوا الدرس من أغلاطهم الكثيرة، وبهذا لن تفلح حكومة سياسية في الشرق الناهض ما لم يكن شبابها حكومة أخلاقية يُمِدُّها من نفسه ومن الشعب في كل حادثة بالأخلاق المحاربة.
يا بني! إن القوي لو اتفق مع الضعيف على كلمة واحدة لا تتغير، لكان معناها للأقوى أكثر مما هو للأضعف؛ فإن هذا القوي الذي يعمل مع الضعيف يكون فيه دائمًا شخص آخر مختفٍ، هو القوي الذي يعمل مع نفسه.
هكذا هي السياسة؛ أما في الإنسانية فلا، إذ يكون الحق دائمًا بين اثنين أقوى من الاثنين.