فلْنتعصبْ …!
وقال صاحب سِرِّ «م» باشا: جاءني يومًا صحفي إنجليزي من هؤلاء الكُتَّاب المتعصبين الذين تُطْلِقهم إنجلترا كما تطلق مدافعها؛ غير أن هذه للبارود والرصاص والقنابل وأولئك للكذب والتهم والمغالطات.
وظن عند نفسه أنه سيخوف بجريدته الكُبَراء والأعيان والمياسير حتى يَغلِب على جميعهم، ويُشرِك أصابعه مع أصابعهم في استخراج ما يحتاج إليه من جيوبهم؛ فلم تعِشْ جريدته إلا أيَّامًا وأتْلَفَ ما جمع، ورهن فيها داره التي لا يملك غيرها؛ وعلم آخرًا أن الذي يكذب فيسمي الخروف جَمَلًا، لا يُقبَل منه أن يكذب على الكذب نفسه، فيزعم أن الناقة هي التي نَتَجَتْ هذه الخروف …
ولما انقلبت هذه الجريدة يومية كان الباشا هو ملجأ الرجل ووَزَره، وكان لكل يوم في الجريدة أخبار عن الباشا لا تقع في الدنيا ولا تُجمَع من الحوادث، ولكن تقع في ذهن الكاتب، وتجمع من صناديق الحروف؛ حتى قال لي الباشا مرة: إن اسمي قد أصبح موظفًا في هذه الجريدة لجمع الاشتراك …
وتحرَّى هذا الصحفي أن يستأذن يومًا على الباشا وفي مجلسه حشد عظيم من السَّرَاة والأعيان والعُمَد، وكان جمعهم لأمر، فما هو إلا أن دخل الصحفي حتى ابتدره الباشا بهذا السؤال: يا أستاذ، ما هي تلغرافات أوروبا عن الحوداث التي ستقع غدًا …؟
فضجَّ المجلس بالضحك، وفَقَدَ المسكين بهذه النكتة أربعين دينارًا كان يؤمل أن يخرج بها، وأعلن الباشا في أَظْرَف إعلانٍ وأبلغه كذِبَ الرجل ونفاقَه وإسفافَه، وأنه من رجال الصحافة المدوَّرة تدوير الرغيف …
•••
قال: ونظرتُ إلى الصحفي الإنجليزي نظرة أكشفه بها، فإذا أول الفرق بينه وبين أمثاله عندنا — شعوره أن بلاده قد ربَّته «للخارج»، فهو عند نفسه كأنه إنجليزي مرتين؛ ويأتي من ذلك إحساسه بعزة المالك وقوة المستعمر، فلا يكون حيث يكون إلا في صراحة الأمر النافذ، أو غموض الحيلة المبهمة؛ ويستحكم بهذا وذاك طبعُه العملي، فهو بغريزته مقاتل من مقاتلة الفكر، يلتمس ميدانه بين القوى المتضاربة لا يبالي أن يكون فيه الموت ما دام فيه العمل؛ وبهذا كله تراه نافد البصيرة قائما على سواء الطريق، لأن الإنجليزي الباطن فيه يوجِّه الإنجليزي الظاهر منه ويسانده؛ وفي أعماق الاثنين تجد إنجلترا، وليس غير إنجلترا.
وله وجه عملي يكاد يحاسبك على نظراتك إليه؛ تدور في هذا الوجه عينان قد اعتادتا وزن الأشياء والمعاني؛ يتلألأ في هاتين العينين شعاع النفس القوية الممرَّنة، قد نَفَت الثقة بها نصف هموم الحياة عن صاحبها، تُمِدُّ هذه النفسَ طبيعةٌ مؤمنة بأن أكبر سرورها في أعمالها، فواجبها في الحياة أن تعمل كل ما يحسُن بها وكل ما يحسُن منها.
لقد خُيِّل إليَّ، وأنا أنظر إلى نفسية هذا الإنجليزي أن كلمة الخيبة عند هؤلاء الإنجليز غير كلمة الخيبة عندنا — نحن الشرقيين — فإن خيبة النفس لا تتمُّ معانيها أبدًا في النفس العاملة الدائبة، التي يُشعِرها الواجب أنه شيء إلهي لا يخيب، وأن ما يُرفَض على هذه الأرض من العمل الطيب لا يُرفَض في السماء.
وكأن الرجل قد أدرك غرضي بملكته الصحافية الدقيقة، فأجابني عن السؤال الذي لم أسأله، وقال لي مبتدِئًا: إن أساسنا الشخصية وحاسَّة الواجب؛ وإن فيكم أنتم كل شيء إلا هذين؛ فأخلاقنا تظهر دائمًا في العمل، وأخلاقكم تظهر دائمًا في الكلام الفارغ؛ ونحن نطلب الحقيقة، وأنتم تطلبون الألفاظ، حتى إنه لو خسر المصري ألف دينار، ثم أعلن أنها مائة فقط، وصدَّق الناس أنها مائة؛ لكان عند نفسه كأنه ربح تسعمائة …
قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهَّل ورحَّب؛ ثم هممت بالانصراف عنهما، ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكَّن في رُوعي أن صاحب سرك هذا متعصِّب ديني، وقد علمتُ أنه ابن فلان القاضي الشرعي، فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إليَّ، وكأنه يتأمَّل من أين يذبحني …
فضحك الباشا وقال لي: يا فلان إن هذا الكاتب من تلاميذ برناردشو، فهو كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذَنَبًا كذيل الهرِّ، ثم يمسكها منه فإذا هي تعَضُّ وتتلوَّى …
والتفتَ بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنتَ تريد رأيي فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين، فعجيب أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا نحن فيها! إنك لتعلم أن هذا التعصبَ الكذبُ الذي أكثرتم الكلام فيه، إنما هو لفظ من ألفاظ السياسة الأوروبية، أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيقي؛ ومن قبل هذا اخترعتم لفظة «الأقلِّيَّات»، وأجريتموها في لغتكم السياسية، لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني شكلًا آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى من غير أن تلمسوها، إذ تضربونها بشلِّ اليد اليسرى.
إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله في كتابه العزيز: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.
فإذا كان العدل في هذا الدين عدلًا صارمًا، وحقًّا محضًا لا يميز بشيء البته، لا ذات النفس التي فيها اشتهاء الدم، ولا أصلها من الأبوين اللذين جاءت منهما وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفُّون حول نسب الدم — إذا كان هذا، فأين في هذا العدل محلُّ الظلم؟
لعلك تشير إلى هذه الرعونة التي تعرفها في الأغمار والأغفال من العامة، فهذه ليست من أثر الدين، بل هي أثر الجهل بالدين؛ إن هذا ليس تعصُّبًا، بل هو معنًى من معاني الحمية النفسية الخرقاء لم تجدوا أنتم له لفظًا، وكان أقرب الألفاظ إليه عندكم هو التعصب، فأطلقتموه عليه للمعنى الذي في نفسه والمعنى الذي في أنفسكم. ألَا فاعلم أن إسلام العامة اليوم هو كالدعوى المقبولة شكلًا والمرفوضة بعد ذلك.
قال الإنجليزي: ولكن لهؤلاء العامة علماء دينيين يُدَبِّرونهم من ورائهم. وهم عندكم ورثة النبي ﷺ أي: منبع الفكرة وقوتها.
أتريد معنى التعصب في الإسلام؟ إنه بعينه كتعصب كل إنجليزي للأسطول؛ فهو تشابك المسلمين في أرجاء الأرض قاطبة، وأخذهم بأسباب القوة إلى آخر الاستطاعة، لدفع ظُلْم القوة بآخر ما في الاستطاعة.
وهو بذلك يعمل عملين: استكمال الوجود الإسلامي، والدفاع عن كماله.
وإذا أنت ترجمت هذا إلى معناه السياسي، كان معناه إصرار جميع المسلمين على نوع الحياة وكرامتها، لا على استمرار الحياة ووجودها فقط. وذلك هو مبدؤكم أنتم أيها الإنجليز، لا تقبلون إلا حياة السيادة والحكم والحرية، فأنتم مسلمون في هذا المبدأ لو عدلتم.
أليس من البلاء أن المسلمين اليوم لا يدرس بعضهم بلاد بعض إلا على الخريطة … ومع أن الحج لم يشرع في دينهم إلا لتعويدهم دراسة الأرض في الأرض نفسها لا في الورق، ثم ليكون من مبادئهم العملية أن العالم مفتوح لا مقفل؟
إن التعصب في حقيقته هو إعلان الأمة أنها في طاعة الشريعة الكاملة، وأن لها الروح الحادة لا البليدة، وأن أساسها في السياسة الاحترام الذاتي لا تَقْبَل غيره، وأن أفكارها الاجتماعية حقائق ثابتة لا أشكال نظرية، وأن مبدأها هو الحق ولا شيء غير الحق، وأن قاعدتها لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. فالهداية أوَّلًا والهداية آخرًا؛ الهداية في القوة، والهداية في السياسة، والهداية في الاجتماع. فقل لي بحياتك وحياة إنجلترا: أَيُعاب ذلك على المسلمين إلا بالألفاظ التي يعيب اللصُّ بها أهل الدار لأنهم يُحْكِمون في وجهه إقفال الباب …؟
قال: فوَجَمَ الإنجليزي حتى ذُهِل عن نفسه وصاح: إذا كان هذا فلنتعصَّبْ، فلنتعصَّبْ.