المعجم السياسي
وذهب الرجل يتظَنَّى ويَحْدِس على ما يخيل له الظن، وقد حسب أن إنجلترا يحقُّ لها أن تقول في المصريين ما يقول الله في خلقه كما ورد في الأثر: «إنما يتقلَّبون في قبضتي.» وكما تقول اليوم لأهل فلسطين من العرب: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ … وكان اللورد هذا رجلًا ممارسًا لمشاكل السياسية، دخَّالًا فيها، داهية من دُهاة القوم، له في قلبه عينان وأذنان غير ما في وجهه كحُذَّاق السياسيين؛ وهو يعرف أن سياسة قومه لا تدخل في شيء إلا دخول الإبرة بخيطها في الثوب، إن خرجت هي تركت الخيط وقد جَمَعَ وشدَّ … فأراد أن يمتحن مذهب المصريين في إجماعهم على الاستقلال، وقدَّر أنه واجد من الفلاحين عونا له ومادة لمكره السياسي، وحسب الوفد صورةً جديدة من طبقة «الباشوات» القديمة، ينزلون من الشعب منزلة اليد التي تُمْسِك القيد، مِن الرِّجْل التي فيها القيد، ويضعون معنى كلمة الحاجة في كلمة السياسة، ويقولون: الوطن وهم يريدون الجاه، ويقيمون الشعب كالسُّلَّم ينتصب قائما بأيديهم ليحمل أرجلهم الصاعدة عليه.
•••
قال صاحب السر: وجاء الورد لمقابلة الباشا، فمرَّ عليَّ مرور كتاب مقفل: لا أعرف منه إلا العنوان؛ غير أنه رجل بمقدار الرجل الذي يُخَالِف أمة كاملة تكاد تحسبه مطويا على زوبعة، وترى له قوتين تُحِسُّ من أثرهما الرهبة والإعجاب، وإذا تأملته قلت: إن اللطف والظرف أضعف شمائله، وإن الدهاء والحيلة أقوى مواهبه.
فلما لقيت الباشا من الغد، سألني: كيف رأيت اللورد ملنر؟ فقلت: والله يا باشا إنه كالضرورة؛ ما يتمناها أحد ولكنها تجيء …
فضحك الباشا وقال: يا ليت لنا — نحن الشرقيين — كل يوم ضرورة تصنع ما صنع اللورد؛ إنه كشف لنا في ذات أنفسنا عن حقيقة من أسمى الحقائق السياسية، وهي أن الشعب الذي يُصِرُّ ولا يزال يُصر يجعل الإغراء لا يُغْرِي والخوف لا يُخِيف.
ويا ليت الأمم الشرقية تتعلم هذا الصمت السياسي عن مجاوبة الكلمة الاستعمارية أحيانًا؛ فإن صمت الأمة المصرية عن جواب «ملنر» كان معناه أن قدرة الأمة هي المتكلمة كلامها بذا الصمت، تعلن للعالم أن الواجب الشعبي قد وضع قُفْله على كل فم.
وقد فسَّر اللورد هذا السكوت بتفسيره السياسي، فأدرك منه أن في الشعب أَنَفَةً وحَمِيَّة وقوة، وأن حساب الضمير الوطني أصبح لهذه الأفئدة كالحساب الإلهي للنفوس المؤمنة: كلاهما مستعلن يُخاف ويُتَّقَى، وكلاهما كلمة محرَّمة.
أية معجزة هذه التي جعلت كلمة الأجنبي تتخذ في أذهان أمة كاملة شكل قائلها، فاجتمعت لها البلاد على معنى الرفض، وأصبح كل فرد يعرف محله من الكل، وخضعت الطبائع بجملتها لقانون العزة القومية، الذي يلزمها ألَّا تخضع للأجنبي؟
إن الأمم بعض مسائل نفسية كهذه المسألة؛ فلو أن لنا خمسة دروس سياسية مختلفة كدرس «ملنر»، لكانت لنا في الإيمان الوطني كالصلوات الخمس.
وهذا الدرس يجب أن يكون درسًا للشرق كله، فإن السياسة الاستعمارية قائمة فيه على خداع الطريقة في حل مشاكله، فيحلُّونها ويُعَقِّدونها في نصٍّ واحد؛ ويُثبِت الكلامُ الذي يتفقون عليه أن المراد منه زوال الخلاف، ويُثبِت العمل بعد ذلك أن المراد كان زوال المقاومة.
ولهم عقول عجيبة في اختراع الألفاظ، حتى لتكون شدة الوضوح في عبارة، هي بعينها الطريقة لإخفاء الغموض في عبارة أخرى. وكثيرًا ما يأتون بألفاظ منتفخة تُحسَب جزلة بادنة قد ملأها معناها، وهي في السياسة ألفاظ حبالى، تستكمل حملها مدة ثم تَلِد.
ولهم من بعض الكلمات السياسية، كما لهم من بعض الرجال السياسيين؛ فيكون الرجل من دُهاتهم رجلًا كالناس، وهو عندهم مسمار دقُّوه في أرض كذا أو مملكة كذا، ويكون اللفظ لفظًا كاللغة، وهو مسمار دقُّوه في وثيقة أو معاهدة.
ثم ضحك الباشا وقال: إن أرضنا تخرج القطن، وسياستنا تخرج ألفاظًا كالقطن: لا توضع في المغزل إلا مدَّت وتحوَّلت. وإذا ذهبنا نخالفهم في التأويل والتفسير، لم نجد عندنا المعجم السياسي الذي يملي النص، أتدري يا بني ما هو المعجم السياسي؟
أما إنه لو كان كتابًا يتأَلَّف من مليون كلمة، لذهبتْ كلها عبثًا وباطلًا وهراء، ولكنه ذلك المعجم الحي، ذلك المعجم الذي يتألف من مليون جندي …