المجنون (١)
وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طول غرفة وعرضها — فإذا هو زائغ البصر كأنما وقع في صحراء يقلِّب عينه في جهاتها متحيِّرًا مترددا، ثم كأنما رُفِع له في أقصاها جبل فأخذ إلى ناحيته …
قلت: وكثيرًا ما أنسى غير أن اسمك ليس من هذه الأسماء التي تُذَكِّر بتاريخ.
قال: هذه غلطة الجرائد … ومهما تنسَ من شيء فلا تنسَ أنك أستاذ «نابغة القرن العشرين» …
وتوسَّمْت فإذا وجهٌ ساكن منبسط الأسارير ممسوح المعاني، يُنبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن دنياه ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه …
وتأملت فإذا طفولةٌ متلبِّدة قد ثبتت في هذا الوجه لتُخرِج من بين الرجل والطفل مجنونا لا هو طفل ولا رجل.
وخيل إليَّ من هذا الخمول في هذا الشاب، أن عليه جوًّا من تثاؤبه، وأن المكان كله يتثاءب، فتثاءبْتُ …
•••
فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: إن «نابغة القرن العشرين» رجل مغناطيسي عظيم؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم … وحسبك فخرًا أن تكون أستاذه وأخاه وثقته، «فليس على ظهرها اليوم أديب غيري وغيرك …»
قلت في نفسي: إنا لله، ما يعتقد الرجل أن على ظهرها مجنونا غيره وغيري، وكأنما ألمَّ بذلك فقال: لست مجنونًا؛ ولكني كنت في البيمارستان …
قلت: أهو البيمارستان الذي يُسمَّى مستشفى المجاذيب؟
قال: لا؛ إن هذا الذي تسميه أنت، هو هو مستشفى المجاذيب؛ أما الذي سميته أنا فهو مستشفًى فقط …
وخشيت أن يكون «نابغة القرن العشرين» لم يُسمِّني أستاذه إلا بحساب من هذا الحساب، فهو سيعطي الأستاذية حقها، ولكن كما هو حقها في لغة جنونه … فأُصبِح في رأيه تلميذه وصنيعته، ومحدِّث هذيانه، وثقته وملجأه، والمحامي من ورائه.
فقلت له: ظني بك أنك أستاذ نفسك، ولا يحسن بنابغة القرن العشرين أن يكون له في القرن العشرين أستاذ؛ وأراك قد فرغتَ للأدب، أما أنا فمشغول بأعمال وظيفتي، وقد جاء من العمل ما تراه، وتكاد لا تفِي به الساعات الباقية من الوقت و…
فقطع عليَّ وقال: إن الوقت ليس في الساعة؛ والدليل أني أُعطِّلها فيتعطل الوقت، ولا يكون فيها يومٌ ولا ساعة ولا ثانيةٌ ولا دقيقة.
فقلت: ولكنك إذا عطلتها لم تتعطل الشمس التي تُعَيِّن منازل النهار، فسيمر الظهر ويحين العصر و…
فتهلَّلتُ واستبشرتُ، وقلت له: هذا قرش فهلُمَّ فاشترِ به دخائنك، وفي رعاية الله، ثم استويت للقيام، ولكنه لم يقُمْ؛ بل تمكَّن في مجلسه …
•••
وكرهت أن أتغيَّر له وما أشك أنه في هذا صحيح التمييز؛ فما أسرع ما قال: إن «نابغة القرن العشرين» فتًى قوي الإرادة؛ فإذا هو لم يصبر عن التدخين ساعات فما هو بصبور … وإذا لم يُثبِتْ لك هذا الأمر عن معاينة … فما أعطيتَه حقَّه.
وقالوا: إنه مرَّ بسوق البزَّازين فرأى قوما مجتمعين على باب وكان قد نُقِب، فنظر فيه وقال: أتعلمون من عمل هذا؟ قالوا: لا. قال: فأنا أعلم.
وكانت مجلة «الرسالة» في يد «نابغة القرن العشرين»، فوصلَ الكلامَ بها وقال: إنه يقرأ كل مقالاتي، وإنه وإنه، وإنها وإنها. قلت: فما استحسنتَ منها؟ قال: «مقالة السيما» …
فقلت: متى كان آخر عهدك برؤية السيما؟ قال: أمس.
قلت: فأنا لم أكتب مقالًا عن السيما، ولكنك أعجبتَ بما رأيت أمس فتحوَّل ما رأيته حلما في مقالة.
فأعجبه هذا التأويل وقال: بمثل هذا أنا «نابغة القرن العشرين»، فأقرأ مقالتك في الغيب من قبل أن تكتبها …
قلت: إنك تكثر أن تقول عن نفسك «نابغة القرن العشرين»، وهذا يحصر نبوغك في قرن بعينه؛ فلو قطعتَ الكلمة وقلت: «نابغة القرن»، لصحَّ أن تكون نابغة القرن التاسع عشر والثامن عشر، وما قبلهما وما بعدهما.
•••
قال: إن له أخًا يُعذِّبه، ويُوقِع به ضَرْبًا، ويُغلِّله بالسلاسل، ويشده «بأمراس كتَّان إلى صُمِّ جَنْدَل»، وأنه أنزل به العذاب ما لو أنزله بحجر لتألَّم.
قلت: فأنت في حاجة إلى راحة، ويحسن بك أن تأوي إلى مكان تتمدَّد فيه.
ثم قال: أراك الآن مستبصرًا أني «نابغة القرن العشرين» بعينه.
قلت: بل بعينيه اليمنى واليسرى معًا …
قال: لا. لا؛ إنك نسيت أن العرب تقول في التوكيد: عينُه ونفسُه وذاتُه. «أي أنا نابغة القرن العشرين بعينِه ونفسه وذاته، فليس غيري نابغة القرن العشرين.»
فقلت للمجنون: فما العلة عندك في أن العرب لم يقولوا في التوكيد: عينه وأذنه وأنفه وفمه ويده ورجله؟
فنظر نظرة في الفضاء ثم قال: ليسوا مجانين فيخلطوا هذا الخلط، وإلا وجب أن يقولوا مع ذلك: وعمامته وثوبه ونعله وبعيره وشاته ودراهمه. «هذا من جهة، ومن جهة ليس معي أجرة السيارة إلى بلدي وهي قرشان.»
قلت: هذه هي أجرة السيارة وصحبتك السلامة، ونهضت واقفًا؛ ولكنه لم يتحرك.
•••
ثم قال: إنك لم تعرف بعدُ «أني أقول الشعر في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والفخر؛ وأني في الخطابة قُسُّ بن سَاعِدة أو أكْثَمُ بن صَيْفِيٍّ، وأني صخرٌ لا ينفجر … يابسٌ لا ينعصر، لست كالحجَّاج بل كعمر».
قلت: هذا شيء يطول بيننا ولا حاجة لك بهذه البراهين كلها، فقد آمنت أنك نابغة القرن العشرين في الأدب والشعر والخطابة والترسُّل.
قال: والفلسفة؟
قلت: والفلسفة وكل معقول ومنقول؛ وقد انتهينا على ذلك.
قال: ولكنك تحسبني مجنونا أو ممرورًا «كما حسبَتْني الجرائدُ التي زعمَتْ أن اختفائي في البيمارستان كان لجنوني الفكري أو لذكائي الطبيعي، وهو الأصحُّ … فبيِّن لهذه الجرائد أني خرجت، وأني سأطبع الأدب بطابع جديد».
قلت: ولكني لستُ مراسلَ جرائد. قال: «فاجعلني رسالة وراسلها عني أو أكتب لك أنا ما ترسله، وما جئتك إلا لهذا؛ ويجب أن تُلحِقَني بجريدة كبيرة، وهذه الجرائد تعرفني كلها، وقد تناولَتْني من جميع النواحي الأدبية؛ فضلًا عن أني كاتب فذٌّ، وخطيب فذٌّ، وشاعر فذٌّ، وهذا قليل من كثير، فهل أعوِّل عليك في صلتي بالجرائد أو لا؟»
قال: «إنهم يخشون بأسي، وقد حسبوني مجنونًا استهوته الشياطين؛ وما علموا أن شيطان الشعر هو الذي استهواني، كما أن شيطان الحب هو الذي استهواك … هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن الغداء، ولا أُكَلِّفك شيئًا …»
قلت: فهذا قرش للغداء في مطعم الشعب، وهُمُ الآن يتغدَّون ويوشك إذا أبطأتَ أن تُوافقهم وقد استنفدوا الطعام، وأنت لا تجهل أن القرش في مطعم الشعب هو قرشان في القيمة.
•••
فشق ذلك عليه وقام مغضبًا وتنفستُ بعده الصُّعَداء الطويلة … وفتحت النافذة واستقبلت الهواء النقيَّ وأخذت في رياضة التنفس العميق، ثم زاغت عيني إلى الباب؛ فإذا «نابغة القرن العشرين» مقبل مع نابغة قرن آخر …