المجنون (٣)
ولما تمكَّن منه الغرور، واحتاج الجنونُ كما يحتاج الجمالُ إلى كبريائه إذا حاطتْه الأعين — أدار بصره في المكان، ثم قال: أفٍّ لكم ولما تصبرون عليه من هذا النديِّ في ضوضائه ورِعاعه وغَوغائه. إن هؤلاء إلا أخْلاط وأوْشاب وحُثَالة. هذا الجالس هناك. هذا الواقف هنالك. هذا المستوفز. هذان المتقابلان. هؤلاء المتجمِّعون. هذا كله خيالُ حقيقةٍ في رأسي. ما هي؟ ما هي؟
هذا التصايُح المنكَر. هذا الضرب بحجارة النَّرْد. هذه الزحمة التي انغمسنا فيها. هذا المكان الهائج من حولنا، هذا كله خيال حقيقة في رأسي. هي، هي، هي.
فحَرِدَ الآخرُ واغتاظ وجعل يُتمْتِم بينه وبين نفسه.
قال «النابغة»: ما كلام تَطِنُّ به طنين الذبابة أيها الخبيث؟
قال: «مما حفظناه»: أن من علامات الأحمق أنه إذا استُنطِق تجَلَّف، وإذا بكَى خَار، وإذا ضحك نَهقَ. كما فعلت أنت الساعة، تقول: هَاءْ، هُوءْ، هِيءْ …
فتغيَّر وجهُ «النابغة»، ونظر إليه نظرة منكرة، وهمَّ أن يقتحِم عليه، وقال: أيها المجنون، لماذا تَضطَرُّني إلى أن أجيبك جواب مجنون … لا نجوتُ إنْ نجوتَ مني!
فأسرع «ا. ش»، وأمسك به؛ واعترض من دونه «س. ع»، وقال له: أنتَ بدأتَه والبادئ أظلم.
قال: ولكن — ويحه — كيف قال هذا؟ كيف لم يقل إلَّا هذا؟ كيف لم يجد إلا هذا يقوله؟ أنابغة القرن العشرين أحمق، وقد أوْحَدَه الله في القرن العشرين؟ لهممتُ — والله — أن أكسِرَ الذي فيه عيناه؛ فما يقول إلا أني أحمق القرن العشرين …
•••
قلت: إن كان هذا هو الذي أغضبك منه؛ ففي الحديث الشريف: «ليس من أحد إلا وفيه حَمْقَةٌ، فبِهَا يعيش.» والحياة نفسها حماقة منظَّمة تنظيما عاقلا؛ وما يُقبِل الإنسان على شيء من لذَّاتها إلا هو مُقبِل على شيء من حماقاته، وأمتعُ اللذة ما طاش فيه العقل وخرج من قانونه؛ ولولا هذا الحمق في طبيعة الإنسان لما احتمل طبيعة الحياة، أليس يُخَيَّل إليك أن أكثرك غائب عن الدنيا وأقلك حاضر فيها، وأن يقظتك الحقيقية إنما هي في الحُلم وما يُشبه الحلم، كأنك خُلقْتَ في كوكب وهبطت منه إلى كوكبنا هذا، فما فيك للأرض ولا فيها لك إلا القليل يلتئِم بعضه ببعضه، وأكثركما متنافِر أو متناقِض أو متراجِع؟
قال: بلى.
قلت: فهذا القليل هو الحَمْقَة التي بها تعيش، وهو أرضية الأرض فيك؛ أما سماوية السماء فبعيدة لا تحتمِلُها طبيعة الأرض؛ ولهذا يعيش أهل الحقيقة عيش المجانين في رأي المغرورين الذين غرَّتْهم الحياة الفانية، أو المخدوعين الذين خدعتهم الظواهر الكاذبة؛ فكلما أتَوْا عملًا من الأعمال السامية انتهى إلى الحَمْقَى معكوسًا أو محوَّلًا أو معدولًا به؛ ولعل هذا أصح تفسير للحديث الشريف: «أكثر أهل الجنة البُلْه.»
قال المجنون الآخر: «مما حفظناه»: أكثر أهل الجنة البُلْه.
فقال «النابغة»: المصيبة فيك أنك أنت هو أنت؛ ألا فلْتَعْلَمْ أنك من بُلَهَاء البيمارستان لا من بُلْهِ الجنة …
قلت: ثم إن الموت لا بد آتٍ على الناس جميعًا، فيسلبهم كل ما نالوه من الدنيا، ويُلْحِق مَن نال بمَن لم ينَلْ؛ فمَن ذا الذي يُسَرُّ بأن ينالَ ما لا يبقَى له، إلَّا أن يكون سروره من حماقته؟ ومن ذا الذي يحزن على أن يفوته ما لا يبقى له، إلا أن يكون حُزْنه حماقة أخرى؟ وأيُّ شيء في الحب بعد أن ينقضي الحب إلا أنه كان حماقة ضربت في الحواسِّ كلها ملأت النفس؛ ثم ملأت النفس حتى فاضتْ على الزمن؛ ثم فاضت على الزمن حتى خبَّلت العاشق تخبيلًا لذيذا تصغُر فيه الأشياء وتكبر، ويجعل الواقع في النفس غيرَ الواقع في دنياها؟ يُشبِّه كلُّ عاشق حبيبته بالقمر، فهَبِ القمر سمع هذا وفهمه وعناه أن يجيب عنه، فماذا عساه يقول إلا أن يَعْجَبَ من هذا الحُمْق في هذا التشبيه؟
•••
فهدأ «النابغة» وسكن غضبه وقال: صدقتَ، ولهذا أنا لا أشبِّه حبيبتي بالقمر.
قلت: فبماذا تشبهها؟
قال: لا أقول لك حتى أعلم بماذا تشبِّه أنت حبيبتك. قلت: وأنا كذلك لا أشبِّهها بالقمر.
قال: فبماذا تشبهها؟ قلت: حتى أعلمَ بماذا تشبِّه أنت …
قال: هذا لا يُرضَى منك وأنت أستاذ «نابغة القرن العشرين»، ولك حبائب كثيرات عدَدَ كُتُبك، وقد أعجبتني منهن تلك التي في «أوراق الورد»، وأظنك أحببتها في شهر مايو من سنة … من سنة …
قال المجنون الآخر: من سنة ١٩٣٥؛ ها أنا ذا قد نبَّهتُك.
قال: يا ويلك! إن «أوراق الورد» ظهرت من بضع سنين، إنما أنت من بُلَهاء البيمارستان لا من بُلْه أوراق الورد … ماذا كنتُ أقول؟
قال «ا. ش»: كنتَ تقول: هذا لا يُرضَى منك ولك حبائبُ كثيرات.
قال «س. ع»: وللألفاظ ألوان عندك؟
قال: لو كنت نابغة لأبصرت في داخلك أخيلة من الجنَّة؛ ألم يقل أستاذنا آنفًا عن «نابغة القرن العشرين»: إنه هبط من كوكب إلى كوكب؟ ففي كوكبنا الأول يكون لنا سمع ملون؛ وحِسٌّ ملون نسمع قرع الطبل أزرق، ونفخ البوق أحمر، ورنين النغم الحلو أخضر، والوجود كله صور ملونة، سواء منه ما يُرى وما يُحَسُّ، وما هو مستخفٍ وما هو ظاهر.
ثم أومأ إلى المجنون الآخر وقال: واسم هذا الأبله كلفظ الحبر، لا أسمعه إلا أسود …
•••
وسكت «النابغة» وسكتنا؛ فقال له «س. ع»: ما لك لا تتكلم؟ قال: لأني أريد السكوت. قال: فلماذا تريد السكوت؟ قال: لأني لا أريد أن أتكلم …
وتحرك في نفسه الغيظ من المجنون الآخر، فرمى بعينه الفضاء ينظر اللاشيء وقال: إذا أصبح كل النساء ذوات لِحًى أصبح هذا عاقلًا … فدقَّ الآخر برجله دقات معدودة؛ فثار «النابغة» وقال: مَن هذا يشتمني؟
قال «س. ع»: لم يشتمك أحد، هذا خَفْقُ رِجْل على الأرض.
قلت: هذا منك أظرف من نادرة أبي الحارث. قال: وما نادرة أبي الحارث؟ وهل هو نابغة؟
قال «النابغة»: ولكنَّ فرقًا بين أبي الحارث وبين «نابغة القرن العشرين»، فإن من العجائب أني ربما نظرت إلى الرجل وهو يأكل فأجد الشِّبَع، حتى كأنه يأكل ببطني لا ببطنه، ولكن من العجائب أن هذا لا يتفق لي أبدًا حين أكون جائعًا …
أما هذا المجنون الذي أمامنا، فربما أبصر الحمار على ظهره الحمل، فيشعر كأن الحمل على ظهره هو لا على ظهر الحمار.
قال الآخر: «مما حفظناه» أنه سُرِقَ لأعرابي حمارٌ، فقيل له أَسُرِق حمارك؟ قال: نعم، وأحمد الله. فقيل له: على ماذا تحمده؟ قال: على أني لم أكن عليه حين سُرق … فأنا إذا رأيت حمارًا مُثقَل الظهر، حمدت الله على أن الحمل لم يكن عليَّ، لا كما يقول هذا. ثم دقَّ برجله دقات …
فاستشاط «النابغة» وقال: أسمعتم كيف يقول إني مجنون، ثم لا يكتفي بهذا بل يقول إني حمار على ظهره الحمل؟
قلت: ينبغي أن تتكافَّا، وهذا لا يعيبُك منه ولا يعيبه منك، فإن مِن تواضُع «النوابغ» أن يشعروا ببؤس الحيوان، فإذا شعروا ببؤسه دخلتهم الرِّقة له، فإذا دخلتهم الرِّقة صار خيال الحمل حملًا على قلوبهم الرقيقة؛ وقد يصنعون أكثر من ذلك: حَكَى الجاحظ عن ثُمامة قال: كان «نابغة» يأتي ساقيةً لنا سَحَرًا؛ فلا يزال يمشي مع دابته ذاهبًا وراجعًا في شدة الحرِّ أيام الحر، وفي البرد أيام البرد، فإذا أمسى توضأ وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهمِّ فرجًا ومخرجا، فكان كذلك إلى أن مات!
قال المجنون الآخر: «مما حفظناه»: ثمرة الدنيا السرور، ولا سرور للعقلاء، فلو لم يكن هذا أعقلَ العقلاء لما مُحِق سروره في الدنيا هذا المَحْق إلى أن مات غمًّا، رحمه الله!
•••
قال «س. ع»: فاعفُ الآن عن صاحبك ولا تذبحه بالهجاء.
قال: لقد ذكَّرتني من نسيان، وهذا المجنون يرى نسياني من مرض عقلي، وكان الوجه — لو تَهَدَّى إلى الحقيقة — أن يراه شذوذا في العقل، أي: نبوغًا عظيمًا كنبوغ ذلك الفيلسوف الذي أراد أن يتَثَبَّت في كم من الزمن تُسلَق البيضة؛ فأخذ بيده الساعة وبيده الأخرى بيضة، ثم نسي نسيان النبوغ، فألقى الساعة في الماء على النار، وثبتَتْ عينه على البيضة ينظر فيها على أنها هي الساعة. ولو قد رآه هذا الأبلهُ لزعمه مجنونا كما يزعمني، فإن المجانين يرون العُقَلاء مرضى بمواهبهم وأعمالهم التي يعملونها.
وأنا فليس يُهيجني شيء ما تُهيجني كلمات ثلاث: أن يُقال لي: مجنون، أو أبله، أو أحمق. فمَن رغب في صحبتي فليتجنب هذه الثلاث كما يتجنب الكفر والكفر والكفر …
قال «ا. ش»: فإذا قيل لك مثلا. مثلا. أيْ على التمثيل: مغفَّل.
فحكَّ رأسه قليلًا وقال: لا، هذه ليستْ من قدري …
قلت: فبعض الكلمات إذا قطعت عندك غيرت الحقائق، كذلك القرن الذي قطع فرد البقرة فرسا؟
قال: وكيف كان ذلك؟
قال «النابغة»: هذا غير بعيد، فقد رأيتُنا حين ذبحنا العنز وكسرنا قرنيها أعدناها كلبة سوداء، فتقذَّرتها وعِفْتُ لحمها ولم أطعمْ منها.
ثم أومأ إلى الآخر وقال: هذا لا يدري ما طَحَاها، وهو مثل العنز: تحسب قرنيها للقتال والنِّطاح ومنهما تُمسَك للذبح؛ فقل في هذا يا أستاذَ «نابغة القرن العشرين».
قلت للآخر: أيُرضيك أن أقول في المعنى لا فيك أنت …؟ قال: نعم. فكتبتُ هذه الأبيات على ما يريد النابغة:
•••
وسُرَّ «النابغة» وازدهى، وجعل يقول: طالَتْ لِحَالها، طالت لحاها، وما كان هذا إلا السرور الأصغر؛ أما سروره الأكبر فمجيء ساعي «البريد المستعجل» إلى النديِّ، وفي يده رسالة عنوانها: نابغة القرن العشرين فلان، بنديِّ كذا.
وجعل الرجل يهتف بالعنوان يسأل عن صاحبه؛ فتطاولَتْ أعناقُ الناس، ورفعوا أبصارَهم ينظرون إلى «نابغة القرن العشرين» وقد مدَّ يده يتناول الرسالة وكأنه مَلِكٌ من القدماء أُسقِط له كتاب بالفتح العظيم وبضمِّ دولة إلى دولته.