فرنسا
خلاصة تاريخية
اشتُهرت هذه البلاد ببسالة أهلها في أيام الرومانيين والمعارك الكثيرة التي جَرَتْ بينهم وبين قُوَّاد رومة، وكانوا يسمُّونها وقتئذٍ «غاليا»، ويعرفون الأهالي باسم «فرانك» أي الأحرار؛ نظرًا لما عُرِفَ عنهم من الميل إلى الحرية والاستقلال، ثم توسَّع الناس في هذا الاسم فجعلوه عامًّا لكلِّ الأوروبيين، وأخذه العرب عنهم فجعلوه الإفرنج أو الفرنجة كما تعلم وحُرِّفَ قليلًا بإبدال الكاف سينًا فصار «فرانس»، وهو اسم فرنسا اليوم. وليس يُعْرَفُ عن ملوكها الأقدمين ما يُذْكَر قبل واحد اسمه ميروفيوس أسَّس الدولة الميروفنجية، وأشهر أفرادها كلوفيس الأول وُلِّي سنة ٤٨١ وهو في العشرين من عمره وحارب الرومان وأجزاء فرنسا وألمانيا؛ فانتصر في كلِّ حروبه وجعل باريس قاعدة مملكته واقترن بابنة ملك بورغونيا فعلَّمته الدين المسيحي وحَمَلَتْهُ على اعتناقه، فكان من وراء ذلك أن فرنسا كلها تمثَّلت بملكها الهُمَام وصارت بلادًا مسيحية من ذلك الحين، ومات كلوفيس سنة ٥٩١ مسيحية فَخَلَفَهُ أولاد له أربعة وكلهم ضعفاء الرأي بلا تدبير فتضعضعت أحوال المملكة وقلَّت هيبة الملوك وانتقلت السلطة منهم إلى رؤساء البلاط الملوكي، وكانت وظيفة رئاسة البلاط قد صارت وراثية في عائلة رجل اسمه بين أرسنال، قام من نسله شار مارتل القائد الشهير الذي انتصر على العرب سنة ٧٣٢ بين مدينتَي تور وبواتييه في فرنسا وأرجعهم عن أوروبا، ويُعَدُّ انتصاره في تلك السنة من أعظم الحوادث التاريخية؛ لأنه غيَّر تاريخ أوروبا وأبقى الغرب للغربيين بدل أن يستولي عليه العرب.
ولمَّا مات شارل مارتل هذا ورِثَ الوظيفة — رئاسة البلاط الملوكي — والقوة ابنه بين القصير، وصار المَلِكُ في أيام هذا الوزير بلا مركز يُعْرَف حتى إن البابا وافق الوزير على اختلاس المُلك فَعَزَل آخر ملوك الدولة الميروفنجية واسمه شلدرك، وتُوِّج بين القصير ملكًا في سنة ٧٥١ فكان ذلك بدء الدولة الثانية في فرنسا وتُعْرَف باسم الكارلوفنجية.
ومات بين هذا في سنة ٧٦٨ بعد أن مَلَكَ البلاد ١٧ سنة فأورث المُلْكَ من بعده لابنيه شارل وكارلومان، مات الثاني منهما بعد حين واستبدَّ شارل بالمُلْكِ وهو الذي اشتُهر في التاريخ باسم شارلمان — أي شارل الكبير — أُعطي هذا اللقب عن استحقاق؛ لأنه كان مديرًا حكيمًا وقائدًا باسلًا وملكًا عظيمًا حارب في كلِّ جهة وانتصر على كلِّ الأعداء فوسَّع دائرة مملكته وجعلها متَّصلة من آخر حدود فرنسا الغربية إلى حدود الرين والدانوب، وضمَّ جزءًا كبيرًا من النمسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا إلى مملكته، وكان في أيَّامه أعظم ملوك الزمان لا يضارعه في الشُّهْرَة غير هارون الرشيد سلطان العرب وكان بين الاثنين وداد ومخابرة، وظلَّ هذا الملك العظيم يفتح البلدان ويتقدَّم حتى تُوِّجَ سنة ٨٠٠ إمبراطورًا على يد البابا في رومة، وكان تتويجه يوم عيد الميلاد من السنة المذكورة ومات شارلمان سنة ٨١٤، وهو في الثانية والسبعين من عُمُرِه فَخَلَفَهُ ابنه لويس دبوناير وجعل أيكس لاشايل قاعدة مملكته، وما لبث زمانًا حتى قسَّم المملكة على أولاده وهو حيٌّ فجعلوا يتخاصمون ويتحاربون بسبب ضعف أبيهم حتى انفصلت إيطاليا وألمانيا عن مملكة فرنسا وضعفت تلك السلطنة، وكان جميع ملوكها بعد شارلمان ضعافًا لا يستحقُّون الذِّكْر إلى أن قام في أيام لويس الخامس المعروف بالكسلان وزير اسمه «هوك كاييت» اختلس المُلْكَ من مولاه، وأسَّس دولة تُعْرَفُ باسم كاييت في سنة ٩٨٧.
وقد قام من بيت كاييت فروع ملوكية كثيرة، مثل آل فالوا وأورليان وبوربون وفيليب، ومن هؤلاء فيليب الثاني الملقَّب بأوغسطس ملك البلاد سنة ١١٨٠ واتحد مع ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنكليز على تجريد الحملات لمحاربة الترك والعرب في فلسطين مدة الحروب الصليبية المشهورة.
ونَمَت البلاد قليلًا وتقدَّمت في حكم فيليب الثالث من ملوك هذه العائلة ما بين سنة ١٢٧٠ و١٢٨٤، ولكنها عادت إلى الضعف في أيام فيليب الخامس وحدثت في تلك المدة حروب طويلة بين إنكلترا وفرنسا تُعْرَف بحرب المائة سنة، كان معظم النصر فيها للإنكليز حتى إن هنري الخامس ملك إنكلترا تقدَّم بجيش صغير على فرنسا وحارب جنودها في معركة أجنكور سنة ١٤١٥ فانتصر انتصارًا باهرًا وتقدَّم على باريس، ففرَّ منها ملكها الضعيف شارل السادس، وامتلك الإنكليز مملكة فرنسا مدة ٩ سنوات حتى إذا مات هنري الخامس ملك إنكلترا، وهو يومئذٍ أشهر قُوَّاد زمانه عاد الفرنسويون إلى السعي في الاستقلال، وتمَّ لهم ذلك سنة ١٤٥٠ على يد فتاة اسمها جان دارك اعتقدت أنه جاءها وحيٌ بطرد الإنكليز، وألحَّت على ملك بلادها المعزول وأمرائه أن يسلِّموها قيادة جيش، فلمَّا نالت بُغْيَتَها تقدَّمت في طليعة الجيش على الإنكليز وحاربتهم فانتصرت عليهم في جميع المواقع وهي عذراء في الثامنة عشرة من عمرها، ولكن جوادها كَبَا بها في الموقعة الأخيرة فأُخِذَتْ أسيرة وقَتَلَهَا الإنكليز حَرْقًا بالنار؛ لأنهم زعموا أنها ساحرة فما أفادهم ذلك؛ لأن انتصار جان دارك أعاد فرنسا إلى أهلها.
ولهذه الفتاة ذكر عظيم في التاريخ وشهرة كبرى في فرنسا، وهي تُعَدُّ عندهم في جملة القدِّيسين، ولها في باريس تمثال أمام قصر التولري وعدة آثار وتماثيل أخرى في كل جوانب فرنسا.
ولمَّا استقلت فرنسا شَرَعَ ملكها شارل السابع في إصلاح شئونها، وكان عاقلًا حكيمًا وخلفه ابنه لويس الحادي عشر فحذا حذو والده واهتمَّ بالطباعة، وكانت يومئذٍ شيئًا حديثًا اهتدى إليه جوتنبرج سنة ١٤٥٠، فنقله الملك إلى باريس ونشط العلم والصناعة بكل قواه، وخلفه ابنه شارل الثاني وكان هُمَامًا حارب إيطاليا ومَلَكَ جزءًا كبيرًا منها ثم أضاعها ومات في شرخ شبابه؛ فخلفه لويس الثاني عشر الذي أعاد جزءًا من شمالي إيطاليا إلى مملكته، ثم خلفه فرانسوا الأول، وهو من أشهر ملوك فرنسا وأقدرهم، حارب في عدَّة مواقع، ولكن خصمه في أكثر الحروب كان أوسع منه سلطانًا وأكثر جنودًا وهو كارلوس الخامس ملك إسبانيا وإمبراطور ألمانيا، فكان النصر في أكثر المعارك لكارلوس، ولكن هذا لم يُنْقِص من قدر فرانسوا الذي يُعَدُّ من أعظم ملوك فرنسا، ومات هذا الملك سنة ١٥٤٧ فخَلَفَه ابنه هنري الثاني، ولم يكن له ذكر في التاريخ غير أنَّ الخلاف كبر في بلاده بين الكاثوليك والبروتستانت واشتدَّ في أيام ابنه هنري الثالث وحفيده فرانسوا الثاني، وحصلت في تلك المدة حروب كثيرة بين الحزبين، اشتُهر فيها البرنس كوندي والبرنس هنري نافار الذي مَلَكَ فرنسا بعد ذلك باسم هنري الرابع والأميرال كوليني وكلهم من قُوَّاد البروتستانت، وكان من أمر المتحاربين أنهم تصالحوا بعد حروب أهلية طويلة في أيام شارل التاسع ملك فرنسا الذي مَلَكَ البلاد في التاسعة من عمره سنة ١٥٦٠، وكان تحت وصاية أمه كاترين ده مديسي، ولكن الحزازات ظلَّت تحك في الصدور وساعد على إنمائها تعصُّب الملك وأمه، فدبَّر حزب الكاثوليك دسيسة لقتل البروتستانت جميعهم في ليلة واحدة في كل أنحاء فرنسا، واتفقوا على أن يكون اليوم ٢٣ أوغسطس من سنة ١٥٧٢، وهو يوم عيد القدِّيس برثلماوس، فلمَّا جاء الموعد قام الكاثوليك على إخوانهم البروتستانت وقَتَلوا منهم ألوفًا.
وظلَّت البلاد في ارتباك إلى آخر حكم هنري الثالث، فلما قُتِلَ في سنة ١٥٨٩ ورثه هنري الرابع الذي ذكرناه وكان حكيمًا عالمًا عادلًا كثير الذكاء، ولكن مذهبه البروتستانتي أبعد عنه قلوب الكاثوليك من رعاياه؛ فاعتنق مذهبهم، ولمَّا استتبَّ له المُلْكُ أصلح ما اختلَّ من أموره وقرَّر النظامات العادلة وأطلق الحرية للأديان، وكان — بوجه الإجمال — من أعقل ملوك فرنسا وأعظمهم، ولكنه قُتِلَ بيد راهب كثير التعصُّب سنة ١٦١٠، وخلفه لويس الثالث عشر ابنه، وكان يومئذٍ في التاسعة من عمره فجُعِلَت والدته ماري ده مديسي وصية عليه، وكانت امرأة عاقلة استوزرت الكردينال ريشيلو المشهور؛ فأظهر الرجل من معجزات الاقتدار والدهاء ما حيَّر أوروبا، وحارب ألمانيا وإيطاليا وسواهما حروبًا طويلة كان النصر في أكثرها لفرنسا، وهي تُعْرَف بحروب الثلاثين سنة من سنة ١٦١٨ إلى سنة ١٦٤٨، وقد أسَّس ريشيلو هذا مجمع العلوم الفرنسوي المعروف باسم «أكادمي» ورفع فرنسا بحسن تدبيره إلى أرفع الذُّرَى، ولكنه كان حقودًا طمَّاعًا، واشتغل كلَّ عمره بالفتن والدسائس، ومات لويس الثالث عشر فورثه حفيده لويس الرابع عشر، وهو طفل في الخامسة من عمره، فجُعلت أمه ماري هايسبِرْج وصية عليه حتى إذا بلغ أشُدَّه واستلم زمام الملك أظهر اقتدارًا عظيمًا، وكان أعظم ملوك زمانه بلا مراء، وحارب هذا الملك إسبانيا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وهولاندا وكان النصر في أكثر الحروب له، ولكن الإنكليز انتصروا عليه في عدَّة معارك أشهرها معركة بلنهيم وقائدهم يومئذٍ الديوك أوف مارلبرو من بيت تشرتشل المشهور. وكان الكردينال مازارين وزيره في أوائل حكمه، فأصلح له مالية البلاد إصلاحًا تامًّا وسارت فرنسا في سبيل العزِّ مدة هذا الملك حتى عُدَّت أكبر دول أوروبا. ومات لويس الرابع عشر في السنة الثانية والسبعين من عمره بعد أنْ حَكَمَ ٦٥ سنة، وهو أطول حكم في تاريخ ملوك أوروبا وكان موته في سنة ١٧١٥، واشتُهر حكم هذا الملك العظيم بتقدُّم العلم والصناعة وقيام الأبطال الكثيرين وبناء القصور الفخيمة، منها قصر ملوك فرنسا في فرسايل من ضواحي باريس، ولكنه اشتُهر أيضًا بإبطال معاهدة نانت التي أُبرمتْ في أيام هنري الرابع وأُعطي الناس فيها حرية الضمير والأديان؛ فنشأ عن رجوعه إلى التعصب أنَّ البروتستانت نزح أكثرهم من فرنسا إلى إنكلترا وبلغ عدد المهاجرين نحو خمسمائة ألف نفس، أكثرهم من أهل الذكاء والصناع الماهرين، فخسرت فرنسا معارفهم وكسبتها إنكلترا، وكان رحيلهم من الحوادث المشهورة في تاريخ لويس الرابع عشر.
وخَلَفَهُ لويس الخامس عشر، وكان فاترَ الهمَّة كثيرَ الميل إلى اللهو منغمسًا في اللذَّات، جَمَعَ في قصره النساء الحِسَان من كلِّ ناحية، وآثر معاشرتهنَّ على تدبير مهامِّ المُلْكِ، وكثر ظلم الحكام في أيامه وزاد تبذير البلاط الملوكي عن الحدِّ المعتاد، فكانت الحكومة تلجأ إلى ابتزاز الأموال اللازمة لذلك التبذير بالعنف والقسوة من الأهالي، وشاعت عن الملك أمور كثيرة نَفَرَ منها الناس فكانوا يقرءون كتابات فولتير وغيره من الذين مهَّدوا السبيل للثورة، وحدث في أيامه أنَّ ولاية اللورين سُلِخَتْ من ألمانيا وضُمَّتْ إلى أملاك فرنسا، وأن جزيرة كورسيكا أُخِذَتْ من إيطاليا وضُمَّت إلى مملكة فرنسا أيضًا، ومات لويس الخامس عشر سنة ١٧٧٤.
وكان لويس السادس عشر الذي خَلَفَه وحدثت الثورة في أيامه رجلًا بسيط البنية سليم القلب محبًّا لخير رعاياه، إلا أنه كان ضعيف الرأي فلم يقدر على إيقاف تيار الأفكار الذي قاد الأهالي كلهم إلى كُرْهِ الملوك والأمراء؛ فحاول جَهْدَه أن يرضي الأمة وجمع مجلس نواب فتحه بنفسه وعَرَضَ على أعضائه كلَّ ما يمكن للملك إعطاؤه للأمة من الحقوق، وتساهل ما أمكن التساهل فلم يهدأ غضب الشعب، وظلُّوا على الهياج حتى لم يبقَ للملك سلطة وأحاطوا بقصره يقصدون قتله وقَتْلَ أفراد عائلته، وعاث الثائرون في البلاد مفسدين وارتكبوا الأهوال والفظائع، وعمَّت في البلاد فوضى غريبة وثورة على الأغنياء والأمراء ورؤساء الدين، فلمَّا رأى الملك أنه لا يمكن له استرجاع الملك بعد ذلك الهياج حاول الفرار مع عائلته فعَرَفَه بعضهم في وسط الطريق، وأرجعوا العائلة المالكة إلى باريس ذليلة مهانة، وهنالك أقاموا عليها الحَجْر وتولَّى الأمر رجال الثورة وزعيمهم يومئذٍ رجل لا ذمَّة عنده ولا إشفاق ولا شعور اسمه روبسبير، فبعد أن طال زمان فظائعهم وقتلوا ألوفًا من نبلاء فرنسا، قادوا الملك إلى المحاكمة وأجمعوا على أنه خان المملكة وحكموا عليه بالإعدام؛ فأُعْدِمَ في ساحة الكونكورد بباريس في صباح ٢١ يناير من سنة ١٧٩٣، ولمَّا وقف على آلة الذبح — والفرنسويون يعدمون المجرمين ذبْحًا لا شنقًا بآلة قاطعة يسمونها جيليوتين — خاطب الحاضرين قائلًا: «أيها الفرنسويون، إنني أموت بريئًا مما اتهمني به هذا الشعب، وأسامح الذين يريدون قتلي، وأطلب إلى الله ألَّا يحمِّل فرنسا مسئولية سفك دمي.» ولم تُسْمَع بقية كلامه؛ لأن الطبول قُرعت وعَلَتْ ضوضاء المنتقمين وأُعْدِمَ لويس السادس عشر، وهو لم يقم بين ملوك فرنسا أطيب منه قلبًا ولا أسلم نية، وزاد رجال الثورة في الهول والفظائع بعد ذلك فاتهموا الملكة ماري أنتوانت — وهي ابنة ماريا تريزا إمبراطورة النمسا المشهورة — بالاشتراك في الخيانة، وحكموا عليها بالإعدام فقادوها إلى الجيليوتين محمَّلة على عربة حقيرة للأبضعة، وقبل أن تسقط الآلة القاتلة على عنقها صرخت: «يا إلهي أسألك أن تسامح قاتلي.» وهكذا سُفِكَ دم امرأة لا ذنب لها، وتمَّت فظائع الثورة الفرنسوية بأن سُجِنَ بقية أعضاء العائلة المالكة، ومات وليُّ العهد وهو صبي معذَّبًا في سجن كثير الظلام.
وتمادت فرنسا في المبادئ الثوروية فهاج شعبها هياجًا عظيمًا، وما أبقوا على كبيرٍ ولا أثر للنظام الملوكي ونادوا بالحرية والإخاء والمساواة، وأعلنوا في الأقطار أنهم يساعدون كلَّ أمة على ثلِّ عرش الملوك فيها، ونيل الحرية والاستقلال؛ فأرجف إعلانهم الملوك واهتزَّت لذلك ممالك أوروبا، وبدأ أصحاب النفس الأمَّارة بالسوء في بقية الممالك يفكِّرون في الثورة؛ فاتحد أكثر ملوك أوروبا على محاربة الفرنسويين وإذلالهم قبل أن يستفحلَ أمرهم وتعمَّ مبادئهم، ولكن شبان فرنسا كانوا قد ثملوا بخمرة الثورة والاستقلال؛ فحاربوا الأعداء حربًا شيَّبت الولدان وأظهروا من البسالة ما حيَّر العقول وانتصروا على جميع الأعداء وردُّوهم عن حدود فرنسا.
وفي سنة ١٧٩٣ اجتمع نُوَّاب المملكة بعد كلِّ تلك الأهوال وانتخبوا ١٢ عضوًا من رفاقهم لإدارة الأحكام فأداروها على نَسَقٍ غريب من الفظاعة والشناعة حتى ألقوا الرعب في كلِّ القلوب، وسُمِّي حكمهم «بحكم الرعب»؛ لكثرة ما قُتِلَ فيه من الناس، وما حدث من الأمور المغايرة لطبع الإنسان، من ذلك أنَّهم غيَّروا أسماء الأشهر وحساب السنة، وسارت فرنسا على نظام جديد جُعلت سنة الثورة بدء سنيه، وذُبِحَ على الجيليوتين ألوفٌ من الأبرياء حتى نَفَرَ الناسُ من فظائع تلك الحكومة، وقادوا رؤساءها وأشهرهم روبسبير — الذي ذكرناه — ودانتون إلى المجزرة فضربوا أعناقهم وأراحوا البلاد منهم، وقامت على إثر ذلك حكومة جمهورية جديدة اسمها «ديركتوار» أو الإدارة، وهي الجمهورية الفرنسوية الأولى، كانت مركَّبة من ٥ أشخاص يحكمون البلاد برأي مجلسين: أحدهما مركَّب من ٥٠٠ نائب والثاني من ٢٥٠ نائبًا ودامت هذه الحكومة إلى سنة ١٧٩٩ حين أُبْدِلَتْ بحكومة القنصلية.
وبينا البلاد في حرب واضطراب قام فيها شاب غريب الذكاء عجيب الاقتدار كان جنديًّا بسيطًا لا يعْرِفُ الناس عنه شيئًا حتى إذا شَرَعَ الإنكليز والطليان في محاصرة طولون كان هو حاضرًا تلك المعركة وأبدى من حسن الرأي والبسالة ما أعاد المدينة إلى قبضة الفرنسويين، وكان ذلك الشاب نابوليون بونابرت المشهور، ولعلَّه أعظم قُوَّاد الأرض من يوم ذُكِرَ للناس حرب وقيادة، ولا حاجةَ إلى سَرْدِ تاريخ هذا الرجل العظيم هنا، ولكننا نكتفي بالقول إن حكومة الديركتوار اتصل بها ذكاؤه فرقَّتْهُ حتى جعلته قائد جيش، حارب ألمانيا والنمسا وإيطاليا وانتصر في كل المعارك انتصارًا باهرًا، وضمَّ إيطاليا إلى مملكة فرنسا وسنَّ لها القوانين والنظامات وطَرَدَ جنود النمسا منها، ثم عاد إلى باريس فتلقَّاه الشعب بسرور عظيم واحتفلوا به احتفالًا لا مثيل له، وارتفع ذكره بين الناس إلى حدِّ أن حكومة الديركتوار بدأت تحسب لشهرته حسابًا، فعرضت عليه قيادة العمارة البحرية لمحاربة إنكلترا وغزو شطوطها، ولكنه آثر أن يغتصب الهند منها أولًا وطلب جيشًا يسير به إلى مصر والشام ليفتحهما ويتقدَّم إلى الهند، فجنَّدت له الحكومة ٣٠ ألفًا سار بها إلى مصر في تلك الحملة المشهورة، فانتصر ثم خُذِلَ في الشام وتحطم أسطوله في أبي قير واضطرَّ إلى الرجوع إلى فرنسا، فلمَّا وصلها قَلَبَ الحكومة وجعلها قنصلية يحكمها ثلاثة قناصل هو أولهم، وحارب النمسا وإيطاليا مدة القنصلية فانتصر عليهما ثم رُقِّيَ إلى رتبة إمبراطور في سنة ١٨٠٤ فصار أعظم أهل زمانه.
وقامت أوروبا على بونابرت بعد هذا الارتقاء، فحاربها وانتصر في كلِّ جهة حتى إنه نَظَّم الممالك الجديدة وتصرَّف بالبلدان، فأنشأ مملكة بافاريا في ألمانيا وجعل صهره مورات ملكًا عليها، ونَصَّبَ أخاه يوسف ملكًا على نابولي وإسبانيا، وعيَّن أخاه لويس ملكًا لهولاندا، وأخاه جيروم ملكًا لوستفاليا في ألمانيا، وقسَّم ألمانيا تقسيمًا حتى أضعفها، ولعله نظر بذلك إلى صالح فرنسا وخاف على بلاده من اتحاد الجرمانيين عليها كما حقَّقت الأيام ظنونه، وظلَّ ينصِّب الملوك ويعزل ويولِّي حتى دانت أوروبا له بعد انتصاراته الباهرة، ما خلا إنكلترا؛ فإنه حاول عَزْلها وعقد المحالفات مع الدول على قَطْعِ المخابرات معها، فأخلفت روسيا وعدها من هذا القبيل، وقام لمحاربتها فدخل بلادها ووصل موسكو، ولكن اتساع البلاد ومقاومة الأهالي أضْنَتْ قواه فعاد من روسيا وقد فشل لأول مرة في حروبه، فلمَّا وصل فرنسا في سنة ١٨١٢ جنَّد جيشًا جديدًا وَخَرَجَ لمحاربة الدول المتَّحدة عليه، وهي روسيا وإنكلترا والنمسا وبروسيا، فغُلِبَ وتقهقر إلى باريس، ومن ثَمَّ دخل ملوك الدول المتحدة عاصمة فرنسا وعَزَلُوا نابوليون وولَّوا مكانه لويس الثامن عشر، وهو أخو لويس السادس عشر الذي قُتِلَ في الثورة، ونُفِيَ نابوليون إلى جزيرة ألبا في البحر المتوسط، ولكنه ما عتَّم أن رأى جنود الدول راحلة عن باريس حتى عاد إليها في سنة ١٨١٤، وجنَّد جيشًا جديدًا قام ليحارب به الدول فكانت آخرته في معركة واترلو التي ذكرناها في تاريخ البلجيك.
وأُخِذَ بونابارت بعد أن سلَّم نفسه للإنكليز أسيرًا ونُفِيَ إلى جزيرة القدِّيسة هيلانة في الأوقيانوس الأتلانتيكي عند شطوط أفريقيا الجنوبية، حيث تُوفِّي في ٥ مايو سنة ١٨٢١ ونُقِلَتْ عظامه بعد ذلك إلى باريس باحتفال عظيم.
وكان لهذا القائد العظيم زوجة اسمها جوزفين عاشت معه إلى أن صار إمبراطورًا ولم تلد له نسلًا؛ فاضطرَّ إلى الاقتران بغيرها ليُولد له مَن يرث الملك العظيم عنه؛ ولهذا فإنه طلَّق جوزفين على كُرْهٍ من البابا ورجال الدين، واقترن بالأرشدوكة ماري لويز ابنة مكسميليان إمبراطور النمسا فرُزِقَ منها ولدًا واحدًا سُمِّيَ يوم ولادته ملك رومة، وأوصى له والده بمملكة فرنسا من بعده، فعُرِفَ باسم نابوليون الثاني، ولكنه لم يملك بعد أبيه ومات مسلولًا في قصر شونبرن من ضواحي فيينَّا.
واتفقت دول أوروبا بعد نَفْي نابوليون على إعطاء المُلك ثانيةً للويس الثامن عشر فعاد ومَلَكَ إلى يوم موته سنة ١٨٢٤ وخلفه أخوه شارل العاشر وحصلت في أيامه ثورة؛ لأنه أراد إدخال نظامات لم يوافق الشعب على إدخالها، فتنازل عن المُلْكِ وخلفه لويس فيليب من آل أورليان، ودامت دولته إلى سنة ١٨٤٨، وهي سنة الثورة الفرنسوية الثانية حين سقطت المملكة ونُودي بالجمهورية الثانية.
وتقدَّم لرئاسة الجمهورية لويس نابوليون ابن أخي نابوليون الكبير فانتُخِبَ رئيسًا في سنة ١٨٤٨، ثم نادى الرجل بنفسه إمبراطورًا سنة ١٨٥٢ ولُقِّبَ نابوليون الثالث، وأَحْسَنَ السياسة حتى صارت فرنسا في أيامه إلى أرفع مراكز العزِّ والشرف، وأصبحت باريس مركز سياسة الأرض، واسم نابوليون عنوان القوة في كل بلاد. وحاربت فرنسا دولة الروس سنة ١٨٥٤ بالاشتراك مع إنكلترا والدولة العَلِيَّة في حرب القرم وكان لها النصر، ثم حاربت الصين مع إنكلترا سنة ١٨٦٠ ونالت الفخر والنصر، وسنة ١٨٥٩ حدثت الحرب الإيطالية المشهورة وكانت فرنسا معضِّدة فيها لإيطاليا على النمسا ونالت النصر فاستقلَّت إيطاليا، وأخذت فرنسا بلاد سافوا ونيس أجرة مساعدتها. وسنة ١٨٦٢ حاربت المكسيك وانتصرت الجنود الفرنسوية فيها ونُصب مكسميليان أخو إمبراطور النمسا الحالي إمبراطورًا لها، وما زال السعد مرافقًا لنابوليون الثالث وبلاده في عزٍّ كبير ومركز منيع إلى أن كانت سنة ١٨٧٠، وحَدَثَت الحرب المشهورة مع بروسيا؛ فكُسِرَت فرنسا كسرة هائلة وسقطت الإمبراطورية، فعادت البلاد إلى النظام الجمهوري وأُسِّسَتْ جمهورية ثالثة كان أول رؤسائها الموسيو تيرس وتلاه المرشال مكماهون ثم الموسيو جريفي ثم الموسيو كارنو ثم الموسيو كازميربريه ثم الموسيو فلكس فور ثم الموسيو لوبيه ثم الموسيو فاليير الرئيس الحالي.
ولا حاجة إلى الإسهاب في تاريخ فرنسا مدة هؤلاء الرؤساء؛ لأن أكثره حديث باقٍ في الأذهان، ولكننا نقول على الجملة إن فرنسا كانت تحاول النهوض من سَقْطَتِهَا على عهد تيرس ومكماهون، فما أحسَّت بثمرة جهادها إلا في أيام جريفي، وهو الذي اضطرَّ إلى الاستقالة بسبب أعمال صهره التي ساءت جمهور الفرنسويين، وكان خلفه كارنو رجلًا عاقلًا تقدَّمت البلاد في أيامه، ولكنه اغتاله أحد الفوضويين فخلفه كزمير برييه واستقال بعد ارتقائه بقليل على إثر ظهور مسألة دريفوس المشهورة. وفي أيام فلكس فور تمَّت المعاهدة بين فرنسا وروسيا فتعزَّز مركز الجمهورية كثيرًا، وفي أيام لوبيه تصالحت إنكلترا وفرنسا واستقرَّت الجمهورية على شكلها الحالي، وأمَّا الموسيو فاليير رئيسها اليوم فإنه من العقلاء المعتدلين وسياسته ترمي إلى حفظ السلام والمصالحة مع جميع الأمم على السواء.
باريس
هي بإجماع الآراء أول مدائن الأرض زهاءً وبهاءً، وما رأى الناس من يوم قامت للحضارة قائمة نظيرًا لها في جمال شوارعها وميادينها ومتاحفها وحاناتها ومتنزَّهاتها، ويبلغ عدد سكانها الآن ثلاثة ملايين نسمة، وهي مركز التمدُّن الحالي ومقصد الطلاب السائحين يؤمُّونها من كلِّ صوب وحدب، فلا تخلو هذه المدينة العظمى من آلاف مؤلَّفة تجتمع فيها سواءٌ في الصيف أو في الشتاء، وهي منبع الأزياء ومصدر الكياسة واللباقة وبؤرة اللطف والرشاقة، ينقل عنها الناس في كلِّ جهة ما يستجدُّ من شرائط التمدُّن، وهي في طليعة المدائن العظمى في العلوم والمعارف، فيها من المعارض والمتاحف ودور العلوم وقاعات الصناعة ما يعجز القلم عن وصفه، ولطالما تغنَّى المادحون بمدحها وأجاد الواصفون وأفاضوا في تلك المشاهد التي تسحر الناظرين، والمناظر التي يُحْدِث وصفها فتنة في عقول السامعين، على أن شهرة باريس وكثرة ما فيها من المحاسن والأحاسن تحملني على إلقاء دلوي في الدلاء ووصف بعض الشيء مما رأيتُ فيها، فإني زُرْتُهَا خمس مرات كنت في كلِّ مرة أرى آيات جديدة من الجمال وبدائع الإتقان ويخيَّل لي أنَّ المدينة في عيد عظيم؛ لأنها أبدًا في جذل وحبور تضحك سماؤها وأرضها، وفي كل جانب منها معدَّات السرور متوفِّرة والناس جارون إلى هاتيك المتنزَّهات الفخيمة حتى إنه ليعسُرُ على الذي يزور باريس — وهذه حالها وهذه آيات جمالها — أن يبدأ في وصفها؛ لأنه لا يدري من أين يكون البدء، وكيف يجيء الختام؛ ولذلك تراني اخترت البدء بهاتيك الشوارع الفسيحة المعروفة عندهم باسم «بولفار»، فإن هذه الشوارع الباريزية محور الجمال والإتقان ينفق عليها مجلس البلدية المبالغ الطائلة في كل عام حتى تَبْقَى على حالة تليق بعظمة المدينة وجمالها، فترى أبهى ما اكتحلت بمرآه العين إلى جانبيك من قصور منيفة لخاصَّة الناس أو هي لحفظ التُّحَف أو للفائدة العامة، ومخازن جَمَعَتْ ما تناهى في الحسن وغرابة الصُّنْعِ من صناعة باريس وسواها رُتِّبَت فيها الأبضعة على نَسَقٍ بديعٍ وجواهر تسطع أنوارها وتتلألأ من وراء ألواح زجاجية نقية، وهي في الليل أوفر بهاءً منها في النهار؛ إذ يلقون عليها النور الكهربائي فتزهو فوق زهائها المعهود، ويجذب بريقها المحبوب آلافًا من المتفرِّجين، وفنادق أجهد الصناع قرائحهم في تزيين جهاتها، وحانات يضيع الهمُّ من مجرد النظر إليها، وفوق هذا فإن في كلِّ هذه الشوارع أناسًا يخطرون بأبهى الحُلَل وسيدات يرفلن بنفيس الأطالس وبديع الأزياء ولهنَّ في حركات المسير علمٌ عجيبٌ، فلو أنك زُرْتَ باريس ولم تشهد ضواحيها ولم تدخل متاحفها ولم تسمع شيئًا في ملاهيها ولم تدرس غرائبها، بل اقتصرت على التجوُّل في هاتيك الشوارع الفيحاء، لكفى بها منظرًا ترتاح إليه النفوس، وتشهد بغرابة هذه المدينة التي لم يبْنِ الناسُ إلى هذا اليوم نظيرًا لها في الجمال.
وإذا ضُمَّت هذه الشوارع أو البولفارات بعضها إلى بعض لم يقلُّ طولها عن ٤٣٠٠ متر، نبدأ منها بوصف بولفار سان مارتن فيه عدة مراسح وتياترات وقوس للنصر قديمة أُقيمت تذكارًا لانتصار لويس الرابع عشر ملك فرنسا في سنة ١٦٧٤ على الألمان، ويليه بولفار سان دنيس فيه باب اشتُهر بهذا الاسم أيضًا أُقيم تذكارًا للملك لويس الرابع عشر المذكور بعد انتصاره على هولاندا في سنة ١٦٨٢، وبولفار بواسونيير أشهر ما فيه مدرسة لتعليم الموسيقى وفنونها تُعْطَى فيها المكافآت للذين ينالون أحسن شهاداتها ويقصدها الطلاب من كل صقع بعيد. وبولفار مونمارتر فيه معرض يُعْرَفُ باسم صاحبه جرفلين قلَّ أن يجيء باريس سائح ولا يراه؛ لأن فيه أشكال مشاهير الأرض الحاليين كلهم وبعض المشاهير المتوفِّين صُنِعَت بالشمع والجبس، وأُتْقِنَ صنعُها إلى حدِّ أنَّ الغريب قد لا يميِّز الرجل الحي فيها من تمثاله، وهم يضيفون إلى هذا المعرض تماثيل بعض المشهورين والمشهورات في كلِّ عام، وقد صنعوا بعض الأجسام قاعدة ووضعوها على أوضاع مختلفة وإلى جانبها مقاعد خالية يجلس إليها المتفرِّجون، فإذا كنت دائرًا تتفرَّج على تلك المناظر البهيَّة لم يبعد عليك أن تصل إلى شخص حي ساكن تظنه تمثالًا حتى إذا قربت منه وتحرَّك اضطربْتَ وخجلت كما يحدث للكثيرين.
ويستمرُّ هذا الشارع على خطٍّ واحد حتى يبدأ «بولفار الطليان»، وهو بلا خلاف أجمل شوارع باريس وأكثرها زخرفًا وأحسنها موقعًا وأبعدها شهرةً، فيه من الحوانيت والمنازل البديعة ما يقصر الشاعر عن وصفه، وفيه بنك الكريدي ليونه المشهور، وهو بناءٌ فخيم جَمَعَ ما بين المتانة والجمال، وفي داخله قاعات فسيحة لراحة القادمين إليه وغرف أخرى للكتابة، فيها المنضدات والأقلام وبقية لوازم الكتابة، فإذا جاء المسافر يريد قبض مال من هذا المصرف العظيم جلس إلى إحدى تلك المناضد ووقَّع على الورقة بيده علامة وصول المال إليه، فيأخذ الورقة منه كاتب ويعود إليه بالمال المطلوب، وهو لا يتكلَّف عناءَ الوقوف والانتظار، وينتهي هذا الشارع في ميدان الأوبرا الكبرى، وسوف نعود إلى ذكرها، ومن بعد ذلك الميدان يستمرُّ الشارع المذكور على خطٍّ واحد ويتغيَّر اسمه فيصير شارع «الكبوسين»، وهو أيضًا من آيات الجمال في باريس الحسناء، يبتدئ من ميدان الأوبرا التي ذكرناها والغران أوتل أو الفندق الكبير، ولهذا الفندق شهرة ذائعة في أوروبا كلها؛ لأنه في أحسن مواقع باريس وله سعة زائدة؛ إذ يشغل جزءًا كبيرًا من الأرض، وتحيط به الشوارع المعروفة من كلِّ جانب، وهو كعبة القادمين إلى باريس، وليس هذا الفندق قاصرًا على المسافرين الذين يبيتون فيه، بل إن الذين يقصدون حانته (القهوة) ومطعمه من أهل باريس ونزلائها كثيرون غير المقيمين فيه؛ لأنهم يقرءون هناك معظم صحف أوروبا المشهورة، ويجدون داخل الفندق مكتبًا للبرق وموضعًا للعلم بأسعار البورصة والمسائل المالية، وفيه نادٍ لأهل السياسة؛ ولذلك اشتُهر هذا الفندق شهرته الحالية.
ومن هذا القبيل بولفار (لامادلين) نسبةً إلى كنيسة المجدلية في آخره، وهي من أشهر كنائس فرنسا بدءوا في بنائها على عهد لويس الخامس عشر سنة ١٧٦٤ ولم يتم، ثم شَرَعَ نابوليون الأول في إتمامها متَّبِعًا في ذلك الرسم الأصلي، أي أنْ تكون واجهاتها الأربع ذات عُمُد باسقة على الشكل اليوناني القديم، فتمَّ بناؤها سنة ١٨٤٢، ومنظرها جميل يسرُّ جميعَ الناظرين، وعدد العُمُد المثلمة في جوانبها الأربعمائة عمود. وهي الآن مشهورة بجوق يُنْشَدُ فيها الألحان الدينية المؤثِّرة، وفيها تُقام الاحتفالات الكبرى في أيام الأعياد، ويُعْقَدُ الزواج لأكثر أصحاب الشهرة، وبولفار مادلين هذا يتصل بالشارع الملوكي (رويال) إذا سار المرء إلى آخره لقي وزارة البحر الفرنسية، وقد رُفِعَ فوقها عَلَمُ الجمهورية، وذِكْرُ ما أصاب الأبنية العظيمة في هذا الموضع دون سواه من ثورة الكومون بعد حرب فرنسا وبروسيا الأخيرة، فإن هؤلاء العتاة جمعوا قواهم في الشارع المذكور وجاءوا بالمضخَّات والآلات المُعَدَّة لإطفاء الحرائق فملأوها زيتًا وجعلوا يرشُّون تلك الأماكن بها، ثم أضرموا النار فيها ففعلت فعلها الفتَّاك وقَتَلَتْ كثيرين غير الخسائر الفادحة التي أنتجتها من تدمير المعالم القديمة والأبنية الفخيمة، وهذا آخر الشوارع من نوعه، وهو يتَّصل في آخره بأشهر مواضع باريس وأجملها، نريد به ساحة الكونكورد المشهورة. وساحة الكونكورد هذه ميدان لا نظير له في الأرض كلها، ولا خلاف في أنَّ البشر لم يصنعوا إلى الآن ساحة عظمى — يرى الناظر في وسطها وإلى جميع جوانبها أبهى المناظر وأفخمها — مثل التي نحن في شأنها، وفي وسطها بحيرات بالغة الإتقان يتدفَّق الماء من أنابيب فيها صُنِعَتْ على أشكال بديعة، ومن حولها نُصُبٌ أُقيمت لمدائن فرنسا المشهورة، مثل مرسيليا وبوردو وليون وغيرها، وبين هذه النُّصُب تمثال مدينة ستراسبورغ التي اغتصبها الألمان بعد حرب ١٨٧٠، وفوقه إكليل أسود دليل الحِدَاد على فَقْد ولاية الألزاس، وفي وسط الساحة المسلَّة المصرية التي أهداها المغفور له محمد علي باشا إلى لويس فيليب ملك فرنسا ونُقِلَتْ إلى باريس سنة ١٨٣٦، وهي قائمة على قاعدة بديعة الصُّنْع مذهَّبة جوانبها، ومن حولها الأرصفة الفسيحة والممرَّات الواسعة يخطر فيها المتنزِّهون والمتفرِّجون، وإذا وقف المتفرِّج في هذه الساحة رأى بعضًا من أفخم مناظر باريس، من ذلك، نهر السين ووراءه مجلس النُّوَّاب في الجهة الجنوبية، وإلى الغرب متنزَّه الشان أليزه المشهور — وسيأتي ذكرُهُ — وإلى الشرق حديقة التولري وإلى الشمال مخازن وأبنية كثيرة تتصل بحديقة الأليزه وهو قصر رئيس الجمهورية.
وساحة الكونكورد هذه قديمة العهد اشتُهرت من قبل أيام الثورة الفرنسوية المشهورة، ولكنها شهدت في أيام تلك الثورة العظيمة ما لم تشهده الساحات والميادين من الأهوال التي تشيب الأطفال، فإن رجال الثورة جعلوها مقرَّ فظائعهم ومظالمهم فأقاموا فيها المشنقة (الجيليوتين)، وضربوا الرقاب في وسطها مئات وألوفًا، حتى إن عدد الذين قُطِعَت أعناقهم في ساحة الكونكورد مدة سنتين من سنة ١٧٩٣ إلى ١٧٩٥ لم يقلُّوا عن ٢٨٠٠ شخص من عظماء فرنسا، منهم الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنتوانت وأخته إليصابات وأخوه الدوك دورليان وابن عمِّه فيليب والد الملك لويس فيليب، ومنهم زعماء حزب الملوك وبعض الأمراء ورؤساء الحزب الديني، ومنهم أيضًا بعض زعماء الثورة وأعوانهم، مثل دانيون وروبسبير، هؤلاء كلهم قُتِلُوا في ساحة الكونكورد التي صُبِغَتْ جوانبها بدماء المقتولين في مدة الثورة، وصار ذكرها يُرْجِفُ الأبدان ويهول الرجال، فسبحان الذي يشقي ويسعد! كيف تغيَّر حال هذه البقعة بتغيُّر الأحوال وموت الرجال، وأضحت الآن مقرَّ الأُنْسِ ومركز البهاء والعز بعد كل ذلك الهول؟!
ويتصل بهذه الساحة العظيمة متنزَّه الشان أليزه، والحق يُقال إنه وما يليه إلى جميع الجوانب زهرة ما في مدينة باريس، ونُخْبَة مناظر المدائن المشهورة. والشان أليزه هذا عبارة عن طرق كثيرة ما بين غابات صغرى من الأشجار وصفوف منها بديعة الشكل وفي وسطها طريق عظيم كثير الاتساع تسير فيه العربات كل يوم مئات وألوفًا، وفيه المطاعم والقهاوي والمقاعد ومواضع النُّزْهة ومواقع الطَّرَب، وبعض فنادقه فخيمة جدًّا غالية أثمانها لا يأتيها غير الأمراء والكبراء، ولمجموع ذلك المتنزَّه بهاء عجيب، فهو مقصدُ المتنزِّهين في باريس، إذا سار إليه المرء بعد الظهر من أي يوم أراد — ولا سيما من يوم الأحد — رأى من أشكال الناس وأزيائهم وجماعاتهم ما تَطْرَبُ له النفس، وتحسب أن السعادة كلها حُصِرَتْ في ذلك المتنزَّه العظيم؛ فإنك كيفما سِرْتَ فيه رأيت شيئًا يروق لك حتى إن وصف المكان يعسُرُ على الكاتبين، وليس يفيد فيه غير الخبر والعيان. وفي آخر المتنزَّه الفسيح قنطرة كبرى شاهقة البنيان عظيمة الأركان، هي قوس نصر شَرَعَ نابوليون الأول في بنائها تذكارًا لانتصاره على جيوش أوروبا، وأتمَّها من بعده لويس فيليب، وفيها رسوم المعارك العظيمة التي أحرزت فيها الجنود الفرنسية نصرًا على الأعداء على جدرانها الأربعة، هي أكبر قوس للنصر في الأرض كلِّها، لها أربعة أبواب متقابلة وتُعْرَفُ هذه القنطرة باسم قنطرة الكوكب، وفي ذلك مطابقة وتشبيه بديع؛ لأن الكوكب تشعُّ منه الأنوار في كلِّ جانب، وقنطرة النصر هذه تمتدُّ منها الطرق وتتفرَّع الدروب في كلِّ جانب، وأهمُّها عشرة تُعْرَف بأسماء: كارنو وماكماهون وهوش وإينا وفردلند وكليبر وهوجو ودرامه وأليزه وبولون، وكلها من أجمل الطرق وأنظفها توصلك إلى داخل المدينة وخارجها، وقد زُيِّنَتْ كلها بالأشجار والأزهار والقصور الباذخة والمصايف اللطيفة، ومن أهمها الشارع الذي يوصل إلى غابات بولون، وهي مجموع دروب عريضة وحِرَاج غضَّة في أرض أريضة طارت شهرتُهَا في الآفاق إلى حدِّ أنها صارت مجتمع أهل التَّرف والبزَّة ومثابة جماعة الحظِّ واليَسار، يأتونها من سحيق الأقطار ليمتِّعوا بمحاسنها الطَّرْف ويشهدوا بأنها جذَّابة للنفوس ساحرة للأنظار، فيجتمع فيها كل يوم من أهل المدينة ونزلائها عددٌ عديدٌ يزري بعضهم ببعض في تعدُّد الأزياء وفي غرابة الجمال وحسن الرواء، يسيرون أكثرهم في عربات نظيفة والأزاهر من هنا والرياحين من هنا والشجر الباسق الأنيق إلى كلِّ جانب وماء البحيرات الصناعية يتدفَّق من أنابيبها ويزري بالزُّلال في نقائه، فكأنَّما السائر هنالك في أرض مسحورة جُمِعَتْ فيها المحاسن بعضها إلى بعض وليس فيها غير كلِّ شهي بهي، ولا عجب بعد هذا الحُسْنِ الوفير إذا توافَدَ الناس على هذا المتنزَّه بخيلهم ورَجْلِهِم إلى حدِّ أنَّ المسير يتعذَّر عليهم في أيام الآحاد، فتضطر صفوف العربات أن تسير الهوينا، وليس يسوء ذلك قومًا إذا وقفوا في غابات بولونيا متَّعوا الطَّرْفَ بأزهى المناظر الشهية.
وقد بلغت مساحة هذه الحراج الفيحاء ٨٧٣ هكتارًا من الأرض، خُطِّطَتْ بها الطرق المنسقة، ومن ورائها حقول ومتنزَّهات أخرى تُعْرَف باسم لونشان، وحديقة «أكلمتاسيون» مساحتها نحو ٢٠ هكتارًا، وهي تُعَدُّ قسمًا من الغابة، وفي داخلها معرض للحيوانات البرِّيَّة والطيور والزحافات وأشكال المخلوقات الحيَّة جُمِعَتْ من أطرف الأرض، وبينها كلُّ منظر غريب وفي جملتها سباع ضوارٍ أخرى رُبِّيَت وعُلِّمَتْ طرائق كثيرة، فكان المربِّي يضع يده في فمها ورأسه على رأسها، وهي مطيعة لأمره ولا تَكْشِرُ عن نابٍ ولا تتعمَّد الأذى، وجملة القول أن هذه الجهة من باريس هي نقطة الجمال فيها وأكبر متنزَّهاتها، لم أرَ إلى الآن بين ضواحي المدن الكبيرة ما يقرب منها في فَرْطِ الجمال وغرابة الوضع وحسن الانتظام.
وقد زُرْتُ بين المشاهد العظيمة في مدينة باريس الزاهرة قصر آل بوربون الذي مرَّ ذكرُهُ، وهو مجلس نُوَّاب الأمة الفرنسية الآن تُلْقَى فيه الخطب السياسية العظيمة التي يرنُّ ذكرها في الآفاق، وتُدَار هنالك حركة السياسة للجمهورية الفرنسية. ولهذا القصر الفخيم منظر غاية في الجمال؛ فإنه بُنِيَ على ضفَّة السين وأمامه ساحة الكونكورد البديعة التي تَقَدَّم وصفُها، وقد أنفق عليها آل بوربون ألوفًا مؤلَّفة حتى إن البرنس كونده وحده من أمراء تلك العائلة أنفق على زُخْرُفِ هذا القصر عشرين مليون فرنك. دخلنا هذا القصر العظيم ومعنا واحد من عماله، واجباته تنحصر في مقابلة الزائرين ومرافقة المتفرِّجين، ورأينا قاعة الاجتماع، وهي قائمة على عشرين عمودًا فيها التماثيل المُتْقَنَة الصُّنْع تمثِّل القوة والحَرْبَة والأمن ومنصَّة الرئيس ويليها منصَّة أخرى يقف عليها الأعضاء حين يقومون للخطابة، ومقاعد للأعضاء لكلٍّ منهم مقعد خاص به، ومنضدة صغيرة تُوضَعُ فوقها المذكِّرات، وأماكن خُصَّتْ بالزائرين وبأصحاب الجرائد وبالسفراء، وغير هذا مما يراه المسافر في كل مجلس لنُوَّاب الممالك المنظَّمة. وأكثر أصحاب الذَّوق والعلم الذين يزورون باريس يحضرون جلسة أو أكثر من جلسات هذا المجلس العظيم بدعوة أو إذن من أحد الأعضاء، حيث يتدفَّق سيل الفصاحة من فم الفطاحل في السياسة وأرباب الخطابة وقادة الأفكار. وعلى مقربة من هذا المجلس منزل أنيق لرئيسه، ودار رحيبة فيها الآن وزارة الخارجية، وكلها تطلُّ على شارع عظيم يُعْرَفُ باسم الإنفاليد، وهو اسم قصر عظيم الشُّهْرَة في باريس أنشأه لويس الرابع عشر ملك فرنسا للعَجَزَة والمقْعَدِين من جنوده، وجعله واسع الجوانب يضمُّ خمسة آلاف من هؤلاء العاجزين، وفيه الآن معرض كبير القَدْر والقيمة للسلاح على أشكاله من قديم وحديث، ولا سيما الذي استُعْمِلَ منه في الحروب الفرنسية، والذي غَنِمَتْه جنود فرنسا في حروبها العديدة من المدافع والسيوف وغير هذا كثير، وفيه من هذا القبيل أيضًا ١٥٠٠ راية غنمتها جنود فرنسا في معارك نابوليون الأول، وهي كلها محفوظة في ذلك القصر الفخيم، وسلسلة من الحديد متينة طولها ١٨٠ مترًا استعملها العثمانيون في نهر الدانوب عند حصار فيينَّا في سنة ١٦٨٣. وهنالك خزانات تحوي من أشكال الملابس القديمة لملوك فرنسا وفرسانها وأسلحة أبطالها ما يملأ وصفه المجلَّدات. وأهمُّ ما في دار العَجَزَةِ هذه عظام نابوليون الأول بطل فرنسا المشهور وأكبر قُوَّاد الأرض طُرًّا في العصور الحديثة، نُقِلَتْ من جزيرة القدِّيسة هيلانه، حيت تُوفِّي هذا الرجل الكبير وبُنِيَتْ فوقها قُبَّة عالية مذهبة جوانبها تُرَى من عدة أماكن في باريس، وعليها بلاطة حمراء كُتِبَتْ فيها أشهر وقائع هذا البطل، والناس يقصدون سراي الإنفاليد من كل صوب لرؤية قبر نابوليون، قلَّ أن يأتي باريس فرد من الناس ولا يرى هذا الأثر العظيم، وهو منظر يشعر الواقف أمامه بعظمة الأثر الموجود فيه ويذكر عِبَرَ الدهر وغِيَر الزمان.
ومن ذلك القصر سِرْتُ إلى «شان ده مارس»، وهو متَّسع من الأرض اشتُهر في الأعوام الأخيرة؛ لأن المعارض العمومية أُقيمت فيه، ومعظم استعراضات الحامية الباريزية تتمُّ في بعض جوانبه، هنالك كان نابوليون الأول يستعرض جنوده حتى إنهم أطلقوا عليه إلى حين اسم ميدان نابوليون، ولمَّا صار لويس فيليب ملكًا لفرنسا بعد سقوط نابوليون حلف يمين الأمانة للدستور هو والوزراء وقُوَّاد الجيش والأساطيل ونُوَّاب الأمة في ذلك الميدان أيضًا، فجروا بذلك على خُطَّة قدماء الفرنسيس الذين كانوا يجتمعون من بعد أيام كلوفيس في هذا الموضع لسنِّ الشرائع وتقرير الأمور العظيمة، وقد حَدَث في الشان ده مارس كثير غير هذا من الحوادث التاريخية يضيق المقام عن سردها.
ولمَّا كانت المعارض قد أُقيمت في شان ده مارس هذا كما تَقَدَّم، فإن أثر المعرض الأخير باقٍ فيه إلى الآن، وأجلُّ ما يُذْكَر من هذه الآثار برج إيفل المشهور الذي يُعَدُّ الآن من غرائب الصناعة، وأجمل آثار التمدُّن الحالي بُنِيَ سنة ١٨٨٨ و١٨٨٩ للمعرض العام — كما علمت — برأي مهندس مشهور اسمه جورج إيفل، نال من حكومة بلاده وسام اللجيون دونور حين نُجِزَ العمل ونُصِبَ علم فرنسا على قمَّة هذا البرج الشاهق، وقد جعلوا علوَّه ٣٠٠ مترًا وألف قدم، وهو أعلى بناء في الأرض، يليه في العلوِّ كنيسة كولون، وهي لا تزيد عن ١٥٩ مترًا، والهرم الكبير وعلوه الآن ١٤٦ مترًا وأكثره من الحديد، فإذا وُزِن حديده لم يقل ثقله عن ٧ ملايين كيلو، وفيه ٢٥ مليونًا من المسامير وهو يشْغَلُ من الأرض عند قاعدته ١٦٧٠٠ متر مربَّع، وقد جُعِلَ ثلاث طبقات يُصعد إليها بدَرَجٍ كثير أو بالآلة الرافعة، وهي المعوَّل عليها عند الأكثرين، يمكن أن يُنقل بواسطتها إلى الطبقة الأولى ٢٣٥٠ شخصًا في الساعة، ومثلها للطبقة الثانية، و٧٥٠ للطبقة الثالثة، ويمكن لعشرة آلاف نفس أن تجتمع في جوانب هذا البرج في آن واحد، ويستغرق الصعود والنزول بهذه الآلة ٧ دقائق ما بين أسفل البرج وأعلاه، وفي رأسه نور كهربائي يظهر على بُعْدٍ شاسع من جميع الجوانب، والرجل إذا وقف في الطبقة العليا منه رأى باريس وضواحيها تحت يده ولها منظر يسحر العقول. والبرج مبنيٌّ على شكل هَرَمِيٍّ، بمعنى أنه كثير الاتساع عند قاعدته ضيِّق عند رأسه، وفي كل طبقة من طبقاته غرف وقاعات واسعة للمطاعم والقهاوي التي يُعَدُّ القعود فيها من أجمل أنواع النُّزْهَة. وهنالك أيضًا محل للبريد ومخازن صغيرة تُباع فيها الأشياء الجميلة تذكارًا لزيارة البرج، وقد كانت جريدة الفيغارو المشهورة تطبع بعض أعدادها في الدور الأول من هذا البرج في سنة المعرض. وهو — بوجه الإجمال — من أجمل ما جادت به قرائح المهندسين، لا ريب أنه أكثر مشاهد هذا الزمان غرابةً، وقد أقامته شركة نالت به امتيازًا لمدة ٢١ سنة فجمعت نفقاته مدة المعرض، وكل إيراده في المدة الباقية ربح لها خالص؛ فإن عدد الذين صعدوا الطبقة الأولى منه في تلك المدة ١٩٦٨٢٨٧ والثانية ١٢٨٣٢٣ والثالثة ٥٧٩٣٨٤، فمجموع ذلك أكثر من أربعة ملايين شخص في مدة ستة أشهر، وفي هذا من الإقبال العظيم ما لا يخْفَى.
وتجاه برج إيفل قصر بديع هو قصر تروكاديرو، سُمِّي باسم قلعة في مدينة قادس ببلاد إسبانيا ملكها الفرنسويون سنة ١٨٢٣، وقد بُنِيَ هذا القصر لمعرض ١٨٧٨ على شكل يقرب من المستدير ونَسَقٍ شرقي فيه قاعة فسيحة يمكن أن يجتمع فيها ستة آلاف نفس، ولها قُبَّة قطرها ٥٨ مترًا، ومتحف عظيم القيمة للحفر والنَّقْش، جمعوا فيه من أبواب الكنائس والجوامع ومن أمثلة الحجارة المنقوشة ما يعْسُرُ عدُّه، وقد نَقَلُوا رَسْمَ أكثر النقوش المشهورة بالجصِّ ووضعوا شكلها في هذا المتحف حتى إن زيارته تُعَدُّ عند أهل النظر من أهمِّ ما يجب على الزائر فعله في باريس. إلى هنا ينتهي بنا الكلام عن مشاهد باريس التي تُرَى في الطريق الذي اتبعناه، ولا يضيع معها الوقت، وقد اختصرنا في ذكرها كلَّ الاختصار؛ نظرًا إلى شهرتها الذائعة، وعدم افتقار الأكثرين إلى الإيضاح عنها؛ وعلى ذلك فنحن نتقدَّم الآن إلى وصف المشاهد الأخرى الكائنة في داخل المدينة.
وأحسن ما يكون للمتفرِّج على مشاهد باريس التي لم نذكرها بَعْدُ أن يبدأ من ميدان الأوبرا الكبرى؛ لأنها واقعة في مركز القسم الأهمِّ من المدينة، وهي بناءٌ فخيمٌ عظيمٌ اتَّفق الواصفون على أنه أحسن بناء للتمثيل والموسيقى في الأرض كلها، وأنه لو عُدَّت الأبنية التي تُؤثِّر في نفس الناظر إليها من خارجها وداخلها فوق تأثير الأبنية الأخرى لقال هي ثلاثة: الأوبرا في باريس والكنيسة المشهورة في ميلان وقصر المحاكم في بروكسل، وقد بُنِيَتْ هذه الأوبرا الباريزية في وسط الشوارع الكبرى، وملتقى الدروب الشهيرة فهي نقطتها ومركز بهائها وعظمتها، بدءوا بها سنة ١٨٦٧ فتمَّ البناء سنة ١٨٧٤، ولا حاجة إلى القول إن كلَّ الذي يُمثل بها من نوع الأوبرا المعروف، وهم ينتقون لها أكبر الممثِّلين والممثلات والمغنِّين والمغنيات، ولها من الحكومة الفرنسية إعانة من المال سنويَّة، فهي تحت مراقبة الحكومة إلى حدٍّ معلوم، ويعْسُرُ على القلم أن يصفَ جمال هذا البناء العظيم وآيات حسنه الغريبة، ولكن الذي يعلو عن غيره فيها قدرًا وقيمة قاعتها الوسطى؛ حيث يتمُّ التمثيل، وهي كلها أعمدة مذهبة ونقوش دقيقة ومقاعد فاخرة وسقوف تلمع وجدران تسطع، وأشياء بلغت الغاية القصوى من الإتقان والجمال، في كل موضع يصعد إليها الصاعدون على سُلَّمٍ غريب الوضع، صُنِعَتْ درجاته من المرمر الأبيض، وفوقها سياج بديع من الرخام الأحمر وجدران من الرخام الأسود والأخضر والأزرق، فإذا ما صعد الداخل هذه الذُّرَى رأى من كل جانب أناسًا يصعدون وينزلون في الفروع الباقية من هذا السُّلَّم العجيب حتى إنه ليَظُنَّ نفسه في بلاد الجِنِّ لا يدري لها جانبًا من جانب، ويزيده ذهولًا فخامة ذلك الموقع المذهَّب رخامه الساطع زجاجه، وفيه نخبة الرجال والنساء بأفخر الحلل وأنفس الملابس وأثمن الجواهر، تُرى في النور الكهربائي فوق ذلك السُّلَّم البديع على شكل من الجمال يفتن القلوب، فيتمنَّى المرء لو تُقْضَى أيامه في مثل ذلك الموضع العجيب، والناس يخرجون من قاعة التمثيل بين الفصل والفصل للتمشِّي في رواق ما وَصَفَ مثله الواصفون، كله رخام صقيل وبلُّور نضيد وذهب وضَّاح وأطلس نفيس ونقوش بلغت حدَّ الإعجاز في عُرْفِ أهل الصناعة، وهو طويل متَّسع المجال تتفتَّل فيه القدود في تلك الفترات وتتورَّد الخدود وتكثر النظرات وتتهادى ربَّات الدَّلال بعجيب الأزياء، وبينهنَّ الآيات البيِّنات فينسى المرء في ذلك الرواق ماضي الحادثات ويقول سلام لباريس وما فيها من عجائب الكائنات.
فإذا ما انتهى الزائر من التمتُّع بنعمة النظر إلى هذه الأوبرا داخلها وخارجها، فما عليه إلا السير في طريق فخيم تجاهها يُعْرَفُ باسمها (أفنو ده لوبرا)، وهو من أهمِّ شوارع باريس، فيه من المخازن العظيمة والأبنية الجميلة عدد كبير، وفي آخره القصر الملوكي بناه الكاردينال ريشيليو الذي ورد ذكره في الخلاصة التاريخية سنة ١٦٣٦، وأهداه إلى الملك لويس الثالث عشر، وكان الملك فيليب يقضي أكثر أيامه فيه بالإسراف والتبذير حتى إنه لمَّا كثُرَتْ حاجته إلى المال بنى في القسم الأرضي من هذا القصر مخازن ودكاكين أجَّرها للتجار حتى يستفيدَ من أُجْرَتِهَا، ولم تزل هذه المخازن في جانب من القصر الملوكي إلى الآن، وهي أو أكثرها لباعة الحلي والجواهر، وقد كان من أمرِ هذه الدكاكين أنَّ الرجل كاميل دي مولين الذي جَهَرَ بالعصيان ونادى بالثورة العظيمة قبل غيره كان من أصحابها، اشتدَّ به العَوَزُ وهو يرى من فوقه إسراف الملك وذويه؛ فتبعه جماهير الناس إلى الباستيل — وهي قلعة قديمة كان أصحاب الذنوب السياسية يُسْجَنُون فيها بلا محاكمة — واستولوا عليها بعد جهاد عنيف، وكان ذلك يوم ١٤ يوليو من سنة ١٧٨٩ فعُدَّ ذلك النهار بدء سقوط الاستبداد وقيام الحرية، وهو عيد الجمهورية الفرنسية إلى هذا اليوم، وعبث أهل الثورة بجزء من هذا القصر الملوكي في أيام ثورتهم ثم رُدَّ إلى حاله على عهد نابوليون الأول، وفي أيام لويس فيليب عادت إليه أُبَّهة الملك؛ لأن الرجل جعله مقرَّه مثل مَن تَقَدَّمه من آل بوربون، ولمَّا ثار الفرنسيس ثورتهم الثانية في سنة ١٨٤٨ دخلوا هذا القصر مرة أخرى ودمَّروا بعضه، ثم أُعيد إلى حاله وأقام فيه البرنس نابوليون ابن عم نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا حتى إذا عاد الناس إلى الثورة بعد حرب ١٨٧٠ دخل جماعة الكومون الثائرين هذا القصر وأحرقوا منه جانبًا كبيرًا، ومن ذلك الحين قلَّتْ أهميته.
وإذا سار المرء من هذا القصر توًّا إلى ناحية النهر وصل شارعًا كبيرًا من أهمِّ شوارع باريس هو شارع ريفولي، أُطْلِقَ عليه هذا الاسم تذكارًا لمعركة ريفولي التي سَحَقَ فيها نابوليون الأول قوات النمسا في سنة ١٧٩٧، بدءوا بناءه سنة ١٨٠٢ على عهد نابوليون فما تمَّ إلا في سنة ١٨٦٥ على عهد ابن أخيه الذي صار إمبراطورًا باسم نابوليون الثالث، وطوله الآن ثلاثة آلاف متر، كله قناطر بديعة الصُّنْع من أحد الجانبين، وتحت القناطر طريق عريض للمارَّة ومخازن متنوِّعة الأشكال ومكاتب لأصحاب الأعمال الخطيرة، وإلى الجانب الآخر حدائق التولري، وغير هذا من مشاهد باريس المعروفة، وهنالك وزارة المالية وهي بناءٌ واسعُ الجوانب كثير الأقسام، ومخازن اللوفر المشهورة يعْرِفُ اسْمَها كلُّ من اشترى بضاعة فرنسية، وفيها جميع ما تطلبه النفس حتى إن عدد الموظَّفين من عمال هذه المخازن لقبض الأثمان من المشترين ثلاثون رجلًا، ومن هذا يتَّضح أهمية هذه المخازن وجسامتها للقارئ الكريم.
ويقرب من هذه المناظر متحف اللوفر المشهور، يلزم لوصفه كتب ومجلَّدات ضخمة ولا يمكن رؤية كل ما فيه إلا بقضاء زمن طويل؛ لأن البناء واسع عظيم يضيع الخبير في جوانبه وله طبقات ثلاث، في كلٍّ منها ما يحيِّر العقل من أنواع التُّحَفِ والآثار والنقوش والرسوم، ولو أردتَ استقصاء النظر البسيط في بعض ما تقع عينك عليه لَزِمَ لك على الأقلِّ أسبوعان، ولطالما أحسَّ المتفرِّجون على هاتيك الرسوم البديعة بتعب في أعناقهم من كثرة التطلُّع إلى المشاهد التي لا عَدَّ لها في هذا المتحف، ولا يمكن لنا الكلام عنه هنا إلا بمثل هذا الإجمال؛ لأن الإسهاب يملأ كتبًا برُمَّتها ولكننا نكتفي بالقول إن هذا القصر العظيم كان في أوله مسكنًا لملوك فرنسا بدءوا في بنائه سنة ١٥٤١ ووسَّعوه جيلًا بعد جيلٍ، وكان آخر ملك زاده حسنًا الإمبراطور نابوليون الثالث؛ فإنه وصله بقصر التولري الذي أعَدَّه لسكنه حتى بلغت مساحة القصرين في عهده ١٩٥٠٠٠ متر مربَّع، وخُرب جزء من التولري في ثورة الكومون بعد انكسار الإمبراطور في الحربِ، فلم تهتمُّ الحكومة الجمهورية لإصلاح القصر، ولكنها أَبْقَتْ بعضَ محاسنه أثرًا جليلًا واهتمَّت للحديقة فجعلتها من متنزَّهات باريس المشهورة تنتابها العائلات في وقت الفراغ، ويُضْرَبُ المثل بما فيها من الحسن والإتقان، وهي تمتدُّ من عند القصر المذكور فشارع رفولي حتى ساحة الاتحاد، ولمنظر أزهارها وبِرَكِها تأثير في النفس شديد قلَّما يرى السائح نظيرًا لها في قَلْبِ العواصم الكبرى، ولكن في الباريزيين مَنْ لم يدخلها؛ لأن المدينة ملأى بالملاهي ومجلبات السرور.
والقسم الأسفل من متحف اللوفر أكثره للآثار القديمة، وفيه القسم الشرقي بكلِّ غرائبه وهو أقسام، منها ما هو للآثار المصرية، ومنها بعض للآثار الرومية أو الرومانية أو الفارسية أو الآشورية أو غيرها من الممالك القديمة يصل المتفرِّج من بعضِهَا إلى بعض بطرق متعرِّجة تدلُّه إليها كتابات رُقِّمَتْ فوقها. وهنالك التماثيل البديعة من صُنْعِ القدماء أجملها تماثيل آلهة اليونان من مثل منرف إلهة الجمال عندهم، وهو أجمل ما وُجِدَ إلى الآن من رَسْمِ هذه الآلهة وُجِدَ في جزيرة ميلو الرومية، واشترتْهُ حكومة فرنسا بستَّة آلاف فرنك من أحد الفلَّاحين، وفي هذا القسم ما يمثِّل تاريخ الرومانيين برسوم مشاهيرهم ومواقعهم، ويعيد إلى الذهن ذكر قوَّة الآشوريين وعظمة المصريين قبل أيامنا بآلاف من السنين بما يرى المتفرِّج من تماثيل ملوكهم وتحف صناعاتهم وجميل نقوشهم وثمين كتاباتهم على الحجر وأجسام كبرائهم المحنَّطة، وغير هذا شيء يدركه كلُّ مَنْ دخل متحفًا للآثار القديمة، ولا يُقاس به متحف الجيزة المصري؛ لأنه قاصر على الآثار المصرية، وأمَّا اللوفر وما كان على شكله من متاحف أوروبا فإن آثاره تشمل جميع الممالك المعروفة قديمًا وحديثًا.
وفي الدور الأعلى قسم الرسوم البديعة، وهي تزيد عن ثلاثة آلاف رسم، بعضها تُقَدَّر قيمته بعشرين ألف جنيه أو ما يزيد عن هذا الثمن، وفي متحف اللوفر هذا صور شتَّى لمهرة المصوِّرين الفرنسويين وغيرهم، بينها كثير لروفائيل المشهور، ومنها صور للمصوِّر ميسونيه الفرنسوي الذي تُوفِّي من عهد قريب، ثمن الصورة الواحدة منها عشرة آلاف جنيه أو أكثر. ومن هذا يُعْلَمُ مقدار ما في هذا المتحف من النفائس التي تُقدَّر قيمتها بالملايين. من هذه الرسوم صورة يوم القيامة وصورة ابنة فرعون تنشل موسى من ضفَّة النيل وصورة كليوباترا ملكة مصر المشهورة، وصور دينية تمثِّل حوادث الإنجيل والتوراة أو ترسم خيالات المصوِّرين على أشكال فائقة الجمال شديدة التأثير، هذا غير صور المعارك والحوادث التاريخية في البَرِّ والبحر، وهي كثيرة العدد وافرة الإتقان. وهنالك رواق عظيم القدر والقيمة اسمه رواق أبولون وُضِعَتْ فيه نفائس التُّحَفِ وغوالي الجواهر التي جَمَعَها ملوك فرنسا القدماء، واستولت عليها الحكومة الجمهورية بعد سقوطِهِم فباعت مقدارًا كبيرًا منها في سنة ١٨٨٧، وأبقت هذا البعض في متحف اللوفر أثرًا من الآثار التاريخية الجميلة، وبينها حجارة ثمينة وحلي باهرة، وسيف لنابوليون الأول مرصَّع بحجارة من الألماس لا يقلُّ ثمنها عن مليونَي فرنك، وغير هذا شيء كثير.
وليس ببعيدٍ كثيرًا عن اللوفر ساحة فاندوم، فيها عمود بهذا الاسم، والاسم بالأصل خُصَّ بالبرنس فاندوم ابن الملك هنري الرابع بنى فيه هذا الملك قصرًا لابنه المذكور، وفي محلِّ القصر اليوم فنادق عظيمة، وقد نَصَبَ فيه نابوليون الأول العمود المذكور وارتفاعه ٤٣ مترًا على قواعد من النُّحَاسِ والبرونز أصلها ١٢٠٠ مدفع غَنِمَهَا نابوليون في حروبه العديدة، وكُتب على جوانب العمود وقاعدته تاريخ بعض المعارك ورسومها.
ولا بدَّ للزائر في باريس من مشاهدة حديقة النبات العظيمة، وهي للنبات والحيوان معًا، فيها من غرائب التاريخ الطبيعي لهذه الموجودات الحيَّة ما تزيد لذَّة التفرُّج عليه عن كلِّ لذَّة؛ لأن هذه النباتات والحيوانات والطيور والزحافات والأشكال الحيَّة الأخرى جُمِعَتْ في تلك الحديقة من جميع جهات الأرض، وأُنفق على جمعها المال الكثير، وفيها بناءٌ لتعليم التاريخ الطبيعي يضمُّ ٢٠٠ شخص يتلقُّون الدروس، وهي تَشْغَلُ من الأرض ثلاثين هكتارًا، ولها شهرة ذائعة في كل أوروبا.
ومن هذه الغرائب أيضًا معمل جوبلين للطنافس النفيسة وهو مِلْكٌ للحكومة الفرنسية يعمل به مَهَرَة الصُّنَاع الذين تلقَّوا عن آبائهم سرَّ الصناعة بالإرث ولا يعرفه سواهم، ويخرج من ذلك المعمل طنافس وبُسُط كثيرة الجمال عجيبة الصُّنْعِ يُباع البساط منها بخمسين ألف فرنك وستين ومائة ألف، وأكثر ما يُصْنَعُ هنالك يشتريه الأغنياء أو تبتاعه الحكومات، ويُهْدَى إلى الملوك والأمراء والمتاحف العظيمة، ومن أجمل الطنافس التي رأيتُها من صنع هذا المحل واحد رُسِمَتْ عليه صورة كارنو رئيس الجمهورية الأسبق، وقد وُضِعَ في البانتيون، والبانتيون هذا كنيسة قديمة لها قُبَّة عالية تُرَى من أنحاء كثيرة في باريس، ولها ٢٢ عمودًا فخيمًا تحيط بخارجها، وقد خُصَّت في هذه الأيام الأخيرة بمدافن القُوَّاد والعظماء لا بدَّ لكل مَنْ يزور باريس أنْ يقصدَها ويتفرَّج على آثار الذين شادوا للدولة الفرنسية فيها آثار العز والفخر، وأكثرهم من قُوَّاد الجمهورية الحالية والجمهورية الأولى، ورأينا بينهم اسم كارنو الأول وكارنو الثاني الذي ذكرناه ومكماهون وروسو وفولتير والفتاة جان دارك، وغير هؤلاء من أركان الدولة الفرنسوية في كل زمان.
ثم إنك إذا عُدتَ إلى ميدان الأوبرا الذي جعلناه مركزًا عامًّا للمتفرِّج وسِرْتَ إلى ناحية الشمال الغربي في شارع ٤ سبتمبر وَصَلْتَ موضعًا كثير الشُّهْرَة في باريس هو البورصة أو نقطة الحركة المالية في هذه العاصمة ومحل الاتصال بمتاجر الأرض ومصارفها وأموالها، حيث يجسُّ الماليون نَبْضَ الممالك وتجري الألاعيب المالية الكبرى التي تقود الوزراء إلى انتهاج النَّهْجِ الموافق لأصحاب المال، فصار المال الآن عُقْدَة السياسات الأوروبية، والماليون هم أصحاب الحلِّ والعقد في أكثر الأمور الخطيرة. ولا يعْجَبَنَّ القارئ إذا قلنا له إن بورصة باريس وبنك إنكلترا في لندن هما أهم مراكز السياسة ومقرُّ الحركة التي تدير أعمال الممالك، فإن في بورصة باريس وحدها تُباع أسهم الدَّينِ الفرنسي وتُشْرَى، وهي تزيد عن ٣٢ مليار فرنك أو نحو ألف ومائتين وخمسين مليونًا من الليرات الإنكليزية، وعندهم أَسْهُمٌ من ديون الممالك الأخرى بمثل هذا المقدار أو ما يقرب منه، وأسهم السكك الحديدية والمجلس البلدي وغير هذا مما تقرب قيمته أيضًا من مجموع الديون على الحكومة الفرنسية، فهم يقبلون بين أيديهم أوراقًا وقراطيس بألوف الألوف، ولا عجب إذا أرادوا سياسة الممالك بإصعاد هذه القراطيس وإنزالها، ولا غرابةَ في القول إن الأرض لأصحاب المال يديرون شئونها على ما يوافق مصلحتها.
ومما يُذْكَر كنيسة نوتردام، وهي أكبر كنائس فرنسا وأشهرها، فيها من الرسوم المنزَّلة على الزجاج ما تُقَدَّر قيمته بعشرات الألوف ومئاتها، والناس يقصدونها من كلِّ جانب للتفرُّج على غرائب بنائها ونفيس تحفها، وليس بعيدًا عنها إلى الجهة الأخرى من النهر قصر كلوني، كان في سابق الزمن مقرًّا لبعض الملوك، وفيه الآن متحف للآثار الثمينة أكثرها من الذهب والفضة، وبينها عدد كبير مرصَّع بالجواهر الغالية وصوانٍ غريبة ومفروشات فاخرة وأحذية مزركشة وأجواخ مقصبة وأزياء قديمة يعمد إليها أرباب الزيِّ في بعض الأحايين وينقلون عنها رسومًا يذيعونها في بعض المدائن ويدَّعون أنها زيٌّ حديثٌ فيتهافت الناس على استعماله.
ولا بدَّ من القول هنا إن استيفاء الوصف يُتْعِبُ القارئ؛ فإن في باريس شيئًا كثيرًا لم نذكره بعد، مثل قصر لكسمبرج، وهو بُنِيَ في أيام فرانسوا الأول، وصار الآن ندوة لمجلس الشيوخ، ومجلس البلدية على مقربة من السين، وهو قصر عظيم قديم العهد من داخله، ولكن أكثر جوانبه الخارجية جُدِّدَتْ على النسقِ الحديث، وله شهرة كبرى في تاريخ الثورات الفرنسية؛ فإنه كان مقرًّا للأحزاب الجمهورية في أكثرها، ومنها قصر الإليزه؛ حيث يقيم رئيس الجمهورية حالًا، وبابه في شارع سانت أونوريه وهو من المنازل العظيمة، ولكنه ليس على شيءٍ من جمال المنازل التي شادها ملوك فرنسا القدماء في ضواحي باريس. ومن الأبنية التي تستحقُّ الذكر بعض الفنادق الكبرى، وذكرنا بعضها والمخازن العظيمة، مثل مخازن اللوفر التي وصفناها، ومخازن بون مارشيه ومخازن البرنتان وغيرها، والمراسح وأشهرها الأوبرا والتياترو الفرنسوي، وقد ذكرناهما، ومنها مرسح الفودفيل والأوديون والجمناز والأوبرا كوميك، وغير هذا مما لا يدخل تحت حصر.
هذا بعض ما تَلْزَمُ رؤيته في داخل باريس، وأمَّا الضواحي فلا يخْفَى عن القارئ أنه ليس في الأرض عاصمة تفرَّدت بكثرة الضواحي البهيَّة مثل فرنسا، وأشهر هذه الضواحي: «فرسايل» وهي مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها عن ستين ألف نفس، بدأت شهرتها على عهد الملك لويس الرابع عشر الذي جعلها مقرَّه الرسمي مدة الصيف، وبنى فيها هو وبعض الذين خَلَفُوه في الملك قصورًا لم تزل إلى الآن أفخم ما شاد الملوك الأوروبيون وأكثرها بهجةً وغرابةً، فإن القصر العظيم الذي يقصده السيَّاح من كلِّ جانب يبلغ طوله ٤١٥ مترًا، وفي حديقته الواسعة ٦٠٠ بحيرة وبِرْكَة يتدفَّق منها عشرة آلاف متر مكعَّب من الماء يرِدُ إليها بالآلات البخارية من مواضع بعيدة، ولا تقلُّ نفقة إخراج الماء من هذه الأنابيب كل مرة عن ثمانية آلاف فرنك أو عشرة، فهم يعلنون عن موعد تدفُّق المياه في حديقة فرسايل في جرائد باريس، ويكثر أن يكون ذلك في الشهر مرتين فيتقاطر الناس أفواجًا لمشاهدة ذلك المنظر البديع، وقد صُرِفَ على هذا القصر وحديقته الموصوفة ملايين واشتغل في البناء ٢٦٠٠٠ شخص، وأجهد الصُّنَّاع قرائحهم في زُخْرُفِهِ وتحسينه حتى إنك إذا دخلتَ قاعاته الواسعة شعرت في الحال بعظمة الذين شادوه، ولطالما رأت هذه القاعات فخرًا وعزًّا — ولا سيما على عهد الملك لويس الرابع عشر — ولكنها صارت مرسحًا للخلاعة والفسق على عهد لويس الخامس عشر، وهو الذي جمع فيها حظياته، مثل مدام بومبادور وسواها، ومهَّد بتهتُّكه السبيل للثورة العظيمة التي هبَّ الناس لها في عهد خَلَفِهِ لويس السادس عشر المنكود الحظ.
ولمَّا كان هذا القصر الآن مشهدًا عامًّا جُمِعَتْ فيه الأدلة على فخر فرنسا وقوتها السابقة، فلا بدَّ أن يحزن المتفرِّج إذا فَطِنَ إلى أنَّ البروسيين اجتمعوا بكل قوتهم في هذا المكان، وتوَّجوا ملكهم ولهلم الأول إمبراطورًا لألمانيا كلها في قصر ملوك فرنسا سنة ١٨٧١، فهناك الرسوم العديدة تدلُّ إلى انتصار فرنسا على الألمانيين وسواهم ولا سيما في عهد البطل نابوليون الأول، ويمكن للمتفرِّج اللبيب أن يدرسَ تاريخ فرنسا كله من الرسوم المجموعة في قاعة الحروب بقصر فرسايل هذا؛ فإنها تمثِّل حالة فرنسا وحروبها من أيام شارلمان إلى عهد نابوليون، وقد قُسِّمَتْ هذه الرسوم حسب تاريخها ومواضيعها في غرف خاصة بها، فإن صور الحروب الصليبية مثلًا وُضِعَتْ في قسم خاصٍّ بها، وصور حرب القرم كذلك، ومعارك نابوليون المشهورة في قسم آخر وحرب الجزائر، وغير هذا مما يمكن أن يقفَ الواحد أمام الصورة منه ساعة أو ساعتين وهو يتأمَّل ما فيها وما تشير إليه من الحادثات الكبرى، فالناس الذين يتقاطرون على فرسايل لمشاهدة حديقتها وقصرها وهذه الرسوم يُعَدُّون بعشرات الألوف. ومما يُذْكَرُ بين غرائب هذا القصر قاعة الزجاج لها ١٧ نافذة كبرى، بين كلِّ نافذة ونافذة مرآة كبيرة تنعكس عليها صور المتفرِّجين والرسوم الجميلة في سقف القاعة، ومنظر بعض الحديقة فيتكوَّن من مجموع هذه المناظر ما يعْسُرُ على الواصف وصفه ولا سيما إذا كانت المياه تتدفَّق من البِرْكَةِ الكبرى، وهي تصعد على ألف شكل وشكل، بعضها يتموَّج وبعضها يتعرَّج وبعضها يشقُّ الفضاء شقًّا، وبعضه يخرج على مهل وبعضه ضيِّق الدائرة وبعضه واسعها، وفي بعض الأحايين يلوِّنون الماء بألوان تسحر الناظرين في الليل، فإذا تمشَّى الزائر بين أزاهر الحديقة وخضرتها النضرة وكانت المياه على ما وصفنا والناس على اختلاف الأجناس يتمشَّون أمامه، زال على قلبه الهمُّ ونسي كلَّ ما يوجب الفكر والغمَّ.
وعلى مقربةٍ من هذا القصر العظيم في فرسايل قصران آخران، يُعْرَفُ أحدُهما باسم قصر تريانون الكبير والثاني باسم تريانون الصغير، فأمَّا الأول فإنه بناه لويس الرابع عشر لإحدى حظياته، وأشهر ما فيه الآن عربات قديمة فاخرة استعملها ملوك فرنسا الأُوَل في الحفلات الرسمية، وأكثرها من أيام بونابارت، وعربات أخرى كثيرة الزخرف استعملها الأمراء والسفراء في أيام نابوليون الثالث، وهي من الآثار الجميلة، وأمَّا التريانون الصغير فبناه لويس الخامس عشر، وكان مقرًّا لبعض أفراد العائلة المالكة، وله حديقة جميلة تُفْتَحُ كلَّ يوم ويقصدها المتفرِّجون. وفي القصرين رسوم وآثار تدلُّ على الحوادث الماضية في تاريخ فرنسا نكتفي بالإشارة إليها هنا؛ لأن وصفها لا يزيد عن وصف الذي تقدَّم ذكره من أمثالها.
ويُذْكَرُ بين هذه الضواحي البهيَّة سان جرمين، وهي أيضًا كانت من مصايف ملوك فرنسا في زمان عزِّهم، تبعد ١٨ كيلومترًا عن باريس، ويُسار إليها بالترامواي البخاري من ميدان الكوكب الذي مرَّ وصفه، فيمرُّ المسافر بأشهى الحقول وأجمل المناظر في طريقه، منها منظر السين وغابات الكستناء إلى جانبه، ومنها بلدة نولي اشتُهرت بكنيسة لها على اسم القدِّيس فردنان، وقد بُنِيَتْ موضع سقط الدوك دورليان (وكان اسمه فردنان) ابن الملك لويس فيليب من عربته، وقُضِيَ الأمر بوفاته سنة ١٨٤٢، وهنالك مساكن كثيرة لبعض الكبراء من سكان باريس. وفي هذا الطريق بلدة مالميزون، وهي التي لجأت إليها جوزفين قرينة بونابارت الأولى بعد أن طُلِّقَتْ من زوجها، وقضت نحبها في قصر أُعِدَ لها سنة ١٨١٤، وكان من أمر نابوليون أنه لمَّا سقط من شاهق عزِّه بعد معركة واترلو قصد هذا القصر قبل سواه وأطال الفكر في أيام اقترانه بجوزفين وحبِّها له، ثم سافر منه إلى إنكلترا؛ حيث سلَّم نفسه لدولة الإنكليز وكان من أمْرِهِ ما كان، وفي سان جرمين متحف للآثار المعدنية من النحاس والحديد والفضَّة والذهب، وهي تزيد عن ثلاثين ألف قطعة مرتَّبة في خزائن ورفوف جميلة من داخل الزجاج، وفيها خلاصة تاريخ فرنسا على هذه النقود والآثار. والذين ينتابون هذا المعرض كثار، في جملتهم عدد يُذْكَرُ من السيدات الأميركيات تدور فيه الواحدة منهنَّ متأمِّلة قطعة وبيدها كتاب تدرس فيه حكاية كل ما تراه، وهذا شأن أكثر السائحات من الإنكليز والأميركان.
ومن هذه الضواحي سان كلو، ولها أيضًا شهرة ذائعة يوصَل إليها بالترامواي الكهربائي من عند متحف اللوفر ويمرُّ القطار في أحسن البقاع وأبهى الضياع، وفيه سان كلو قصر فخيم كان الإمبراطور نابوليون الثالث يقضي بعض الصيف فيه، وقد أصاب القصر المذكور ضرر كثير من مدافع الجيش البروسي في حرب سنة ١٨٧٠، وفي سان كلو أيضًا مناظر فائقة الجمال ومنازل للأغنياء من سكان باريس أو من الذين يعملون فيها مدة النهار ويستريحون بقية يومهم في هذه المساكن البديعة، وكثيرًا ما يصل إليها الرجال والنساء مشيًا على الأقدام من باريس بقصد التنزُّه أو جريًا على ذات العَجَلَتين المعروفة باسم بيسكل أو في العربات؛ لأن منظر هذا الموقع من أحسن ما يمكن أن تكتحلَ بمرآه العين، ويمكن الرجوع في نهر السين عن طريق سيفر، وهي على مقربة من سان كلو واقعة إلى ضفَّة السين، وفيها معمل الفخَّار الصيني الفاخر المعروف باسم سيفر، يزوره الناس كثيرًا لشهرته، ويُباع بعض الذي يُصْنَعُ فيه بألوف من الفرنكات ثمن كل قطعة، ولباريس غير هذه من الضواحي الجميلة ما نرى أنَّ الاقتصار عن ذكره أولى لكثرته، لا سيما وأننا قد أسهبنا في وصفها، وذكرنا عنها أهمَّ ما يجب ذكره فنتركها الآن ونتقدَّم إلى سواها.
بوردو
لمَّا انتهيتُ من الإقامة في باريس العظيمة قصدتُ السفر إلى بلاد البورتوغال، وعرَّجتُ في طريقي على مدينة بوردو الشهيرة، وهي من أهمِّ المدائن الفرنسوية، عدد سكانها ثلاثمائة ألف نفس، وهي واقعة على ضفة نهر غارون تبعد نحو ٥٨ ميلًا عن مصبِّه في الأوقيانوس الأتلانتيكي، وقد كانت من المدن التي استولى عليها الرومانيون في عهدها القديم، ثم ملكها العرب وسمُّوها بردال وفتحها الإنكليز سنة ١١٥٢ فعادت إلى فرنسا في سنة ١٤٥١، ومن ذلك العهد جُعلت تتقدَّم وتنمو حتى صارت إلى درجتها الحاضرة من الأهمية والعظمة، وهي لها مينا عظيم واسع ترسو به الباخرات الكبرى وتنقل إلى شاسع الأقطار مصنوعات بوردو من الورق والمنسوجات والأسماك المقددة، وأشهر من هذا كله خمر بوردو المعروفة، وهي من ألذِّ الخمور وأفخرها، لا يعْرِفُ الناس طريقة صنعها إلا في ثلاثة معامل في مدينة بوردو هذه، ويُصدَّر من معاملها نبيذ بقيمة ١٢ مليون جنيه في السنة.
وكان في بوردو يوم دخلناها معرض مثل معرض أمستردام الذي ذكرناه فدخلناه، وكان محافظ مدينة لندن قد عوَّل في ذلك اليوم على دخول المعرض أيضًا، والناس يستعدُّون لقدومه وملاقاته، وصعدنا في المعرض أعلى برج جميل وُضِعَ في رأسه النور الكهربائي فيرى الناظر من أعلاه مدينة بوردو بكلِّ أجزائها، ولها منظر يُذْكَر وحركة تجارية أهمُّ من منظرها وأشهر.
وكانت بوردو هذه آخر مدائن فرنسا العظيمة التي زرناها في هذه السياحة فتركتُهَا قاصدًا إتمام السفر إلى بلاد البورتوغال على مثل ما تقدَّم، وسوف ترى الكلام عن غير هذا من مدائن فرنسا في فصل قادم من فصول هذا الكتاب.