إسبانيا
خلاصة تاريخية
إن إسبانيا أول بلاد أوروبية بعد بلاد الروم ورد ذكرُها في الكتابات القديمة؛ فقد جاء في التوراة ذكر ترشيش حيث كان تُجَّار الفينيقيين وتجار اليهود في زمان الحكيم سليمان يتردَّدون لجَلْبِ الغنائم. و«ترشيش» في اصطلاح الأقدمين القسم الجنوبي من إسبانيا، وهو الذي له ذِكْرٌ في تاريخ البلاد أكثر من سواه، وقد كان تجار صور وصيدا يعرفون شطوط إسبانيا وينقلون منها الأشياء الثمينة قبل التاريخ المسيحي بأكثر من ألفين وثلاثمائة سنة، ومن المؤكَّد أنهم عَمَرُوا بعض أراضيها وبنوا فيها المدائن، مثل قادش وملاغة وكوردوبا (ولكلٍّ من هذه المدن أسماء عربية سيجيء بيانها فيما يلي) في القرن السادس عشر والخامس عشر قبل التاريخ المسيحي.
وقد ظلَّ الفينيقيون مستأثرين بخير إسبانيا زمانًا حتى انتبه اليونان إليها في القرن التاسع قَبْلَ التاريخ المسيحي، وجاء بعضُ التُّجَّار والمخاطرين من أهل رودس إليها فأسَّسوا مستعمَرَة روديا، وهي روزاس الحالية في ولاية كتلونيا، وتلاهم غيرهم من اليونان أيضًا؛ فتراجع الفينيقيون أمامهم حتى كانت سنة ٤٨٠ قبل المسيح واشتبك أكثر اليونان في حروبهم مع الفُرْسِ فجاء أهل قرطاجة — وهم من أصلٍ فينيقيٍّ — وملكوا أراضي الأندلس وبلنسية وكتلونيا، وأسَّسوا مدينة قرطاجة الجديدة، فكثرت أرباحهم وزادت متاجرهم حتى إذا قويت شوكةُ الرومانيين وكبُرَ سلطانهم تطلَّعوا إلى هذه البلاد الغنيَّة وحسدوا القرطاجيين على ما يربحون منها، فبدءوا بالتداخل في سنة ٢٣٢ قبل المسيح، ومن ذلك العهد بدأ التنافس بين الدولتين فلم ينتهِ إلا بعد حروبٍ هائلة سُحِقَتْ فيها قرطاجة سحقًا، وفاز الرومانيون في بدء القرن الثاني قبل الميلاد بالاستيلاء على إسبانيا، ولكنهم ظلُّوا نحو مائتي عام يحاربون أهلها الأشدَّاء ولا يقدرون على إخضاعهم إخضاعًا تامًّا حتى انتهى الأمر بالفوز التامِّ لدولة الرومانيين في عهد الإمبراطور أوغسطس قيصر سنة ١٩ قبل الميلاد، وما أنفقت دولة رومة مالًا ورجالًا على فتح بلاد مثل ما أنفقت على فتح إسبانيا في تلك السنين الطوال، ولكنها شعرت بالربح بعد الاستيلاء عليها وعلمت أنها لم تُضِعْ تلك النفقات سُدًى، وصارت إسبانيا بعد ذلك أهمَّ ممالك الرومانيين استوطنها كثيرون منهم ووُلِدَ فيها بعض من أشهر قياصرتهم وأعظمهم، مثل تراجانوس وأدريانوس وماركوس أوريليوس، وكذلك قام من أهل قرطاجنة مدة زهائها أعظم القُوَّاد في إسبانيا وأشهرهم أسدروبال وهنبال القائد الإفريقي العظيم الذي لم يذْكُر التاريخ أبرع منه في قيادة الجنود وتدبير المواقع.
وكان أهل إسبانيا على عهدِ الدولة الرومانية مثل غيرهم من عَبَدَة الأصنام، وهم أهل خشونة وشدَّة، فما دخلت الديانة المسيحية بينهم إلا بعد انتشارها في الشرق، وأهل البلاد يزعمون أنَّ ملر يعقوب أحد الرسل وصلها وبشَّر الأهالي بالإنجيل فيها، ولكنها ما لبثت أن اعتنق أهلها هذا الدين بعد اضطهاد القياصرة الرومانيين حتى صارت من أشهر مراكزه، وكان لأسقفها هوسيوس كرسي الرئاسة في المجمع النيقاوي المشهور الذي عُقِدَ سنة ٣٢٥ في نيقية، وبَقِيَتْ على حال واحدة من الخمول والتأخُّر حتى انقراض الدولة الرومانية وتسلُّط الأقوام المتبربرة على أراضي تلك الدولة المشهورة، وكانت إسبانيا مطمع هؤلاء الفاتحين لما اشتُهر عن خَصْبِ أرضها وجودة هوائها، فلمَّا جاءت قبائل الغوث في سنة ٤١٠ بعد المسيح لمحاربة الرومانيين أخذت إسبانيا قبل غيرها، واستولى الأمير أتولفوس عليها فصار ملكًا لدولة كبيرة حكمت هذه البلاد ثلاثمائة سنة، ولم يكن لهذه الدولة الغوثية شهرة في شيء سوى الخمول والمظالم، وكان أول مَنْ مَلَكَ إسبانيا كلها من هؤلاء الملوك رشلان سنة ٤٣٨، وخَلَفَهُ كثيرون أشهرهم أورك، وهو الذي استولى على جنوبي فرنسا سنة ٤٦٦، وورثها من بعده الملوك حتى إذا بدأ القرن الثامن بعد المسيح صارت الدولة إلى حالة الضعف من جُبْنِ ملكها رودريك وكثرة المضادِّين له والساعين في دسِّ الدسائس، وكان من أمرِ هؤلاء المضادِّين أنهم لمَّا أعْيَتْهُمُ الحيل في خَلْعِ الملك رودريك استعانوا بالعرب من أصحاب الغرب الأقصى فلبَّى العرب الدعوى وأرسلوا على إسبانيا جيشًا صغيرًا تحت قيادة الأمير طارق بن زياد، وكان هذا الجيش لا يزيد عن ١٥٠٠ محارب دخلوا إسبانيا من عند جبل كالب الذي سُمِّيَ بعد ذلك جبل طارق باسم هذا الفاتح في آخر شهر أبريل من سنة ٧١١ مسيحية، وكان في ذلك سقوط الدولة الغوثية وقيام الدولة العربية.
وقد كنت أتمنَّى لو يُمْكِنُ التطويل في سَرْدِ وقائع العرب وتاريخ الأندلس الشهي لولا أنَّ المقام ليس للتاريخ، والمراد لمحة يفهم منها القارئ خلاصة ما مرَّ على البلاد التي نريد وصف مشاهدها. وعلى هذا فأذكر أنَّ نجاح الأمير طارق في أول الأمر جرَّأ الأمير موسى نائب الوليد — وهو يومئذٍ الخليفة الأموي — على إرسال جيش آخر قاده بنفسه والتوغُّل في البلاد، فلمَّا رأى الملك رودريك ذلك قام لمحاربة الهاجمين بجيش جرَّار قاده بنفسه، وعدد أفراده تسعون ألفًا ودارت رَحَى الحرب عند قرية زيرس وهي تقرب من موقع قادس المشهور ثلاثة أيام متوالية، كُسِرَ بعدها الإسبانيون كسرًا تامًّا وتفرَّقوا في جوانب الأرض، فوقعت البلاد برُمَّتها في قبضة العرب لا سيما وأنَّ الملك رودريك نفسه قُتِلَ في تلك المعركة ولم يخلفه على الملك أحد، وكان جيش العرب في معركة زيرس لا يزيد عن ١٨ ألفًا تحت قيادة موسى بن نُصَير الذي ذكرناه، وكان طارق بن زياد قد أخضع عدَّة مدائن قبل وصول الأمير موسى في جملتها ملاغة (مالقة) وكوردوبا (قرطبة) وطوليدو (طليطلة)، فلمَّا انتهى موسى من زيرس تقدَّم على بقية المدائن، مثل سقيل (إشبيلية) وبيجا ومرتولا وغيرها ومَلَكَهَا على عَجَلٍ، فما مرَّ زمان على موسى وطارق حتى أخضعا كل إسبانيا ما خلا البلاد الجبلية الواقعة في الشمال، وهي بلاد كاستيل وأستوريا ظلَّت مستقلَّة كل مدة الدولة العربية، ونشأ منها بعد ذلك الملوك الذين طردوا العرب من البلاد على ما يجيء، وكان أهلُ هذه البلاد الجبليَّة في كل زمان أصحاب البأس الشديد في محاربة الأعداء لم يقوَ عليهم فاتح في زمن من الأزمان، وما زالوا من أول عهدهم أصحاب اليد الطولى في استقلال إسبانيا وتوحيد كلمتها، حاول العرب في أول الأمر إخضاعهم فرأوا من صعوبة مراسهم ما ردَّهم عنهم، واستمرَّت مملكة العرب نامية في إسبانيا ومملكة أستوريا هذه إلى جانبها والعرب لا يقربونها حتى أيام المنصور، وذلك بعد الفتح بنحو مائتي عام وهو أيضًا أخفق سعيًا مع هؤلاء القوم البواسل.
وما زال الزعماء من العرب يتوالون الإمارة في إسبانيا من قِبَلِ الخليفة الأموي حتى عام ٧٥٥ حين جاء البلاد الأمير عبد الرحمن الأموي فارًّا من وجه العباسيين بعد انقراض الدولة الأموية؛ فنال لحسن حظه واتساع مداركه تعضيد الأكابر وصار ملكًا لإسبانيا كلها وأسَّس دولة العرب العظيمة وفَصَلَهَا عن الخلافة العباسية، فكان ذلك بدء عصر مجيد لإسبانيا لم ترَ نظيره فيما مرَّ من تاريخها؛ لأن عبد الرحمن كان رجلًا عالمًا محبًّا للخير، ساعيًا في ترقية بلاده وتهذيب الأفكار، مقرِّبًا لرجال العلم والأدب جوادًا على الكُتَّاب والشعراء، شاد العمائر وأقام للعلم صروحًا كثيرة، ولمَّا دنا أجَلُهُ جَمَعَ من حوله الولاة والقُوَّاد وأوصاهم بالخضوع لابنه هاشم من بعده، وكان ذلك في سنة ٧٨٧ مسيحية.
وكان هاشم مثل أبيه عادلًا عاقلًا فاقتفى خطواته فَزَهَت المملكة في أيامه وتقدَّمت تقدُّمًا عظيمًا، ولكنه أصابه ما لم يُصِبْ أباه من هجوم أهل الشمال على بعض أملاكه وارتداد جنوده عنها، وبدأ أمراء الإسبان من ذلك العهد يستعيدون سابق عزِّهم والعرب يتقهقرون ويخسرون بعض الإمارات مدَّة هاشم والحاكم ومَنْ تلاهما من الملوك حتى قام عبد الرحمن الثالث سنة ٩١٢، وكان ملكًا عظيمًا واسع العقل كبير الدراسة؛ فأعاد إلى مملكة العرب عزَّها الشامخ واسترجع الصَّوْلَةَ المفقودة، وهو الذي بنى قصر الزهراء عند قرطبة وسيجيء ذكره، يُعَدُّ أعظم ملوك العرب في إسبانيا وأيامه أحسن أيام هذه الدولة الزاهرة، وخلفه ابنه الحاكم الثاني سنة ٩٦١، وكان أشهر أمراء العرب في حبِّ العلم وتقريب العلماء، رأت البلاد على عهده عزًّا كثيرًا، فلمَّا مات خَلَفَه ابنه هاشم الثاني وهو صبيٌّ في الحادية عشرة من عمره، فتولَّى الوصاية الأمير محمد بن عبد الله الملقَّب بالمنصور، وهو أعظم قُوَّاد العرب في أيام تلك الدولة الكبيرة، قاد الجيوش إلى ساحات النصر، وكان أكبر ضربات الزمان على أهل إسبانيا الذين لم يرضخوا لحكم الدولة الإسلامية؛ فإنه ظلَّ ٢٥ سنة يرسل عليهم كلَّ سنة مرتين جيشًا قويًّا يقوده بنفسه فيذيقهم البلاء الأكبر ويخرِّب معاقلهم ويقتل الألوف من رجالهم وينهب خير بلادهم حتى لم يبقَ في حَوْزَتِهِم غير جبال أستورياس الوعرة. ولمَّا جاءت سنة ١٠٠٠، استعدَّ استعدادًا عظيمًا لاستئصال شأفة المعادين، وإخضاع البلاد كلها للدولة الإسلامية، فكان في تلك الشدَّة وذلك الاستعداد الهائل أصلُ البلاءِ على الدولة الإسلامية؛ لأن الإسبانيين شعروا بضيق كبير وهالهم قصدُ المنصور وفعاله الماضية، فاتحدوا بعد الانقسام وتعاهدوا على الدفاع ومحاربة العرب بلا انقطاع حتى اجتمع لديهم قوَّة عظيمة، أقسم أفرادها على التفاني في محاربة العرب فلاقاهم المنصور عند قلعة النصر وأصلاهم حربًا عنيفة هائلة لم يتمُّ فيها النصر لأحد الجانبين، ولكنها انتهت بالخذلان لجيش العرب؛ لأنهم رجعوا عن البلاد غير غانمين وتقوَّتْ شوكة الأمراء المتحدين، فما أطاق المنصور صبرًا على هذا الخِذْلان ومات كمدًا سنة ١٠٠٢، فكان موتُهُ آخرة العزِّ والسؤدد للدولة العربية في إسبانيا ولم تقُمْ لها قائمة بعد ذلك.
ولمَّا شعر أمراء إسبانيا بالقوة بعد هذا زادوا جرأةً وكان من أمرِهم أنَّ فرناندو الأول ملك كاستيل ضمَّ بلاد ليون إلى مملكته سنة ١٠٣٧؛ إذ اقترن بصاحبة تلك البلاد، ومن ثَمَّ نشأت دولة إسبانيا قوية هي أساس الدولة الحاضرة، وتقدَّم فرناندو هذا على بلاد مدريد وطليطلة وضَرَبَ الجزية على أهلها من العرب، ومَلَكَهَا ابنه ألفونسو من بعده في سنة ١٠٨٣ فعادت إلى قبضة الملوك المسيحيين بعد أن ملكها العرب ٣٧٤ سنة، وكان من سوء حظِّ العرب وقتئذٍ أنه كثر التحزُّب والانقسام بينهم، فصار ملوك كاستيل يأخذون البلاد منهم ولايةً بعد ولايةً حتى إن ألفونسو الثاني لقَّب نفسه سنة ١١٣٥ ملك إسبانيا كلها؛ لأنه لم يبقَ للعرب غير القسم الجنوبي منها، ولمَّا جاءت سنة ١٢٣٨ رَحَلَ كلُّ العرب عن إسبانيا وأمُّوا ولاية جرنادا (غرناطة)، حيث أسَّسوا دولة جديدة دامت بعد سقوط دولة الأندلس العظيمة ٢٥٠ سنة، ولكنها كانت دولة ضعيفة عاشت بانقسام أمراء إسبانيا وتضاغنهم، وكانت في أكثر مدة وجودها تدفع جزية إلى ملوك كاستيل.
وكان أول ملوك غرناطة محمد الأول عاقلًا محبًّا للعلم مثل الذين أسَّسوا دولة الأندلس، وهو الذي بدأ ببناء قصر الحمراء المشهور — سيجيء ذكره — وخَلَفَه سنة ١٢٧٣ ابنه محمد الثاني فسار على خطَّته، وأتمَّ بناء الحمراء وعضد رجال العلم، ثم تلاه ملوك آخرون لم يشتهروا بشيء يُذْكَر، وكانت دولتهم تزيد ضعفًا وتقهقرًا حتى قام فرناندو الثاني ملك أراجون واقترن بإيزابلا ملكة كاستيل فضمَّ المملكتين وصيَّرهما دولة واحدة قوية في سنة ١٤٦٩، وكان ذلك بدء عصر جديد لإسبانيا ومجد عظيم لم يخطر على البال؛ فإن هذا الملك اكتُشِفَتْ أميركا في أيامه، وكانت إسبانيا السابقة إلى الاكتشاف وامتلاك القارَّة الواسعة، ثم جعل فرناندو همَّه طرْدَ العرب من إسبانيا كلها حتى لا يبقى فيها ملك سواه، وكانت امرأته الملكة إيزابلا نشيطة مثله وافقته على رأيه؛ فأثار على مملكة غرناطة حربًا شديدة وأصلاها نارًا حامية، وكان ملكها يومئذٍ — واسمه أبو عبد الله — رجلًا ضعيفًا لم يقوَ على خصمه الشديد فسلَّم البلاد له سنة ١٤٩٢، ورَحَلَ مع قومه إلى شطوط أفريقيا وبذلك انتهت أيام العرب في إسبانيا.
ولمَّا مات فرناندو بعد امرأته في سنة ١٥١٦ كانت إسبانيا دولة واحدة قوية، وليس فيها من العرب غير بعض الآثار وكانت أميركا برمَّتها أو ما عُرِفَ منها إلى ذلك الحين في قبضة هذه الدولة، وقد هاجت الخواطر من اكتشاف تلك القارَّة وبدأ الذهب يرِدُ منها إلى إسبانيا والهمم تتحرَّك ونَفَضَ الناس غبار الخمول، وقامت أوروبا بعد ذلك الظلام الدامس تحاول التقدُّم فكانت إسبانيا في طليعة هذه الممالك العظيمة، ولمَّا وليَ الملك كارلوس الأول ابن فرناندو هذا كان صاحب أعظم الممالك ثم انتُخِبَ إمبراطورًا لألمانيا بحقِّ الوراثة؛ لأن أمَّه كانت صاحبةَ الحقِّ في تلك المملكة؛ فصار كارلوس الأول ملك إسبانيا وهو شارل الخامس إمبراطور ألمانيا أعظم ملوك الزمان في أيامه لم تغِب الشمس عن أملاكه ولم ترَ إسبانيا عزًّا مثل عزِّ دولته؛ فإن الذهب تدفَّقت ميازيبه على إسبانيا مدة حكمه من أميركا وصولته عمَّت البلدان؛ لأنه قَهَرَ فرانسوا الأول ملك فرنسا والسلطان سليمان، وأذلَّ الأمراء المعاندين له وبقية تاريخه ذُكِرَت في تاريخ النمسا وألمانيا. وتنازل هذا الملك العظيم في سنة ١٥٥٦ عن المُلْكِ فخَلَفَه في إسبانيا ابنه فيليب الثاني وكانت البلاد يومئذٍ في أوجِ عزِّها ومعظم ثروتها، واقترن فيليب هذا بماري ملكة إنكلترا، فلمَّا ماتت حاول الاقتران بأختها إليصابات التي خَلَفَتْها على المُلْكِ وغضِبَ من إبائها، فصمَّم النية على قهرها وإخضاع بلادها، وأرسل على إنكلترا أسطولًا عظيمًا يُعْرَفُ باسم الأرمادا الكبيرة، كانت قطعها ١٣٥ وفي ظنِّ الملك فيليب أنَّ مثل هذه القوة البحرية لا تُغْلَبُ، ولكنَّ الأقدار عاندته فحطَّمت سفن الإنكليز هذا الأسطول بقيادة أمير البحر درابك وعاد فيليب عن بلاد الإنكليز بالخسران، وكان المذهب البروتستانتي قد نشأ في ألمانيا على عهد كارلوس الأول، فلمَّا صار فيليب ملكًا ورأى تقدُّم البروتستانت ساقَتْهُ الغيرة على دينِهِ الكاثوليكي إلى تعذيب البروتستانت واضطهادهم في كلِّ ممالكه، وهو الذي ثارت هولاندا عليه على مثل ما تقدَّم في تاريخها، وكان فِعْلُ القوم في إسبانيا على منتهى القسوة والشدَّة حتى لم يعد أحدُ الأهالي يجْسُرُ على ذكر المذهب البروتستانتي؛ فامحى من ذلك اليوم ولم تزل إسبانيا كلها كاثوليكية قُحَّة إلى هذا النهار.
ومات فيليب سنة ١٥٩٨ معذَّبًا من أشدِّ الأمراض آلامًا فخَلَفَه ابنه فيليب الثالث، وتلاه فيليب الرابع وهو الذي سُلِخَت البورتوغال عن إسبانيا في أيامه سنة ١٦٤٠. وخَلَفَه كارلوس الثاني، فلمَّا مات سنة ١٧٠٠ حَدَثَتْ ثورة وحرب انتهت بانتخاب أمير من آل بوربون — وهم ملوك فرنسا — للحكم باسم فيليب الخامس، وكان هذا الملك الجديد ابن إحدى الأميرات الإسبانيات، ويُعَدُّ من أعقل ملوك إسبانيا هو والذين تلوه من آل بوربون، فقد كانوا جميعًا أهل حَزْمٍ وتعقُّل ظلُّوا حاكمين من تلك السنة إلى ١٧٨٨ حين مات كارلوس الثالث، وهو آخر ملوك الدولة البوربونية، فحدثت حروب وثورات كثيرة لا محلَّ لذكرها انتهت بعد تولية عدَّة ملوك وملكات بأن كارلوس الرابع تخاصَمَ مع ابنه على الملك وحكَّما نابوليون الأول في أمرِهما سنة ١٨٠٨، فَحَكَم بعزل الاثنين وَجعل أخاه يوسف ملكًا للبلاد، وكان يوسف عادلًا متأنيًا ولكنه لم يملك طويلًا؛ لأن البلاد قامت عليه وجاءت جنود إنكلترا فطردته وقائدها يومئذٍ الديوك أوف ولنتون الشهير الذي سَحَقَ قوة نابوليون في واترلو، وبعد خروج الجنود الإنكليزية عادت الحروب والقلاقل واستقلَّت ولايات أميركا الجنوبية كلها سنة ١٨٢٠، فصارت جمهوريات معلوم أمرها، وقد كان أكثرها للدولة الإسبانية ما خلا بلاد البرازيل؛ فإنها كانت تابعة لمملكة البورتوغال، وما زال أهل أميركا الجنوبية إلى هذا اليوم يُعْرَفُونَ بأصلهم الإسباني ولغتهم إسبانية أيضًا، وظلَّ أهل إسبانيا كلَّ يوم ينصِّبُون ملكًا أو ملكة وهم لا يقرُّ لهم قرار حتى قرَّ رأيهم على تمليك الأميرة إيزابلا سنة ١٨٤٣، ولكنهم عادوا وانقلبوا عليها وهم في ثورات وحروب أهليَّة إلى سنة ١٨٧٠ حين انتخبوا أماديو الأول ابن ملك إيطاليا فكتور عمانوئيل، وما مَلَكَ غير ثلاث سنين ثم تنازَلَ عن المُلْكِ سنة ١٨٧٣، فانتخب الأهالي أميرًا من آل بوربون هو ألفونس الثاني عشر والد الملك الحالي، كان ذكيًّا مِقْدَامًا أسكن ثائر الأهالي وأعاد الطُّمأنينة إلى البلاد، واقترن بأميرة من آل هابسبِرْج هي والدة الملك الحالي، ومات هذا الملك الطيِّب بالهواء الأصفر سنة ١٨٨٦ وامرأته يومئذٍ حامل، فحَكَمَتْ مكانه وصيَّة للملك حتى وُلِدَ ابنها ألفونس الثالث عشر وهو الملك الحالي، وقد عَنِيَت الملكة كرستينا بتربيته تربيةً تساعده على إدارة مهامِّ الملك، واستعانت بأمهر الأساتذة والمربِّيات.
أقسم بالله العظيم وبهذا الإنجيل الطاهر، أنِّي أحافظ على نظام البلاد وقوانينها، فإذا فعلت فليجزني الله بما يشاء وإن لم أفعل فليدعني الله للحساب.
ولمَّا انتهى الملك من تلاوة هذا القسم ضجَّ الحاضرون هتافًا ودعاءً وهم يقولون: ليحيا الملك مرةً بعد مرةً، وعند ذلك تقدَّمت الملكة كرستينا إلى ابنها فقبَّلته وهنَّأته وهنَّأه بقية الحاضرين من العظماء والكبراء، وألقى رئيس بلدية مدريد خطابًا موجَزًا بين يديه؛ فانتهى بذلك احتفال الإسبانيين بارتقاء ملكهم عرش البلاد ودار الملك بعد ذلك بين العظماء الحاضرين يحدِّث هذا، ويلاطف ذاك حتى خرج من قاعة المجلس والكل من ورائه ثم رَكِبَ الجميع عرباتهم وساروا إلى الكنيسة الكبرى حيث تُلِيَتْ صلاة التتويج، وكانت الشوارع المؤدِّية إلى تلك الكنيسة غاصَّة بألوف الخلق ومئات الألوف وآيات الزِّينة في جانبَي كلِّ شارع مرَّ به الموكب تبهر الأنظار، وملابس الإسبانيين رجالهم ونساؤهم ظاهرة الجمال كثيرة التزويق والألوان، وبلغت الزِّينات أجمل أشكالها حول الكنيسة؛ لأن خَدَمَةَ الدين أنفقوا ألوفًا مؤلَّفة على إعدادها باعتبار أنهم خَدَمة دولته الكاثوليكية وأعوان ملكه من قِدَمٍ، وكان في الكنيسة من هؤلاء الرؤساء وكيل قداسة البابا وكاردينال سانتياغو وكاردينال برشلونة وثلاثون مطرانًا وأسقفًا وقفوا جميعهم في مدخل الكنيسة؛ ليرحِّبوا بجلالة الملك حين وصوله، وكانت الصلاة مؤثِّرة جدًّا ولا سيما الأنغام الروحية التي غنَّاها أفراد مدربون استعدُّوا لها أيامًا طويلة من قبل التتويج.
إنِّي وقد استلمتُ زمامَ الحكومة من يدَي والدتي العزيزة أُرْسِلُ إلى أفراد أمَّتي الإسبانية خالص تحياتي وحبِّي، وإنِّي عالمٌ بمقدار المسئولية الكبرى التي وَقَعَتْ عليَّ الآن، عازم بإذن الله العلي أن أقوم بأعبائها، باذلًا في سبيل ذلك كلَّ قواي، ولست بجاهل أنِّي ينقصني الاختبار والعلم الذي أناله على ممرِّ الأيام، ولكنني أؤمِّل من أمتي أن تسمح لي بالوقت الذي يلزم لهذا الاختبار، فإذا ساعدتني العناية الإلهية وإذا سَمَحَ الشعب الإسباني بتعضيدي كما عضَّدوا والدتي من قبلي في مدة وصايتها عليَّ، فإن الأمة الإسبانية ستعلم أنِّي لست أول أفرادها في الرُّتْبَةِ فقط، ولكنني أول أبنائها العاملين على ترقية شئونها والمُجِدِّين في المحافظة على سلامتها وعظمتها، ولي أمل أنَّ الشعب يساعدني على يوم بلوغ هذا القصد الشريف.
وفي تلك الليلة أُقيمت حفلة رقص في قصر الملك — وهو من أجمل قصور أوروبا كما سيجيء الكلام عنه — حضرها أربعة آلاف نفس من الأمراء والسفراء الأجانب ورجال الحكومة العظام من عسكرية وبحرية وأشراف إسبانيا، وفيهم العدد العديد من رؤساء العشائر القديمة التي لها شأن عظيم في تاريخ إسبانيا، وكان الكلُّ بملابسهم الرسمية ونياشينهم، وكان الملك يلاطف المدعوين باسمًا ضاحكًا، وعلى صدره نحو عشرين وسامًا وردتْ لجلالته من القياصرة والملوك أثناء تتويجه.
وفي الغد — أي يوم ١٨ في الشهر المذكور — استعرض الملك جيشه وخَطَبَ في الجنود خطبةً حماسية وطنية، ثم استعرض طلبة المدارس، وفي مساء هذا اليوم أُقيمت حفلة رقص كانت خاتمة الحفلات في زمان التتويج.
وزار ملك إسبانيا عدَّة عواصم في أوروبا فتعرَّف بالقياصرة والملوك وأسرهم، وكان ينوي في هذه السياحات أن ينتخبَ له قرينة فاختار البرنسيس أوجيني فكتوريا بنت البرنس هنري باتنبرج الألماني وأمها البرنسيس بياترس أخت جلالة ملك إنكلترا الحالي، وكان والد الفتاة قد حضر حرب الأشانتي في شرق أفريقيا سنة ١٨٩٦ وبينا هو راجع منها إلى إنكلترا أصابته الحمَّى قبل أن يبلغَ تلك البلاد فمات بها وأولاده يومئذٍ صغار؛ ولذلك عنيت جدَّتهم الملكة فكتوريا وأمهم بتربيتهم واهتمَّت البرنسيس بياترس للفتاة على نوعٍ أخص حتى إنها شبَّت على أحسن المبادئ، واشتُهرت بعد ذلك بجمالها الباهر حتى إن الملك ألفونسو فضَّلها على كلِّ بنات حوَّاء وخَطَبَها من أمِّها وخالها فقُبِلَ طلبه، وعُيِّنَ يوم ٣١ مايو من سنة ١٩٠٦ موعدًا للاقتران في مدريد عاصمة إسبانيا، وكان الملك قبل الاقتران يتردَّد على لندن لزيارة خطيبته وترتيب معدَّات العُرْسِ ومقدِّماته وهي كثيرة ما بين السراة والملوك لا سيَّما، وأنَّ البرنسيس كانت على المذهب البروتستانتي والملك على المذهب الكاثوليكي، وقد تمَّت الرسوم اللازمة لذلك، وأهمُّها أن الأميرة غيَّرت مذهبها واعتنقت مذهب الكاثوليك؛ ففي يوم الجمعة الموافق ٢٥ مايو سنة ١٩٠٦ — أعني قبل الاقتران بأسبوع — قامت البرنسيس من قصرها بجوار لندن مع والدتها وإخوتها وحاشيتها إلى محطة فكتوريا التي كانت غاصَّة بأفراد الأسرة المالكة الإنكليزية والوزراء واللوردات، وفي مقدِّمتهم ملك إنكلترا خالها، وكان فيها من الهدايا التي قدَّمها أهلها وكبار القوم في إنكلترا وألمانيا وغيرهما ما يُقدَّر بمليونَي جنيه، من ذلك تاج ألماس أهدَتْهُ إليها الإمبراطورة أوجيني أرملة نابوليون الثالث وهي عرَّابتها — أي إنها كانت وصيَّتها ساعة الولادة — وهي — أي الإمبراطورة — صديقة أمِّ الفتاة وجدَّتها، يُقال إنها أوصت لها ببعض مالها نظرًا إلى هذه العلاقة وإلى كون الإمبراطورة أوجيني من أصلٍ إسباني واسم ملكة إسبانيا أوجيني فكتوريا كما تقدَّم على اسم هذه الإمبراطورة واسم الملكة فكتوريا أيضًا.
ولمَّا قامت الأميرة إلى مدريد ذَهَبَ الملك ألفونسو إلى مدينة إيرون في حدود بلاده ومعه رجال دولته لمقابلتها فتمَّت المقابلة بكلِّ ودادٍ، وسار بهم القطار بعد المقابلة سيرًا بطيئًا حتى يمكن للأهالي في المدن والقرى الإسبانية التي يمرُّ فيها أن يروا ملكتهم الجديدة، وكان في محطَّة العاصمة الأمراء والسفراء وكبار القوم، وفي مقدِّمتهم والدة الملك لمَّا رأت البرنسيس فرِحَتْ بها وعانقتها مرارًا وأمَّلت أن تراها خير قرينة لولدها وملكة عظيمة لإسبانيا، فركبت والدة الملك مع العروس في عربة تجرُّها أربعة بغال، وكان الملك راكبًا جوادًا ولابسًا كسوة قائد يسير على اليمين إلى قصر ألباردو الذي أُعِدَّ مؤقَّتًا للبرنسيس قبل دخولها القصر الملكي، وكانت الشوارع مزدحمة بجماهير الناس جاءوا ليحيُّوا الملكة الجديدة خصوصًا في شُرُفات المنازل، وكان بعضُ السيِّدات يطلقن الحَمَام على عَرَبَةِ العروس من الشُّرُفَات. وفي الغد الذي هو يوم السبت الموافق ٢٦ من الشهر المذكور أَتَت والدة الملك إلى قصر ألباردو وأخذت معها العروس إلى القصر الملكي، وطافت بها في القاعات والغرف ثم عادت معها إلى قصر ألباردو، وبعد الظُّهر من ذلك اليوم أَتَى الملك ورَكِبَ مع البرنسيس في عربة من جنس الأوتوموبيل فدار معها في ضواحي العاصمة القريبة. وفي يوم الأحد الموافق ٢٧ من الشهر المذكور أُقيم قُدَّاس في ساحة مكشوفة في القصر بالدور الأعلى أُعِدَّت لذلك، وكان قسمٌ من الشعب يصلِّي في ساحة القصر الخارجية في الوقت نفسه، وفي يوم الإثنين سار موكب مكوَّن من مئات من عربات الأوتوموبيل رَكِبَ فيها أعيان العاصمة وزُيِّنَتْ بالأزهار والأعلام ومرَّت أمام القصر لتراها البرنسيس. وفي اليوم المذكور أيضًا تَشَرَّف رئيس وأعضاء مجلس النُّوَّاب بمقابلة البرنسيس في قصر ألباردو، فتلا الرئيس خطاب ترحيب مضمونه أنَّ الشعب الإسباني إذا أراد أن يختار ملكة له فهي الملكة، وما دام قلب ملكهم قد اختارها فاختياره هذا جاء مطابقًا لرأي الشعب، وأنها سترى من المحبَّة والإكرام في وطنها الجديد ما ينسيها الأَسَفَ على مبارحة الوطن القديم، وفي يوم الثلاثاء قابلها رئيس وأعضاء مجلس الشيوخ ورفعوا لها خطابًا آخر مثل الخطاب الأول. وفي يوم الأربعاء حضر وفد من إقليم قطالونية ومعه تاج مرصَّع بحجار الألماس قدَّمه هدية لها. وفي اليوم المذكور مساءً أتت فرقة من المتطوِّعين الإسبانيين مكوَّنة من ٩٠٠ ضابط و١٩٠٠ عسكري بالملابس التي كانت الضباط والجنود تلبسها في القرن السابع عَشَر ومعهم الطبول والزُّمور والنقير فحيُّوا البرنسيس فسُرَّت كثيرًا لمنظر هذا الموكب العديم المثال، وفي هذا اليوم ورد تلغراف إلى البرنسيس من أهالي قرية براجوز يتوسَّلون إليها أن تطلبَ من الملك العفو عن رجل حُكِمَ عليه بالإعدام وقُرِّرَ شنقُهُ في الغد، بينا أنَّ البلاد كلها مشتركة في حفلات الاقتران فقرأته البرنسيس ودفعته إلى الملك سائلةً عفوه فعفا عنه، وصدر أمره بإرسال تلغراف إلى حاكم تلك القرية بذلك، وكان فرح الأهالي عظيمًا لمَّا علموا بالعفو.
وفي يوم الخميس الموافق ٣١ مايو سنة ١٩٠٦ — وهو اليوم المعيَّن للاقتران — كانت العاصمة مزدانة بالأعلام والرياحين وغاصَّة بالمتفرِّجين، حضروا من أطراف إسبانيا وجوانبها حتى كان عددهم يزيد عن مائتي ألف ومظاهر الزينة والأنوار باهرة في الميادين والشوارع والمنازل والبنايات العمومية، وكان المنزل يؤجَّر بمبلغ جسيم في شارع مايور الذي مرَّ منه الموكب. وفي الساعة الثامنة صباحًا ذهبت البرنسيس من قصر ألباردو إلى القصر الملوكي وجَرَتْ رسوم العقد، ثم تركته في الساعة العاشرة بموكب حافل كان مؤلَّفًا من عدَّة عربات، جلست في الأولى منها العروس مع والدتها وجلست والدة الملك مع زوجة ولي عهد إنكلترا في الثانية، وكان في بقيَّة العربات عددٌ كبيرٌ من الأمراء والأميرات، وكان الملك قد سار من القصر الملوكي من جهة أخرى في منتصف الساعة العاشرة بموكبٍ كثير الأُبَّهَة في مقدِّمته فارس من كبار أعوانه وفرقة من الفرسان ثم ٢٢ موكبًا من أعيان إسبانيا بعرباتهم، وأعيان إسبانيا مشهورون من قِدَمٍ في أوروبا بالمجد الأثيل والشرف الباذخ وعلوِّ الجاه بنَقْشِ شعارهم على عرباتهم وأبواب منازلهم وأمتعتهم، وتبع موكب الأعيان مندوبو الدول، وهم ولي عهد إنكلترا عن ملك إنكلترا والكران دوك فلاديمير عن إمبراطور روسيا والبرنس هنري فريدريك عن إمبراطور ألمانيا والأرش دوك فردناند عن إمبراطور النمسا ودوك جنوا عن ملك إيطاليا والبرنس ألبرت ليوبولد عن ملك البلجيك والبرنس أدولف عن ملك السويد، وجميعهم بالحُلَلِ الرسميَّة تتلألأ والوسامات الفاخرة على صدورهم، رَكِبُوا في عربات بلاط إسبانيا القديمة المذهبة وهي معروفة بضخامتها وفخامتها، ترجع في قِدَمِهَا إلى القرن الثامن عشر وتُحْفَظُ لمثل هذه الحفلات، قلَّ أن يوجد نظيرها إلا في موسكو، ثم ظهرت عربة فارغة نوافذها مذهبة وتُسمَّى عربة اللياقة أو الدليل، ووراءها عربة الملك سوداء محلَّاة بالذهب وعليها تاج إسبانيا، وكان الملك لابسًا كسوة جنرال، وكان النهار جميلًا والألوف المؤلَّفة من الناس إلى جانِبَي الطريق وفي شُرُفَاتِ المنازل، فالتقى الموكبان في ساحة كنيسة جيرومنيو الخارجية، ولمَّا دخل الملك إلى الكنيسة صدحت الموسيقى بالنَّغَمِ الوطني الإسباني، ثم دخلت العروس إلى يمينها والدتها وإلى اليسار أم الملك، فصدحت الموسيقى بالنغم الإنكليزي الوطني، وسارت وأمامها الصليب حتى وقفت أمام الملك استعدادًا للإكليل، وإذ ذاك ركع الملك بُرْهَة قصيرة ثم نهض ومشى من وراء عروسه لعند والدته فرَكَعَ أمامها وقبَّل يدها وعاد إلى محلِّه، ثم إن العروس سارت إلى والدتها فعانقتها وعادت إلى جانب الملك، وإذ ذاك بدأت حفلة الاقتران قام بها رئيس أساقفة طوليدو بمساعدة رئيس أساقفة الكاثوليك في توتنهام بأرلاندة، وكان أهمَّ ما يستلفت النظر في الاحتفال الديني لفُّ الشرائط من الكهنة حول أكتاف العروسين إشارةً إلى ارتباطهما بالدين الكاثوليكي.
وكانت الكنيسة تَرْفُلُ بحُلَّةٍ من زهر البرتقال، وقد ضاءت بالأنوار الساطعة تقع أشعَّتها على الوسامات والحُلَل المذهبة ومجوهرات السيدات فتزيد الحفلة رونقًا وبهاءً، وبعد الصلاة خَرَجَ الجمع من الكنيسة في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر، وكان الموكب الذي بَلَغَ طوله أكثر من كيلومترين يسير في غابة البهاء والرواء والملك يسلِّم بيده على الجماهير والملكة تحني رأسها والشعب يهتف لهما وهما في غاية الفرح والابتهاج. وبينا هم سائرون على هذه الحالة إذ بقنبلة رماها فوضوي من منزل بالدور الرابع في شارع مايور وَقَعَتْ بين الخيل ومركبة الملك والملكة فحطَّمت المركبة، وقُتِلَ في هذه الحادثة المشئومة ١٦ نفسًا، منهم الماركيز دي سوتو مايور رئيس الحُجَّاب وثلاثة ضُبَّاط وسبعة جنود من ألاي واد راي وخمسة من المتفرِّجين وجُرِحَ نحو المائة منهم الجنرال ويلر، فنهض الملك حالما انفجرت القنبلة كأنه يريد أن يحمي الملكة، ولكن الله سلَّم الرجل وزوجته من الأذى، وكان تأثير هذه الحادثة مؤلمًا وشديدًا في جميع النفوس، وكان قسمٌ من الموكب قد وصل القصر الملوكي فأسرع أحدُ الفرسان وأخبر حاشية الملك والملكة بما حصل، وعند ذلك علا النحيب والبكاء في القصر، وانتقل الملك والملكة من عربتهما ساعة هذا المصاب إلى عربة أخرى فمرَّا بين جثث المقتولين وهما يسمعان أنين المجروحين وذهبا إلى القصر الملوكي يذْرِفَان الدمع، وقد تلوَّث ثوبُ الملكة بدم المقتولين الأبرياء، ولكنَّ الشعب حين علم بنجاة الملك والملكة جعل يهتف هتافًا عظيمًا دليل الفرح بهذه النجاة، وكان الحزن والضوضاء شديدَين حين نُقِلَتْ جثث القتلى والجرحى من محلِّ الحادثة، فإن النساء والأولاد كانوا يتراكضون وراء عربات النقل الذاهبة إلى المستشفى هذه تبكي زوجها وتلك ولدها أو أخاها، والمنظر ساعتئذٍ هائل يفتِّت الأكباد، وكان عدد الذين ماتوا في هذه الحادثة ٢٤، منهم الماركيزة دي تولوزا وعمرها لا يتجاوز ٣٢ سنة أصابتها شذرة من القنبلة وهي واقفة في إحدى النوافذ، وكان زوجها راكبًا في موكب الملك ينظر إليها ساعة مروره النظرة الأخيرة، وقد قُتِلَ عدَّة أشخاص في نفس المنزل الذي أُلْقِيَتْ منه القنبلة؛ لأنها انفجرت في الهواء فحَدَثَ فيه ضغط أودى بالكثيرين، ولمَّا بلغت الأرض زاد تفرقعها وقَتَلَتْ عددًا من الذين كانوا حول عَرَبَةِ الملك، ومن الفحص الطبي رأوا أنَّ الجاني كان قد سمَّ القنبلة تعمُّدًا فدبَّ الفساد في دمِ كثير من الجرحى وماتوا، وأنَّ شذرات تلك القنبلة الجهنمية أصابت أقواس النصر المنصوبة وبعض الجدران على مسافة ٩٠ مترًا، وأنها كانت محشوَّة بنحو ٢٠٠ غرام من الديناميت، وفي اليوم المذكور وردتْ تلغرافات تهنئة من القياصرة والملوك إلى الملك والملكة على نجاتهما، وأُقيمت صلوات في الكنائس الكاثوليكية في أكثر جهات الأرض وفي كنيسة قصر ملك إنكلترا وأُرْسِلَ رداء الملك المذكور الذي تلوَّث بالدم إلى الكنيسة ليُخزَّنَ فيها علامة الشكر لله تعالى على النجاة. وفي اليوم المذكور مساءً أطل الملك والملكة من شُرْفَةِ القصر على جماهير العالم الواقفة أمام القصر فهتفت لهما هتافًا عظيمًا، وكان الجاني ينوي إلقاء القنبلة على الملك بداخل الكنيسة، وقد سعى أن ينالَ ورقة دخول بصفته مُكَاتِب جريدة ألمانية ودفع ٣٠٠ فرنك لقاء ذلك، ولكنه لم يتمكَّن من الحصول على الورقة، فلو أنَّه دخل الكنيسة ورمى فيها تلك القنبلة لهَبَطَت الكنيسة على الملك والملكة وبقية الحاضرين، وكانت مصيبة من أكبر مصائب العالم.
وأمَّا الجاني فإنه فرَّ بعد فعلته الشنعاء وأراد السفر، ولكنه التقى في اليوم التالي بأحد جنود البوليس في ضواحي مدريد وسأله عن الطريق إلى برشلونة فاشتبه الجندي به، ولمَّا حاول أن يقبضَ عليه أطلق الجاني رصاصًا على الجندي فَقَتَلَهُ ثم أطلق على نفسه رصاصة أخرى فمات في الحال.
ويُقال على الجملة إن ملك إسبانيا الحالي وملكتها من أحسن الحاكمين حالًا وخصالًا، وقد رَزَقَهُمَا الله حتى صدور هذا الكتاب وَلَدَين وبنتًا، وزادت قوَّة إسبانيا وَنَمَتْ متاجرها كثيرًا وتحسَّن مركزها السياسي في العهد الأخير. والملك ألفونسو يتكلَّم عدة لغات أوروبية، وله إلمام بمبادئ الفنون العسكرية والبحرية، وقد لقي أولياء الأمر عناءً كبيرًا في المحافظة على جلالته وردِّ مكايد الأعداء عنه من يوم ولادته؛ لأنهم كانوا يتآمرون على خَطْفِهِ أو قَتْلِهِ في كلِّ حين، فسلَّمه الله من مكايدهم.
مدريد
هي عاصمة إسبانيا من أيام فيليب الثاني، وسكانها الآن ثمانمائة ألف نفس، فيها كثير مما يستحقُّ الذكر، ومن أهمِّ ذلك ميدان الشمس سُمِّي بهذا الاسم؛ لأن الإسبانيين يقفون فيه تحت أشعَّة الشمس، ويلذُّ لهم الوقوف، وهو مثابة الخلق الكثير من عامَّة الإسبانيين. وللقوم ولع بالتدخين؛ فقلَّ أن ترى إسبانيًّا بدون سيجارة في فمِه أو في يدِه، حتى إن العامل الحقير يؤدِّي عمله طول النهار وهو يدخن، والتاجر يكلِّمك وينجز الأعمال وهو يدخِّن أيضًا، والحوذي يسوق العربة والسيجارة في فمه، فهي عادة متسلِّطة على كل فئات الإسبانيين. واسم مدريد عند العرب مجريط، محرَّف عن الاسم الأصلي مثل كلِّ الأسماء التي تداولوها مدة امتلاكهم هذه البلاد.
قلنا إن ميدان الشمس هذا موضع مهمٌّ في مدينة مدريد؛ فإنه يحيط به وزارة الداخلية وإدارة البرق والبريد وأحسن الفنادق والمخازن، وهو يُعَدُّ أوسط المدينة وقلبها، تتفرَّع منه الشوارع الكبيرة أو تنتهي إليه، وأشهر هذه الطرق شارع «الكالا» أو القامة سُمِّي بذلك؛ لأنه كان ينتهي في زمن العرب عند قلعة بُنِيَ موضعها الآن منازل حديثة الوضع. وفي هذا الشارع حوانيت وحانات مُتْقَنَة ونادي العسكرية ومرسح أبولو ومجلس الوزراء ووزارة المالية، وهي بناءٌ ضخمٌ ذات أبواب ثلاثة واسعة، ووزارة الحرب داخل حديقة جميلة، وينتهي في ميدانٍ آخر أُقيم به قوس نصر تذكارًا لدخول الملك كارلوس الثالث مدريد، يتفرَّع منه ثلاثة شوارع: الأول يوصِلُ إلى مرسح الثيران، وله أهمية عظمى هنا سنعود إلى بيانها، والثاني شمالًا لحارة سلمنكه، والثالث يمينًا إلى ميدان برادو، وهو أهمُّ مواقع هذه المدينة وأجملها، يُكْنَسُ ويُرَشُّ مرتين في اليوم؛ لأنَّ الخلق تحتشد فيه للتمشِّي وسماع الأنغام، وتقرب منه الحديقة العمومية دخلناها فإذا هي واسعة الأطراف، مليحة الترتيب، يزيد بهجتها بحيرة من الماء في وسطها وضعوا فيها زورقًا بخاريًّا صغيرًا يسير عليه الأولاد متنزِّهين فوق الماء، وأغراس هذه الحديقة جميلة زاهرة، ولكن أشكالها مألوفة كلها وليس فيها شيء غريب من مستعمرات إسبانيا القاصية.
وتحوَّلت من هذه الحديقة إلى معرض مدريد المشهور للصور وتحف الصناعة الدقيقة، وهو بلا خلاف من أحسن معارض الدنيا في شيء واحد هو أنَّ الصور الموجودة في غرفه من عمل المصوِّرين العظام تزيد قيمةً وثمنًا عمَّا في غيره، صحيح أن اللوفر الباريزي والناشيونال جالري في لندن فيهما صور أكثر من هذا المعرض، ولكن أهل إسبانيا جمعوا أثمن ما صوَّر المصوِّرون الكبار في كلِّ البلاد ووضعوه في هذا المعرض، وكان ملوكهم يجودون من مال الدولة بسخاء كثير على ابتياع الصور الثمينة له، وأهمها من صُنْعِ رفائيل وفان ديك وموريلو، وهو أشهر مَنْ قام في إسبانيا بالتصوير الزيتي، لا يمكن أن يخلوَ معرضٌ في أوروبا من بعض رسومه البديعة، وقد جَمَعَ مديرو هذا المعرض أثمن ما عندهم من الصور ووضعوها في الدور الأسفل من البناء حتى يمكن نقلها في الحال إذا حدث حريق في المكان، وهذا يخالف نظام المعارض الأخرى حيث تُوضَعُ الصور العظيمة في الدور الثاني من البناء.
هذا كلُّه تراه في الجهة اليمنى من ميدان الشمس وإلى ناحية شارع القلعة، وأمَّا الجهة اليسرى من هذا الميدان فيتفرَّع منها شارع عظيم مقابل لشارع القلعة المذكور يُعْرَفُ باسم مايور، وهو يؤدِّي إلى بعض ما في مدريد من المشاهد المأثورة مثل دار السلاح، وهي معرض كبير للأسلحة لا تقلُّ القطع فيه عن ١٢٠٠٠ قطعة، ومن أهمِّها ملابس ملوك إسبانيا القدماء وأسلحتهم، وهم بهيئة الفرسان غرقوا بالزرد فما ظَهَرَ منهم غير العيون، وهنالك سروج عربية مُزَخْرَفَة بالفضة والذهب، وسيوف من حديد طليطلة الذي اشتُهر في الأرض شهرة السيوف الدمشقية، وآثار أخرى عليها كتابات عربية، مثل: «نصرٌ من الله وفتح قريب» على شفار السيوف أو «بسم الله الرحمن الرحيم» على الملابس، وغير هذا مما هو مألوفٌ في هذه البلاد.
ويلي دار السلاح هذه قصر الملك بُنِيَ سنة ١٧٦٤، وبلغت نفقاته نحو ثمانين مليون فرنك؛ لأنه جُعِلَ حصينًا متينًا وقصرًا فخيمًا في آنٍ واحد، فيه ثمانمائة غرفة وأمامه عدَّة حدائق مُتْقَنَة الوضع، فمساحته مع الحدائق ٨٠ فدَّانًا، وقد جعلوا الدور الأسفل منه لوزارة الخارجية ووضعوا في ساحته تماثيل القياصرة الرومانيين الذين نشئوا في إسبانيا وذكرناهم في المقدِّمة التاريخية، وفي هذا الدور عربات الملوك القديمة تُسْتَعْمَلُ في الحفلات الرسمية، ولها بغال عظيمة لجرِّها يتفاخر بها الإسبانيون تفاخُرَ غيرهم بالجياد الصافنات، وأمَّا الدور الأعلى فمنه قسمٌ خُصَّ بالملك، وقسمٌ آخر للمقابلات الرسمية والتشريفات، وهو لا يقلُّ عن ثلاثين غرفة واسعة مُتْقَنَة الترتيب ثمينة الرياش تليق بأبَّهة الملك وذوق الإسبانيين، وهم أهل إعجاب بوطنهم وصلف وكبرياء كما تقدَّم. وقد رأيت غرفة السفراء في هذا القصر وهي قاعة فسيحة فخيمة ملبَّسة جدرانها بالقطيفة النفيسة، ولها برواز من القَصَبِ وفيها ١٢ ثريا كبيرة تتدلَّى منها المصابيح العديدة، وفي صدرها كرسي الملك ما بين أربعة سباع من النُّحَاس المذهب وتماثيل تشير إلى الحكمة والعدالة، وصورة الدولة الإسبانية حانية رأسها أمام الكنيسة وهي علامة التديُّن وتمسك إسبانيا بالمذهب الكاثوليكي، وفي هذا القصر كنيسة صغيرة ولكنَّها بديعة الصُّنْعِ قامت على عُمُدٍ من الرُّخَامِ الأبيض، وفيها من نفيس الصور وجميل التذهيب والزخارف ما يستحقُّ الإعجاب، وفي الدور الأسفل من هذا القصر موضع للعربات التي أقلَّت ملوك إسبانيا السابقين وأكثرها بُنِيَ على الطرز الشرقي ولبعضها جمال كثير، هذا أهمُّ ما يُذْكَرُ في عاصمة الإسبان غير مرسح الثيران وبيانه في الفصل التالي.
قتال الثيران
أفردتُ لهذه العادة الغريبة فصلًا خاصًّا بها؛ لأنها أهمُّ ما يُرْوَى عن إسبانيا وأشهره؛ ولأن الأهالي لهم بها شَغَفٌ يقرب من الهَوَسِ والجنون، وهي عادة مُنْكَرَة قاصرة على أهل إسبانيا لا تليق بتمدُّن الأيام الحديثة، ولا تزيد هذه العادة عن مجزرة للخيل والثيران، وفيها خطر عظيم لبعض الأفراد يلذُّ للإسبانيين التفرُّج عليها إلى حدٍّ يفوق التصديق، فإنهم يأتون بثيران كبيرة قويَّة القرون يعلفونها ويُحْضِرُونها للقتال في مراسح واسعة، ثم إذا جاء موعد الفُرْجَة هيَّجوها وحرَّشوها ودفعوها إلى ذلك المرسح، فتجد أمامها رجالًا يهيِّجونها بالشالات الحمراء والوخْزِ بالحِرَاب الدقيقة حتى إذا اشتدَّ هياجها؛ جاءها فرسان يقاتلونها بالحراب فتهيج هذه الثيران وتهجم على الفارس والفرس فتبقر بطن الفرس وتلقي الرجل في الخطر، وإذا انتهت من فعلها هذا قتلوها وجرُّوها من المرسح مع الخيل المقتولة، فالفُرْجَة كلها على هذه الحيوانات كيف تُقْتَل. كل هذا يراه المتفرجون رجالًا ونساءً ولا يتأثَّرون، بل هم إذا اشتدَّ الهول وكثرت فظاعة المنظر ورأوا دماء هذه الحيوانات المعذَّبة تسيل طربوا وفرحوا وصفَّقوا لها كثيرًا، وقد ماتت عواطف الحنان والشَّفَقَة منهم بفعل تلك العادة.
قصدتُ مرسح الثيران في مدريد يوم الأحد، فما قدرتُ على ابتياع التذكرة لدخوله إلا بعد عناء كثير تكبَّده صاحب الفندق؛ لأن الإقبال على تلك الفُرْجة كان فوق ما تتصوَّره العقول. ومرسح مدريد أعظم مراسح الثيران في إسبانيا كلها، وفي صدْره أماكن للأسرة المالكة، ومع أنه يضمُّ خمسة عشر ألفًا فما بقي فيه موضع خاليًا، وكان الوصول في ذلك النهار إلى المرسح عَسِرًا جدًّا من كثرة الزحام ووفود القاصدين ومنظر الناس فيه وهم ١٥ ألفًا غريبًا؛ لأنهم قعدوا طبقات طبقات تتدرَّج من أرض المكان إلى سقفه، وفي الأسفل ساحة كبيرة للمصارعة يحيط بها حاجز من الخشب غير مرتفع ولكنه متين، وهو يفصل الساحة عن مقاعد المتفرِّجين، وفي إحدى الجهات من تلك الساحة أبواب من الخشب تُفْتَحُ وتُقْفَلُ من الوراء ليدخلَ منها المبارزون والوحوش، وكان الناس ينتظرون بدء القتال بذاهب الصبر حتى إذا فُتح أحد الأبواب وبدأ الفصل الأول صفَّقوا كلهم طرِبِين معجَبِين، ودخل ثور كبير جعل يركض في عرض الساحة كأنَّما هو يقول هل من مبارز، هل من مناجز، فعندئذٍ دخل الساحة رجلان يلبسان الجوخ الأحمر المقصَّب، ومع كلٍّ منهما شال أحمر يحرِّش الثور ويهيِّجه فجعلا يُغْضِبَانه بإبراز الشال حتى هاج وغضب ففرَّا إلى ما وراء الحاجز الخشبي الذي ذكرناه.
ثم دخل رجلان آخران على شاكلة مَنْ ذكرنا ومعهما باليد اليسرى شال أحمر وباليمنى حِرَاب، طول الواحدة نحو متر ونصف ملبسة بالقماش الأحمر ويتدلَّى منها شرائط حمراء، فجعلا يقاتلان الثور بهذه الحراب وهما كلما تقدَّم عليهما عرضا له الشال الأحمر فينطحه تشفيًا منه وغيظًا، وبعض هذه الحراب المذكورة تُغْرَزُ في رقبة الثور وبعضها لا يعلق بها بل يسقط إلى الأرض ويوجب سقوطها ازدراء الحاضرين، كما أنَّهم يصفِّقون استحسانًا إذا غُرِزَت الحربة في رقبة الثور، فلمَّا سال دم هذا الثور واشتدَّ هياجه دخل ثلاثة فرسان على الخيل معهم حِرَاب طويلة جعلوا يطعنونه كلٌّ في دوره، فعند ذلك هجم الثور على الحصان الأول ووضع رأسه تحت بطنه فبقره وألقاه شطرين ثم هَجَمَ على الحصانين الآخرين وفَعَلَ بهما كالأول حتى وقعت الأفراس الثلاثة تتخبَّط بدمائها، وأمَّا الفرسان فإنهم سقطوا إلى الأرض لمَّا قُتِلَتْ خيلُهم، وفي الحال فرُّوا من وراء الحاجز ما عدا أحدهم أُغمي عليه فبادروا إلى إعانته وانتشاله حينما كان الثور يدوس جثث الخيل وينظر إلى الحاضرين نَظَرَ الفائز المنتصر.
وبعد هذا دخل محارب يسمُّونه ثوريرو — أي الرجل الثوري — ومعه الشال الأحمر والحَرْبَة، فجدَّ في محاربة الثور إلى حدِّ أنْ وَقَفَ الاثنان ينظر أحدهما إلى الآخر غيظًا، فحينئذٍ طعن الرجل الثور بحربة في رقبته فأخرجها من الجانب الآخر فلمَّا وقع هذا الثور المسكين قتيلًا هاج المتفرِّجون طربًا وصفَّقوا استحسانًا، وصَدَحَت الموسيقى فرحًا بتلك المذبحة، ثم دخلت عربات ورجال جرَّت الجثث إلى الخارج. هذا هو الفصل الأول من صراع الثيران يتبعه فصلان آخران لا يختلفان عنه كثيرًا، غير أنه يدخل في الدور الثاني بنات على ظهور الخيل بيدهنَّ الحِرَاب فيحاربن الثور، ولا يعرِّضن أنفسهنَّ ولا خيلهنَّ للخطر بل يلتزمن الفرار كلَّما هَجَمَ الثور عليهن.
وقد تأثَّرتُ من هذا المنظر وأذهلني فَقْدُ الشفقة من صدور القوم، حتى إنِّي عند خروجي من هذا المرسح سألتُ رجلًا منهم رأيَه في ذلك، فأجابني بما يُفْهَمُ منه أنهم يعدُّون ذلك القتال براعة وجرأة، وأمَّا الخطر الذي يلحق بالرجال المحاربين فلا يعتدُّون به؛ لأنهم يعدُّون ذلك من أشكال الإقدام ولا بدَّ في رأيهم من قاتل ومقتول في كلِّ معركة، وقد زادني عجبًا أنَّ فَقْدَ الشعور إلى هذا الحدِّ غير قاصر على الرجال بل هو يشمل النساء والأولاد والبنات، وهم جميعًا كانوا يصفِّقون طَرَبًا لتلك المناظر الفظيعة.
وفي كل مدينة إسبانيَّة تُذكر مرسح لقتال الثيران تُنشر إعلاناته في الجرائد؛ فتأتيه الناس خاصَّة في السكك الحديدية من الأماكن والقرى البعيدة؛ لما اشتُهر عنهم من الوَلَعِ بهذه المناظر، وقد حاول بعض الفرنسويين أن يُدْخِلُوا هذه العادة إلى فرنسا، وأنشئوا لذلك محلًّا في غاب بولونيا في باريس؛ فعارضتهم الحكومة واضطرُّوا إلى إبطاله، ولا عَجَبَ في هذا، فإن أكثر الأمم المتمدِّنة لا تخلو من عادات وحشيَّة تُلام عليها، من ذلك عادة الملاكمة عند الإنكليز ولها مراسح خاصَّة يتلاكم بها الرجال الأقوياء ويسيل الدم من وجوههم على مرأى من الألوف وهم يفْرَحون لبلواهم ويطْرَبُون ويصفِّقون للفائز من المتلاكمين.
الأندلس
كان جلُّ مرادي من السياحة في إسبانيا أنْ أرى بلادَ الأندلس البهيَّة، حيث شاد العرب مملكتهم الزاهرة المشهورة؛ ولهذا فإنِّي قمت من مدريد في قطار الحديد قاصدًا هذه الولاية، ومررتُ في أرض كثيرة المزارع والرُّبَى والآجام يُزْرَعُ فيها الرمَّان والبرتقال والعنب والتين، وغير هذا من أشكال الفاكهة اللذيذة والبقول الخضلة التي تكثر في إسبانيا كلها، وفي هذا الإقليم بنوعٍ أخص وهو يرويه نهر سمَّاه العرب باسم الجدول الكبير واسمه الإسباني «جواد الكفير»، وبعد سفر ١٢ ساعة في القطار وصلت مدينة «كوردوفا» واسمها عند العرب قُرْطُبَة، وهي مدينة قديمة العهد في تاريخ إسبانيا، كانت مقرًّا لمتاجر الفينيقيين الذين أنشئوا فيها معاصر للزيت وانتقاها الرومانيون من بعدهم فجعلوها نخبة المدائن الإسبانية، حتى إن بعض قياصرتهم وُلِدُوا فيها، مثل تراجانوس وأدريانوس، كلُّ هذا وهي ما رأت عزًّا عظيمًا مثل عزِّ الدولة العربية حين جعلها عبد الرحمن الأموي قاعدة مملكة الأندلس، وصارت مقرًّا للعلم والصناعة تضاهي بغداد في ذلك على عهد الدولة العبَّاسية، حتى إن عدد الجوامع في قُرْطُبَة على عهد عبد الرحمن بلغ ٧٠٠ جامع غير المدارس والحدائق والمتنزَّهات الكثيرة.
وحيث وصولي قرطبة نزلت في فندق أوريان بُنِيَ في ميدان يُعْرَفُ باسم قبطان باشا، وقد تميَّز هذا الميدان بأغراس من البرتقال والنَّخل جُعِلَتْ صفوفًا متبادلة؛ أي إنهم زرعوا نخلة تليها شجرة برتقال في طول تلك الصفوف، وهم يقصدون من ذلك تمثيل الذوق العربي. وخرجتُ من هذا الفندق مارًّا بالميدان المذكور، فقصدتُ آثار جامع عظيم بناه الأمير عبد الرحمن الأول صاحب الأندلس، وَقَصَدَ من بنائه أن يجعله ندًّا للجامع الأموي في دمشق؛ ولهذا الجامع شهرة ذائعة، فلطالما بالغ كُتَّاب الإفرنج في شَرْحِ محاسنه حتى إنه ليُعَدُّ من معجزات الصناعة وأفخر ما تَرَكَ الأولون للآخرين، بُنِيَ على عُمُدٍ من الرُّخام بعضها أحمر وبعضها أخضر والبعض أبيض أو لها ألوان أخرى، وعدَّة العُمُد كلها من داخل الجامع ٧٥٠، فكأنَّما هي حقلٌ زُرع عُمُدًا شهيَّة، وقد نُصِبَتْ صفوفها الحسناء تلي بعضها البعض على نَسَقٍ يمثِّل للناظر الجمال والفخامة والعظمة في لحظة واحدة. وطول هذا المعبد من داخله ١٦٧ مترًا والعرض ١١٩، وصفوف الأعمدة العظيمة فيه لا تقلُّ عن ٣٦ صفًّا، لها مهابة يقْصُرُ عن وصفها الشرح الطويل، وله مئذنة عريضة يمكن للرجل أن يرتقيَها على ظهر الجواد وعلوُّها ٩٣ مترًا، ومحراب وقفتُ أمامه زمانًا أتأمَّل تلك المحاسن البديعة، وهو قطعة واحدة من الرُّخَامِ الأبيض زُخْرِفَ بالفُسَيفِسَاء النادرة الإتقان، وفوقه مصباح من الذهب الوهَّاج، ولذلك منظر لا يُمْحَى من الأذهان، وله أيضًا مقصورة صُنِعَتْ من خشب الأبنوس والند حُفِرَتْ فيها رسوم وآيات كاملة الجمال قد لا يأتي بمثلها مَهَرَةُ الصُّنَّاع في هذا الزمان. وقد كان هذا الجامع يُنار بمصابيح عددها ٧٤٢٥، ولا عجب في أنَّ الإسبان لمَّا جعلوه كنيسة لم يغيِّروا شيئًا من وضعه اللطيف؛ فقد قيل إن أحد الأساقفة أراد تغيير شيء منه على عهد شارل الثالث، ولكن المجلس البلدي خالفه في الرأي فبقي الجامع على حاله، وَحَدَثَ أن هذا الملك زار الجامع بعد ثلاث سنين فقال لمن حوله من خَدَمَةِ الدين: «بحقِّكم، ألا تغيِّروا شيئًا في هذا المعبد العظيم، فإن الذي تريدون إحداثه لا يمكن وجود مثله في كلِّ يوم، وأمَّا هذا فلا نظير له في الوجود.» وهذه شهادة بعظمة هذا البناء الفاخر الذي يفتخر بمثله الأوائل على الأواخر.
وليس في قرطبة الآن شيء يستحقُّ الذكر غير هذا الأثر العظيم وأطلال دراسة وآثار عَفَتْ ما بقي منها غير الموضع، من ذلك ناحية على مقربة من المدينة اسمها فيجا بنى فيها عبد الرحمن الثالث قصر الزهراء المشهور في تاريخ الأندلس بطلبٍ من زوجته الزهراء؛ إذ رَجَتْهُ أن يبنيَ لها قصرًا تقضي فيه آخر أيام اللذَّات؛ فأحضر المهندسين والبنَّائين من بغداد والشام وبلاد الروم وجهات إسبانيا، وجاء بالخشب من الشام وأفريقيا وبالمرمر من بعيد الأقطار، وأشغل في البناء عشرة آلاف عامل وثمانمائة بهيم، ثم أَنْفَقَ مالًا على زخرفه ورياشه، ووَضَعَ فيه الأدوات المرصَّعة بالحجارة الكريمة بعضه شُري بالمال وبعضه جاءه هدية من الملوك المعاصرين، وكان من قاعات هذا القصر غرفة زوجته التي بُنِيَ القصر لها زُرْكِشَتْ مفروشاتها باللؤلؤ وجدرانها بالفُسَيفِسَاء، ومن أدواتها سرير لها، قام على عُمُدٍ من البلُّور وطشت وإبريق من الذهب مرصَّعان بالجواهر. ويتبع ذلك مواضع للخادمين والأعوان، ومنهم ٦٠٠ جارية وحُرَّاس خارج القصر لا يقلُّون عن ٤٠٠٠ راجل و٨٠٠٠ فارس، وقد كان عبد الرحمن ينفق إيراد الدولة على بناءِ هذا القصر مدة ٢٥ سنة، ويُقال — بوجه الإجمال — إن النفقات بلغت مبلغًا هائلًا، وما بقي لهذا القصر العظيم إلى الآن أثر، بل إن في مكانه بساتين وأغراسًا، فسبحان الذي يغيِّر ولا يتغيَّر!
وإنِّي حال وصولي هذه المدينة قصدتُ بناءً شهيرًا يسمُّونه الكازار محرفًا عن القصر، وقد صارت هذه الكلمة ذات شُهْرةٍ في أوروبا مثل الهمبرا المحرَّفة عن الحمراء، يسمُّون بها الحانات والملاهي والمراسح في أكثر العواصم الأوروبية، وذهبتُ إلى الألكازار، وهو قصر الأمير عبد العزيز من أمراء الدولة العربية قام على عُمُدٍ وركائز من الرُّخَامِ الأبيض، وقاعاته كلها مزيَّنة بالفُسَيفِسَاء المذهبة، وهي نادرة المثال عظيمة المجال، والسقوف ألواح سميكة من الخشب حُفِرَتْ عليها رسوم وآيات جميلة على النسقِ العربي المشهور، والشبابيك فيه واطئة عريضة أكثرها لا يخلو من رسوم عربية، ودخلت الحمَّام الكائن في هذا القصر، فإذا هو آية من آيات الإتقان الشرقي كأنَّ بانيه يرتاح إلى الجلوس على مصاطبه لا سيَّما وروائح الند والعود تتضوَّع من جوانبها، وله في أعلاه كشك كانت الغيد الحِسَان تُسْمِعُ الأمير منها شجيَّ الألحان، وهو راقدٌ فوق وثير الفراش وقد نسي متاعب الزمان، هذا هو الحمَّام الشتوي، وأمَّا الصيفي فوُضِعَ داخل قسم النساء من وراء الحديقة يشبه بمنظره فسقية شبرا المشهورة، وله طريق مبلَّطة أرضها بالطوب الأحمر ينفذ الماء من أنابيب فيها لا تظهر للعين، فإذا فتح لها مفتاح تدفَّق الماء على نسق بديع من تلك العيون الخفيَّة. وحديقة الحَرَمِ مشهورة بجمالها أيضًا تمشَّينا فيها بين شهيِّ الأغراس وأشجار المانلَّا تفوح منها الروائح العطرية، وأشجار نخل وبرتقال وتفاح وغير هذا مما يُذَكِّر المتفرِّج بالهناء الشرقي والحياة الخالية من الهمِّ، وأعجبني نوع من البرتقال تظهر الفصوص في ثمره من قبل أن يقشَّر وطعمه شهي لذيذ.
ومما يُذْكَرُ في هذه المدينة كنيسة جيرالدا، هي أعظم كنائس إسبانيا وأشهرها، بدأ كارلوس الأول ببنائها وأتمَّها الملوك من بعده، وكانت بغيتهم جعْلها أحسن الكنائس فوسَّعوا نطاقها، واشتروا لها من التُّحَفِ والمثمنات ما يقرُبُ من تحف كنيسة مار بطرس في رومة، وكنائس روسيا المشهورة، وفي هذه الكنيسة مدفن ابن خرستوفوروس كولومبوس مكتشف القارَّة الأميركية. وفي هذه المدينة معمل للسجاير للحكومة تعمل به أربعة آلاف ابنة وامرأة، وسجايره مشهورة باسم سفيل، وضواحي المدينة بديعة الجمال نامية الشجر والأغراس الشهيَّة، قضيت نهارًا أدور في جوانبها ورَاقَ لي حُسْنُها الباهر وعُدْتُ في السهرة فرأيتُ رقص البنات الإسبانيات وهنَّ يلبسن جلبابًا قصيرًا إلى حدِّ الركبة ويمسكنَ بالدفوف ينقرن عليها ساعة الرقص، وعلى رأسهنَّ منديل مثل بنات العرب ومنظرهنَّ كثير الجمال، وهذا جلُّ الذي يُذْكَر عن إشبيلية بَرِحتها قاصدًا غرناطة والمسافة ١١ ساعة في قطار الحديد.
إنِّي جعلتُ همِّي الأول بعد وصولي مدينة غرناطة التفرُّج على الحمراء هذه، وكنت قد قرأتُ عنها في كتب الفرنجة أشعارًا وفصولًا نفيسة حتى إنِّي رأيت في كتابة بواتو الرحَّالة الفرنسوي ما يزيد عن المبالغات الشرقية في وصف عظمة هذا القصر وغرائبه، وهو — والحق يُقال — يمثِّل قوة الإدراك والخيال وبراعة التنظيم والهندسة والإتقان إلى حدٍّ يوجب كلَّ هذا الإعجاب، وما كَذَبَ الذي قال إن باني هذا القصر جَمَعَ كلَّ ما وصلت إليه علوم البشر من أنواع الزخارف، وأضاف إليها فنون الجنِّ وقصورهم الفخيمة على ما جاء في حكايات الأوَّلين، فكانت النتيجة بناءً يسْحَرُ الألباب ويُذْهِلُ العقول وجمالًا ما له في آثار الغربيين مثيل.
ولقد مررت بأغراس وصفوف من الشجر البديع في طريقي من الفندق إلى الحمراء وخرير الماء بين صفوف الصنوبر والحور والصفصاف يزيد بهجة المكان ويعدُّ الفكر للتلذُّذ بمرأى تلك الدار الغريبة، حتى إذا وصلتها دخلت من باب العدل نُقش فوقه مفتاح ويد مبسوطة إلى ناحية السماء، ورأيت من بعد الباب ساحة كبرى توسع للفكر المجال اسمها حوش القاضي، ويليها حوش الآس زُرِعَ به من أغراس الآس شيء كثير، وهو على ما تعلم من أجمل أشكال النبات وأطيبه نفحًا. وسِرْتُ بعد ذلك في رواق مستطيل قام على ١٤٨ عمودًا من الرُّخامِ الأبيض مكلَّلة رءوسها بالنقوش البديعة، وقد وُضِعَتْ أربعة أربعة وثلاثة ثلاثة، وهي طويلة مستدقَّة لها جمال رائق، وفي أكثرها آثار التذهيب من أيام بنائها، وأرض هذا الرواق مبلَّطة بالرخام الأبيض، وجدرانه مكسوَّة بتراب الرخام وقد نُقِشَتْ كلها نقشًا دقيقًا حتى صار منظرها يقرب من منظر الخرج المشغول بالإبر لدقَّة زخارفه ورقَّة نقوشه، والواقف في هذا الرواق يتأمَّل منظر عُمُدِه الباسقة وجدرانه المتناسقة لا يملك النفس عن إظهار الطَّرَبِ والإعجاب بذكاء الذين نظموا تلك المحاسن على هذا الشكل المليح.
ودخلتُ بعد هذا قاعة السفراء، وهي من غرائب هذا القصر، بُنِيَ سقفها مثل سقوف الجوامع، وكُسِيَتْ جدرانها لحدِّ مترين بالقيشاني الأزرق يُشْبِهُ الفيروز، وفوق هذا القيشاني الثمين في جميع الجدران نقوش دقيقة رقيقة مثل التي مرَّ ذكرها وعبارة «لا غالب إلا الله» في كلِّ الجوانب، وهنالك عبارات أخرى أيضًا، مثل «الفتح والنصر المبين لمولانا أبي عبد الله أمير المسلمين.» ولهذه القاعة شبابيك واطئة كثيرة الاتساع يمكن الجلوس عليها لعدَّة أفراد، وهي تطلُّ على وادٍ بهيٍّ وراء غرناطة، واتساع القاعة مع ما فيها من تلك الزخارف يشرح الصدور، وأعظم منها حوش السباع سُمِّي بذلك؛ لأن في وسطه بحيرة يتدفَّق الماء من أنابيب جميلة فيها، وقد قامت على سباع عدَّة كلها من الرخام. ولهذه البركة ذكرٌ في التاريخ؛ لأنه قُتِلَ فوقها ٣٦ أميرًا من بني سراج أصحاب الدولة العربية في ذلك الحين بدسيسة من آل زقل، ومن حول تلك البحيرة مجال واسع مبلَّطة أرضُهُ بالرُّخام أيضًا وصفوف من العُمُدِ المستدقَّة ذات النقوش الفاخرة والتيجان المجلَّلة بأحسن الزخارف، وقد ارتفعت من فوق هذه العُمُد قبَّة شاهقة تزيد بهاء هذه القاعة، فإذا ما وَقَفَ المتفرِّج في وسط هذه القاعة الكبرى يسمع خرير الماء ويرى من حوله هاتيك العمد كالعرائس تسطع وتلمع من كلِّ جانب خُيِّلَ له أنه في جنة الخلد، وزاد إعجابه بمقدرة الذين بنوا هذا الأثر العظيم.
ودخلتُ بعد ذلك الحمَّام الصيفي والحمَّام الشتوي، وهما على شاكلة الذي تقدَّم وصفه من حمَّامات العرب الأخرى، وتأمَّلت تلك السقوف في غرف القصر كلها، وهي مصنوعة من ألواح خشبية سميكة عليها حَفْر وترصيع بالذهب والعاج وعِرْق اللؤلؤ، وأكثر الخشب في السقوف من الأبنوس الثمين، وليس في البناء كله سقف أو جدار يخلو من نقوش عربية وآيات قرآنية محبوكة أطرافها مشتبكة فروعها، كنت أقصدها للتأمُّل في محاسنها يومًا بعد يوم لئلَّا يفوتني شيء منها، وهي كما تعلم كبيرة طولها ٧٢٦ مترًا وعرضها ١٩٧، وقد بُنِيَتْ على أحد جبال ثلاثة غُرِسَتْ فيها أشجار الصنوبر والسنديان من قِدَمٍ، والماء يتدفَّق من جوانبها، فما اجتمعت محاسن الطبيعة والصناعة في مكان أكثر من اجتماعها في ذلك المكان البديع.
وفي غرناطة وضواحيها عدَّة آثار عربية، منها قصران على مقربةٍ من الحمراء وهما يشبهانها بعض الشَّبَهِ في النقوش والزخارف، كانا مسكنًا لقُوَّاد العساكر، وفي الضواحي قصر آخر يسير إليه المتفرِّج بين حِرَاجٍ من الزيتون والرمَّان والبرتقال والجوز، وهو أيضًا على شاكلة الحمراء بناه محمد الثاني، وكُتب على جدرانه قول سلفه: «لا غالب إلا الله» مرارًا. وقد أعجبني منظر الرمَّان في هذه الجهة، وهو مشهور بلذَّته حتى إن الإفرنج يسمُّونه باسم غرناطة (بومجراناد)، ومعنى اسمه عندهم تفاح غرناطة. وقد زاد في حسن هذا القصر أنهم أدخلوا إلى حديقته الغنَّاء فرعًا من النهر، فالذي يرتقي الأكمة المبني عليها القصر بين صفوف الشجر وبحيرات الماء وجداوله لا يملك نفسه عن إبداء الطَّرَبِ والعجب، وفي داخل القصر هذا أيضًا جامع فخيم مبلَّط بالرخام وجدرانه مملوءة بالقيشاني وخشبه منزل بالذهب والعاج، وفيه رسوم كثيرة الجمال وآيات دينية مختلفة الأشكال.
وأمَّا جرنادا أو غرناطة الحالية فليس فيها شيء يُذْكَر غير أنِّي شهدتُ احتفالًا دينيًّا يجلُّون قدره هنا كثيرًا؛ فإنهم في عيد العذراء كل عام — وهو يقع يوم ٢٣ سبتمبر — يسيرون بموكب حافل في طُرُقِ المدينة، ويشترك في هذا الموكب رجال الحكومة والدين والأهالي كلهم، وأصحاب الحِرَفِ والصنائع ويتكوَّن من ذلك مشهد عظيم يستحقُّ الذكر، يبدأ بجوق من رجال الموسيقى جميل الملابس تتبعه شِرْذِمَة من الجنود ثم جوق آخر وشرذمة أخرى من الجنود أيضًا يتبع أثرها رئيس المجلس البلدي وأعضاؤه والتُّجَّار وأرباب الحِرَفِ، ومع كل فئة علم كُتِبَ عليه اسم الحرفة، ويلي هؤلاء محافظ المدينة بملابسه الرسمية والنياشين، ثم رجال الدين يرفع أحدهم صليبًا قديم العهد فوق عصا من الفضَّة، ثم تمثال العذراء من الجبس لابسة فاخر اللباس المزركش، وعلى رأسها إكليل من الألماس والملابس كلها مرصَّعة بنفيس الجواهر، ويَرْفَعُ هذا التمثال أكبر سراة المدينة وأعيانها فيمرُّون به في الشوارع الكبرى على هذا الشكل المهيب، ولا يتمُّ الاحتفال قبل ساعتين أو ثلاث ساعات.
مدائن أخرى
وإسبانيا كثيرة المدائن التي لها ذِكْرٌ في التاريخ فإنِّي لمَّا فَرَغْتُ من مشاهدة ما في غرناطة برحتها قاصدًا «ملاغة»، واسمها العربي مالقة، من الثغور الإسبانية المعروفة وصلتها من أرض تختلف ما بين سهل وجبل، فجعل القطار يخترق الأرض ويدخل نفقًا بعد نفق وعدَّتها عشرون في مسافة ٦٥٠٠ متر، ثم يخرج إلى سهول زُرِعَتْ فاكهة وعنبًا يستخرج منه نبيذ ملاغة المشهور بحلاوته، والأرض هنالك حمراء يختلط ترابها بماء نهر يسمُّونه «جواد الهوارس» واسمه العربي جدول الحرث، فيحمرُّ ماؤه حتى يخيَّلَ لك أنه سيل من الدماء. وأمَّا ملاغة هذه فسكانها لا يزيدون عن ١٢٠ ألفًا، وهي من أقدم المدائن الإسبانية، انتابها الفينيقيون وجعلها الرومان من المراكز المشهورة، وعُرِفَتْ في أيام العرب بمقاومة عبد الرحمن مؤسس الدولة العربية وعدم الاعتراف له بالخلافة، ولهذه المدينة شهرة الآن باعتدال الهواء؛ لأنها واقعة على ضفَّة البحر فلا يشتدُّ حرُّها في الصيف ولا بردُهَا في الشتاء، ونساؤها جميلات يلبسن المنديل على الرءوس بدل القبَّعة المعروفة، وأهمُّ ما فيها متنزَّه يسمُّونه ألميدا، وهو اسم يُطْلَقُ على كثير من متنزَّهات إسبانيا، ولعلَّ المراد منه الميدان محرفة. وفي ألميدا هذه أشجار ومقاعد هي مثابة المتنزِّهين، وفي هذه المدينة معامل للخمر المشهورة زُرْنَا أحدها وكان مديره مرافقًا لنا يشرح لنا كيفية صنعها. وفيها أيضًا سوق تُعْرَفُ باسم سوق العرب باقية على حالها من أيام العرب، وعلى بابها باللغة العربية عبارة «الله الغني»، ومنها اتجهنا إلى معمل الليمون، أريد به محلًّا يصدَّر منه الليمون المعروف إلى الخارج، تُلَفُّ كلُّ ليمونة في ورقة وتُشْحَنُ، ويقوم بهذا العمل فتيات من سكان المدينة.
وعدد سكان برشلونة ستمائة ألف نَسَمَة، وهي وافرة الإتقان وافية التنظيم خلافًا لأكثر مدائن إسبانيا، ولأهلها أخلاق الفرنسيس وهمتهم — كما ذكرنا — وهم يندِّدون بالحكومة لاتخاذها مدريد عاصمة لها بدل مدينتهم الزاهرة، وأهل برشلونة أقل سُمْرَة من بقية الإسبانيين وأكثرهم نعمةً وترفًا، ترى الرجال والنساء منهم دائمًا يتزيَّنون بالأزياء الفرنسية، وهم أهل بَذَخٍ ورواء ظاهرَين. ولقد كانوا فيما مرَّ أهل بأس في الحروب ردُّوا الأعداء عن بلادهم مرارًا ولهم تاريخ مشهور. وبرشلونة حافلة بالملاهي والمراسح والميادين والمتنزَّهات في كلِّ جانب، ولأهلها ولعٌ بالقصفِ والطرفِ، فهي مجموع قصور بين غياض الشجر وبِرَكِ الماء البديعة، وشوارعها تحكي الحِرَاج الغضيضة في تناسُقِ أشجارها ونضرتها، وأهمُّ هذه المواضع ميدان راميلان واسمه العربي رملة، طوله ١٢٠٠ متر وعرضه ٤٥٠، وهو حافل بالشجر الباسق تشامخت أغصانه، وأهل المدينة يؤمُّونه عصاري كلِّ نهار؛ لاستنشاق الهواء النقي وسماع الأنغام، فيلذُّ للغريب انتياب هذا الموضع؛ لأنه يرى فيه من المناظر الحسنة والوجوه النقيَّة الطَّلْقَة ما لا يراه في موضعٍ آخر من إسبانيا.
وينتهي هذا الميدان عند البحر، حيث أُقيم تمثال خرستفوروس كولمبوس مكتشف أميركا، ويتَّصل بميدان آخر اسمه ميدان العمود طوله ٦٠٠ متر، وهذا يتصل بميدان الملكة إليصابات طوله ٧٠٠ متر، ويليه ميدان رابع اسمه ميدان الملكة طوله ٥٠٠ متر، وإلى جانبه ميدان خامس يُعْرَفُ باسم سان جوان طوله نحو ٥٠٠ متر، فطولُ هذه الميادين جميعها لا يقلُّ عن ٣٥٠٠ متر، وقد كنتُ أمرُّ في شوارع هذه المدينة البهيَّة فلا أنتهي من ميدان حتى أدخل ميدانًا آخر مثله في الرونق والبهاء وكلها معارض لجميل الشجر وشهي الزهر، والأبنية المُتْقَنَة تحيط بها من كلِّ جانب، فيها المنازل المشيَّدة والمخازن الكبيرة والحانات المزخرفة والبِرَكِ الواسعة تتدفَّق منها المياه العَذْبَة، فكان لمنظرِ برشلونة هذه تأثير نفسي. وإلى يمين الميدان الأخير حديقة عموميَّة دخلتها فألفيتُهَا روضة غَنَّاء من ضمن محاسنها تمثال الظفر، وهو عبارة عن جسم امرأة في مركبة تجرُّها جياد أربعة، والتمثال كله مذهب فوقه شلَّال ماء ينحدر منه الماء الزُّلال على صخور صناعية، ويصبُّ في غدير تُرْوَى منه جوانب الحديقة، فإذا وقفتَ في طَرَفِ الرواق وتأمَّلْتَ هذه المناظر كلها لم يزل رسمها من ذهنك ولو طال عليها الزمان، هذا غير ما في المدينة من معارض الصور ومرابض الوحوش البرِّيَّة مما أعدل عن وصفه مطولًا؛ لأنه لا يختلف عما ذكرت من نوعه في المدائن الأخرى.
ومما يُذْكَرُ في برشلونة أيضًا كنيستها الكاتدرائية زُرْتُهَا وأُعجبت بجمالها وإتقان ما فيها، ورأيتُ هنالك وفي كلِّ جهة من تعبُّد الإسبانيين شيئًا كثيرًا، فهُمْ أشدُّ الكاثوليك تمسكًا بدينهم، وقد كنت أراهم يقبِّلون جدران الكنائس وإذا رأوا في القطار قسِّيسًا مسافرًا دنوا منه وقبَّلوا يديه، وعلاقة حكومة إسبانيا بالحضرة البابوية مشهورة من عهد بعيدٍ، وقد نشأ في هذه البلاد طُغْمَة الآباء اليسوعيين، وهم من أركان المذهب البابوي — كما لا يخْفَى — فإن أغناتيوس لويولا مؤسس هذه العشيرة كان إسبانيًّا.
ومن أجمل ما يُذْكَرُ عن برشلونة إحدى ضواحيها نريد بها جبل مونسرَّات المشهور في الأرض لا يخلو معرض للصور في أوروبا من رَسْمٍ له، وهو عبارة عن عدَّة آكام تشبه قوالب السكر في شكلها تجمَّعت هنالك على نَسَقٍ غريب، وقد بنى الرهبان ديرًا فوق ذلك الجبل له شهرة ذائعة وذِكْرٌ في الحروب كثير، وفيه صورة للسيدة العذراء يزعمون أنها من صُنْعِ لوقا الإنجيلي ويحتفظون بها احتفاظًا كثيرًا، فلطالما أخفوها في لحف الجبل وفي المنازل مدَّة الحروب، ولم يبالوا بغيرها من تُحَفِ الدير، ثم أعادوها إليه بعد الحرب باحتفال كبير، وأكثر ما تمَّ ذلك مدَّة الحروب الأهلية الأخيرة وحرب فرنسا وإسبانيا على عهد نابوليون؛ فقد كان الفلَّاحون والرهبان يظهرون بسالةً وحماسةً غريبتَين في الدفاع عن هذه الصورة وحفظها، ولا عجب فإن اعتبارها عند القوم قديم حتى إن أكبر رجالهم كانوا يجلُّون قدرها ويحترمون الدير احترامًا كبيرًا، ومن الذين زاروا هذا الدير البابا بنوا والملك كارلوس الرابع مع زوجته والملك فردناند السابع سنة ١٨٢٧ وهو الذي وهبه ١٣٠ ألف فرنك، والدير غنيٌّ بأوقافه ونذوره واسع الجوانب، يمكن أن يضمَّ ألفَي شخص، وزُوَّاره لا يقلُّون عن سبعين ألفًا في السنة. وقد زُرْتُهُ فرأيتُ منظر المدينة والبحر والجبل والسهول المحيطة من قيمة مونسرات، فإذا هي من أهمِّ مناظر الأرض وأكثرها جمالًا.
وعلى هذا، فإنِّي سِحْتُ في إسبانيا سياحة طويلة بدأت من بلاد البورتوغال عند شطوط الأقيانوس الأتلانتيكي، وسِرْتُ من الغرب إلى الشرق ومن الشرق إلى الجنوب متَّبعًا ضفاف هذه البلاد حتى انتهيتُ من أهمِّ مناظرها ومدائنها المعروفة، وكانت جملة ساعات السفر في أرتال إسبانيا والأندلس ١٢٤ ساعة، ثم عوَّلت على الرحيل وقد رأيتُ من جمال هذه البلاد وخصبها وبديع مواقعها شيئًا كثيرًا. ولمَّا كانت برشلونة — وهي آخر ما ذكرتُ من مدن إسبانيا — قريبة من حدود فرنسا — كما مرَّ بك — فإنِّي قمت منها قاصدًا مدينة مرسيليا، والمسافة بين المدينتين ١٥ ساعة أكثرها مناظر فائقة الجمال، سواءٌ في أرض إسبانيا أو في أرض فرنسا، ورأيت في مرسيليا عدَّة من المعارف عائدين إلى هذا القُطْرِ السعيد، وكان من حُسْنِ حظِّنا أنَّ سيد المحامد والفضائل سمو البرنس محمد علي باشا شقيق الحَضْرَة الخديوية الفخيمة كان معنا عائدًا إلى مصر، فكان هذا الأمير الكريم يلاطف كلَّ مسافر ويعمل بكرم خلقه وطيب أصله وفرعه حتى وصلنا ثَغْرَ الإسكندرية وألقينا عصا الترحال فيها بعد تلك السياحات المطوَّلة، والحمد لله على كل حال.