طريق إنكلترا
يَذْكُرُ القارئون أنَّ الأمة الإنكليزية احتفلت في شهر يونيو من سنة ١٨٩٧ بمرور ٦٠ عامًا على حكم جلالة الملكة فكتوريا، وأُطْلِقَ على ذلك العيد العظيم اسم اليوبيل، وهو من حوادث الدهر المشهورة، لم يسبق له نظير في تاريخ الأرض، وقد لا يمرُّ على الناس حادث مثله؛ ولهذا فإني قصدتُ إنكلترا في ذلك العام للسياحة فيها ولحضور هذا الاحتفال الغريب، وقد نشأ عن ذلك أنِّي جعلتُ كلامي عن هذه البلاد العظيمة أقسامًا لا بدَّ منها: أولها وصف الذي مررتُ به من مدائن فرنسا وغيرها قبل وصولي إنكلترا، والثاني تاريخ موجَز لدولة الإنكليز لا غِنَى للقارئ عنه، وهو على شاكلة ما تقدَّم من الخلاصات التاريخية، والثالث وصفٌ لمدينة لندن عاصمة هذه البلاد، والرابع وصفُ الاحتفال العظيم الذي تقدَّم ذكره ويتقدَّمه كلام عن جلالة الملكة فكتوريا صاحبة هذا العيد، وهذا الفصل من ألذِّ فصول الكتاب، والقسم الخامس وصفٌ لبعض مدائن المملكة الإنكليزية المشهورة على مثل ما تمَّ لنا في الممالك الأخرى، وعلى هذا فنحن نبدأ بالكلام على مدائن ليست من إنكلترا، ولكنها كانت في طريقنا، وإليك البيان: برحتُ الإسكندرية يوم الجمعة الموافق ٤ يونيو من سنة ١٨٩٧ في إحدى بواخر الشركة الفرنسوية المعروفة باسم مساجري ماريتيم، في يوم راقَتْ سماؤه ورقَّ هواؤه، وكانت وِجْهَتُنَا الأولى مدينة مرسيليا، فكنَّا في الطريق نسرِّح الطَّرْفَ في أطراف البحر الواسعة ونتأمَّل عظمة الفضاء حتى ظهرت جبال إيطاليا في اليوم الثالث، وقربت الباخرة من مدينة مسينا حتى إننا كنا نرى شوارعها ونحن سائرون في البحر. وفي اليوم التالي سِرْنَا ما بين جبال كورسكا إلى اليمين وجبال سردينيا إلى الشمال حتى إذا كان اليوم الخامس ظهرت مدينة «مرسيليا»، وأوضح ما فيها عن بُعْدٍ كنيسة «نوتردام ده لاجارد»؛ أي السيدة الحارسة. وقد بُنِيَتْ هذه الكنيسة على مرتَفَعٍ من الأرض كثير الجمال، وسنعود إلى ذكرها.
وأهمُّ الشوارع التي تستحقُّ الذكر في مرسيليا شارع الكنابيير يُضْرَبُ المثل بجماله ورونقه حتى إنهم جرى على لسانهم قولٌ معناه: أنه لو كان في باريس مثل شارع الكنابيير لما وُجِدَ لها نظير. وهو في وسط المدينة يشطرها شطرين متساويين تقريبًا، ويمتدُّ من المرفأ وفيه من الأبنية العمومية والخصوصية ما يعْسُرُ عدُّه، من ذلك بناء البورصة، وهو فخيمُ المنظرِ، قام على عُمُدٍ متينة، وفي صدره نقوش تشير إلى الملاحة والصناعة والتجارة، وفي داخله يعْقِدُ مجلس التجارة جلساته، وتجاهه في هذا الشارع الحانات والمطاعم على أشكالها يقْعُدُ الناس فيها، وأكثرهم يشربون الإبسنت الذي أصبح مسْكرًا عامًّا لجماعة الفرنسيس يتعاطونه في كلِّ حين، ويقول بعض المدقِّقين إنه مُسْكِرٌ كثير الضرر بالأجسام والعقول تقرب نتيجة استعماله من نتائج الأفيون والمخدِّرات السامة، ولكنَّ للفرنسيس وَلَعًا به مشهورًا.
وفي طرف الكنابيير هذا شارع نوايل، بُنِيَ عن يمينه فندق نوايل من أحسن فنادق المدينة، وعن شماله فندق لابيه، وفي نهايته ميدان ملهان غُرِسَتْ به الأشجار الجميلة صفوفًا صفوفًا، ومُهِّدَتْ طرقه تمهيدًا لطيفًا، وفيه نُصب للجنود الذين قُتِلُوا في حرب ١٨٧٠، فهو مثابة المرسيليين ومجتمع أفرادهم يؤمُّونه في كلِّ عصرٍ لسماع الأنغام والتفرُّج بعضهم على بعض على عادة الناس في مثل هذه المواضع. ويقرب من هذا الميدان أو هو يحدُّه قصر الماء المشهور «شاتودو»، وهو أشهر ما في مرسيليا من المناظر التي يذْكُرُها الغريب، إذا قصدتَّه رأيتَ قبل كل شيء ماءً يتدفَّق سيلًا مدرارًا ويتساقط من رابية كأنَّما هو شلَّال عظيم فينصبُّ على صخور أُقيمت في طريقه ويتحوَّل منها إلى سُلَّمٍ من الحجر فيجري الماء على الدَّرَجِ واحدة بعد واحدة، وله خرير ومنظر جميل، فوقفتُ أتأمَّلُ ذلك المنظر زمانًا ثم ارتقيتُ الدور الأول من القصر له، سُلَّمَان مستديران واحد إلى يمين الشلَّال والثاني إلى شماله. وفي غرف القصر متحف تاريخي، أذكر من بين آثاره تمثال جندي مصارع من المرمر يستعدُّ للقتال وقد أُتْقِنَ صنعه، وظهرت جميع عضلاته، وتمثال كليوباترا يلسعها الثعبان، وغير هذا من المشاهد التاريخية. وفي الدور الأعلى متحف للصور، أكثرها من صُنْعِ المصوِّرين المرسيليين وقليل بينها مُشْتَرَى من الخارج، وقد صارت الأرض التي تلي هذا القصر حديقة عمومية لها شهرة بتنسيق أغراسها وأشجارها وما حَوَتْ من الزهر الغريب، بعضه منقول من أقاصي الأرض، هذا غير أنَّ فيها مجموع طيور من أطراف المعمورة، وقد لا يوجد مثل بعض الطيور المجموعة هنا في حدائق لندن وباريس المشهورة، ولبعضها جمال غريب، منها ما يشبه ريشه الفضة، ومنها ما يقرب من الذهب، ومنها ما له الألوان الزاهية الكثيرة العدد، فهي من الأشياء التي يجب على الغريب في مرسيليا زيارتها مرةً على الأقل.
وذهبتُ من هنالك إلى متنزَّه برادو المشهور غُرِسَتْ أشجار الدلب البهيَّة إلى جانبيه صفوفًا كثيرة على مسافة طويلة وقد نَمَتْ نموًّا عظيمًا، وأحاطت بها حدائق كثيرة لأهل اليسار من داخلها فخيم المنازل وبديع القصور. ويتصل بهذا المتنزَّه حديقة بوريلي وهي مشهورة باتساعها حتى إنهم ليقيمون سباق الخيل فيها كل سنة، ومنها يبتدئ متنزَّه الكورنيش العظيم، وهو محاذٍ لشاطئ البحر طوله خمسة كيلومترات ومنظره فائق الجمال؛ لأنه يحدُّه البحر المتوسط عن شماله وإلى يمينه منظر المدينة بحدائقها ومنازلها وبقيَّة ما ذكرنا من مشاهدها. ويتصل آخر هذه المتنزَّه بالمينا القديم الذي بدأْنَا بوصف المدينة منه، ويحدُّه من أحد أطرافه شارع فيريول ترى أنَّ ازدحام الناس في جوانبه شديد متواصل؛ لأنه أهمُّ أماكن البيع والشراء في هذا البلد التجاري. وإذا استمرَّ المرء سائرًا إلى اليمين من هذا الشارع وصل ميدان بيير بوجه، وفي طرف الميدان تلٌّ مرتفعٌ يمكن ارتقاء قمَّته بطرق متعرِّجة والنظر منها إلى هذه المدينة إجمالًا، والمنظر هنالك غير جميل؛ لأن الرائي لا يلْقَى غير رءوس المداخن وسطوح المنازل بُنِيَتْ بالآجر، سوَّده الدخان المتصاعد من المعامل والمنازل الكثيرة، وهذا منظر لا يروق لشرقي تعوَّد النظر إلى سطوح نظيفة منبسطة يمكن أن تكون مثابةً لأصحاب البيت في أواخر النهار.
وذهبتُ في مساء يومي هذا إلى مرسح البلُّور، حيث تمثل الروايات المفيدة وقد سُمِّي المرسح بهذا الاسم؛ لاكتساء جدرانه كلها بمراءٍ البلُّور تعكس للناظرين هيئاتهم، وأذكر أن التمثيل في تلك الليلة كان كله مفيدًا دالًّا على براعة الفرنسويين في الانتقاد وإظهار الخلل المراد إصلاحه؛ فإنهم شخَّصوا حالة النُّوَّاب في المجلس البلدي كيف يتذلَّلون في أول الأمر لصعاليك الناس ويتملَّقونهم ويعدونهم المواعيد الكبيرة حتى إذا صدق الناس وعْدَهم وانتخبوهم للنيابة في المجالس؛ قَصَروا همَّهم على ما يفيد أنفسهم، وجعلوا يزيدون الضرائب ويسعون في ترقية أحوالهم الخاصة فأضحك ذلك الحاضرين كثيرًا، ومثَّلوا بعد ذلك قُوَّاد الجيش فأظهروا أن كلًّا منهم يستخدم ثلاثة رجال من الجنود أو أربعة لقضاء حوائجه الخاصة، ثم انتقلوا إلى أصحاب الأملاك وأظهروا مطامعهم مع المستأجرين، ثم مثَّلوا حالة المضاربين بالبورصة وتلاعبهم بأموال صغار الناس وغير هذا من ضروب التمثيل المفيد التي تَرْسِمُ للناس صورة العادات أو الأمور المستهْجَنَة وتبالغ في تقبيحها حتى تنفرَ العامَّة منها وتضطرَّ إلى طلب تغييرها. وهذا خير ما يُمثَّل على المراسح في جميع الأنحاء، فيا ليت أنَّ الأجواق العربية تجري عندنا على هذا المثال. وسِرْتُ بعد مرسيليا إلى مدينة «ليون»، وهي من أعظم مدن فرنسا أيضًا، ولعلَّها أجمل المدن الداخلية موقعًا ومنظرًا؛ لأنها يدخلها نهر الرون ونهر السون فيتكوَّن منها جزيرة بهيَّة حافلة بالعمائر والمشاهد الحسناء، سواء في وسط المدينة أو في الجانبين اللذين تتكوَّن منهما مدينة ليون المشهورة، وقد زاد جمال المدينة؛ لأن القوم غَرَسُوا صفوف الشجر على ضفاف النهرين، وأقاموا المتنزَّهات العديدة وبنوا الجسور الجميلة توصل أجزاء المدينة بعضها ببعض، فترى الحركة فوق هذه الجسور وتحتها وإلى جوانبها كثيرة؛ لأن ليون مدينة تجارية معروفة بمعامل الحرير، وفيها مدارس كليَّة ذائعة الصيت بعضها للعلوم وبعضها للطب أو للهندسة أو للحقوق، ولمدرسة الطب في ليون فرع في بيروت، وهم يرسلون في كلِّ عام طبيبًا من هذه المدرسة إلى بيروت؛ لامتحان تلامذتها بدل تكليفهم الذهاب إليها، فيا ليت مدرسة الحقوق الفرنسية في مصر تفعل مثل هذا وتوفِّر على تلامذتها عناء السفر ونفقاته إلى فرنسا لطلب الشهادة. ولمدرسة الطب هذه شُهْرَة بعيدة ومقام كبير فإن كثيرين يفضِّلونها على مدارس باريس الطبية لخلوِّ ليون من دواعي الخلاعة والملاهي الكثيرة التي تفتن الشباب في عاصمة الفرنسويين.
وقد زُرْتُ البورصة في ليون فرأيتُ في الدور الأعلى منها معرضًا للأقمشة الحريرية من صنع هذه المدينة، وهي كثيرة الأشكال وافرة الإتقان والجمال، وقد وَضَعُوا إلى جانبها جداول وكتبًا فيها إحصاء الصادر من مصنوعات ليون الحريرية إلى أقصاء الأرض سنة بعد سنة وأكثر الأطالس الفرنسية وأنواع القطيفة تُصْنَعُ في معامل ليون.
وزُرْتُ في هذه المدينة قصر المجلس البلدي، وهو بناءٌ فخيم في موضع فسيح من البلد، يليه الملهى العام ووراءه متحف مشهور دخلتُهُ فرأيت في أوله تماثيل بعض القياصرة الرومانيين وغيرهم، وأذكر من تلك الآثار جثَّة حيوان كبير الخِلْقَة نادر الشكل يسمِّيه علماء التاريخ الطبيعي باسم «ماموث»، وهو من الحيوانات الكبرى التي عاشت وانقرضت قبل زمان التاريخ الحالي، وما بقى منها غير بعض الهياكل، وهي تشبه الفيل شكلًا ولكنها أكبر من الفيل جسمًا، وأذكر أنِّي رأيت في ذلك المعرض حجرًا بسيطًا كُتِبَ عليه بالعربية: «توكَّلت على الله» وجدوه في البحر عند بيروت، وفي ذلك دليلُ اعتناء القوم بالآثار الشرقية، ورأيت أخرى لا تزيد في وصفها عما يراه السائح في كلِّ معرض للآثار التاريخية، ولا موضع للكلام هنا عنها.
ويحدُّ نهر الرون حديقة عمومية مشهورة في ليون يتوافَدُ إليها جماعات الساكنين في كل حين، وأمَّا نهر الرون ففي طرفه تل فوربيير بُنِيَ من فوقه كنيسة جديدة على أطلال كنيسة سابقة بُنِيَتْ في القرن التاسع، وقد كان الداعي إلى بناءِ هذه الكنيسة الجديدة أنَّ رئيس الأساقفة فيها نَذَرَ أن يشيدها إذا لم تمر الجنود الألمانية في مدينته عام ١٨٧٠، فتحقَّقت أمنيته ولم تمر جنود الأعداء في ليون؛ فما عتم الناس أن استراحوا من تلك الحرب حتى اكتتبوا بالألوف لبناء هذه الكنيسة، وهي من جملة الآثار الدالَّة على تديُّنِ أهل هذه المدينة المعروفة باسم «ليون الكاثوليكية»، وعلى مقربة من هذه الكنيسة نحو ٥٠ مخزنًا فيها أشكال الشمع والكئوس والصلبان والمباخر، وغير هذا مما رُسِمَ عليه شكل الكنيسة يُباع تذكارًا للزائرين. وقد ارتقيتُ قمَّة برج بُنِيَ عند تلك الكنيسة وتأملتُ منظر المدينة منه وفي وسطها النهران والحدائق والأغراس لا تُعَدُّ، فكان لذلك المنظر في الذهن تأثير حَسَن نزلت بعده حتى أستعدُّ للسفر من هذه المدينة إلى باريس في طريقي إلى بلاد الإنكليز.
وأمَّا مدينة باريس فقد سبق الكلام عنها، ولا أعيد ما قيل هنا غير أنِّي وصلتُهَا في يوم أحد مشهود كان القوم يحتفلون فيه بسباق للخيل في سهول لونشان من ضواحي باريس، وسباق الخيل عند الأوروبيين أمر عظيم الأهمية ولا سيَّما الإنكليز، منهم فإنهم ينفقون عليه الألوف المؤلَّفة ويقضون الأيام في الاستعداد له، حتى بلغ الأمر من بعضهم في إنكلترا ومستعمراتها أنهم يجعلون يوم السباق يوم عيد تُقْفَلُ فيه المخازن وتبطل الأعمال، وتزيد أهمية السباق عندهم من التراهن الكثير وانتقال الأموال من جَيبٍ إلى جيب، فإن الذي يرهن المال على سبق الجواد السابق قد يرْبَح ما يغنيه طول العمر في ذلك اليوم أو قد يفقد ثروة برُمَّتها. واشتُهر بين الناس أنَّ لوردة الإنكليز مغرمون بهذا السباق وما يتبعه من التراهن، حتى إن اللورد دربي أحد سراة الإنكليز خسر ٢٥٠ ألف جنيه في بضعة أعوام على مثل هذه الأمور، وقد نال اللورد روزبري — الوزير الحر المشهور — بعض مكانته من الفوز في سباق الخيل في دربي ونيل الجائزة الأولى وقدرها ٢٠٠٠٠ جنيه، ومما يُرْوَى عن هذا الوزير العظيم أنه سُئِلَ يوم كان صغيرًا عما يتمنَّى قال: أنْ أكون مثريًا تعدُّ أموالي بالملايين، وأن أصيرَ رئيس الوزارة الإنكليزية، وأن أنال الجائزة الأولى في سباق دربي الذي يُقام للخيل مرة في كل عام؛ فتحقَّقت كلُّ آماله وعُدَّ عند القوم فوزه في ميدان السباق مثل فوزه في ميدان السياسة.
هذه أهمية السباق عند الأوروبيين، وعلى ذلك فإنِّي حين وصلتُ باريس ذهبتُ إلى لونشان مارًّا بميدان الكونكورد البديع والشان إليزه البهي، وكانت العربات ألوفًا وراء ألوف تُقِلُّ جماهير الذاهبين إلى ذلك الموضع غير الماشين، وحضر هذا السباق المرحوم فلكس فور وهو يومئذٍ رئيس الجمهورية الفرنسية ووزراء الدولة وقُوَّادها وأصحاب المقام المعروف فيها، وكان من غرائب هذا الاحتفال أنَّ الجرائد جعلت تنشر نتيجة السباق عند نهاية كل شوط وتبيع ملحقاتها للواقفين يقرءون فيها خبر ما يرون بعد حدوثه بربع ساعة؛ وذلك لأن المكاتبين كانوا يرسلون الخبر بالتلفون إلى الجريدة، وهي تطبعه وترسله مع باعة يُسْرِعُونَ على الدراجات إلى محلِّ السباق، وفي ذلك من أدلَّة الارتقاء في الصحافة ما لا يحتاج إلى زيادة في الإيضاح. ومن الغرائب أيضًا أنِّي لمَّا عُدتُ إلى الفندق وقرأتُ صحف ذلك اليوم علمتُ أنَّ بعض الأشقياء المعتوهين حاول قتل الموسيو فور رئيس الجمهورية، ولكنه لم يمسَّه بضرٍّ فتواردت رسائل التهاني من ملوك الأرض وأقطابها على جناب الرئيس في الحال، وما شعر بتلك المكيدة من الذين حضروا السباق غير قليل، ورأيت الرئيس في ذلك اليوم ذاهبًا إلى السباق بأُبَّهة وموكب حافل، ولكنه عاد في عربة بسيطة لا يحفُّ به جند ولا يحرسه أحد، وكان يحيِّي الجماهير التي تعلَّقَتْ قلوبها على حبِّه بكل لطف ووقار، والقصد من رجوعه بهذه الصفة إظهار ثقته بالجمهور وعدم خوفِهِ من أصحاب النفوس الأمَّارة بالشر، وكان الرجل محبًّا للناس ومحبوبًا منهم في جميع أدوار حياته.
وبرحتُ باريس قاصدًا مدينة لندن؛ لأن حضور احتفال اليوبيل كان بُغْيَتِي من هذه السياحة، وجعلتُ طريقي من كاليه، وهي مدينة صغيرة في طرف فرنسا الشمالي ظلَّت سنين عديدة في يد الإنكليز في القرون الخالية، وتجاهها في بلاد الإنكليز مدينة دوفر يفصلُ بينهما خليج المانش، وهو مضيق من الماء شديد الاضطراب تتعالى أمواجُهُ وتجعل السفر فيه من أعسر الأمور؛ لأن التيار فيه شديد وعرضُهُ قليل، فإذا جاءت الأمواج من البحر الواسع قبله طفيفة ودخلته؛ انحصرت فيه بسبب ضيقه المذكور وعَلَتْ فسبَّبَت الاضطراب الذي يُذْكَرُ في ذلك المضيق، ومع أنَّ المسافة بين هاتين المدينتين لا تزيد عن ٢١ ميلًا تَقْطَعُهَا البواخر في ٨٠ دقيقة فإن عناء السفر في ذلك الخليج لا يوصَف ودوار البحر فيه ضربة عامَّة تصيب كلَّ المسافرين، ولكن إتقان البواخر والمعدَّات جعل السير منظَّمًا، فقلَّ أن تتأخَّرَ البواخر هنالك عن مواعيدها مهما علت الأمواج، ويندر الغرق مع أنَّ الراكب يظنُّ في كلِّ حين أن السفينة على وشك النزول إلى قَعْرِ البحر من كثرة صعودها وهبوطها مدة هذا السفر القصير، ولطالما عرضت الشركات التجارية أن تبني جسرًا عظيمًا طوله ٢٢ ميلًا فوق هذا الخليج أو نَفَقًا تحت البحر يوصل إنكلترا بفرنسا فلم تَقْبَل الحكومة الإنكليزية بذلك؛ لأنه يُفْقِدُ إنكلترا مزيَّة كونها جزيرة تحميها البوارج القوية، ولعلَّهم يرضون به بعد حين ويتمُّ عملٌ هو — بلا ريب — من أعظم ما شَرَعَ به الآدميون إلى الآن، وقد عَرَضَ أصحاب الهمم غير مرة أيضًا أن يبنوا نفقًا تحت البحر بين البلادين، وصادقت حكومة فرنسا على هذا الرأي، ولكن الحكومة الإنكليزية رفضتْهُ بتاتًا مع أنَّ بين سراتها عددًا كبيرًا يميل إلى إنجاز هذا العمل الخطير، وفي جملتهم جلالة الملك إدورد السابع، يُرْوَى أنه كان إذا قَصَدَ باريس في أيام صباه وأصابه الدوار قال إن المانش مطهِّر لا بدَّ منه للذي يذهب من باريس إلى لندن حتى يكفِّرَ عن آثامه، وأكثر الذين لا تهمُّهم السرعة في عبور المانش يؤثِرُون السفر من دييب في فرنسا إلى نيوهافن في إنكلترا، حيث الموج أقل والمسافة ٤ ساعات، ولكن طالبي السرعة في هذه الأيام كثار وما زال الطريق من كاليه إلى دوفر أشهر من سواه، وفي القُطْرَين رجال يسعون إلى الآن في وصْلِ أحدهما بالآخر على طريقة تسهِّل السفر وتقلِّل متاعب المانش.