إنكلترا
خلاصة تاريخية
كانت بلاد الإنكليز في أوائل التاريخ المسيحي مثل غيرها من بلدان أوروبا غير معروفة للسِّوَى، يقْطُنُها قومٌ تقرب عوائدهم وطرائقهم مما تراه الآن بين المتوحِّشين حتى امتدَّت مملكة الرومانيين وأخضعت هذه الممالك؛ فعَرَفنا بعض أمورها من تواريخ الرومانيين. وأول ما ذُكِرَت بلاد الإنكليز في تاريخ رومة على عهد قائدها المشهور يوليوس قيصر، فإنه هاجم هذه الجزيرة وأخضعها سنة ٥٥ قبل التاريخ المسيحي، ولكن الحرب ظلَّت مستمرَّة بين جنود الرومانيين وأهل البلاد نحو مائة سنة حتى خضعت إنكلترا لهم خضوعًا تامًّا، ثم ضعفت دولة الرومانيين فعادت المناوشات والحروب وتقوَّى عزم الأهالي شيئًا بعد شيء، فما أتت سنة ٤٢٠ مسيحية حتى انتهى حكم الدولة الرومانية في إنكلترا.
ومعلومٌ أنَّ بلاد الإنكليز ثلاثة أقسام: هي إنكلترا واسكوتلاندا وأرلاندا، القسمان الأولان جزيرة واحدة والقسم الثالث جزيرة منفصلة عن جارتها. وكان الرومانيون قد اكتفوا بإخضاع إنكلترا ولم يقووا على اسكوتلاندا؛ لأنها بلاد جبليَّة وأهلها أشدَّاء، فلمَّا تقلَّص ظلُّهم وخرجوا من البلاد كان أهل إنكلترا قد تعوَّدوا الذلَّ وبعض الخمول، فهاجمهم أهل اسكوتلاندا وغنموا أرزاقهم وقَتَلُوا منهم جماعة كثيرة حتى إنهم استغاثوا بأهل سكسونيا، وهم قبائل ألمانية اشتُهرت بالبأس في الحروب فجاءوا إنكلترا لإعانة أهلها على جيرانهم الجبليين، وتمكَّنوا من طَرْدِ المعتدين، ولكنهم لمَّا أرادوا امتلاك إنكلترا قاومهم أهلها وطالت الحروب بين الفريقين، فما أخضعوا هذه البلاد إلا بعد ١٥٠ سنة، ومن ذلك الحين قامت في إنكلترا سبع دول سكسونية واختلط الدُّخَلاءُ بالأهالي فصاروا بعد مرور الأجيال أمَّة واحدة تُعْرَفُ إلى اليوم باسم أنجلو ساكسون، وهم الأمة الإنكليزية، وما نشأ منها في أميركا والمستعمرات البريطانية الكثيرة.
وليس في تاريخ الدول السكسونية السبع ما يستحقُّ الذكر غير أنَّها ضُمَّت وصارت مملكة واحدة بعد تشكيلها بأربعمائة سنة، فإن أجبرت — وهو ملك إحدى هذه الدول — وَرِثَ بعضها واغتصب البعض الآخر؛ فصار ملكًا عامًّا لبلاد الإنكليز سنة ٨٢٧، ولكن البلاد لم يهدأ لها بال بعد هذا الاتحاد، فإن أهل الشمال من الأوروبيين — وهم سكَّان الدنمارك وأسوج ونروج — أكثروا من الغزو والسطو على ما علمتَ في الشذرات التاريخية السابقة، وأقلقوا راحة الإنكليز زمانًا حتى إنهم ملكوا البلاد في أيام الملك ألفرد الكبير، وهو من أعظم ملوك إنكلترا اختفى زمانًا بعد أن كَسَرَ الشماليون جنوده حتى لمَّ شَعثه وعَرَفَ مواقع الضعف في أعدائه فحاربهم وانتصر عليهم وطردهم، ولكنهم عادوا إلى إنكلترا بعد موته سنة ٩٠١ وملكوا البلاد زمانًا، وكان ملكهم سوين وابنه كانوت أشهر ملوك ذلك الزمان في القوة. وثار الأهالي على حكومة أهل الشمال سنة ١٠٤١ فاستقلُّوا وحكَّموا عليهم أميرًا من ورثة الملوك السكسونيين الأول، وكان من أَمْرِ الملك إدورد آخر هؤلاء الملوك أنه رأى من بعض أشراف دولته ميلًا إلى اختلاس العرش من بعده؛ فأوصى بالمُلْكِ من بعده إلى أمير نورمانديا — إحدى إمارات فرنسا الشمالية — وكان هذا الأمير من أقاربه، وهو الذي سُمِّي بعد ذلك وليم الظافر؛ فإنه لمَّا مات إدورد هذا سنة ١٠٦٦؛ جاء بجيش قويٍّ إلى إنكلترا وحارب أميرها هارولد الذي خاصمه على الملك فانتصر عليه انتصارًا تامًّا ومَلَكَ البلاد وأسَّس دولة جديدة قوية هي التي شكَّلت إنكلترا بشكلها الحالي، ولم تزل الدولة المالكة الآن من سلالة وليم الظافر وبعض النظامات والأسماء على مثل ما وُضِعَتْ في أيام هذا الملك.
وورِثَ مملكة إنكلترا أمراء من أبناء وليم الظافر وحَفَدَته كثار اشتُهر منهم رتشرد الأول، وهو المعروف بريكاردوس قلب الأسد، كان بطلًا مغوارًا مَلَكَ سنة ١١٨٩، وجاء مع غيره من ملوك أوروبا وأمرائها لمحاربة الدول الإسلامية في الحروب الصليبية، فكان هو أعظم مَنْ حارب العرب، وله مع السلطان صلاح الدين حكايات مشهورة، وورِثَ المُلْكَ عن قلب الأسد أخوه يوحنَّا سنة ١١٩٩، وكان ضعيفَ العقل سفيهَ الرأي، فحدث في أيامه ثورة في الخواطر بسبب جَوره وسوء تدبيره واتحد الأشراف على طلب الحقوق منه لهم وللأهالي؛ فأصدر أمرًا عاليًا يمنح فيه الرعايا حقَّ الاشتراك مع الملوك في الأحكام، وكان ذلك بدء نظام الإنكليز الدستوري، وهم يذكرون هذه الحادثة مع أعظم الحوادث التاريخية؛ لأنها أساس حريتهم وعظمتهم. وقام بعده ملوك آخرون اشتُهر منهم إدورد الأول مَلَكَ سنة ١٢٧٣؛ لأنه أخضع إمارة ويلس، وهي جزء من إنكلترا في الشمال الغربي عُرِفَ أهلها بالبسالة، وهم بقية الإنكليز الذين نجوا من حكم الرومانيين وسواهم وامتنعوا في أرضهم، ولهم إلى الآن لغتهم خاصَّة بهم، وعوائد معروفة لا شبه بينها وبين لغة الإنكليز وعوائدهم، فحاربهم إدورد حروبًا طويلة وأخضعهم وقَتَلَ أمراءهم وجعل بلادهم جزءًا من أجزاء مملكته في سنة ١٢٨٣. وحاول إدورد الأول أن يُخْضِعَ اسكوتلاندا وهي التي كان أهلها يسطون على بلاده من زمان طويل ولكنه لم يقدر على ذلك؛ لأنها كانت مملكة منظَّمة مثل مملكته ولها جيش وأعوان، وكانت الحروب من ذلك العهد مستمرَّة بين المملكتين والمنافسة دائمة حتى صارتا دولة واحدة على مثل ما يجيء.
ولم يحدُثُ بعد هذا ما يُذْكَرُ في تاريخ الإنكليز حتى سنة ١٣٤٨ حين ادَّعى ملك إنكلترا إدورد الثالث أنَّ مملكة فرنسا إرث له بسبب قرابة له مع ملوك تلك البلاد، وكان ملوك إنكلترا إلى ذلك الحين أمراء نورمانديا في شمالَي فرنسا، فلمَّا اشتُهرت هذه الدعوى قام ملك فرنسا فيليب لمحاربة خَصْمِهِ وجمع مائة ألف محارب فقابله ابن ملك الإنكليز، وهو المعروف باسم الأمير الأسود بثلاثين ألفًا وهَزَمَه شرَّ هزيمة في معركة كرسي، وأول ما استعمل الإنكليز المدافع في الحروب كان في هذه المعركة وكانت البنادق معروفة قليلًا فإنها لم تُسْتَعْمَل إلا سنة ١٣٤٠. ومات فيليب ملك فرنسا بعد انكساره بقليل، فَخَلَفَهُ ابنه جان وَقَصَدَ محاربة الإنكليز ولكنه كُسِرَ مثل أبيه، وجاء به الأمير الأسود أسيرًا إلى إنكلترا، وكان الملك إدورد الثالث يحارب اسكوتلاندا حين حارب ابنه فرنسا، فانتصر هو أيضًا على أعدائه وأسر ملكهم إدورد الثاني وجاء به أسيرًا إلى لندن، فالتقى فيها حينئذٍ ملكان في الأسْرِ وعظم شأن الدولة الإنكليزية كثيرًا، ولكن إنكلترا لم تستفد من هذه الانتصارات شيئًا سوى امتلاك مدينة كاليه في شمالي فرنسا؛ فإن اسكوتلاندا وفرنسا عادتا إلى الاستقلال حالًا وضعفت إنكلترا بعد موت ملكها إدورد الثالث وابنه الأمير الأسود الباسل، لا سيما وأن الذي ورِثَ إدورد الثالث وهو حفيده رتشرد الثاني كان ضعيفًا فجعل أقاربه يتخاصمون ويتنافسون في الدسائس، وأشهرهم اثنان هم الديوك أوف يورك والديوك أوف لانكاستر اختلس الثاني المُلْكَ من ابن أخيه واضطرَّه إلى الاستقلال ثم قام الديوك أوف يورك يطالب بالمُلْكِ، وَحَدَثَتْ حروب أهلية مشهورة في تاريخ البلاد تُعْرَف بحرب الوردتين؛ لأن حزب يورك اتخذ شعاره الوردة البيضاء وحزب لانكاستر الوردة الحمراء، فما انتهت تلك الحروب إلا بعد أن وَلِيَ ملوك وعُزِلَ ملوك، وقام في ذلك العهد ملك عظيم هو هنري الخامس ملك سنة ١٤١٣ وهو شاب في أول العمر فسمع باضطراب فرنسا وضعف ملكها وعزم على إخضاعها؛ فهاجمها بثلاثين ألف جندي يقودهم بنفسه، وانتصر في كلِّ معركة حارب الفرنسيس بها ولا سيما معركة أجنكور سنة ١٤١٥، فهرب ملك فرنسا من وجهه، ودخل هنري مدينة باريس فتُوِّجَ بها ملكًا على فرنسا، وما زال ملوك الإنكليز يسمُّون أنفسهم ملوك فرنسا إلى عهد قريب، وحَدَثَ بعد هذا أنَّ هنري الخامس مات فطمع الفرنسويون بالاستقلال وعادوا إلى محاربة الإنكليز فساعدهم القدر بوجود الفتاة جان دارك التي مرَّ الكلام عنها في تاريخ فرنسا، واسترجع الفرنسويون مملكتهم.
وظلَّت الحرب الأهلية في اشتغال حتى قام هنري السابع وملك البلاد وهو سليل آل بورك اقترن بفتاة من بيت لانكاستر؛ فبطلت الحرب وأسَّس هذا الملك دولة جديدة قوية تُعْرَفُ باسم تيودر، قام منها أعظم الملوك ومنهم ابنه هنري الثامن كان معاصرًا لفرنسيس الأول وكارلوس الخامس، واشتُهر بكثرة زوجاته اقترن بهنَّ الواحدة بعد الأخرى، وكانت أول زوجاته كاترين أخت كارلوس الخامس ملك إسبانيا والنمسا وأرملة أخيه المتوفَّى، فلمَّا أحبَّ هنري الثامن إحدى خادماتها، وهي حنَّة يولن والدة الملكة إليصابات — التي سيأتي ذكرها — أراد أن يطلِّق كاترين امرأته فعارضه البابا في الأمر، وحدث بين الاثنين خلاف أدَّى إلى انتقاض ملك إنكلترا على رئيس الكنيسة الكاثوليكية، مع أن هنري الثامن كان غيورًا على الدين وألَّف كتابًا في الردِّ على مارتينوس لوثيروس المصلح الإنجيلي المشهور الذي نشأ في ألمانيا على عهده ولقَّبه البابا بحامي الدين، وهو لقب ملوك إنكلترا إلى هذا العهد يُكْتَبُ على نقودهم وأوراقهم الرسمية، فلمَّا حدث هذا الخصام بين البابا وملك إنكلترا انفصلت الكنيسة الإنكليزية عن كنيسة رومة الكاثوليكية، واتبع أكثر الإنكليز الطريقة البروتستانتية من ذلك الحين، ولم تزل إنكلترا إلى الآن أقوى الدول البروتستانتية وأشهرها.
ومات هنري الثامن هذا سنة ١٥٤٧ وهو من أكبر ملوك الإنكليز، فَخَلَفَهُ ابنه إدورد السادس ومات بلا عَقِب فخَلَفَتْهُ أختُه ماري، وماتت بلا عَقِب فخَلَفَتْهَا أختها إليصابات وهي من أعظم ملوك الأرض طُرًّا وأشهرهم بلا مراء، مَلَكَتْ من ١٥٥٨ إلى ١٦٠٣ أي ٤٤ سنة، حدثت في خلالها الأمور العظيمة، وبدأت إنكلترا تتوسَّع في امتلاك الأراضي في أميركا وغيرها وصارت مملكة اسكوتلاندا رهينة أمرها بدون حرب ولا قتال؛ لأنها عرفت كيف تدسُّ الدسائس لقريبتها ماري ستيورت ملكة اسكوتلاندا حتى إن تلك الملكة المسكينة طُرِدَتْ من بلادها وجاءت إنكلترا فأُلْقِيَتْ في السجن ١٩ سنة، وفي آخر تلك المدة حُكِمَ عليها بالإعدام بدعوى أنها اشتركت في مؤامرة ضد إليصابات، وكان من حوادث هذا العهد العظيمة أنَّ فيليب الثاني ملك إسبانيا وهو يومئذٍ يُعَدُّ أكبر ملوك الزمان طلب الاقتران بإليصابات فرفضتْهُ بتاتًا فعوَّل على قهرها وإخضاع مملكتها، وأرسل عليها أسطولًا عظيمًا حطَّمه الإنكليز تحطيمًا، وساعدتهم الأرياح على تكسيره؛ فَنَجَتْ إنكلترا من خطر جسيم، وهم إلى الآن يذكرون تحطيم الأسطول الإسباني ويعدُّون يومه من الأعياد الكبرى. وقام في عهد إليصابات رجال عظام في الحرب والسياسة، واشتُهر شاكسبير الشاعر العظيم في أيامها أيضًا، وَنَمَتْ دولة الإنكليز نماءً عجيبًا.
ولم تتزوَّج هذه الملكة العجيبة، فلمَّا تُوفِّيَتْ أشارت بإعطاء المُلْكِ من بعدها إلى جيمس ملك اسكوتلاندا، وهو يومئذٍ أقرب أقاربها فجاء جيمس هذا وحَكَمَ زمانًا لم يشتهر بشيء سوى امتداد نفوذ إنكلترا في أميركا، ومات سنة ١٦٢٥ فورِثَه ابنه تشارلس الأول، وكان لسوء حظِّه ميَّالًا إلى الاستبداد، والشعب قد ترقَّى وطلب الحقوق والامتيازات، فحدثت بينه وبين نوَّاب الأمة أنواع كثيرة من الخصام انتهت بحرب بين الحزبين انتصر فيها نواب الأمة على الملك، وكان قائد جنودهم بطلًا عظيمًا اسمه كرومويل، هذا استبدَّ بالأمر بعد عَزْلِ الملك وأَمَرَ بمحاكمته فحاكموه وحَكَمُوا عليه بالإعدام، وهو أول ملك قُتِلَ في أوروبا بمثل هذه الطريقة، ثم استبدَّ كرومويل بالحكم زمانًا وأورثه لابنه من بعده، ولكن الأهالي نفروا من قَتْلِ الملك وأثرة الجمهوريين فأعادوا ابن ملكهم إلى عرشه وهو تشارلس الثاني ملك سنة ١٦٦٠، وكان مضادًا للأمة في آرائه وأمياله فتحمَّله القوم بالصبر حتى إذا مات ورثه أخوه جيمس الثاني، وكان كاثوليكيًّا قحًّا يريد قلب النظام البروتستانتي وكل أمياله فرنسوية، فاشتدَّ الخلاف بينه وبين الأهالي حتى إنهم قاموا عليه في آخر الأمر وطردوه وأعطوا الملك لابنته ماري وزوجها وليم أمير أورانج وصاحب هولندا، فجاء هذا الأمير بجيش صغير إلى لندن وطَرَدَ عمَّه منها وساعده الأهالي على طَرْدِ جيمس فرِحين، فانقلبت بذلك دولة آل ستورت، وسُمِّي هذا الانقلاب بالثورة الإنكليزية تاريخها سنة ١٦٨٨، وهو تاريخ الاستقرار على نظام الشُّورَى وآخر عهد إنكلترا باستبداد الملوك.
وَحَدَثَ في أيام وليم الثالث هذا عدَّة حروب بين إنكلترا وفرنسا لم يستفد منها الإنكليز شيئًا، فلمَّا مات وليم وامرأته ماري ورِثَت المملكة عنهما حنة أخت ماري، وكانت حنة من الملكات المشهورات مَلَكَتْ من سنة ١٧٠٢ إلى ١٧١٤ وأَصْلَحَت الكنيسة الإنكليزية في أيامها، وسُنَّ لها النظام المعمول به إلى الآن، وحدثت حروب هائلة بين إنكلترا وفرنسا في أيام هذه الملكة بسبب مطامع لويس الرابع عشر ملك فرنسا المشهور، فانتصر الإنكليز في عدَّة مواقع بحسن تدبير قائد من أعظم قُوَّاد الزمان اسمه الجنرال تشرتشل الذي صار بعد انتصاره على الفرنسيس الديوك أوف مارلبرو وسلالته من أشراف الإنكليز إلى هذا العهد، ومن أشهر الحوادث في عهد هذه الملكة أنَّ إنكلترا واسكوتلاندا انضمَّت إحداهما إلى الأخرى وصارتا مملكةً واحدةً بعد أن كانتا مملكتين مستقلَّتين يحكمهما ملك واحد من أيام جيمس الأول الذي ذكرناه، وكان ذلك سنة ١٧٠٧.
وتُوفِّيت الملكة حنة بلا عقِب، وكانت أقرب قريباتها زوجة ملك هانوفر فآلت المملكة بعدها إلى جورج الأول ملك هانوفر الألماني سنة ١٧١٤، ولم يحدث في أيامه غير بعض القلاقل بسبب محاولة آل ستورت استرجاع المُلْكِ ومساعدة فرنسا لهم فلم يمكن ذلك. ومات جورج سنة ١٧٢٧ فَخَلَفَه ابنه جورج الثاني وحدثت في أيامه حروب كثيرة مع فرنسا كان النصر فيها أكثره للفرنسويين في أوروبا وللإنكليز في أميركا حين أخذوا بلاد كندا من الفرنسويين وهي لهم إلى الآن، وبدأ الإنكليز في ذلك العهد باكتشاف جزر المحيط والامتلاك في الشرق، فكان أساس سلطنتهم الهنديَّة على عهد جورج الأول والثاني.
ومات جورج الثاني سنة ١٧٦٠ فَخَلَفَهُ جورج الثالث، وهو الذي مَلَكَ البلاد ٥٩ سنة وَحَدَثَ في أيامه أعظم الثورات، نريد بها ثورة فرنسا المشهورة وثورة أهل أميركا حين استقلُّوا وصاروا دولة الولايات المتحدة المعروفة بسبب إهمال من حكومة لندن وكان ذلك سنة ١٧٨٢. وفي سنة ١٧٨٨ بدأ الإنكليز باستعمار جزر أوستراليا وجعلوا يرسلون إليها المنفيِّين وأهل الجرائم ثم بطلت هذه العادة، وأوستراليا الآن من المستعمَرَات الإنكليزية العظيمة، وكانت الحرب دائمة تقريبًا بين فرنسا وإنكلترا في كلِّ تلك المدة لا سيَّما إذ قام نابوليون وكَسَرَ الإنكليز أساطيله في أبي قير وترافلجار وغيرها من المواقع العظيمة في البحر، وأخرجوه من مصر والشام وإسبانيا والبورتوغال حتى إذا جاء عام ١٨١٥ كسروه في واترلو الكسرة الأخيرة على مثل ما جاء في تاريخ فرنسا. ومن حُسْنِ حظِّ الإنكليز أنَّهم رُزِقوا في تلك المدة رجالًا هم نوابغ وجبابرة في الاقتدار، منهم نلسون أمير البحر، وولنتون قائد الجيوش في البر، وبت الوزير المشهور في السياسة، استعملوا مواهبهم كلها لإرغام نابوليون ومحاربته فكانوا هم الفائزين.
وخرف جورج الثالث في آخر أيامه، ولكن أيامه كانت أيام عزٍّ ونصر للإنكليز، ولولا ضياع الولايات المتحدة لعُدَّت مدَّته أحسن المُدَّات في تاريخ هذه الأمة العظيمة، وكانت نتيجة الانتصارات العديدة أنَّ نفوذ إنكلترا اتسع وامتدَّ وأملاكها زادت ومالها كثر وتجارتها فاقت الحدود حتى إذا ولي الملك جورج الرابع سنة ١٨٢٠ كانت الدولة الإنكليزية في طليعة دول الأرض قوةً واقتدارًا وثروةً وعلمًا ولم تزل على هذا إلى يومنا الحاضر. ومن أعظم الحوادث التاريخية في ملك جورج الثالث اتحاد أرلاندا مع إنكلترا واسكوتلاندا وصيرورة الكل مملكة واحدة تُعْرَفُ باسم بريطانيا العظمى وأرلاندا في سنة ١٨٠١، وكانت أرلاندا إلى ذلك الحين خاضعة لإنكلترا تدير شئونها الداخلية على حِدَةٍ فصارت جزءًا من أجزاء المملكة الإنكليزية من ذلك الحين.
وكان جورج الرابع فاترَ الهمَّة فلم يحدث في أيامه ما يستحقُّ الذكر؛ لأن الدولة استراحت من الحروب وترقَّت في المعارف والصنائع وتوسَّعت في الامتلاك والاستعمار توسُّعًا هائلًا حتى صارت أكبر دول الأرض وأوسعها نفوذًا وملكًا. ومات جورج الرابع فَخَلَفَهُ وليم الرابع ملكًا على بريطانيا العظمى فَحَكَمَ سبع سنين وتُوفِّي بلا عقب، وكانت وفاته بعد نصف الليل في قصر وستمنستر فاضطرَّ رئيس أساقفة كانتربري أن يذهبَ في الحال حسب الأصول القديمة ليبلِّغَ البرنسيس فكتوريا صيرورتها ملكة البلاد، ولمَّا قامت الملكة من سريرها وعَرَفَتِ الخبر بَكَتْ حزنًا على عمِّها ثم سألت رئيس الأساقفة أنْ يصلِّي معها بطلب العون من الله فركع الاثنان وصلَّيا، وكانت فكتوريا يومئذٍ في الثامنة عشرة من عمرها، وهي بنت الديوك أوف كِنْت شقيق وليم الرابع، وأمها من أميرات ألمانيا هي شقيقة ليوبولد الأول ملك البلجيك، عنيت بتربية فتاتها على أشرف المبادئ حتى إذا رقيت عرش إنكلترا كانت كل خصالها ممدوحة وفرحت بها الأمة فرحًا كبيرًا.
ولا حاجة إلى الإسهاب في تاريخ الملكة فكتوريا؛ فإن معظم حوادثه لم يبرح من أذهان الناس، ولكننا نقول إنها وُلِدَتْ في ٢٤ مايو سنة ١٨١٩ وهو يوم عيد السلطنة الإنكليزية، تحتفل به هذه الأمة في ممالكها ومستعمراتها كل سنة احتفالًا عظيمًا، وَصَعَدَت العرش في شهر يونيو من سنة ١٨٣٧، وكان تتويجها في تلك السنة من حوادث التاريخ الحديث التي تُذْكَرُ إلى آخر الزمان، وقد اقترنت بابن عمِّها البرنس ألبرت صاحب إمارتَي ساكس كوبرج وغوثا في ألمانيا سنة ١٨٤٠، فعاشت معه ٢١ سنة رُزِقَتْ في خلالها عدَّة بنات وبنين، فلمَّا مات سنة ١٨٦١ حزنت عليه حزنًا مفرِطًا تُضْرَبُ به الأمثال وظلَّت على رثائه إلى آخر عمرها الطويل، وقد زوَّجَتْ بنتها الكبيرة لإمبراطور ألمانيا السابق وابنها الثاني لعمَّة قيصر روسيا الحالي، واقترن بناتها وأولادها الآخرون ورُزِقوا الأولاد فأصبحت علاقات القربى رابطة لإنكلترا بمعظم دول أوروبا في أيامها، وحَدَثَ على عهدها من الحروب شيء كثير، من ذلك حرب القرم سنة ١٨٥٤ اشتركت إنكلترا فيها مع دول أخرى لمحاربة روسيا وحرب ثورة الهند الكبرى سنة ١٨٥٧ وحروب في الهند وإيران وأفغانستان والصين وأفريقيا الجنوبية والوسطى ومصر والسودان والحبشة وغيرها، انتهت كلُّها بفوزِ الأمَّة الإنكليزية واتساع سلطانها حتى قيل إن الشمس لم تغرب عن أملاك فكتوريا، وبلغ عدد الخاضعين لرايتها نحو ٤٠٠ مليون نفس أو هم ربع سكان الأرض، ومساحة هذه السلطنة لا تقلُّ عن ١١ مليون ميل مربع، فهي أعظم السلطنات الحديثة والقديمة على الإطلاق.
وَنَمَتْ إنكلترا في قوَّاتها البرِّيَّة والبحرية وفي متاجرها وصنائعها نماءً عجيبًا مدَّة حكم الملكة فكتوريا، وتحسَّن حال عمَّالها وفقرائها بما سُنَّ من النظامات المتوالية، وضُمَّت الهند على عهدها إلى أملاك السلطنة وكانت قبلًا مِلْك إحدى الشركات التجارية فلُقِّبَت على إثر ذلك بإمبراطورة الهند، وكانت حياة الملكة في داخل قصورها وأعمالها بين الناس مثال العفَّة والكمال والشرف والوطنية وحب الإنسانية فتعلَّق الناس على حبِّها تعلُّقًا لا نظير له في تاريخ إنكلترا، حتى إنهم أقاموا الحفلات الكبرى سنة ١٨٨٧؛ أي عام بلوغها سنة الخمسين من حكمها، وهو عام اليوبيل الذهبي، وأمَّ لندن يومئذٍ ملوك وأمراء ونوَّاب أمم ووفود لا تُعَدُّ، ثم بلغت السنة الستين من حكمها بعد ١٠ سنوات، فأقاموا يوبيلًا آخر أهم من السابق وأكبر، وظلُّوا في حفلاته الباهرة عدة أيام، وقد عُمِّرَتْ هذه الملكة ورأت من باذخ العز وآيات النصر وباهرات الحظ وإكرام الأنام ما لم يرَ الأولون والآخرون، وماتت في ٢٢ يناير سنة ١٩٠١ بداء الانحلال الطبيعي فلبست أوروبا كلها الحِدَاد عليها وأثَّرت وفاتها في الإنكليز تأثيرًا شديدًا، وخلفها في المُلْكِ جلالة نجلها الأكبر، وهو إدورد السابع ملك إنكلترا وإمبراطور الهند الحالي.
وُلِدَ في ٩ نوفمبر من سنة ١٨٤١ ولا حاجةَ إلى القول إنه رُبِّيَ أحسن تربية وشبَّ على أشرف المبادئ، واقترن يوم ١٠ مارس من سنة ١٨٦٣ بكريمة ملك الدنمارك السابق، وهي الملكة ألكساندرا صاحبة الشُّهْرَة الذائعة بالمحاسن وآيات الكمال الباهر، ورُزِقَ ثلاثة أولاد وثلاث بنات، فمات اثنان من الأولاد وما بقي غير وليِّ العهد الحالي، وهو الآن في الثالثة والأربعين من عمره، وله بنت وأربعة أولاد ذكور، وأمَّا بنات الملك فكلهنَّ في قيد الحياة، إحداهنَّ زوجة الديوك أوف فيف من سراة إنكلترا والثانية بلا زواج والثالثة قرينة ملك نروج الحالي.
ارتقى الملك إدورد عرش أجداده في ٢٢ يناير سنة ١٩٠١، وكان ذلك في خلال حرب البويز المشهورة، وقد حدث على عهدِهِ انقلاب في سياسة أوروبا تمَّ أكثره بسعيِهِ لصالح دولته، واشتُهر من حوادث مُلْكِهِ في الأوائل حادثة التتويج، أفردنا لها فصلًا هنا نظرًا إلى أهميتها وغرابة أدوارها وما في وصف مشاهدها من الفائدة للقارئين.
حادثة التتويج
لمَّا رَقَى جلالة الملك إدورد السابع عرش إنكلترا عُيِّنَ يوم ٢٦ يونيو من سنة ارتقائه موعدًا لتتويجه، ودعا الملوك والأمراء ووفود الأمم لحضور حفلات التتويج المذكور من سائر الأقطار، وكان الوفد من قِبَلِ مصر يومئذٍ دولة البرنس محمد علي باشا نائبًا عن سموِّ أخيه الخديوي وعطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس الوزارة السابق نائبًا عن الحكومة المصرية، وبدأت الألوف تتوارد على لندن من كلِّ صوبٍ والناس تستعدُّ للتتويج وتنفق على الزينات، ولكن الأخبار جعلت تتوالى من ٢٠ يونيو المذكور بأنَّ جلالة الملك في حاجة إلى النُّزْهَة واستبدال الهواء، وكان جلالته ملازمًا لغرفته، خرج مرَّة في عربة مُقْفَلَة والناس يتلقُّون هذه الأخبار ولا يفقهون لها معنًى حتى أُعْلِنَ رسميًّا أن صحة الملك تستدعي عملية جراحية، وأنه لا بدَّ من تأخير موعد التتويج إلى ما شاء الله، فكان لهذا الخبر دويٌّ عظيمٌ في أنحاء الأرض وخصوصًا مدينة لندن؛ حيث أُنْفِقَت الأموال الطائلة في إعداد الأماكن اللازمة لرؤية موكب التتويج، هذا غير المنصَّات والمواضع التي أُعِدَّت للفُرْجَة وبيع منها ألوف دُفِعَت أجرها مقدَّمًا، على أن ذلك كله لم يُحْدِث تأثيرًا سيئًا بل زاد القوم تعلُّقًا بالملك، فكانوا يتهافتون لقراءة النشرة اليومية عن صحته في الصباح وفي المساء. ولمَّا تمَّ الشفاء للملك بعد هذه الحادثة المؤلمة عُيِّنَ يوم ٣٠ يونيو سنة ١٩٠٢ موعدًا لتتويجه في كنيسة وستمنستر القديمة حيث يُتوَّج الملوك القدماء فتمَّ ذلك على النسقِ الآتي:
أيها السادة، إنِّي أقدِّم إليكم الملك إدورد صاحب هذه المملكة بلا خلاف، فبما أنكم جئتم هذا المكان لإظهار ولائكم له فهل أنتم فاعلون ذلك؟
فأجاب الحاضرون كلهم بالهتاف والضجيج قائلين: «الله يحفظ الملك إدورد»، وعند ذلك جاء اللوردات الحاملون أدوات التتويج كلٌّ في دورِهِ، ووضع ما معه من سيف أو تاج أو صولجان أو غير ذلك، فلمَّا انتهوا من هذا اشترك الجمهور في صلاة ختمها رئيس الأساقفة بدعاء عقبه عظة ألقاها أحدُ الأساقفة حتى إذا انتهوا من ذلك وَقَفَ رئيس الأساقفة وسأل الملك أنْ هل تريد أن تتلو القسم يا أيها المولى؟
فأجاب الملك: نعم، أريد ذلك.
ج: أعِدُ رسميًّا أنِّي أفعل كلَّ ذلك.
ج: نعم، أفعل ذلك.
ج: إنِّي أَعِدُ بفعل هذا كله.
فعند ذلك وقف الملك وكَشَفَ رأسه وتقدَّم إلى مذبح الكنيسة ومن حوله رؤساء التشريفات والحُجَّاب وحَمَلَة السيف والتاج وبقية الأشياء من كبار اللوردة كلهم بالحُلَلِ الرسمية، وأتى رئيس الأساقفة بالكتاب المقدَّس فوضع الملك يمينه على الكتاب، ثم جثا على ذروة العرش وأقسم كما يجيء:
«إنِّي أفعل الأشياء التي وعُدْتُ بها الآن وأحافظ عليها بأكملها فأعنِّي يا ألله.»
ثم قبَّل الكتاب المقدَّس ووضعه على رأسه ونهض ووضع إمضاءه على ورقة كُتِبَتْ فيها صورة القسم المذكور.
وتلا ذلك رسوم شتَّى وأدعية متوالية انتهى بها التتويج، وجاء من بعد ذلك الأمراء ولوردة المملكة كلُّ فئة في دورها، الديوكات أولًا ثم أصحاب رُتْبَة ماركيز ثم أصحاب رتبة أرل ثم أصحاب رتبة فيكونت ثم أصحاب رتبة بارون، فأقسموا يمين الطاعة للملك ووارثي عرشه، وكلَّما انتهت فئة من القسم يتقدَّم أكبرها ويقبِّل الملك بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن أقرانه، فلمَّا انتهت هذه الأقسام والرسوم أنشد المغنُّون نشيدًا مفرِحًا، وتلا النشيد هتاف الأبواق وصراخ الحاضرين جميعهم هكذا:
وبهذا تمَّ تتويج الملك إدورد على الطُّرُقِ التي اتبعها الإنكليز في تتويج ملوكهم السابقين.
وأما ولي عهد إنكلترا فقد أُعْطِي هذا اللقب في حفلة رسمية جرى عليها جلالة والده الملك مجرى غيره من الملوك القدماء، فقلَّد وليَّ عهده سيفًا وألبسه تاجًا بسيطًا، ووضع في يده خاتمًا وعصا من الذهب ثم أعلن أنه جعله أمير ويلس، وانتهى بذلك الاحتفال في حضرة الوزراء ومشيري الدولة وكبراء البلاط، وهذا كله كما قلنا من العوائد القديمة وَرِثَهَا الإنكليز عن الأجداد واحتفظوا بها وهم أشهر أمم أوروبا في المحافظة على المبدأ القديم.
ولا ريبَ أنَّ بين القُرَّاء عددًا كبيرًا لا يعْرِفُ معنى تلقيب ولي العهد في إنكلترا بهذا اللقب، وحقيقة الأمر أنَّ ويلس بلاد في الشمال الغربي من إنكلترا كانت في الزمان السابق إمارة مستقلَّة ولها أمير مستقل وبأس في الحروب مشهور، فحاربها إدورد الأول ملك الإنكليز وانتصر عليها وضمَّها إلى مُلْكِهِ وَقَتَلَ أمراءها فما بقي منهم واحد، ولكنه رأى من أهلها عنادًا وميلًا عن الخضوع لوالٍ إنكليزي، فجمع إليه مشايخ ويلس وكبارها وقال لهم: إنِّي أريد معاملتكم بالحسنى، فهل إذا عيَّنْتُ لكم أميرًا لم يشب شرفه عيب، وهو لا يعرف من الإنكليزية كلمة واحدة تَقْبَلُونه؟ قالوا: نعم، قَبِلْنَا وعلى هذا الشرط خضعنا، فلمَّا استوثق الملك منهم أرسل في الحال وراء قرينته الملكة وهي حامل وأقام معها في قلعة كارنارفون في ويلس فولدت غلامًا فرِحَ به الملك ثم دعا كبراء الإمارات مرة أخرى، ولمَّا اجتمعوا جاء لهم بالطفل وقال لهم: قد جعلتُ لكم أميرًا لم يشب شرفه عيب ولا يعْرِف من لغة الإنكليز كلمة، وهو ابني هذا فما قولكم فيه؟ فرأى القوم أنَّ الملك لم يُخْلِف الوعد وأنَّ وصفه ينطبق على الطفل، فأذعنوا ولُقِّبَ ابن الملك بأمير ويلس، ومن ذلك الحين صار أكثر أمراء إنكلترا الذين وُلِدُوا ليرثوا العرش يُعْرَفُون باسم برنس أوف ويلس.
وأمَّا وارثو التيجان في الممالك الأخرى فبعضهم يُعْرَف بالاسم المعيَّن، والبعض الآخر له أسماء أو ألقاب تُرَدُّ إلى مواضع معلومة ويرثها عنهم أمير بعد أمير، من هذا القبيل ولي عهد البورتوغال اسمه في جميع الأوقات أمير القنطرة، وولي عهد إيطاليا اسمه أمير نابولي، وولي عهد اليونان أمير سبارطة، وولي عهد إسبانيا أمير أستورياس كلها مواضع في بلاد القوم معروفة.
وأمَّا الباقون فيُعْرَفون بأسمائهم الصحيحة أو بأسماء وظيفتهم، فإن ولي عهد روسيا اسمه تساروتش أو ابن النسار، وهو لفظ مسكوبي معناه الإمبراطور، وولي عهد النمسا يُعْرَفُ باسمه الصحيح وهو اليوم الأرشدوق فردناند، والباقون مثل ولي عهد ألمانيا والدنمارك والسويد وهولاندا والبلجيك يُعْرَفون باسم ولي العهد أو الاسم الصحيح، وكل ذلك تُتَّبع فيه العوائد القديمة؛ لأن الملوك والأمراء في هذا الزمان يرون كل الفخر والشرف في البقاء على عوائد الأجداد الكرام، ولا عَجَبَ فإنهم ورثوا عن أجدادهم أثمن ما في الوجود، فليس يكثر عليهم أن يفخروا بعوائد أولئك الأجداد.
لندن
وصلتُ مدينة لندن بعد سفر سبع ساعات ونصف من باريس عن طريق كاليه ودوفر، وحالما وطئت أرض الإنكليز في دوفر شعرت كما يشعر كلُّ مسافر غيري يلاحظ الأمور أنَّني في أرضٍ رَقَّتها الحضارة، وبين قوم صاروا إلى أعلى درجات العزِّ؛ فإن الأشياء تجري هنالك على نظام ودقَّة غريبَين معهما وقار وترفُّع كثير، فالمحطة حافلة بمئات المسافرين والخَدَمَة في كلِّ الجوانب واقفون، ولكن كثرة الزمان وتعدُّد القُطُر لا توجب اضطرابًا ولا تسبِّب ضجةً ولغطًا، فلا صفَّارة تنبئ عن قيام القطار ولا حارس يصيح في الناس أن ارفع رجلك أو «المسافر يركب»، ولا جرس يطنُّ ولا راكب يزن أو يدن، والكلُّ يسيرون من باب المحطة إلى نافذة التذاكر يبتاعون منها أوراق السفر ويبرحونها إلى عربات القطار بكلِّ احتشام ووقار، حتى إذا دَنَتْ لحظة المسير قام القطار يسير حثيثًا بين سهول تظهر عليها آثار الاجتهاد ومزارع صيَّرَتْهَا يدُ الإنسان جنَّات تجري من تحتها الأنهار بعد أن كانت بِرَكًا للماء الآسن أو رُكَامًا قاحلة لا يستفيد منها الإنسان، وقد رُصِّعَت الأرض إلى الجانبين بحصى تمنع عن الناس الغبار وقامت إلى جانب الخطِّ من هنا ومن هنا أبنية ومساكن ومعامل ومغازل لا عداد لها، وشُقَّت الوهاد والنِّجاد في كلِّ موضع قضبان الحديد تسير عليها الأرتال في الطول والعرض، فبينا أنت راكب في قطارك تسير بسرعة تخطف الأبصار ترى قطارًا يلي قطارًا قادمًا من الجهة المقابلة على خطٍّ محاذٍ للخطِّ الذي أنت فيه، وترى قُطُرًا أخرى تعترض الخطوط من كلِّ جهة فلا يكاد القطار الذي أنت فيه يجتاز نقطة من الأرض حتى تمرَّ فوقها القُطُر الأخرى، وإذا تأخَّر لحظة عن موعده اصطدم بغيره لكثرة القُطُر الناشئة عن الحركة التجارية الهائلة في هذه البلاد العظيمة، ويتفق أحيانًا أنَّك تأتي موضعًا تمرُّ فيه فوق جسر من الحديد عظيم فترى من تحت الجسر قُطُرًا أخرى سائرة سير قطارك وقطرًا غيرها آتية من كل الجوانب متقابلة متعارضة فتعتريك حيرةٌ من بلوغ الحركة التجارية هذا المبلغ العظيم إذا كنت لم تشهد مثلها من قبل. وفوق هذا فإن الوقت الثمين في بلاد الإنكليز لا يضيع منه لحظة والزمان عندهم ذهب على ما جاء في بعض أقوالهم المتعارفة، فهم إذا جاءت الباخرة بمن فيها من الخارج وألقت رَحْلَها في ميناء دوفر على مثل ما ذكرنا؛ قام الرُّكَّاب في القطار على عَجَلٍ ولم يكن لعمال البريد في مدينة دوفر أنْ يرتِّبوا الكتب والرسالات الأخرى ترتيبًا يسهل معه توزيعها، وليس يجوز أن يُترك البريد على حاله حتى يرتَّبَ ويوزَّعَ في مكاتب لندن؛ لأن أشغال البريد فيها تفوق الحصر والتصديق بسبب الملايين الكثيرة التي تقطنها، وهي أعظم مدائن الأرض طُرًّا وأكثرها حركةً وعلاقات بالبلاد الأخرى؛ فلذلك ترى في القطار عربات طويلة خُصَّت بعمال البريد يرتِّبون الرسالات فيها، والقطار سائر في سبيله فإذا وصل لندن كانت رسائل البريد حاضرة للتوزيع بلا إمهال، وفي هذا من التسهيل على أصحاب الأعمال وإتقان العمل ما لا يخْفَى على البصير، وهم يأتونه في كلِّ الخطوط الإنكليزية المشهورة.
ولمَّا انقضى زمان السفر ودخل القطار مدينة لندن العظيمة جعلتُ أتأمَّل هاتيك الجبال الراسية من البناء تمتدُّ أميالًا إلى كلِّ جانب، أو هي بحار لا حدَّ لها من الشوارع والفنادق والمخازن والحوانيت والمساكن شوَّه الدخان الكثير ظاهرها فاشتدَّ سوادها، وما تَرَكَ لها من الجمال شيئًا إلا في قليل من المواضع الكثيرة التي تراها العين مدَّة سير القطار بين أحياء لندن، والجهة التي يراها المسافر القادم من الخارج قبل سواها أقل جهات لندن زخرفًا وجمالًا، لولا أنَّ المسافر يعلم من اتساع المدينة وطولها البالغ وأبنيتها التي لا تُعَدُّ أنه في لندن؛ لظنَّ أنه لم يصلها بعد، أو هو في مدينة أخرى صناعية أحقر من عاصمة المملكة الإنكليزية الواسعة ومركز تجارة الأرض ومالها ومقر المالكين ربع هذه الدنيا ونقطة الارتقاء العصري والاقتدار.
ولمَّا بلغت محطة تشارن كروس في لندن لقيت فيها من الخلق الكثير ما يعْسُرُ عدُّهُ، حتى إنه لم يمكن لي أن ألقى عربة أسير فيها إلى الفندق؛ لأن المدينة كانت يومئذٍ حافلةً بالملايين فوق طاقتها بسبب عيد اليوبيل العظيم فوَضَعْتُ أمتعتي في مخازن المحطَّة وخرجتُ ماشيًا أخترق الصفوف وأصطدم بالمئات والألوف، وقد قامت للناس ضجَّة ما سَمِعَ بمثلها السامعون واحتشد الربوات والملايين في تلك الشوارع الكبرى احتشادًا يكسف محافل الأولين والآخرين، ولا عجب ففي لندن وضواحيها من السكان سبعة ملايين نفس وهو عدد يزيد عن عددِ الساكنين في بعض الممالك برُمَّتها وزاد عليهم مَنْ أمَّها في ذلك الحين وهم نحو مليونَي نفس أخرى جاءت لتشهد حفلات اليوبيل التي ترى وصف بعضها في الفصل التالي.
وأمَّا الذي أقول عن أعظم مدائن الأرض وأفخمها وأكبرها وأهمها، فإنِّي لو خصَّصتُ هذا الكتاب برُمَّته لوصْفِ عُشْرِ معشار الذي يستحقُّ الذكر فيها لانتهيتُ وبيني وبين الإشباع بُعْدٌ باعد؛ لأن لندن هذه مملكة أو بلاد عظيمة مساحتها ١١٨ ميلًا مربعًا، وقد قامت على ضفَّتَي نهر التمز، وامتدَّت إلى كلِّ جانب حتى أضحت كأنما هي بلا آخر، تتصل أطرافها بالعمائر والمدائن الأخرى، فلا تعلم أين تبدأ المدينة وأين تنتهي، ولو جُمِعَت شوارعها العديدة بعضها إلى بعض لبلغ طولها ثلاثة آلاف ميل أو أكثر، وهي مسافة تزيد عن البُعْدِ ما بين مصر ولندن، أو لو أحصي سكانها طائفةً طائفةً لوجدتَ أن فيها من أهل اسكوتلاندا أكثر مما في عاصمة تلك البلاد ومن الكاثوليك أكثر مما في رومة — وهي عاصمة العالم الكاثوليكي — ومن اليهود أكثر مما في القدس، ومن الألمان أكثر مما في مدينة ألمانية من مدن الطبقة الثانية، هذا غير أنَّ أهل الأرض كلهم يجدون فيها من المواطنين عددًا عديدًا، وقد يوجد في لندن آلاف من بلاد واحدة لا يجتمعون بعضهم على بعض إلا في حفلات نادرة، أو قد يعيش المرء عمرًا كاملًا فيها وله صديق في ناحية أخرى منها لا يلتقي به لاتساع هذه المدينة وكثرة أحيائها واحتشاد الملايين في كلِّ جوانبها، وأمَّا إذا شئتَ أن تحصي ما يرِدُ إليها من بضاعة وتجارة، وما يودَعُ فيها من كتب البريد ورسائل البرق وما ينفَقُ فيها من المال على هذه الحاجة وذلك الشيء؛ فإنك ترى أرقامًا يمكن لك قراءتها ولا يمكن إدراكها، فهي مثل أبعاد الكواكب وأجرام السماء ألوف فوق ألوف لا تُدْرِك أهميتها العقول، يكفي أنْ يُقالَ إن بعض مخازنها العظمى تبيع بنحو خمسة ملايين جنيه في السنة، والعمال في بعض مصارفها ومعاملها عشرات آلاف يتناولون الرواتب الطيبة، وفيها ٢١٦ ميدانًا كبيرًا غير الميادين الصغرى و٥٦٥ محلًّا للأنغام الموسيقية والتمثيل، وحوالي ثلاثمائة معرض ومتحف من جميع الأشكال، وأكثر من عشرة آلاف أثر أو تمثال في حدائقها وشوارعها والميادين، وفوق مليون مصباح تنير جوانبها الواسعة بعضها كهربائي والباقي أكثره غاز مثل نور المدائن المصرية. وفي شوارعها ازدحام لا تفهمه العقول من الوصف، ولا بدَّ لإدراكه من المشاهدة؛ فإن الناس والمركبات والعربات والأرتال والخيل وسواها سلسلة متَّصلة الحلقات إلى الجانبين لا تنقطع طول النهار، حتى إنك لو وقفت عند بنك إنكلترا مدة النهار من أوَّلِهِ إلى آخره تريد أن تجتاز الطريق من جانب إلى جانب لما لقيت فرصة تناسب مرادك، ولا أمكن لك العبور إلا إذا وَقَفَت العربات قليلًا من هنا ومن هنا، بإشارة من رجل البوليس الواقف أمامك، وهنا لا بدَّ من القول إن بوليس لندن من أعظم قوات الأرض انتظامًا، وقد لا يكون في الممالك المنظَّمة بوليس مثله في حسن المنظر والترتيب؛ فإن رجاله يُنْتَقُون من ذوي القامات الطويلة والمناظر الحسنة، ويُشْتَرَطُ فيهم أن يكونوا ذوي معارف وخبرة بأحوال البلاد، فهم يرشدون الناس إلى كلِّ أمر بلطف لا مزيدَ عليه، ويسوقون أهل الجرائم إلى المحاكم، فتكفي شهادتهم لإدانته، ولا يلْزَم لذلك مرافعة أو نيابة، ويُخْلُون الشوارع من الزحام على كثرة الوافدين والمحتشدين ولا يظهر عليهم ملل أو عناء، وإنْ تسلهم عن مطعم أو نُزُل أو معرض تريد أنْ تذهبَ إليه أجابوك بوقار ورقة أنْ سِرْ إلى الجهة الفلانية خطوات معدودة، ثم تحوَّل إلى يمينك أو يسارك ثم انتقل ثم سِرْ أمتارًا يعدُّونها لك بوجه التقريب، فتصل إلى حيث تريد ولهم في معرفة الأماكن علم عجيب. وأمَّا إشارتهم للعربات بالوقوف فمن أجمل الحركات فيها الإشارة إلى مقدرتهم واحترام جماهير الإنكليز للقانون والسلطة الشرعية؛ لأن هذه العربات كما قلنا تُعَدُّ آلافًا في كل شارع بعضها يلي بعضًا، فإذا اجتمع المارَّة في نقطة يريدون العبور منها إلى الجهة المقابلة أشار رجل البوليس الواقف في منتصف الطريق برفْعِ يديه قليلًا وعند ذلك تبطل كلُّ حركة وتقف الحوافل والعربات كلها من الجانبين كأنما يد الرجل آلة تتصل بعجلات المركبات، فإذا رفعت هذه الآلة أوقفت مسير العجلات، وعند ذلك يمكن للمارَّة الانتقال حتى إذا تمَّ هذا رَفَعَ الرَّجُلُ يده مرة أخرى فتعود سلسلة المركبات إلى المسير، ولا يخالف الأمر حوذي ولو يكون سائق عربة الملك بنفسه، ولطالما رأيت العربة وأنا راكب فيها تقف حينًا بعد حين في مسيرها، وأتطلَّع فلا أجد بوليسًا يوقفها حيث أكون، وعلمتُ أنَّ الأمر جاء من موضع في آخر الشارع فوقَفَتْ كل عربة وأوقفت التي وراءها حتى وصل الدور إلى عربتي، ووقفت ثم عادت إلى المسير والذي يوقفها ويسيِّرها رجل لا تراه، وفي هذا من بدائع النظام ما يسُرُّ العقول.
وقد كانت مدينة لندن صغيرة في أول أمرها لا تزيد مساحتها عن ميل مربَّع إلى ضفتي التمز، ثم اتَّسع نطاقها وامتدَّت فروعها حتى صارت أوسع مدائن الأرض وأكبرها، ومساحة أرضها خمسة أضعاف مساحة باريس؛ لأن منازلها فيما سوى القسم المتوسِّط منها غير مزدحمة وشوارعها رحيبة وحدائقها كثيرة وميادينها عديدة، وأمَّا البقعة الأصلية التي كانت فيها لندن الأولى فتُعْرَفُ باسم «ستي» أو المدينة، وهي قسمٌ خاصٌّ من أقسام لندن له أهمية كبرى؛ لأنه خُصَّ بالتُّجَّار والمصارف والأعمال المالية الخطيرة، وفيه بنك إنكلترا العظيم والبنوك الأخرى وإدارات الشركات التجارية والجرائد اليومية ومقر محافظ لندن ومحكمة خاصَّة بأعمال «الستي» هذه، وهي بالإجمال مركز الحركة ونسبتها إلى بقية لندن نسبة القلب على جسم الإنسان؛ لأن الدمَ يدور في الجسم متفرِّعًا من القلب، وحركة المال والأعمال تدور في كلِّ لندن ومرجعها إلى «الستي»؛ ولذلك نجد أجرة المخازن والوكالات فيها عظيمة، وثمن الأرض فوق التصديق لا يقلُّ عن خمسين جنيهًا عن كلِّ قدم مربَّعة وقد يزيد، ولو بِيعَتْ بعض الأراضي المجاورة لبنك إنكلترا بالفدَّان لزاد ثمن الفدَّان الواحد عن مليونَي جنيه، وفي هذا ما يكفي للدلالة على عظمة المدينة واتساع نطاق الحركة التجارية فيها.
وللستي أو المدينة قوانين خاصَّة بها وعوائد قديمة لم تتغيَّر عما كانت عليه في أيام الملوك الأول إلا قليلًا، ولها محكمة تجاريَّة خاصة بها وبأعمال تجارها في قصر مشهور يُعْرَف باسم جلدهول، وهو دار البلدية تولَمُ فيه بعض الولائم الرسميَّة يقيمها حاكم مدينة لندن أو اللورد مايور وهو يُنْتَخَبُ من بين أعضاء مجلس يدير شئون هذا القسم العظيم من أقسام لندن ويُسمَّى لوردًا مدة تولِّي الوظيفة، ويُعْطَى راتبًا سنويًّا مقداره عشرة آلاف جنيه، ولا تزيد مدَّة ولايته عن سنة واحدة، وهم في كلِّ يوم تاسع من شهر نوفمبر ينتخبون حاكمًا جديدًا ويحتفلون بتعيينه احتفالًا لا مثيل له عن الإنكليز في الأُبَّهة والفخامة، حتى إن يوم اللورد مايور ليُعَدُّ بينهم من الأعياد الكبرى، ويتطلَّع إليه الصغار والكبار في كلِّ حين. فأمَّا صغار الناس؛ فلأن الكُتَّاب والعمال منهم يستريحون يومئذٍ من عناء الأعمال ويتفرَّجون على موكب اللورد مايور حين يدور في أهم شوارع المدينة، وأمَّا الكبار فإنهم يُدْعَونَ إلى وليمة فاخرة مساء ذلك اليوم في قاعة جلدهول التي ذكرناها، ومن شروط هذه الوليمة أنْ يُدْعَى إليها كلُّ كبير وذي مقام، وفي الجملة وزراء الدولة الذين اعتادوا الحضور وإلقاء الخطب الرنَّانة تعرب عن سياسة المملكة في تلك الليلة، حتى إن وزراء الخارجية إذا أرادوا التصريح بأمر ذي بال أبقوه إلى ليلة اللورد مايور، والذين يهمُّهم معرفة خطة الحكومة في مسألة من المسائل يقرءون الخطب التي تُتْلَى في تلك القاعة البديعة، وفي كل سنة تَنْقُلُ الأسلاك البرقية أقوال هؤلاء الوزراء العظام إلى جهات الأرض في ٩ نوفمبر على ما يذْكُرُ القارئون. وهم في مثل هذه الأحوال يبدءون بالطعام ويتلوه الشراب الفاخر ثم يقف اللورد مايور مرحِّبًا بالضيوف وفي يده كأس من الخمر يشربه في سر جلالة الملك فيشاركه الحاضرون مظهرين آيات الإكرام، ويقوم بعد هذا الوزراء للخطابة ثم يشْرَبُ رئيس الوزراء نَخْبَ اللورد مايور، ويشكره على إعداد تلك الحفلة متمنِّيًا له عامًا سعيدًا في الختام، وبهذا يتمُّ الاحتفال الذي تدوِّي الأرض بأخباره في كلِّ عام.
ولمَّا كان اتساع لندن الهائل وكثرة الأعمال فيها توجب تسهيل طرق المواصلة، فقد بنوا فيها من محطَّات سكك الحديد شيئًا كثيرًا، من ذلك ١٤ محطة كبيرة لشركات مختلفة توصل لندن بجهات البلاد وأطرافها، وكلها واسعة فخيمة البناء تُنَار بالكهربائية، وفوق أكثرِهَا فنادق عظيمة مشهورة تديرها شركات سكك الحديد، وأكبرها مساحة محطة واترلو فيها ١٦ رصيفًا، تقوم القُطُرُ منها، وينتقل الناس من رصيف إلى رصيف على جسورٍ جميلةٍ فإذا ذهب الرجل إلى هذه المحطة للسفر أو لغيره وَجَبَ عليه أن يسأل العُمَّال الواقفين في مدخلها عن الرصيف الذي تسير منه القُطُرات إلى الجهة التي يريدها، ولا بدَّ أن يجدَ المسافرون في كل محطة رجالًا يخبرونهم عن المواعيد وكل ما يلزم لراحتهم، وبعضهم لا يبطل الكلام جوابًا على السؤالات التي يوجِّهها القادمون إليه مدة النهار بطوله. وفي لندن غير هذه المحطات ست وعشرون محطة أخرى خُصَّتْ بهذه العاصمة، وقد بُنِيَتْ كلُّها تحت الأرض وأَنْفَقَت الشركة على حَفْرِ السراديب لها وعملها مبالغ طائلة، وهي تخترق لندن في جميع جهاتها، فلو رأيتَ رَسْمَ هذه العاصمة تحت الأرض لعجبتَ من كثرة الطرق والسراديب ينتقل فيها الألوف ومئات الألوف كلَّ يوم، فإنه يقوم كل يوم أكثر من ألفَي قطر تسير تحت الأرض من جهة في لندن إلى جهة، وكلها ملأى بالركاب والمتنقِّلين، فيبلغ عددهم مليونًا ونصفًا من الخلق في كلِّ أسبوع أو نحو ٧٧ مليونًا في السنة، وأغرب من هذا أنَّ القُطُر التي تسير على الأرض وتحت الأرض لم تكفِ للمطلوب، فعندهم قُطُر حديدية تسير فوق الماء وتحت الماء، فأمَّا فوق الماء فإنهم بنوا لها جسورًا عديدة متينة فوق نهر التمز ترى الأرتال دائمة المرور عليها، وأعظمها جسر البرج عند برج لندن — الذي سيجيء الكلام عليه — بُنِيَ حديثًا على نَسَقٍ بديع وجُعل طبقات، واحدة منها لسكة الحديد وواحدة فوقها للمشاة يصعدونها على سُلَّمٍ في أولها وينزلون من سُلَّمٍ في آخرها، ويقرب منه في الجمال جسر لندن طوله ٩٢٨ قدمًا وعرضه ٥٤، وهو قائم على عُمُدٍ ضخمة وقناطر عظيمة تمرُّ من تحتها السفن والمراكب السائرة في نهر التمز، وقد أنفقوا على بنائه مليونَي جنيه، وحسبوا أنه يمرُّ فوقه ٢٠ عربة في الدقيقة أو ١٥ ألفًا في كل يوم، وأمَّا تحت النهر فإن في لندن خطَّين تسير عليهما القطر في سراديب عظيمة تحت بطن النهر، سقوفها بالحديد وبنوا لها محطة في كلِّ جانب من جانبَي النهر، والمسافر ينزل المحطَّة في آلة رافعة وخافضة، أو على سُلَّمٍ كثير الدرجات حتى إذا وصلها رأى الأرض تعجُّ بالخلق تحت ماء النهر والمحطة الفسيحة منارة بالكهربائية فيركب العربة ويسير به القطار في ذلك النَّفَقِ، يجري الماء من فوقه حتى يصلَ الضفَّة الأخرى ويعود إلى وجه الأرض.
وكلُّ هذه الخطوط وهذه السكك لم تكفِ أيضًا حتى إنهم أنشئوا من البواخر تسير في نهر التمز ما لا يُعَدُّ، وهي طول النهار في رواح ومجيء بين أطراف المدينة، هذا غير ما في عاصمة الإنكليز من الترامواي والأمنبوس والحوافل والعواجل والعربات على أشكالها، وعدد العربات الصغيرة للأجرة من نوع الهانسم الذي يركب سائقه في أعلى العربة من الوراء ٣٠ ألفًا، فاحسب عدد العربات الأخرى للأجرة ولأصحابها العديدين وتصوَّر مقدار الحركة الهائلة في هذه المدينة العظيمة. ومن أجمل ما يمكن للغريب أن يراه ويَعْرِف منه أهمية لندن أنْ يصْعَدَ الطبقة العليا من جسر البرج الذي مرَّ ذكره فيرى تحته قطر الحديد والعربات على أشكالها سائرة مجِدَّة من الجانبين، وتحتها سفن البخار والزوارق والقوارب لا تُعَدُّ سائرة فوق الماء، وتحتها أرتال عظيمة سائرة بالألوف في سراديب تحت الماء، ومن حولها إلى الجانبين قُطُر وعربات سائرة على وجه الأرض في كلِّ جهة، فإذا رأى الغريب كلَّ هذا صفر عجبًا لعظمة الإنكليز ومقدار اشتغالهم واتساع نطاق أعمالهم وعظمت عاصمتهم الكبرى في عينيه فوق عظمتها المعروفة.
وأحسن ما يكون لمشاهدة ما في لندن من المتاحف والمعارض والآثار العظيمة أن يبدأ المتفرِّج من ساحة ترافلجار؛ لأنها نقطة الفصل بين أقسام لندن الأربعة — أي الشمال والجنوب والشرق والغرب — بدأتُ من هذه الساحة، فدخلتُ شارع ستراند، وهو من أعظم شوارع إنكلترا أهميةً وازدحامًا، فيه التجارة والبنوك وشركات التأمين والبوسطة العمومية والتلغراف والبورصة ودار البلدية وبنك إنكلترا، وهناك الازدحام الشديد والحركة التي لا تحدُّها العقول، وكل هذه في الجهة الشرقية من ساحة ترافلجارز وأول شيء يلْتَفِتُ إليه الغريب كنيسة مار بولس تُعَدُّ أعظم كنائس الإنكليز، وتُقام فيها أكثر الاحتفالات العظيمة مثل احتفال اليوبيل الذي سنذكره، طولها ٥٠٠ قدم وعرضها ١١٨ ولها قبَّة عظيمة تُعَدُّ من غرائب البناء الجديد، محيطها من الداخل ٢٢٥ قدمًا وعلوُّها ٣٦٥، فهي من أعلى أبنية الأرض. وفي ساحة هذه الكنيسة من الخارج تمثال الملكة حنة التي نَظَّمَتْ في أيامها قوانين الكنيسة الإنكليزية — على ما تقدَّم في فصل التاريخ — وتماثيل الرسولين بطرس وبولس، وفي داخلها قبور وتماثيل لكثيرين من عظماء الدولة الإنكليزية الذين شادوا لها صروح الفخار في هذا العصر وسابق الأعصار، مثل أمير البحر نلسون وقائد الجيوش ولنتون وهما اللذان حاربا نابوليون وكَسَرَاه، ومثل اللورد ملبورن أول وزراء الملكة فكتوريا وغوردون الذي قُتِلَ في الخرطوم وغيرهم كثير، ولِقُبَّة هذه الكنيسة — كما قلنا — شهرة ذائعة، قضوا أعوامًا كثيرة يشتغلون بتذهيبها وزخرفتها، وقد أنفقوا على ذلك الأموال الطائلة، ويمكن ارتقاء البرج على سُلَّمٍ كثير الدرجات عددها ٦١٦، والتفرُّج على مدينة لندن من ذلك العلو الشاهق إذا سَمَحَتْ أحوال الجوِّ بذلك فإن جوَّ لندن متلبِّد بالغيوم في الصيف والشتاء، وإذا أشرقت الشمس فإن كثرة البخار والضباب والدخان في الهواء لا تساعد على النظر إلى البعيد من المشاهد.
لمَّا انتهيتُ من مشاهدة هذه الكنيسة سِرْتُ في روستريت، وهو شارع عظيم فيه تمثال روبرت بيل الوزير المشهور تُوفِّي سنة ١٨٥٠، وعلى مقربة منه إدارة البوسطة العامة وأعمالها تحيِّر البصر؛ لأنها أكبر إدارة لأكبر عاصمة ولأكثر الناس حركةً وأعمالًا، ومثلها إدارة التلغراف العمومية، وهي تجاهها يكفي أنْ يُقال في وصفها إن مئات من آلات التلغراف ترسِلُ كلَّ سنة عدة ملايين من الإشارات، والعمال فيها لا يرفعون رءوسهم من العمل مدة النهار بطوله أو مدة نوبتهم، وبينهم كثار من البنات في كلِّ فروع البوسطة والتلغراف، وإيراد الدولة لا يقلُّ عن ١٦ مليون جنيه كل سنة من هذه المصلحة بعد كلِّ نَفَقَاتِهَا الهائلة، وقد سِرْتُ من تلك النقطة إلى موضع، هو مركز مدينة لندن حيث قام قصر حاكم لندن أو المانشن هوس، يقيم فيه العميد مدَّة توظفه سنة مع عائلته، وهو من القصور المَنِيفَة فيه أحسن الرياش والخدمة بالملابس المقصبة برواتب من البلدية، والعميد يدخُلُ هذا القصر كلَّ سنة باحتفال رسمي، ويسلِّمه لخَلَفِهِ بحفلة أخرى عند تجديد الانتخاب السنوي.
وتجاه المانشن هوس قصر البلدية أو جلدهول، بدءوا ببنائه سنة ١٤١١ وانتهوا سنة ١٤٣١، وقد احترق وأُعيد بناؤه سنة ١٨٦٦ وزِيدت زخارفه حتى صار من المشاهد المعدودة في أوروبا. وفي هذا القصر تُولَم الولائم لضيوف لندن من الملوك والكبراء، وتُقَامُ الحفلات السنوية، وأهمها حفلة ٩ نوفمبر من كلِّ سنة حين يدعو العميد وزراء إنكلترا للعشاء ويدعو معهم كلَّ ذي مقام خطير، فتُلْقَى في تلك الحفلة خُطَب تُعْرِبُ عن سياسة الدولة وقد تقدَّمت الإشارة إليها، طول القاعة العمومية هنا ١٥٢ قدمًا وعرضها ٤٩ ومنظر شبابيكها القديمة من أحلى ما يفتخر به الإنكليز، وفي هذه القاعة تماثيل الرجال العظام الذين شيَّدوا ملك إنكلترا الواسع مثل القُوَّاد والوزراء. وقد بُنِيَ هذا القصر وقصر المحافظ وبنك لندن في ساحة واحدة على شكل مثلَّث هو على وجه الجملة أهم موضع في عاصمة الإنكليز.
أمَّا بنك إنكلترا فإنه في ملتقى شوارع كثيرة، بُنِيَ من دور واحد بناءً متينًا فاخرًا ومساحة أرضه ١٦٨٠٠ متر تحرسُهُ فرقة من الجنود، وفيه ثلاثة آلاف عامل وله مدير يُنْتَخَبُ من بين التُّجَّار المساهمين كل ٥ سنوات مرة ومجلس إدارة. وهو أقدم بنك في إنكلترا أُسِّسَ سنة ١٦٩٤ وظلَّ يرتقي حتى صار مستودَعَ أموال الأمة والحكومة وأشهر مصارف الأرض طُرًّا، يدخل إليه من المال ويخرج منه كل يوم نحو مليون جنيه، وفيه من النقود على الدوام نحو ٢٠ مليونًا، ومن الأوراق المالية نحو ٢٥ مليونًا، وأوراقه شائعة في كلِّ البلاد، تُعَدُّ أحسن من النقود قيمة، وهو على الجملة مركز مال الأرض وأكبر البيوت المالية فيها. وأمَّا البورصة تجاهه فجلُّ ما يعلم العامة عنها أنها بناءٌ عظيمٌ يتضارب فيها الموسرون بالألوف والملايين، وقد نُقِشَ فوق أعمدتها الضخمة من الخارج صور الحاصلات التي يتجر بها الإنكليز في جميع الأقطار، وفي صدر الساحة تمثال الملكة فكتوريا، وأمَّا الدخول إلى البورصة فغير مباح لغير المشتركين، وأعمالها سرية محضة خلافًا لمعظم البورصات الأوروبية، فالذي يريد التأمُّل بعظمة لندن عليه بهذه النقطة والشوارع المحدِقَة بها ولا سيما شارع ثردنيدل وهو القائم به تمثال مستر بيبودي المحسن الأميركي المشهور، وقد كان من أمرِ هذا الخير الكريم أنه اتَّجَر في بلاد الإنكليز وأثرى ورأى شقاء فقرائهم؛ فجاد بنصف مليون جنيه لتُبْنَى بها بيوت صحية لهؤلاء الفقراء بدل أكواخهم العفِنَة، ولم يجُدْ كريم في الأيام الحديثة بهِبَة كبرى كهذه؛ فعظم قدرُ الرجل عند الإنكليز، وأرادت الملكة أن ترقِّيَه إلى رتبة سِر وتجعله من النبلاء، ولكنه وهو أميركي لا يعْرِف للألقاب قيمة اعتذر عن قبول هذا الشَّرَف، فأرسلت إليه جلالتها كتابًا بخطِّ يدها تشكره على مروءته، وأرفقت بالكتاب رسمها الكريم، ولمَّا مات هذا المحسن جَمَعَ الإنكليز مالًا بالاكتتاب وأقاموا هذا التمثال له وبنوا بماله بيوتًا للعُمَّال تضمُّ الآن عشرين ألف نفس، وتُقَدَّر قيمتها بنحو مليونَي جنيه، وقد كان إحسانه في وطنه بالولايات المتحدة أكثر من إحسانه في لندن، رحمه الله رحمة واسعة، وأكثر من أمثاله بين الناس.
وبعد هذا اتجهت في اليوم التالي إلى الرصيف المعروف باسم الملكة فكتوريا بُنِيَ على ضفة التمز من الجهة الغربية، وطوله ٢٣٠٠ متر، وعرضه ٩٤ مترًا، وهو من أعظم شوارع لندن اتساعًا وأكثرها جمالًا؛ لأنه يشرف على النهر، وقد زُرِعَتْ إلى جانبيه الأغراس وأنواع الشجر ورُصِّعَ الجانب الآخر بأفخر أنواع البناء، مثل نادي الأحرار وفندق سافوي وفندق سسل، وهما من أهمِّ فنادق لندن، وقد جعلوا أوسط هذا الرصيف للعربات بعرض ٦٤ مترًا، وإلى كلٍّ من الجانبين طريق للمشاة، فترى الناس يتمشَّون هنا ألوفًا في أوقات الصحو ويتنقَّلون في الحدائق الصغيرة الملاصقة لهذا الممرِّ العظيم، ويتأمَّلون ما في النهر من ماء وسفينة، وقد أنفقوا مليونَي جنيه على هذا الرصيف وهم الآن شارعون في تطويله، وهناك المِسَلَّة المصرية التي نَقَلَهَا الإنكليز بعد عناءٍ وافر من الإسكندرية ووضعوها حيث يمكن أن ترى من جهات عديدة كما وُضِعَت المسلَّات المصرية الأخرى في باريس ونيويورك، وهي من مشاهد لندن المذكورة، ولهذه المسلَّة تاريخ مفيد؛ فإنها على ما يظهر من كتابات قديمة عليها صُنِعَتْ في أيام تحوتمس الثالث في سنة ١٥٠٠ قبل المسيح ونُقِلَتْ على عهد أوغسطس قيصر إلى الإسكندرية في بدء التاريخ المسيحي فظلَّت بها إلى أنْ مَلَكَ البلاد محمد علي باشا خديويها الأول وقدَّمها هدية لحكومة إنكلترا فقبِلَتها، ولكنها لم تهتم بنقلها حتى إذا جاءت سنة ١٨٧٧ تبرَّع أحدُ رجالها واسمه ولسون بعشرة آلاف جنيه لنقلها إلى لندن فنُقِلَتْ على صندل من الخشب جرَّتْهُ باخرة كبيرة، ولكنها غرقت في الطريق بسبب نوء أصابها في خليج بسكي فأخرجوها في السنة التالية ووضعوها في الرصيف المذكور، وكتبوا على بعض جوانبها ما يشير إلى خلاصة تاريخها الذي ذكرناه.
وقد ركبتُ سفينة بحرية من إحدى نقط الرصيف هذا، وذهبت إلى برج لندن المشهور، وهو الآن متحف للسلاح والجواهر له حُرَّاس من الجنود الطاعنين في السنِّ يلبسون ملابس الحُرَّاس القديمة، وفي مدخله مدفع جميل منقوش نقشًا تركيًّا أُهْدِيَ من السلطان عبد المجيد إلى الدولة الإنكليزية؛ جزاء اشتراك جنودها في حرب القرم مع جنود الدولة العليَّة، وقد قام هذا البرج على ضفَّة النهر وأحاطت به خنادق حُفِرَت أيام كان يلزم البرج للحرب والحصار، فإنه بناه وليم الظافر واستعمل بعد ذلك لحبس الكبراء وتعذيب الناس من أعداء الملك كما استعمل الباستيل في باريس، ولطالما حدثت في هذا البرج من أهوال وفظائع لم تَزَل آثار بعضها باقية إلى الآن، من ذلك خنق الولدين البريئين أبناء الملك إدورد الرابع بأمر عمِّهما الطاغية رتشرد الثالث، وكان ذلك في أيام حروب الوردتين، وقد وُجِدَتْ عظامهما تحت سُلَّمِ قاعة الاجتماع، وهنا سُجِنَت الملكة إليصابات بأمر أختها الملكة ماري، وأُغْرِقَ الديوك أوف كلارنس أخو الملك إدورد الرابع وقُتِلَ هنري السادس، وهنا أيضًا قُطِعَ رأس الملكة حنة بولن والدة الملكة إليصابات ولم يزل موضع قتلها معروفًا يراه كلُّ داخل إلى هذا البرج القديم، وفيه قُتِلَت الكونتس سولسبري سنة ١٥٤٢ واللورد سيمور الأميرال سنة ١٥٤٩، وهنا أيضًا سُجِنَ الملوك الأجانب الذين أَسَرَهُمُ الإنكليز، مثل دافد بروس ملك اسكوتلاندا، ويوحنَّا ملك فرنسا، وقد مرَّ ذكرهما في فصل التاريخ. وهنا حدثت حوادث كثيرة يتذكَّرها المرء معتبرًا بنوائب الدهر لا محلَّ لسردها الآن.
فأنت ترى من هذا أنَّ اسم برج لندن كان يُرْجِفُ الأبدان في سابق الزمان، وأمَّا الآن — وهو متحف بديع إلى جانب النهر، ومن ورائه جسر عظيم سبقتِ الإشارة إليه — فقد صار من المتنزَّهات وأماكن الفُرْجَة؛ فإنه متحفٌ للسلاح من قديمٍ وحديثٍ وشرقيٍّ وغربيٍّ على جميع الأشكال، وضعوه في غرف شتى مرتبًا ترتيبًا تسهُلُ معه المطالعة، والذي يدخله يرى هيئة المحاربين الأُوَل من أهل أوروبا بخوذهم ودروعهم وملابسهم وخيلهم وسلاحهم كله، ويَلْزَمُ للفرجة على هذه الملابس والأسلحة زمان طويل لا سيَّما إذا عَرَفَ المتفرِّج أن هذا السيف كان في يد الملك هنري يوم أخضع فرنسا، وهذا الرمح جاء به ريكاردوس إلى فلسطين أيام الحروب الصليبية، وهذا الخنجر كان في يد ملك اسكوتلاندا حين أَسْرهِ، وغير ذلك من الآثار العظيمة لا محلَّ لذكرها. ومن أغرب الآثار هنا الرايات القديمة غَنِمَها الإنكليز في بعض الحروب، وملابس الملوك القدماء من بعد سنة ١٢٧٢ وغير هذا من آثار الأقيال الإنكليز ودلائل حروبهم الماضية.
وفي البرج قسم هو في منتهى الجمال، تؤمُّه الألوف كل يوم أُرِيدُ به القسم الذي أُودِعَتْ فيه جواهر المملكة الإنكليزية في علب الزجاج أُحيطت بقضبان من الحديد والنحاس، وهي تبهر الأنظار بأنوارها الساطعة وجمالها الفائق، منها تاج الملك تشارلس الثاني ظلَّ الملوك يستعملونه إلى أيام الملكة السابقة، وقد سُرِقَ مرة سنة ١٦٧١ وأُعيد من سارقيه بعد عناء كبير، وللملكة فكتوريا تاج آخر صَنَعَتْهُ في بدء حكمها وهو عظيم القيمة فيه ٢٧٨٣ ألماسة غير الجواهر الأخرى، وفي تلك الخزائن أيضًا غير هذين التاجين صولجان المُلْك من الذهب الخالص مرصَّعة قبضته بأنْفَسِ الجواهر، وتاج ولي العهد وتاج قرينته ومجوهرات ملوك إنكلترا وملكاته السابقين تبلغ قيمتها نحو ثلاثة ملايين جنيه، وإلى جانب هذه المجوهرات النفيسة أمثلة من الوسامات الإنكليزية والأوروبية فُرِشَتْ على قطيفة حمراء ولها شكل بهي، وقطعة من الزجاج تمثِّل الألماسة المشهورة كوه النور التي مرَّ ذكرها.
وقد ورد في هذا الكتاب ذكر كثير من جواهر الملوك، فرأيت أن أسردَ معظمها هنا إتمامًا للفائدة.
في خزنة الفاتيكان في رومية حجر ألماس وزنه ٢٧٩ قيراطًا، وتليه ألماسة أورلوف في القصر الشتوي في بطرسبورغ وزنها ١٩٤ قيراطًا، وحجر آخر فيه وزنه ١٢٤ قيراطًا، وفي خزينة اللوفر في باريس حجر وزنه ١٣٩، وعند إمبراطور النمسا حجر وزنه ١٣٦، وعند شاه إيران حجر وزنه ٩٥ قيراطًا، وعند البرنس داميدوف الروسي حجر وزنه ٥٣ قيراطًا، وعند الإمبراطورة أوجيني حجر وزنه ٥١ قيراطًا، وفي تاج قيصر روسيا حجر وزنه ٤٠ قيراطًا.
وأكبر هذه الحجارة ألماسة كلنان المشهورة، وُجِدَتْ في ٢٠ يناير سنة ١٩٠٥ في منجم كلنان بالترانسفال، فكان ثُلُثها لحكومة الترانسفال والثلثان للشركة، ولكن الحكومة اشترته وقدَّمته هدية للملك إدورد جزاء ميله إلى التساهل مع البوير في شروط الحرب التي انتهت على أيامه، وفي تقرير مبدأ الاستقلال الداخلي للترانسفال؛ وعلى ذلك ذهب وفدٌ من قِبَلِ حكومة الترانسفال واغتنم فرصة عيد مولد الملك في ٩ نوفمبر سنة ١٩٠٧، فقدَّم هذا الحجر إلى الملك ووزنه ٣٠٢٤ قيراطًا، وطوله ١٠ سنتمترات وعلوُّه ٦ سنتميترات وربع السنتميتر، وسمكه ٣ سنتمترات وربع، وقد قُطِّعَ وصُقِلَ في مدينة أمستردام بهولاندا، وهو الآن موجود في خزينة الملك.
وقد مرَّ بك أنَّ هذه العاصمة الكبرى مشهورة بكثرة ميادينها البهيَّة، وأشهر هذه الميادين — بلا مراء — ساحة ترافلجار سُمِّيَتْ بهذا الاسم تخليدًا لذكر نلسون ومعركة ترافلجار البحرية التي جَرَتْ عند شطوط إسبانيا على مقربة من جبل طارق سنة ١٨٠٥، وقد أُقيم في وسطها عمود رفيع باسق، وفي أعلاه تمثال نلسون والقاعدة من نُحَاسِ المدافع الفرنسوية التي غنمها الإنكليز في حروبهم البحرية، لها ٤ جوانب يمثِّل أحدها معركة ترافلجار هذه، وقد كان الإنكليز فيها يحاربون أسطولَي إسبانيا وفرنسا معًا فحطَّموها تحطيمًا، ونجت إنكلترا بهذا النصر من تحكُّم نابوليون؛ لأنه كان قد أعدَّ جيشًا مؤلَّفًا من ١٧٢٠٠٠ من المشاة و٩٠٠٠ من الفرسان، وأعدَّ ٢٤١٣ سفينة لنقل هذا الجيش القوي من شطوط بلاده إلى إنكلترا، فلولا انتصار الإنكليز في ترافلجار؛ لتمكَّنَ نابوليون من الوصول إلى إنكلترا وسَحْقِها، ولا عَجَبَ إذا أكبر القوم بعد هذا ذكر نلسون وحروبه، ونُقِشَ على جانب آخر من القاعدة رسم معركة كوبنهاجن، وهي التي انتصر فيها نلسون على الدنمارك كما تقدَّم في بابه، وفي الجانب الثالث رَسْم استلام السيف من القائد الإسباني بعد معركة سان فنسان، وفي الجهة الرابعة رَسْمُ معركة أبي قير وكلها كان النصر فيها للإنكليز تحت قيادة نلسون أيضًا، ويرى المتأمِّل في تلك القاعدة جملة صارت من آيات التاريخ يتداولها الإنكليز خلفًا عن سلف ويحنون الرءوس لذكرها؛ لأنها كانت شعار نلسون كَتَبَهَا في أعلى سارية ليراها كل جنوده يوم معركة ترافلجار، وهي: «إن إنكلترا تنتظر من كلِّ فرد أن يقوم بالواجب عليه.» وفي هذه الساحة تماثيل كبراء كثيرين من القُوَّاد والساسة غير تمثال نلسون تحيط به إحاطة الهالة بالقمر. وهنالك مقاعد وبِرَك تتفجَّر منها المياه ومماشٍ تزيد أهميَّة هذا الميدان؛ لأنه محاط من كلِّ جهة بأعظم مشاهد لندن؛ فأمامه محطة تشارن كروس وفندقها والفندق الكبير، وفندق سسل فيه ٧٠٠ غرفة و٥٠ قاعة خصوصية فضلًا عن القاعة العمومية، حيث تُولَمُ الولائم الكبرى. ولا يبعد عنه فندق سافوي، فيه ٥٠٠ غرفة وهو على مرمَى حجر من فندق متروبول وفيه ٥٠٠ غرفة، وكلُّ هذه الفنادق من أعظم ما في عاصمة إنكلترا. وأمام ميدان ترافلجار المذكور معرض الفنون الجميلة، ووراءه بقليل ميدان لستر فيه أعظم مراسح لندن، مثل مرسح أمباير والهمبرا وغيرهما، ومنه يُرَى مجلس النُّوَّاب واللوردة ودواوين الحكومة وكثير من الأندية المشهورة، ويتفرَّع منه شارع ستراند وشارع فليت وشارع ريجنت وبال مال وبكادلي، وكلها من أعظم شوارع لندن أو هي أعظمها، فميدان ترافلجار هذا نقطة مركزيَّة في لندن، واقع في طرف الستي أو المدينة الأصلية ولا بدَّ لكلِّ زائر أن يراه من أول يوم، كما أنه لا بدَّ لزائر باريس أنْ يرى ساحة الكونكورد في الحال، والموضعان متشابهان في الأهمية.
قلنا إن معرض الصور فوق هذا الميدان، واسمه عند الإنكليز «ناشيونال جالري»، وهو من المتاحف العظيمة، أَنْفَقُوا على بنائه مبالغ طائلة وما زالوا يزيدونه إتقانًا وزخارف من عام إلى عام، وقد ابتاعوا أَنْفَسَ الصور ووضعوها في غرف هذا المعرض الفسيحة، ولو شئنا عدَّ شيء قليل من تُحَفِ هذا المعرض لضاق بنا المقام، ولكن القارئ يعلم مقدار أهميته من القول إن الحكومة ابتاعت بعض صوره بالمال الوفير، فإنها دَفَعَتْ تسعة آلاف جنيه ثمن صورة واحدة تمثِّل السيدة وولدها من صناعة ليونارود دي فنشي، وأهمُّ من هذه صورة العذراء من صُنْعِ رفائيل المصوِّر المشهور اشترتها الحكومة لهذا المعرض بسبعين ألف جنيه من الديوك أوف مارلبرو، وهي أغلى صورة في الوجود لم تبلغ صورة أخرى ثمنها إلى الآن، وقد دُرْتُ في جوانب هذا المتحف وأُعْجِبْتُ بإتقان بنائه وزخارفه وفخامة عُمُدِهِ في المدخل الكبير، وهي من الرخام السماقي الثمين، تليها درجات من الرخام الأبيض عريضة، والداخل من تلك الواجهة العظيمة يشعر بالعظمة والوقار قبل أن يرى ما في المعرض من نفيس الآثار.
وأمَّا الجانب المقابل لهذا المتحف من ساحة ترافلجار ففيه مركز الوزارات الإنكليزية، وهي أبنية عظيمة فخيمة متوالية بعضها وراء بعض في شارع اسمه دونن ستريت، يطلُّ على حديقة سان جيمس المشهورة بإتقانها، وأجمل هذه الأبنية من الخارج لوزارة المستعمرات ومن الداخل لوزارة الخارجية؛ حيث يُسْتَقْبَل السفراء وأمراء الأجانب وتُولَمُ بعض الولائم العظيمة. ويلي هذه الأبنية الشاهقة قصر سان جيمس مقر ملوك إنكلترا الأُول لم يزل على حالته القديمة، دليل ميل الإنكليز إلى المحافظة على القديم، وأمامه جنود من ألايات الحرس بتلك القامات الطويلة والوجوه الجميلة والملابس الثمينة، يخطرون وهم فُرْجَة للناظرين يقضون الوقت بالتمشِّي لا يلتفتون إلى شيء آخر، فإذا كلَّمتهم لم يظهروا أنهم شعروا بوجودك أو سمعوك، وعلى الأبواب جنود منهم على الخيل وملابسهم جميلة يقفُ الجنديُّ فوق حصانه ساعتين في موضعه، فلا هو يتحرَّك ولا الحصان يتقلقل كل تلك المدة، ولمنظرهم مهابة ووقار كثير.
ووراء هذه القصور بناء البرلمان العظيم، وهو مجلس نُوَّاب الأمة ولورداتها وعظمته لا تَخْفَى على أحد؛ لأنه مركز قوة الدولة حيث تُتْلَى أعظم الخطب السياسية والمحاورات، وقلَّ أن يمرَّ يوم لا نسمع فيه أنَّ فلانًا قال قولًا خطير الشأن في هذا المجلس العظيم. والبناء من خارجه في غاية الفخامة والجمال، يندُرُ أن ترى في الأرض أعظم منه إتقانًا ومهابةً، صُرِفَ عليه ثلاثة ملايين ونصف من الجنيهات، ولا تمرُّ سنة إلا ويُصْرَفُ عليه ألوف أخرى لزخرفه وإصلاحه، وله من الخارج عدَّة أبراج شاهقة تُرَى من مسافات بعيدة فتزيده حسنًا ومهابة، أهمها برج سان ستيفنس وهو في الطرف الشمالي علوُّه ٩٧ مترًا، وفي الوسط برج آخر طوله ٩١ مترًا، وبرج الملكة بُنِيَ فوق قنطرة وعلوُّه ١٠٣ أمتار، وفي هذا البرج ساعة ذات أربعة وجوه، قُطْر كلِّ وجه منها سبعة أمتار تُسْمَعُ دقَّاتها إلى بُعْدٍ باعد، وقد بُنِيَ إلى ضفة نهر التمز، وُضِعَتْ له المماشي والأرصفة عند الماء يجلس إليها الأعضاء للسمر وتناول المشروبات حين الفراغ من الأعمال، ويكثر أن يدعوا إلى ذلك الموضع أصحابهم من السيدات والرجال، فيراهم الراكبون في السفن من النهر، ويتأمَّلون عظمة الموضع الذي تُدَار فيه سياسة الممالك ومهامِّها، ويتأمَّلون أيضًا واجهته المطلَّة على النهر يبلغ طولها ٢٧٥ مترًا، وقد نُقِشَ عليها صور ملوك إنكلترا من عهد وليم الفاتح إلى الملك إدورد الحالي، وكذلك صور وتماثيل كثير من عظماء الرجال الذين شيَّدوا المملكة، وقووا بأعمالهم الكبيرة دعائمها. وقصر وستمنستر هذا أو هو مجلس البرلمان يشغل أرضًا مساحتها ٣٣٩٠٠ متر، وفيه إحدى عشرة ردْهَة أو حوشًا، ومائة سُلَّم وألف ومائة غرفة، يمكن للناس أن يدخلوه مرَّة في الأسبوع، وهو يوم السبت من الساعة العاشرة صباحًا إلى الساعة الرابعة بعد الظهر؛ للتفرُّج على بعض جوانبه، وأمَّا دخول القاعات التي يجتمع فيها اللوردة والنُّوَّاب وسماع المداولات فلا يمكن إلا بإذن من أحد الأعضاء، وقد ذهبتُ إلى هذا المجلس العظيم مع صديقٍ قديمٍ لي هو المستر موبرلي بيل مدير جريدة التيمس المشهورة، ودُرْتُ معه في تلك الأروقة والقاعات حتى خُيِّلَ لي أنَّني في بلد أنتقل في شوارعه ولست في بناء واحد، ودخلتُ قاعةَ العرش فإذا هي آية في الجمال والرواء رُصِّعَتْ أرضها بالفسيفساء البديعة الألوان وزُيِّنَت السقوف والجدران بالصور والرسوم، منها صورة أمير البحر نلسون كأنه يموت في واقعة ترافلجار ورسم الدوك ولنتون يقابل معتمد فرنسا عقب واقعة واترلو الشهيرة، وفي صَدْرِ القاعة العرش يجلس عليه الملك في بعض الحفلات الرسمية، ومنه ينتقل إلى قاعة مجلس اللوردة، حيث يُتْلَى الخطاب الملوكي، وحين ذاك يذهب موظَّف من مجلس اللوردة إلى مجلس النُّوَّاب في الجانب الآخر من البناء يدعو النُّوَّاب إلى الحضور لسماع الخطاب الملوكي، فيترك النُّوَّاب كل عمل لهم ويبطل كل قول، ويتوجَّه بعضهم لسماع الخطاب، وهي عادة قديمة لم يتحوَّل عنها الإنكليز إلى الآن. وأعضاء هذا المجلس نحو ٥٥٠ لوردًا أكثرهم يرِثون هذا اللقب عن الآباء والأجداد، وبعضهم يرْقَى إليه باجتهاده، مثل كرومر وولسلي وكتشنر، ولكن لا يحضر المجلس من الأعضاء أكثر من مائة إلا في أحوال نادرة، وليس فيه مقاعد لجميع الأعضاء لو حضروا، وفي داير القاعة من أعلاها مواضع للسفراء والمدعوين من السيدات والرجال وأصحاب الجرائد، وسنذكر عن نظام هذا المجلس بعد الكلام عن قاعة النُّوَّاب.
دخلتُ مجلس اللوردة، وهو قاعة باهرة ذُهِّبَتْ جوانبها وزُخْرِفَتْ سقوفها وفُرِشَتْ أرضها بالقطيفة الحمراء، وفيها اثنا عشر شباكًا زجاجيًّا رُسِمَتْ عليها صور ملوك إنكلترا واسكوتلاندا، وبين تلك الشبابيك صور اللوردات الذين اضطروا الملك جون أن يمضي الدستور الذي قام عليه نظام الحكومة الحاضرة، وهذا الرَّسْمُ على الزجاج في الألوان من الصناعة البديعة. وفي صدر القاعة من ناحية الجنوب منصَّة مرتفعة قليلًا عليها المنبر أو الكرسي الذي يجلس عليه الملك عند افتتاح جلسات المجلس أو إقفالها، وبجانبه كرسي للملكة.
ودخلتُ بعد ذلك مجلس النُّوَّاب، وهو أقدمُ المجالس النيابية عمرًا وأعظمها صولة تَنْقُلُ الأسلاك البرقية أقوال أعضائه كل يوم إلى أقاصي الأرض، ولكنه إذا رآه الغريب لم يصدق أنه في ذلك المجلس العظيم؛ لأنه لا يزيد عن قاعة بسيطة فيها كراسي ومقاعد، وفي صدرها محل الرئيس، وهم يسمُّونه «سبيكر» أو المتكلِّم عن الشعب بحاجاته، وعدد أعضاء هذا المجلس ٦٧٠ ولكنهم لا يجتمعون كلهم فيه إلا نادرًا، ولا يمكن لأكثر من النصف أن يقعدوا فيه لصِغَرِهِ، وقد أبقوه على هذه الحالة؛ لأنه مجتمع النُّوَّاب الأول فحافظوا على شكله عملًا بسنة المحافظة التي يميل إليها الإنكليز، وأعضاء هذا المجلس أحزاب كثيرة أشهرها حزب المحافظين وحزب الأحرار، ومن أحزابهم حزب الأحرار المتطرِّفين وحزب الأحرار المنشقِّين والحزب الأرلاندي، وهو يخالف الأحزاب جميعها، ويطلب أن تستقلَّ أرلاندا في شئونها الداخلية، ويكون لها مجلس خاصٌّ بها، وهي نقطة الخلاف الدائمة بين هؤلاء الأعضاء وزملائهم الإنكليز. والنُّوَّاب يُنْتَخَبُون كل ستِّ سنوات أو أقل، وهم يجلسون إلى كراسيهم ولا ينزعون قبَّعاتهم مدة الجلسات خلافًا للمتفرِّجين، وهذا امتياز قديم لأعضاء المجلس حافظوا عليه، كما أنهم حافظوا على عادات قديمة أخرى لا محلَّ لذكرها هنا، وليس لهم رواتب مثل بقية النُّوَّاب في أوروبا، بل هم يخدمون بلادهم بلا أجرة، وقد اشتُهر عنهم الرزانة والوقار، فلا تحدُثُ في مجلسهم الضوضاء وأشكال الخصام التي تُسْمَعُ عن النُّوَّاب في بعض الممالك الأخرى، وفي مجلسهم مقاعد للمتفرِّجين وأصحاب الصحف، ويتبع محلهم غرف للمداولات وللوزراء وأروقة كثيرة فيها رسوم الحوادث التاريخية وتماثيل الرجال العظام من الإنكليز.
ويقرُبُ من مجلس البارلمنت هذا دير وستمنستر العظيم، وهو معبد فاخر يُتوَّج فيه الملوك ويُحْتَفَلُ بزواج الأمراء والكبراء، وفيه مدفن لمشاهير الأمة أيضًا، ويليه شارع عظيم اسمه شارع فكتوريا يتصل آخره بقصر بكنهام، وإلى جانب القصر حديقة جميلة اسمها سان جيمس بارك، يليها حديقة أخرى اسمها جرين بارك، ويتَّصل بهذه حديقة أخرى اسمها هيد بارك، هي من أكبر حدائق الأرض لا تقلُّ مساحتها عن خمسمائة فدان، ويجتمعُ فيها الألوف في كلِّ يوم متنزِّهين، ولا سيَّما يوم الأحد حين يخرجون من الكنائس وينقطعون عن العمل، وهنالك يخطب الخطباء على السامعين في كلِّ موضوع سياسي أو مدني أو ديني، وتجري العربات الفاخرة لسراة لندن والخيل المطهمة، ولا يجوز لعربات الأُجْرَة أن تجتازَ طرق هذه الحديقة، والذي يريد أن يرى لذَّة العيش في لندن وثروة سراتها أو فقر أوباشها فما عليه إلا أن يدور في جوانب هيد بارك يرَ ذلك رَأْيَ العين.
ذَكَرْنَا أن ميدان ترافلجار نقطة مركزية، ومنه يتفرَّع شارعان مهمَّان غربًا، هما بال مال وبيكادلي، وفيهما الأندية من الطبقة الأولى يؤمُّها سراة الإنكليز حيث يقضون أوقاتهم بالمطالعة والمسامرة، ويتصل بالميدان المذكور أبهى وأجمل شارع في الأرض — أعني به شارع ريجنت — تمرُّ به جميع أشكال الأمَّة الإنكليزية، وفيه الحوانيت تُباع فيها أحسن البضائع، وهو يشبه أعظم بولفارات باريز، وفي طَرَفِهِ شارع أكسفورد لا يقلُّ طوله عن ميلين، ولو شئنا وصف شيء من هذه الشوارع أو عدَّ المهمِّ منها كله لَلَزِمَ لذلك المجلَّدات، يكفي الغريب أن يتمشَّى في هذه المثابات الكبرى ويتأمَّل مخازنها وتحفها وجماعات الداخلين إليها والخارجين منها؛ لأنه إذا قضى في ذلك عامًا كاملًا لم يمَل الفرجة.
وأمَّا متاحف لندن ومعارضها فأكثر من أن تُعَدَّ أيضًا؛ لأنها أعظم مدن الأرض وأشهرها، وفيها كل ما يمكن أن يخطر على البال، ولعلَّ أشهر معارضها المتحف البريطاني المشهور بالآثار التاريخية لكلِّ ملة وكل أمة، له منظر من الخارج فخيم، وقد قام على عُمُدٍ بديعة الشكل، ومدخله رهيب رحيب يؤمُّه الناس مئات وألوفًا، حيث يدرسون آثار الأمم الدارسة بلا ثمن، ويرون بقايا الشعوب الغابرة وقد قُسِّمَتْ أقسامًا، هنا للروم وهنا للرومان وهنا لمصر وهنا لبلاد آشور والكلدان، وليس في الأرض معرض آخر فيه من الأجسام المحنَّطة والآثار المصرية البديعة ما في هذا المعرض إلا متحف الجيزة. وهنالك من أنواع النقود القديمة والحديثة لكلِّ الممالك ما يقْصُرُ القلم عن وصفه، ومحرَّرات وكتب خُطَّت بيد المشاهير من جميع الأزمان، ومؤلَّفات غربية بعضها عربي قديم له قدر وقيمة، هذا غير المكتبة التابعة لهذا المعرض، وهي قاعة كبرى مستديرة الشكل يدخلها الطالبون بإذن خاصٍّ من مديرها، وفيها نحو أربعمائة ألف كتاب، فإذا دخلها الزائر قَعَدَ إلى كرسي وكتب اسم الكتاب الذي يريده على ورقة يجدها أمامه، فيأتي خادم من خدمة المحلِّ ويأخذ الورقة ثم يعود بالكتاب ويضعه أمامه بلا حديث ولا لغط، فترى العلماء والمنقِّبين يدرسون هنالك بكل وقار، ولتلك القاعة تأثير في النفس عظيم، وقد اشتُهر المتحف البريطاني هذا بما أُنْفِقَ عليه من الألوف، وما فيه من هدايا الإنكليز النفيسة والآثار، من أشهرها حجر رشيد الذي اهتدى الناس إلى العلم باللغة المصرية القديمة منه، وجده العلامة شامبليون الفرنسوي سنة ١٨٠٤ مدة الحملة الفرنسوية، وأُخذ منها يوم حاربهم الإنكليز فأُودع في هذا المعرض، ومع ذلك آثار بابل ونينوى التي جَمَعَها السر هنري ليارد وغيره، وهي أقدم آثار الآدميين، وفيه غرفة للتحف النفيسة والجواهر القديمة لا تُفْتَحُ إلا بإذنٍ خاص لبعض الزائرين.
ومن هذه المعارض متحف كنسنتون خُصَّ بالفنون الجميلة كالحفر والنقش والتصوير، وفيه أشكال الآلهة القديمة والرجال العظام كلهم على اختلاف الملل، ومتحف التاريخ الطبيعي وهو بناء جميل في صدره تمثال دارون العلَّامة المشهور، وفيه أشكال النبات والطير والسمك والحيوان كلها، وهو من المعارض الجميلة في لندن، ومن هذا القبيل أيضًا متحف مدام توسو على مقربةٍ من حديقةِ النباتِ التي ذكرناها، فيه تماثيل الرجال والنساء العظام بملابسهم المعروفة، وقد أُتْقِنَ إلى حدِّ أنَّ الغريب لا يفرِّق بين التمثال والشخص الحي، وغير هذه المعارض كثير لا يمكن أن نطيل في وصفه.
وفي القسم الغربي من لندن أهمُّ مشاهدها، وهو مسكن الأغنياء وأهل الترف، وليس في الأرض بقعة أعظم من البقعة المحيطة بقصر بكنهام في جمال أبنيتها واتساع شوارعها وفخامة مناظرها وثروة أصحابها وكثرة مشاهدها، وما فيها من آيات العظمة والإتقان، ومثلها في الجمال واتساع الطرق بعض الضواحي يسكنها الموسرون والأكابر وهم يقضون أعمالهم في المدينة. وفي لندن من تماثيل الرجال العظام ما لا يُعَدُّ ولا يُعدد، تراه أينما سِرْتَ، وأحسن هذه التماثيل ألبرت مموريل أو تذكار البرنس ألبرت زوج الملكة، أُقيم له بعد وفاته في طرف حديقة هيد بمال الأمة، وأُنْفِقَ على زخرفه وتشييده نحو ١٢٠٠٠٠ جنيه، ويليه في آخر الحديقة إلى الشمال قاعة مستديرة كثيرة الفخامة والزخرف اسمها ألبرت هول يجتمع فيها الألوف للأمور الخطيرة وسماع الخطب المهمة، وهي تضمُّ نحو عشرة آلاف نفس، وقلَّ أن تسمع باسم رجل عظيم من الذين نبغوا بين الإنكليز وليس له تمثال في هذه العاصمة، وأمَّا فنادقها فمحاولة عدِّها خطأ؛ لأن الفنادق هنا بلا عدد وبعضها ضخم كبير إلى حدٍّ غريب ومطاعمها أيضًا لا حصر لها، ولكن أكثرها يُقفل يوم الأحد مثل كلِّ المخازن والأماكن العمومية، فترى المدينة ذلك النهار في سكون وهدوء غريبَين حتى يخيَّلَ لك أنك انتقلت من لندن، وهي مركز الحركة الهائلة والضجَّة الكبرى.
ويكثر الضباب في لندن حتى إنهم يضطرُّون إلى إنارة الطرق والمخازن بالأنوار الكهربائية وغيرها في وسط النهر أحيانًا، وجوُّها قاتم في أكثر أيام السنة حتى إن المرء لا يرى أمامه إلا مسافة قريبة، ومنازلها معروفة بالسواد من الخارج بسبب هذا القتام المولَّد عن كثرة مداخنها، والمقادير الكبرى التي تُحْرَقُ فيها من الفحم كل يوم، ففيها أكثر من ٦٠٠ ألف منزل ونحو ١٥ ألف معمل، ويتطاير منها الدخان في كل آنٍ.
ومن أهمِّ مشاهد لندن موانيها الكبرى على ضفاف نهر التمز، إذا زارها المرء رأى العجب وتحقَّق أنَّ تجارة الإنكليز تصل كلَّ صقع بعيد، وأن مملكتهم لا تغيب الشمس عنها وسمع من الضجَّة وشَهِدَ من الجدِّ في العمل وكثرة السفن والعمال والأبضعة ما يحيِّر العقول ويبهر الأنظار، فإن طول المينا أربعة أميال يدخُلُ كل عام ما يزيد عن سبعة وعشرين ألف سفينة محمولها ستة عشر مليونًا ونصف طونولاتة، وتبلغ قيمة صادرات هذه المملكة حوالي ٥٥٠ مليون جنيه حسب إحصاء سنة ١٩٠٨، ويمكن لثلاثمائة سفينة بصنادلها أن ترسو في هذا الميناء العظيم، وهناك الأرصفة التابعة للمينا أهمها رصيف كاترينا صُرِفَ عليه ثلاثة ملايين جنيه، مساحته نحو مائة فدَّان، ورصيف التجارة يشغل ٣٥٠ فدانًا ورصيف الهند يشغل، أيضًا ٣٥٠ فدانًا ورصيف فكتوريا ٥٠٠ فدان، ويدخُلُ إلى هذه الأرصفة أربعون قطارًا من قطارات السكة الحديدية في كلِّ يوم، وهناك مخازن للبضائع أهمُّها محل مساحته ٣٠ فدانًا للبهائم يضم ثلاثمائة وخمسين ألف رأس من البقر والضأن، والذي يتأمَّل تلك العربات التي لا تُحْصَى ذاهبة آيبة لنقل البضائع وهاتيك الألوف من العمال تشتغل بلا انقطاع؛ يعلم أنه في مقرِّ الحركة الكبرى ومركز تجارة الأرض بلا خلاف.
ضواحي لندن
- حديقة ريجنت: هي أكبر حدائق لندن، تبلغ مساحتها ٤٧٢ فدَّانًا من الأرض، وفيها قسمٌ
للحيوانات على شكل حديقة الجيزة من ضواحي مصر، ولكن معرض الحيوانات في حديقة ريجنت هذه
من أكبر معارض الحيوان في ديار الغربيين، فيه أكثر من ٢٥٠٠ حيوان، وقد يزيد عددها أو
يقلُّ حسب الأحوال، كما أنَّ عدد المتفرِّجين عليها يختلف باختلاف الأوقات، وأكثر ما
يكون توارد المتفرِّجين إلى هذه الحديقة في ساعات العصر حين تخرج هذه الوحوش من
مكامنها، وتشمُّ رائحة اللحم فتأتي حركات تروق للناظرين. ولصغار الإنكليز ولعٌ بهذه
الحديقة، فهم ينتابونها ألوفًا مؤلَّفة، وتلذُّ لهم فيها مشاهدة القردة على أنواعها
وتأمُّل حركاتها وأمورها، وربما قضى الزائر ساعات متواليات في هذه الحديقة يدور من مشهد
إلى مشهد، ويتأمَّل غرائب المخلوقات المتعدِّدة حتى إذا شعر بملال أو تعب جَلَسَ إلى
أحد المقاعد المنثورة في جوانب الحديقة بين شهيِّ الأغراس وبهيِّ الأزهار أو انتاب قهوة
يسمع فيها شجي الألحان، وإذا جاع أو عطش فلديه مطعم فيه من كلِّ فاكهة زوجان، ومن
الأطعمة ما يشاء من الأطباق والألوان.
وفي هذه الحديقة أقسام أخرى بعضها لأنواع الطير، وقد لا تقلُّ الطيور المختلفة في أقفاصها عن ١٥٠٠ طير، جمعوها من سحيق الأصقاع ونائي القارَّات، فمنظرها غاية المتفرِّجين، وفيها أيضًا قسم للزحافات، مثل الحيَّات وسواها جاءوا بها من الهند وأميركا وجاوة وإفريقيا، وهي داخل بيوت من الزجاج لبعضها شكل يخيف القلوب، ولكن هذه المخلوقات على الجملة تشرح الصدور بمنظرها وحركاتها، وتُعَدُّ حديقة ريجنت من أحسن مثابات لندن وأنفعها في جميع الأوقات.
- قصر البلور: هو بناءٌ من الزجاج والحديد شادته شركة إنكليزية في قسم سدنم من ضواحي لندن سنة ١٨٥٤ برأي المرحوم البرنس ألبرت والد ملك إنكلترا الحالي؛ ليكون معرضًا عموميًّا لمصنوعات الأمم جمعاء، وقد نَقَلَتْ باريس وغيرها هذا الفكر عن لندن فأقامت المعارض العمومية المشهورة، وما زالت ترجع إليها من حين إلى حين، أنفقوا على هذا البناء يوم إنشائه مليونَي جنيه، وجعلوا له فناء طوله ١٦٠٨ أقدام، وفيه محل للموسيقى بلا سقف يمكن أن يقعدَ فيه ٤٠٠٠ نفس، وقاعة عظيمة واسعة تضمُّ نحو ٢٠ ألفًا، وحدائق ومناظر تُعَدُّ من حسنات العاصمة الإنكليزية، فالناس يقصدون هذا القصر وحديقته ويكثر عديدهم في الأعياد والآحاد حين تزداد المشاهد ومشوِّقات النفس إلى الحضور، وتُطْلَقُ في الليل ألعاب نارية مختلفة الرسوم والألوان، فتلذُّ الفُرْجَة لجمهور المتفرِّجين. وأمَّا حديقة هذا القصر التي ذكرناها فلا تقلُّ مساحتها عن ٢٠٠ فدَّان، فيها كل ما يفتن الأبصار من الأعشاب والأزهار وبِرَك الماء وممهد الطرق وبقية الحسنات المعهودة في مثل هذا المتنزَّه الكبير. وفي هذا القصر تماثيل بديعة منقولة عن صنعة القدماء، ومعرض لبعض الآثار والأسلحة القديمة، وأسواق صغرى تُباع بها النفائس من أحسن معامل الإنكليز.
- رتشمند: مكان بهي بديع تشرح آياته الصدر ويشعر المرء فيه براحة البال وتعاون الطبيعة والصناعة على إبراز الجمال بأحلى الأشكال، يمكن الوصول إلى هذه الجهة بسكة الحديد أو بالعربات تجرُّها الخيل أو بحافلات الأوتوموبيل أو بغير ذلك من وسائل النقل، وقد قصدتُّها بعربة تجرُّها أربعة جياد وتسير العربة ساعة من الزمان في طريق مستقيم ليس به اعوجاج ولا انحناء ولا تعريج إلى الشمال أو إلى اليمين، بُنِيَتْ رتشمند على ضفَّة نهر التمز الذي يخترق مدينة لندن ويشطرها شطرين، ففيها القوارب الحسناء يركبها مَنْ شاء التنقُّل فوق ماء البحر، وإلى مقربة منه حديقة رتشمند المشهورة، وهي مجموع حرجات وجنَّات وغابات تمرُّ بها الناس فوق الجياد أو في مركباتها متلذِّذة بالهواء النقي، ومساحة هذه الحديقة ٢٢٢٥ فدانًا، كانت فيما سبق من أملاك ملوك إنكلترا، فتنازلت الملكة فكتوريا عنها في أوائل حكمها وجعلتها من أملاك الأمة حتى تكون مثابة الجمهور كما هي الآن.
- حديقة كيو: وهذه أيضًا من بدائع الضواحي الإنكليزية ومثابات أهل الترف والبطالة، يمكن الوصول إليها من حديقة رتشمند التي ذكرناها، والمسافة بينهما طويلة، ولكن السائر في هذا الطريق يرى قسمًا كبيرًا من أطراف مدينة لندن، وهم يعنون بإنبات الأعشاب والنباتات الغريبة في هذا الموضع، فيضعون بعضه داخل بيوت من الزجاج وقد يوقدون النار من تحت جذوره؛ لأنه منقول عن بلاد حارَّة فلا ينمو إلا بمثل هذا التدبير، أذكر أنِّي لقيتُ مدير هذه الحديقة ساعة زيارتي، وأنه رافقني وأرشدني بنفسه إلى كثير مما تحلو مشاهدته، وأظهر لطفًا عظيمًا، وأذكر أيضًا أنِّي رأيت في هذه الجهة لأول وهلة إحدى بنات الإنكليز تشتغل بعَزْقِ الأرض والزراعة وهي بنظيف الملابس، وفي رجليها حذاء وفي يديها قُفَّاز أو كفوف تقيهما المضار، وقد رأيتُ أشجار النخل هنا داخل محل علوه ٧٠ قدمًا وحرارته لا تقلُّ عن درجة ٨٠ على مدار السنة، وهو منظر غريب لا نظير له في بلاد الإنكليز، وفي وسط الحديقة طريق عريض جميل إلى جانبيه صفوف الزهر والعشب يمتدُّ منها إلى ضفَّة التمز، وفيها كل ما تطلب النفس من لوازم الطعام والشراب، فزيارتها عائدة بالمسرَّة والقوم الذين ينتابونها جمهور كبير.
اليوبيل
وُلِدَت جلالة الملكة فكتوريا في الرابع والعشرين من مايو سنة ١٨١٩، وهي ابنة الديوك أوف كِنْت ابن الملك جورج الرابع، وأمها ألمانية من آل كوبرج، ورُبِّيَتْ هذه الملكة في مَهْدِ الفضيلة حتى إذا تُوفِّي عمها سنة ١٨٣٧ ورِثَت المُلْكَ عنه بحسب نظام المملكة الإنكليزية، وأظهرت من ساعة تتويجها رقَّةً وشعورًا بالواجب جَذَبَ قلوب الناس إليها وجعلهم يجلُّون مقامها ويحبونها حبًّا مفرطًا، واقترنت سنة ١٨٤٠ بابن عمِّها البرنس ألبرت أمير كوبرج وغوتا، وكان الرجل من أنجب أهل زمانه وأعقلهم وأبرعهم، طالما قام مقام الملكة في المحافل وأرشدها في المهمَّات، وقد حدثت في أيامها حوادث كثيرة أشرنا إلى بعضها في الخلاصة التاريخية من هذا الفصل. وتقدَّمت الأمة الإنكليزية تقدُّمًا لم يسبق له نظير في أيام هذه الملكة العظيمة التي اشتُهرت بالفضائل ولم تُغْضِب شعبها مرة واحدة مدة حكمها الطويل، ولمَّا بلغت الخمسين من حكمها احتفل الإنكليز بذلك العيد احتفالًا عظيمًا دعوا إليه ملوك الأرض وأمراءها، ولكنهم عادوا إلى احتفال أعظم منه سنة ١٨٩٧ حين تمَّ على الملكة ستون عامًا وهي فوق العرش، وكان هذا هو اليوبيل الذي نحن في شأنه.
كانت الحكومة الإنكليزية والأمة قد استعدَّت لذلك الاحتفال الباهر قبل زمانه بمدة طويلة، وظلَّت الجرائد أَشْهُرًا وأعوامًا تكتب عنه وتقدِّم الآراء في وجوه إظهاره، وَجَمَعَ الأفراد والجماعات في المملكة الإنكليزية والمستعمرات مبالغ طائلة؛ لتُنفقَ على الزخارف والزينات في يوم الاحتفال؛ ولتُقَدَّم بها الهدايا لجلالة الملكة أو لِتُنْشَأ المدارس والآثار الدالَّة على ذلك العيد العظيم الذي لم يدوِّن له التاريخ مثيلًا، فإنه لم يملك في الأرض ملك أو ملكة ٦٠ عامًا على سلطنة لا تغيب الشمس عنها مثل سلطنة الإنكليز إلا اثنان، هما لويس الرابع عشر ملك فرنسا وجورج الرابع ملك إنكلترا، وكلاهما لم يكونا على تمام القوى العقلية مدة حكمهما الطويل، وأرسلت حكومة إنكلترا في أوائل سنة ١٨٩٧ كتبًا إلى ملوك الأرض وأمرائها ووزرائها تعلنهم أنَّ الاحتفال العظيم بمرور ستِّين عامًا على حكم الملكة فكتوريا يتمُّ يوم ٢٢ يونيو من تلك السنة، فانتدبت كلُّ دولة وفدًا من عظمائها يحضر ذلك الاحتفال بالنيابة عنها، وكان رئيس الوفد في أكثر الأحيان من أمراء الدولة المالكة أو ولي عهدها أو أقْدَم وزرائها، وبعض الملوك ذهبوا بأنفسهم مثل ملك البلجيك وملك سكسونيا وملك اليونان وملك الدنمارك وغيرهم، وأرسلت الوزارة الإنكليزية إلى سلطنة الهند والمستعمرات تدعوها لحضور هذا الاحتفال فجاء من كلِّ مستعمرة وزيرها الأول مع قرينته، واستأجرت لهم الحكومة فندق سسل من أشهر فنادق لندن في شارع ستراند فأقاموا فيه مدة الاحتفال ضيوف دولتهم، وكذلك جاء من كلِّ مُسْتَعْمَرَة نَفَرٌ من الجند فكنت ترى العساكر الأوسترالية والكندية والقبرسية والهندية والصينية والملقية والمالطية والأفريقية على أشكالها وأنواعًا من الجند، والناس أتت من مشارق الأرض ومغاربها، حيث يخفق العلم الإنكليزي الذي تظلَّلَ بظلِّه في أيام الملكة فكتوريا نحو خُمُس البشر جميعهم، وهو عدد لم يحكم مثله واحد من بني آدم قبلها، وكان منظر هؤلاء الأقوام المختلفة ومنظر ضُبَّاط الجيش الهندي بملابسهم المزوَّقة وعمائمهم المزخرفة يستحقُّ الذكر والإعجاب، ويشير إشارةً واضحةً إلى اتساع السلطنة الإنكليزية وقوتها الهائلة، ودُعِيَ إلى هذا الاحتفال أيضًا قواد الأساطيل الإنكليزية والجيوش البرِّيَّة وأعضاء البارلمنت ومجالس الشورى والبلدية والوزراء السابقون وكل ذي حيثية ومقام، فكان في ذلك المشهد العظيم من أمراء الأرض وملوكها وقوادها ووزرائها وأصحاب المقام الخطير فيها ما لم يتفق اجتماعه في نقطة واحدة من عهد تأسيس الحضارة الحديثة، ولا غرو إذا قيل إن اليوبيل كان من أعظم أعياد المتمدِّنين.
وأمَّا عن استعداد الأهالي والزينات الباهرة في كلِّ جوانب لندن وفي الشوارع التي تقرَّر أن يمرَّ بها الموكب العظيم في ذلك اليوم المشهود فحدِّث ولا تسل؛ لأن حلقات الزهر والأعمدة والقُبَّات والمصابيح والكرات والرايات وأشكال الزينة الأخرى كانت متواصلة متوالية من قصر بكنهام الذي خرجت منه الملكة وبقية الكبراء إلى كنيسة مار بولس التي أُقيم فيها الاحتفال الديني، ومن هذه الكنيسة إلى القصر في شوارع غير التي قَدِمَ الموكب منها، وقد استغرق مسير الموكب ذهابًا وإيابًا ٤ ساعات ونصف ساعة، ومرَّ في شوارع طولها ثمانية أميال حتى يتمكَّن الناس من رؤية ملكتهم ومشهدها الباهر في ذلك اليوم من عدَّة أماكن، وكان الناس قد استأجروا كلَّ شرفة أو كوة أو نافذة يمكن لهم أن يقعدوا فيها ساعة مرور الموكب حتى إن أجرة الشباك في تلك الشوارع بلغت مبلغًا كبيرًا، وهُدمت مواضع قديمة بُني موضعها مقاعد من الخشب صفوفًا فوق صفوف، فما بقي رصيف ولا سطح ولا مكان حتى احتشد فيه المئات والألوف، وخُيِّلَ للناظرين في ذلك اليوم الغريب أنَّ شوارع لندن وأرصفتها وأبنيتها انقلبت إلى مراسح فيها صفوف الجالسين بعضهم يلي بعضًا، أولهم في الأرض وآخرهم في أعلى السطوح، والكلُّ بأجمل هندام مع أولادهم وأصحابهم فرِحِين بذلك العيد الذي طبقت الآفاق بذكره مدة الأعوام الماضية، وقد تحلوا رجالًا ونساءً بألوان الراية البريطانية، وهي الأحمر والأبيض والأزرق، بعضهم لبسوها أزرارًا في الرداء أو رباطًا للعنق أو زينة لملابس الرأس، أو بطرق أخرى تظهر وطنيتهم وفرحهم الكثير. وتخلَّلَ صفوف الناس في كلِّ جانب تلك الرايات المعقودة على أشكال بهيَّة والزينات الباهرة وشعار الدولة الإنكليزية، وقد كُتِبَ عليها في معظم الجهات «الله يحرس الملكة» بأحْرُف مختلفة الأشكال والألوان.
وكان الهواء في ذلك النهار صحوًا بديعًا يوافق ما تعوَّدته الملكة فكتوريا حين خروجها مدة حكمها الطويل، فإنها لم تخرج لأمر خطير مدَّة أيامها إلا والهواء معتدل والمطر قليل مع كثرة وقوعه في بلاد الإنكليز حتى صار من مصطلحات القوم أنهم يسمُّون أوقات الصحو «بهواء الملكة». وابتدأ الموكب العظيم بالخروج من قصر بكنهام الساعة ٨ والدقيقة ٤٥ صباحًا بين دقِّ الأجراس وقَصْفِ المدافع وعَزْفِ الآلات الموسيقية وصياح الناس من كلِّ جانب، فكان لذلك الاحتفال تأثير كبير، وكان بدء ذلك الموكب خروج فِرَق من الشرطة والجند لبست أبهى الملابس المعروف جمالها، وقد تألَّقت الوسامات الحربية على صدور الرجال ووقفت الجنود في طولِ الطريق لحراسة أولئك العظام الذين تألَّف منهم الموكب والمحافظة على النظام بين الذين احتشدوا لمشاهدة ذلك المنظر الغريب، وما كاد النظام يتمُّ والوقت يجيء حتى برزت من داخل القصر البهي فرقة من الحرس الملوكي، وهم جنود تُضْرَبُ الأمثال بجمال وجوههم وقاماتهم وملابسهم يُنْتَقُون من طوال الرجال وأصحاب المناظر البهيَّة، ويلبسون فاخر الثياب من خوذة نحاسيَّة تلمع كالذهب الوهَّاج فوقها شعار الدولة الإنكليزية وريشة بيضاء وسلسلة تربطها إلى العنق، وكل هذه تسطع وتلمع من دونها سترة حمراء بديعة الجمال مُزَرْكَشَة بالقصب والذهب من أعلاها إلى أسفلها، وبنطلون أبيض متين له حواشٍ من القصب وجزمة صفراء إلى الركبتين، وقُفَّاز أبيض في اليدين، هذا غير ما على الجواد من الأدوات الثمينة، فكان منظر أولئك الجنود مما يشْرَح الصدور وترتاح إليه النفوس، وتقدَّم هذه الفرق من الحرس الملوكي ضابط صغير الجسم ضئيل امتطى جوادًا أبيض وقد غُطِّيَ صدر هذا الضابط بأفخر الوسامات، وكان في يده عصا المشيرية وعليه أمارات العظمة مع صِغَرِ جسمه، فعَرَفَ الناس في الحال أنه بطلهم المغوار والليث الكرَّار اللورد روبرتس الذي قاد جنود الهند وإنكلترا في مواقع الهند وبرما وأفغانستان والترانسفال، وشاد لدولته صروح الفخار؛ فصاحت تلك الجماهير لرؤيته فرِحَة مرحِّبَة، ونادت الألسن أن ليعش روبرتس، وكان بعضهم يقول «برافو بوبس» وهو اسم هذا القائد العظيم عند العامة التي تحبُّه حبًّا مفرطًا، فكان بدء الموكب ببروز هذا القائد العظيم استهلالًا بديعًا، وتوالت بعد ذلك فِرَق لا عدَّ لها ولا حصر من فرق الجيش الإنكليزي وجيوش المستعمرات، وكان وراء كلِّ فرقة وزير المستعمرة التي جاءت منها الجنود في عربة خاصَّة به مع قرينته، وجاءت بعد هذه فرق من بحرية إنكلترا وتلامذة مدارسها البحرية، فكانت تلك الجموع تصيح مرحِّبة بها صياحًا دوَّت به الآفاق؛ لأن الإنكليز يفخرون بقوتهم في البحار، وهي عنوان ملكهم الوسيع، فما رأى البحرية من إكرام الناس لهم مثل ما رأوا في ذلك اليوم العظيم، ومرَّت بعد هذا فِرَق الجيش الهندي فصفَّق لها الناس كثيرًا وبالغوا في إكرامها مبالغة ثم توالت عربات الوفود القادمة من كلِّ مملكة، فكانت الجماهير كلما عرفت أميرًا عظيمًا أو مندوبًا ساميًا تنادي مرحِّبةً به وتعظِّم قدره، وقد خصُّوا بالإكرام الجنرال ميلز قائد جنود الولايات المتحدة ومعتمدها في ذلك الاحتفال، والبرنس هنري البروسي شقيق الإمبراطور ورئيس الوفد الألماني، والغراندوق سرجيوس عم القيصر ورئيس الوفد الروسي، وظلَّ القوم يرحِّبون بهذه الجماعات.
وقد جاء وراء الوزراء أعضاء مجلس الأعيان ومجلس النُّوَّاب والمجالس البلدية وحكام الولايات وتلامذة المدارس الحربية والبحرية حتى إذا تعدَّدت الأشكال ومرَّت فرق العظماء على مثل ما تَقَدَّم، بَرَزَ من وراء الجند أمراء امتطوا صهوات الجياد، وفي جملة هؤلاء الأمراء العظام الغراندوق سرجيوس الروسي عم جلالة القيصر والبرنس هنري الروسي شقيق إمبراطور ألمانيا، والأرشدوق فردناند النائب عن إمبراطور النمسا، وسمو البرنس محمد علي شقيق الجناب الخديوي، وأمير الجبل الأسود، وولي عهد السويد، وولي عهد الدنمارك، وملك سكسونيا، وولي عهد رومانيا، وكثار غير هؤلاء من أمراء أوروبا وأقيال الهند والممالك الشرقية، وكان من وراء هؤلاء الأمراء عربة الملكة ووراءها ولي العهد البرنس أوف ويلس وأخوه الديوك أوف كونوت وابن عم الملكة الديوك أوف كامبردج، والكلُّ بفاخر اللباس العسكري والوسامات العالية على ظهور الجياد، فكانت جماهير الناس كلما رأت أحدَ الرجال العظام أو كلَّما وصلت جلالة الملكة إلى أحد المواضع ترفع أصواتها إلى السماء طربًا وترحيبًا، وقد تكرَّر هتاف الناس وتصفيقهم وطارت في الفضاء قُبَّعاتهم ولاحت في الهواء مناديلهم، وظَهَرَ لهم من الحماسة والفرح ما لم يُرْوَ نظيره عن الإنكليز. وكانت جلالة الملكة في عربة فاخرة يجرُّها ثمانية من جياد الخيل، وقد قعدت في صدرها وإلى يمينها ابنتها البرنسيس كرستيان، وإلى يسارها ابنتها الأخرى البرنسيس هنري باتنبرج، وسار أمامها في طليعة هذا الموكب العظيم اللورد ولسلي وهو يومئذٍ القائد العام لجيوش إنكلترا كلها وصاحب النصرات المتوالية في جهات الأرض، ومن أركان الدولة الإنكليزية وأكبر مشيِّدي صروح العز والمجد لها في أيام هذه الملكة السعيدة.
ويضيق بنا المقام لو وصفنا عُشْرَ معشار الذي تلا مركبة الملكة والذي تقدَّمها أو الذي أتَتْهُ ملايين الناس في ذلك اليوم المشهود، ولكننا نكتفي بالقول إن هذا الموكب الهائل وصل كنيسة مار بولس، وكان الذين تَقَدَّم ذكرهم من وزراء المملكة ونوابها وقوادها ووزراء المستعمرات الإنكليزية وغيرهم قد سبقوا جلالة الملكة إلى تلك الكنيسة حيث أُقيمت الصلوات شكرًا لله على ما أنْعَمَ على الملكة من طول العمر والتوفيق العجيب لها ولمملكتها الزاهرة، وهذه عادة الإنكليز يجعلون مدار كلِّ احتفال كبير على الصلاة. وحضرت تلك الوفود هذه الصلاة فسمعت الألوف تنشد نشيدًا خاصًّا بذلك الاحتفال كَتَبَه أحد أساقفة الإنكليز وحفظه الناس حتى إذا جاءت ساعة إنشاده اشترك الجماهير المحيطون بالكنيسة من كلِّ جانب بترتيله، فكان لذلك وقْعٌ غريب وتأثير خارق في جميع النفوس.
ولمَّا جاء المساء أُولمت في قصر بكنهام وليمة فاخرة لنحو أربعمائة ضيف من هؤلاء الملوك والأمراء والكبراء، وتلا الوليمة مرقص بهي حضره نحو ثلاثة آلاف نفس من نخبة أهل الأرض ظلُّوا إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل في تفتُّل وتمايل وقصف وسرور، وأمراء الدولة الإنكليزية بينهم يلاطفون الجميع، كلُّ هذا ومدينة لندن في زينة من الأنوار تبهر الأبصار، وقد قام قائم المصابيح والأشعة الكهربائية في كلِّ جانب، وظَهَرَت صورة الملكة وشعارها والدعاء لها وسني حكمها ١٨٣٧–١٨٩٧ بالمصابيح الصغيرة المختلفة الألوان، فكنتَ ترى شوارع لندن كلها زينات وراء زينات، فكأنما أنت في أرض مسحورة تنتقل من آية في الجمال إلى آية، وقد ازدحمت جماهير الخلق في تلك الميادين الواسعة والشوارع الفسيحة؛ فضاقت بها الأرض على رحْبِها وجعل الناس يمشون كتفًا لكتف وهم بحرٌ زاخرٌ لا يُعْرَفُ له أول من آخر، ولكن هذا الازدحام العجيب لم يُحدث قلقًا ولا اضطرابًا فإنه مرَّ على لندن ثلاثة أيام بلياليها، وهي في ضجَّة وحركة ما لهما مثيل وتزاحُم بين الناس لم يروا له في تاريخ الأعياد الكبرى نظيرًا، وما أنتج ذلك شرًّا ولا شَكَا أحدٌ عاقبة سوء، بل إن الأفراح عمَّت وآيات السرور قامت في كل جانب، ولم يقتصر ذلك على دور الحكومة والبنايات العمومية، مثل إدارات الصحف وبنك إنكلترا وشركات التأمين والمحطات وغير هذا، بل إن الزينة تناولت بيوت الخاصة والعامة، والفرح تَشَارَكَ فيه الرفيع والوضيع.
هذا كلُّه في لندن وأمَّا في الجهات الأخرى فإن مدن إنكلترا والهند والمستعمرات الإنكليزية كلها اشتركت في هذا الاحتفال، وحيثما وُجِدَ إنكليز في الأرض فهم نظموا لجنة تأتي ما يدلُّ على اشتراكهم في ذلك العيد العظيم، وكان من آيات هذا الاحتفال في إنكلترا أنهم استعرضوا الجيوش الإنكليزية في ضواحي لندن وفي أولدرشوت وسواها من المواقع العسكرية، وكان تقاطر الألوف لمشاهدة هذه الاستعراضات عجيبًا ولا سيَّما حين استعرضت الفرق التي جاءت من المستعمرات الإنكليزية، وهي من كلِّ جنسٍ وملة، وأهم من هذا كله استعراض الأسطول العظيم في سبتد، وقد جعلوه خاتمة الحفلات دلالة تباهي الإنكليز بقوتهم في البحر، وكان ذلك الأسطول مركَّبًا من ١٦٥ قطعة حربية، وهو عدد هائل وقد تيسَّر للدولة الإنكليزية أن تَسْتَعرضَ كلَّ تلك البوارج والمدرَّعات والطرادات والنسافات بدون أن تفصل باخرة واحدة من بواخرها الحربية عن مركزها، فإن أساطيل إنكلترا في البحار البعيدة بقيت كلُّها على حالها وجُمِعَ مع ذلك هذا العدد الوفير فاتضح للجميع حينئذٍ أن قوة إنكلترا في البحر لا تُجَارَى ولا تُبَارَى، وقد ذهبتُ إلى سبتد لمشاهدة هذا الأمر المدهش مع ألوف سواي أُعِدَّت لهم قطارات خاصَّة قامت من لندن، حتى إذا وصلت هذه القطر بمن فيها انتقل الركاب إلى بواخر بحرية دخلتُ أنا واحدة منها عظيمة الاتساع اسمها مارغريت، فكنا كلما دخل الواحد هذه الباخرة يُعْطَى رسمًا طُبِعَ فيه شكل البوارج المزمَع استعراضها مع أسمائها وطرزها ومدافعها ومركزها بين تلك الصفوف، وذلك بأنهم رقَّموا على كل باخرة نمرة أوضحوها في ذلك الرَّسْم تسهيلًا للاستدلال، وكانت تلك الباخرات راسية في البحر صفَّين عظيمين امتدَّا مسافة ٢٥ ميلًا فمخرت باخرتنا بين الصفين وجعلت تسير ساعتين ونصفًا حتى وصلت آخر الصفوف، ثم عادت فلَزِمَ لها ساعتان ونصف أيضًا. وأمَّا عن عظمة ذلك المشهد الغريب فلا تسل؛ لأننا كنا بين جبلين أو صفَّين من القلاع الحصينة طَفَتْ على وجه الماء، وقد زاد على قوتها الهائلة حسن تنسيقها وجمال منظرها وما فيها من عدَّة وسلاح، وهي لو جُمِعَ مقدار المال الذي أُنْفِقَ عليها لبلغ ٤٠ مليون جنيه أو يزيد، وزاد المنظر رونقًا أنَّ الدول الأخرى أرسلت كل دولة منها بارجة حربية لتشهد هذا الاستعراض، فكنا نخترق صفوف هذه الرواسي، وكلَّما دنت باخرتنا من إحداها هتف الركاب مسلِّمين على ضباط تلك البارجة وبحريتها، وهم وقوف بالهيئة الرسمية على ظهور بوارجهم، ويتبادل القوم الهتاف فرِحِين حتى أتينا على آخر الصف، وعُدْنَا وفي النفس من وقارِ ذلك الاستعراض شيء كثير. ولمَّا انتصف النهار صَدَرَ لهذه البوارج جميعها من مركز القيادة العامة إشارة، فأطْلَقَتْ كلُّ بارجة ٦٠ مدفعًا إشارة إلى مرور ٦٠ عامًا على حكم الملكة فكتوريا، فكان لقصف المدافع دويٌّ هائلٌ تقلقلت له الرواسي وطبقت به جوانب الأرض، وعدد المدافع التي أطلقتها كلُّ هذه القطع الحربية في تلك الساعة ٩٩٠٠٠ وكأنما هذا كله لم يكفِ القوم حتى إنهم أبقوا لنا أفخر أشكال الزينة برُمَّتها إلى الليل حين أضاء الفضاء بما سَطَعَ من أنوار البوارج الكهربائية، فإن قطع الأسطول كلها أُنيرت في لحظة واحدة على حين غِرَّة، فظهرت الباخرات كأنها شعلة من نار وقد ترقرق الماء من تحتها واتضحت جميع أجزائها، وظهرت آيات البهاء كلها، فما رأيت دهري أجمل من منظر ذلك الأسطول العظيم وهو لابس حُلَّته الكهربائية، وكان النائب عن جلالة الملكة في هذا الاستعراض ولي عهدها الملك الحالي.
وظلَّ الفرح قائمًا على مثل هذا في سبتد حتى ولَّى الليل وعُدْنَا في الصباح التالي إلى لندن في قُطُرٍ خاصَّة، وكان عُمَّال القطار يهتمُّون لراحة الصغار والكبار اهتمامًا يُذْكَرُ لهم مع الشكر، فإنه مع كلِّ هذا الازدحام الهائل لم يشكُ أحد الناس تعبًا أو مللًا، وهذا شأن الموظَّفين في سكك الحديد من الإنكليز في أعيادهم ومواسم سباق الخيل والأيام الكبرى يتعبون؛ ليستريح المسافرون ويعودوا إلى منازلهم وهم مثل أفراد العائلة الواحدة، عمَّهُمُ السرور وشملهم الأمن وظهرت عليهم آثار الراحة والارتياح شأن القوم الذين ترقُّوا في مدارج الكمال وأُعِدَّت لهم كلُّ وسائل الراحة والهناء، وقد حضرت من بعد هذا أشكالًا كثيرة من الاحتفال بيوبيل الملكة، من ذلك أنهم مثَّلوا رواية في مرسح الهمبرا بلندن — وهو من مراسحها العظيمة — أظهروا فيها تاريخ الملكة فكتوريا بكلِّ أدواره، وأنفقوا على الاستعداد لهذه الرواية ورسومها وملابسها ومعدَّاتها الأخرى نحو سبعين ألف جنيه، وكان الممثِّلون كلهم بنات ذوات حُسْنٍ باهر لبسنَ الأشكال المختلفة، وجعلن في بعض الأدوار يجتمعن للرَّقص سوية وهنَّ لا يقلُّ عددهنَّ عن مائتي فتاة، فكان لرقصهنَّ على الأنغام منظر يسحر العقول ويدهش الألباب، ولا سيَّما حين جعل بعضهنَّ يتفتَّل والبعض يترقص، وفي الوسط عميدة الممثِّلات تدور على شكلٍ بهيٍّ غريب، وقد لبس الكل أنْفَس الأطالس وتحلَّين بأمثلة الجواهر تشعُّ الأنوار، وحملت فرقة من هذه الممثلات سعوف النخل، ودارت فرقة أخرى بالمناديل الكبيرة من الحرير الرقيق الملوَّن ألوانًا بالغة حدَّ الجمال، فجعلن يقبلن في أيديهن هاتيك السعوف والحرائر وهنَّ يرقصن ومن فوقهنَّ بنات لهنَّ جمال لا يُوصَف عُلِّقْنَ في الفضاء بحبال لم تظهر للرائين، ورُكِّبَتْ لهنَّ أجنحة فكنَّ يطرن فوق الرفيقات كأنما هنَّ ملائكة الجنان فوق ذلك الجمع اللطيف الباهر، وليس يمكن أن يصف القلم أو اللسان جمال ذلك المنظر الفتَّان. وفي آخر الأمر مثَّلوا جلالة الملكة جالسة على عرشها وفي يدها صولجان الملك وعلى رأسها التاج، والكل بهيئة لا تختلف عن الهيئة الحقيقية ودار بجلالتها صفوف الجند وهنَّ من هؤلاء الفتيات بالملابس العسكرية، فأدَّينَ بعض الرسوم ثم اشتركنَ في إنشاد النشيد الوطني عند الإنكليز، وعند ذلك وقف الحاضرون ورفعوا القُبَّعَات وطأطئوا الرءوس إجلالًا لملكتهم وإكرامًا، تلك عادة في الإنكليز يظهرونها في محافلهم ومجتمعاتهم دليل حبِّهم للملك والوطن، ونِعْمَ ما يفعلون.
ومن هذا القبيل أنَّهم استدعوا المطربة المشهورة مدام باتي لتغنِّي خمسة أدوار في القاعة المعروفة باسم ألبرت هول، وقد مرَّ ذكرها وهي تضمُّ عشرة آلاف نفس فابتاع تذاكر الدخول عشرة آلاف من الإنكليز حال علمهم بالأمر، ولمَّا جاء موعد الغناء كان كلٌّ في موضعه وليس لذلك الخلق الكثير ضجَّة ولا اضطراب حتى إذا بدأت المغنية بالغناء والكل منصتين كأن على رءوسهم الطير أظهروا لها في آخر كلِّ دور سرورهم بالتصفيق، ولم يُسمع لأحدهم في أثناء ذلك صوت ولا حركة أخرى يستاء منها الباقون، وفي هذا مخالفة ظاهرة لمجتمعات الأُنْسِ في هذه البلاد، حيث يكثر اللغط والكلام في أثناء الغناء وقبله وبعده، ودفع القوم لمدام باتي ألف جنيه أجرة غنائها في تلك الليلة.
وكان من آيات الاحتفال أيضًا معرض دائم سُمِّي باسم الملكة فكتوريا، أُنْشِئَتْ فيه الأسواق والمخازن لعرض صناعة إنكلترا وأملاكها وبيع الأبضعة النفيسة، كان الداخلون إليه لا يقلُّون في اليوم عن خمسين ألفًا، وفيه المطاعم والحانات ومرسح للتمثيل وأجواق الموسيقى، وألعاب جمَّة أشهرها دولاب كبير لم يُصْنَع إلى الآن دولاب مثله تديره الآلات البخارية وقُطْرُهُ ٣٠٠ قدم، ركَّبوا فيه أربعين عربة كل عربة تنقل ١٦ شخصًا، فكان الراكبون يقعدون في مواضعهم، وهذا الدولاب العظيم يدور بهم على شكل الأراجيح المعروفة في هذه البلاد حتى إذا وصل المتفرِّج أعلى الدولاب من ناحية الفضاء رأى قسمًا كبيرًا من لندن تحت يده، فكان تقاطر الناس على هذا الدولاب عظيمًا، ولا سيَّما الصغار منهم وأصحاب العائلات. ولقيت المستر موبرلي بل مدير التيمس الذي سبق ذكره فدعاني إلى وليمة فاخرة أولمها في منزله لرؤساء الوزراء الذين جاءوا من المستعمرات الإنكليزية، وكانوا موضوع إكرام الحكومة والأفراد مدَّة وجودهم في إنكلترا، ثم دُعِيتُ أيضًا إلى دار محافظ لندن — التي مرَّ ذكرها — لوليمة شائقة أولمها حضرته لهؤلاء الوزراء أيضًا، فكان المدعوون يفدون ويستقبلهم الغلمان المستخدمون للتشريفات في مثل هذه الحفلات وهم يلبسون أثوابًا من القطيفة الحمراء مُزَرْكَشَة بالقصب، وللسترة أزرار من النحاس كبير مذهبة وعلى الكتفين حلية من القصب تحكي التي يضعها رجال البحرية والعسكرية فوق أكتافهم، والبنطلون من القطيفة الحمراء أيضًا مزركش بالقصب من جانبيه، وهو ينتهي عند الركبتين بأزرار من النحاس المذهب، وتليه جوارب من الحرير الأبيض وأحذية من الجلد الأسود اللمَّاع، ويذر هؤلاء الغلمان المسحوق الأبيض (البودرة) على شعورهم، وهي عادة قديمة كان الرجال جميعهم يأتونها في الأجيال الماضية فبقيت بين أمثال هؤلاء الخادمين، وإذا استقبل الغلمان المذكورون مدعوًّا تقدَّموه إلى قاعة الاستقبال ونادوا باسمه واسم قرينته بصوتٍ عالٍ حتى يعلم صاحب الدار من القادم ويتقدَّم للترحيب، فكان كلُّ مدعو إلى حفلة محافظ لندن هذه يصل على مثل ما تقدَّم، وكان من حسن حظِّي أنِّي عرفتُ جناب السر جورج فودل فلبس محافظ لندن في ذلك العام، وحدَّثْتُهُ وحدَّثني بعد الوليمة، وشكرني على ما قدَّمت من المساعدة لنجليه حين قدِمَا مدينة الإسماعيلية في الشتاء السابق وأنا قائم مقام المحافظ، وقد تعب السر جورج فلبس هذا مدة العيد واحتفالاته؛ نظرًا لمركزه في عاصمة الإنكليز، فإنه ألقى مدة هذا العيد نحو ٣٠٠ خطاب وجَمَعَ على يده نحو مليون جنيه بالاكتتاب للزينات وغيرها، وضُرِبَتْ على التجار ضريبة غير إجبارية تُعْرَفُ بضريبة البني (أي قرش تعريفة)، فجمعوا منها عشرة آلاف جنيه لبناء مستشفى خيري. وفي غدِ ذلك النهار زُرْتُ جناب اللورد كلارندون نجل اللورد كلارندون الذي تقلَّد وزارة الخارجية مرة، وله فضل على المرحوم والدي بما أنعم عليه مدة وجوده فيس قنصل إنكلترا في اللاذقية. وجناب اللورد كلارندون مثل أكثر أشراف الإنكليز مقيم في قصر قديم كان قلعة لأجداده فما غيَّر منه في ظاهره إلا الذي لزِمَ له ترميم أو إعادة بناء، وفي هذا القصر آثار ومفروشات باقية من أيام اللوردات كلارندون الأول، وقد مرَّتْ عليها في تلك القاعات عدَّة قرون.
وجملة القول أنَّ إنكلترا وأملاكها ومستعمراتها كانت في أعياد تلي أعيادًا سنة اليوبيل هذه، ولو شئنا عدَّ الهدايا والآثار والاحتفالات التي اشتُهر أمرها لما كفى لذلك كتب كثيرة، وكان من أمر جلالة الملكة أنها لمَّا رأت من شعبها كلَّ هذا الإكرام العجيب لها والحب الخارق، جادت في العطاء والولائم والصلات وأنعمت بالرُّتَبِ والوسامات على مئات من نبلاء دولتها وكرام مملكتها، وأرسلت في آخر الحفلات رسالة خَطَّتْهَا بيدها الكريمة تشكر رعاياها جميعهم على ما أظهروا من الولاء شكرًا قلبيًّا، وأمرت أن تُنشر الرسالة هذه في صحف إنكلترا والهند والمستعمرات في آنٍ واحد، فأُرْسِلَتْ إلى أقاصي الأرض بالتلغراف ونُشِرَتْ في يوم واحد، وقد ورد في ذلك المنشور عبارة فَصَلَتِ الخطاب في إشاعة تداولتها الألسن من عهد بعيد؛ فإن الكثيرين كانوا يظنُّون أن جلالة الملكة تكتفي بحكم ٦٠ عامًا وتتنازل عن المُلْكِ بعد الاحتفال لوليِّ عهدها، فَورد في منشورها المذكور قول صريح يُفْهَمُ منه أنها عازمة على التمسُّكِ بالعرش ما ظلَّت حية، وكان ذلك ختام عيد ما رأى مثله الأولون والآخرون.
اسكوتلاندا
لمَّا انتهيت من هذه الحفلات برِحْتُ لندن قاصدًا مدن اسكوتلاندا وجبالها، وهي مصايف الأشراف الإنكليز وأكثر الأراضي البريطانية جمالًا، وقد مرَّ بك أن اسكوتلاندا هي القسم الشمالي من بريطانيا العظمى، وهي جزء من الأجزاء الثلاثة المكوِّنة للملكة الإنكليزية — أريد بها إنكلترا واسكوتلاندا وأرلاندا — وتاريخها مختلط بتاريخ الإنكليز، فراجعه في الخلاصة التي صدَّرنا بها هذا القسم من الكتاب. رَكِبْتُ قطارًا وصلتُ به قبل أن أدخل حدود اسكوتلاندا بلدة «وندرمير»، وهي بلدة زاهرة زاهية بُنِيَتْ على ضفَّة بحيرة تُعَدُّ أكبر بحيرات إنكلترا وأوفرها جمالًا، طولها عشرة أميال وعرضها ميل وثلث ميل، وإلى جانبيها نجاد بهيَّة وهضاب شهيَّة كُسِيَتْ بالخضرة السندسية، وقد رُصِّعَتْ أرضها بالطرق الرَّحْبَة والأغراس البديعة وتخلَّلها قصور باذخة شمَّاء وصروح فائقة الإتقان، بعضها فنادق ومتنزَّهات والبعض مساكن لأهل النعمة والترف من الإنكليز — وهم كثار كما تعلم — فما في الأرض بلاد يكثر سراتها وأغنياؤها مثل هذه البلاد العظيمة، وقد عني القوم بهذه البحيرة وما حولها فوَضَعوا فيها البواخر والزوارق على أشكالها يتنزَّه بها السيدات والرجال والصغار معجَبين بصفاء مائها وجمال ما حولها من المناظر، ووسَّعوا الطرق للعربات والعجلات وجماعة المارَّة من كلِّ جانب وأكثروا من الغرس الشهي والعشب الندي حتى أضحت تلك البقعة مثابة أهل العزِّ ومحجَّة الذين يريدون قضاء مدة ينسون فيها متاعب الدنيا وهمَّ العمل من المتزوجين حديثًا؛ إذ هم يقضون هنا شهر العسل — وهو الشهر الأول بعد الزواج — لا همَّ فيه غير التلذُّذ والتمتُّع بنعيم الحياة. وقد زُرْتُ جناب الخواجا بويل وقرينته وهما والدا المستر بويل من موظفي الوكالة البريطانية هنا سابقًا، لهما قصر في طرف هذه البحيرة وسمعت منهما الشكوى؛ لأن نجلها الوحيد لا يزورهما إلا قليلًا لكثرة أعماله في القُطْرِ المصري، ولقيتُ منهما إكرامًا وترحيبًا كثيرًا، وأقمتُ في تلك الجهة أربعة أيام وددتُ لو تكون أربعة أشهر؛ نظرًا إلى جمالها المفرِط ولذَّة العيش فيها ثم بَرِحْتُهَا قاصدًا مدينة أدنبرو عاصمة اسكوتلاندا.
ولمَّا وصلت أدنبرو ذهبتُ توًّا إلى فندق «سنترال» في شارع اسمه برلسز ستريت — أي شارع الأمراء — وهو أهمُّ شوارع المدينة وأعظمها، يُشْرِفُ على وادٍ طويل عريض حوَّلته يد الاجتهاد إلى مجموع حدائق بهيَّة، غُرِسَ بها من أنواع الزهر والشجر كل ما تشرح الصدور رؤيته، وأُنشئت فيها الطرقات الجميلة والبِرَك البديعة، وقد صنعوا لها عدَّة سلالم تتصل بشارع برنسز هذا؛ حتى ينزلَ الأهالي منها إلى الحديقة للتنزُّه وسماع الأنغام التي تَصْدَح بها مساء كل يوم، فيحتشد الناس هنالك ألوفًا على عادتهم في كلِّ مكان مثله. وقد لقيت في هذا الشارع تمثال السر ولتر سكوت الراوية المشهور، وهو من أعظم كُتَّاب اللغة الإنكليزية، وُلِدَ في أدنبرو وبُنِيَ له هذا التمثال على قاعدة من حجر الصوَّان، وهو بالملابس الاسكوتلاندية الجبلية، تحكي ملابس العساكر الجبليين في فرق الجيش الإنكليزي نراها هنا كلَّ يوم. ومن فوق التمثال برج علوِّه ٢٠٠ قدم من الصوَّان رُسِمَ على جوانبه بعض ملوك اسكوتلاندا القدماء، وإلى جانب هذا التمثال أَثَر آخر يمثِّل الرحَّالة المشهور نفنستون صاحب السباحات المعروفة في أفريقيا؛ حيث تُوفِّي سنة ١٨٧٣ وهو من أهل هذه المدينة. وقد ظللتُ سائرًا في هذا الشارع، وهو مُلْتَقَى الهيئة الاجتماعية في أدنبرو، حتى وصلتُ سفح مرتفع يُسمَّى عندهم تل كالتون، ارتقيتُه ورأيت في أعلاه مسلَّة من الصوان الأحمر اللامع، علوها عن سطح المدينة ٤٤٣ قدمًا، وقد أُقيمت تذكارًا لبعض طالبي الإصلاح من أهل المدينة نُفُوا سنة ١٧٩٤ بسبب مطالبهم. ويُشْرِفُ هذا المرتَفَع على المدينة وضواحيها، ولها منه منظر كثير الجمال، ثم عُدْتُ إلى شارع الأمراء وتوصَّلتُ منه إلى شارع آخر في قصر الملوك القدماء، وهو مثل قلعة مصر في شكله، كان منزلًا لهؤلاء الملوك وحصنًا يدفعون منه غارات الأعداء، ولطالما ثارت الفتن وسُفِكَت الدماء في هذا القصر كما حصل في قلعة مصر. وقد دخلتُ هذا القصر من باب كبير ورأيتُ وراءه مدافع صُوِّبَتْ إلى المدينة، ومنها اثنان غنمتهما الجنود الاسكوتلاندية المشهورة بالبسالة من الروس في حرب القرم، ويلي ذلك غُرَف القصر في بعضها آثار تاريخية، منها تاج الملك جيمس الخامس وسيفه، ومنها غرفة فيها آثار الملكة ماري ستورات التي مرَّ ذكرها في الخلاصة التاريخية وقتلتها الملكة إليصابات الإنكليزية، وكنيسة قديمة العهد بُنِيَتْ سنة ١١١٠. وتَرَكْتُ هذا القصر متوجِّهًا إلى قصر آخر اسمه هولي رود في كنيسة الصليب المقدَّس، وقد دُعيتْ بهذا الاسم؛ لحكاية تاريخية متعلِّقة بالملك الذي بناها وهو دافيد الأول، قيل إنه كان واقفًا في تلك البقعة للصيد وهَجَمَ عليه ثور هائل يريد الفتك به، ولكن الملك كان معه قطعة من خشب الصليب المقدَّس أوقفت ذلك الثور كالصنم، وكانت تلك القطعة هديَّة للملك من والدته الملكة مرغريت المشهورة بالتقوى، فبنى الملك الكنيسة في تلك الأرض تذكارًا لنجاته. وبنى من حولها ذلك القصر الذي دخلته ولم أرَ فيه كثيرًا مما يستحقُّ الذكر غير أنه أثر تاريخي جليل حدثت أمامه عدَّة حروب ومعارك، وفيه قاعة عمومية جَمَعَتْ صور ملوك اسكوتلاندا القدماء، وغرفة تحوي آثار الملكة ماري ستورت باقية على حالها الأصلية، وحمَّام لها كانت تمزج ماءه بالنبيذ الأبيض حين الاستحمام محافظة على نقاء جسمها، وبعض السيدات الآن يفعلن مثل هذا ويمزجن الماء بالحليب أو ببعض العطور.
وعدتُ مرة أخرى إلى شارع الأمراء فدخلتُ بعض الشوارع الجميلة التي تتفرَّع منه، وأهمها شوارع القلعة وفردرك وهنوفر، وكلها ملآنة بتماثيل الرجال العظام إلى درجة لم أرَ لها نظيرًا في مدائن إنكلترا الأخرى. وأذكر من هؤلاء الرجال توماس غلادستون، وهو من الذين وُلِدوا في هذه المدينة، ولكنه رَحَلَ بعد ذلك بأولاده إلى مدينة لفربول للمتاجرة، ومن أولاده المستر غلادستون الرجل العظيم المشهور، ودخلتُ مدرسة الطب المشهورة التي سبقت الإشارة إليها، وهي مجموع أبنية فسيحة بديعة فيها ألوف الطلبة، وقد نشأ منها بعض الشُّبَّان الشرقيين، مثل الدكتور حبيب خيَّاط وحضرة الآنسة أنيسة صيبعة من سيدات طرابلس الشام، تلقَّت فيها الطب بمزيد الاجتهاد. وزُرْتُ مدرسة أخرى في الضواحي للمبتدئين، وهي مثل القصور الفاخرة في بنائها ووضعها، أُتقن التدريس فيها كما أُتقن في كل مدارس اسكوتلاندا، ولها فرع لتدريس علم اللاهوت يكثر طلابه؛ لأن الاسكوتلانديين أهل ورع وتديُّن، لا تقلُّ شهرتهم في التقوى والأمانة عن شهرتهم في الإقدام والبسالة المعروفة عن جنودهم الجبلية، وآثار تديُّنهم ظاهرة في كثرة الكنائس وفي محافظتهم الغريبة على يوم الأحد، فإنك ترى أدنبرو في ذلك اليوم كأنها في منام وقد أُقْفِلَتْ كلُّ حوانيتها وبَطَلَتْ كلُّ حركتها، فلا عربة ولا قطار ولا شيء أمامك إلا أفواج الناس ذاهبة بالهدوء والسكينة إلى الكنائس وعائدة منها، حتى إن المطاعم الضرورية لا تُفْتَحُ فيها إلا بعد موعد الصلاة في الكنائس، والسفر من أدنبرو يوم الأحد غير ممكن؛ لأن محطات السكة الحديدية تقفل أبوابها مدة ذلك النهار، حتى إن الفنادق وضعوا في كل غرفة من غرفها نسخة من التوراة، وترى بعد الظهر شوارع المدينة وفسحاتها ملأى بالمصلين والمرتِّلين والواعظين يحثُّون الناس على التزام الفضيلة، والناس من حولهم كأنَّ على رءوسهم الطير، وفي ذلك ما يشهد للاسكوتلانديين بالتديُّن الصحيح.
وكان معي في الفندق سائحة أميركية ألحَّت عليَّ بالذهاب إلى كنيسة روسلن؛ لأنها أثرٌ تاريخيٌّ في هذه العاصمة جميل، فذهبتُ إليها مع غيري من السائحين في عربة كبيرة يجرُّها أربعة خيول، وسارت بنا نحو ثلاث ساعات في مروج خضراء ومناظر بهيَّة حتى وصلت تلك الكنيسة ورأيتُ بها من أنواع النقش على الحجر كالزهر والورد والشجر ما يشهد ببراعة صانعيها. والكنيسة هذه قديمة بُنِيَتْ سنة ١٤٤٦ وأقام اللورد روسلن في قصر إلى جانبها كان يدفع منه غارات أعدائه، وقد حارب الإنكليز هنا في معركة شديدة انتصر بها انتصارًا تامًّا مع أنَّ جنوده كانوا ٨٠٠٠ والإنكليز ٣٠٠٠٠ فترى الاسكوتلانديين يفخرون بذكر هذه المعركة في كلِّ حين.
وزُرْتُ بعد ذلك ثَغْر المدينة وهو بلد مهم، سكانه ٧٠ ألفًا تقوم منه البواخر إلى جميع الجهات، ويليه إلى جهة الجنوب جسر عظيم مشهور اسمه جسر فورث بُنِيَ على نهر فورث، وهو أعظم جسر في الوجود بُنِيَ على طريقة هندسية عجيبة، بمعنى أنه ليس له قناطر وعُمُد في النهر، بل هو قوس واحدة قائمة على قاعدة في الأرض من هنا وقاعدة من هنا إلى جانبي النهر، وطوله ٢٧٦٥ مترًا، فهو أقل طولًا من جسر بروكلن في نيويورك إلا أنه أعظم منه متانة، وأدق صناعة وأغرب شكلًا، وقد أُنفق على بنائه أكثر من ثلاثة ملايين جنيه ووُضِعَ فيه من الحديد والفولاذ ما يكفي لبناء خمسين جسرًا عظيمًا، واشتغل به خمسة آلاف عامل مدة سبع سنين، فلمَّا انتهى بناؤه سنة ١٨٩٠ احتفلوا بافتتاحه احتفالًا عظيمًا شائقًا رأسه ملك إنكلترا الحالي بنفسه، وقد شهد الموسيو إيفل مهندس البرج المشهور في باريس أنَّ جسر فورث هذا أعظم الأعمال الهندسية الحديثة، وكان هو من المدعوين يوم الاحتفال بافتتاحه، والمهندس الذي بنى هذا الجسر العظيم هو السر وليم فولر أُعْطِيَ لقب الشرف حين نجز عمله، وتقرَّر في الأذهان أنه أتمَّ أعظم جسور الأرض بلا خلاف. وقد جاء هذا الرجل مصر على عهد المغفور له إسماعيل باشا؛ لإبداء رأيه في أمور هندسية وأكرم مثواه، وجاء من عهد قريب ليبديَ رأيه أيضًا في إصلاح القناطر الخيرية؛ فأُعطي على تقريره ألف جنيه، وهو يقبض في بلاده الألوف أجرة رأي أو تقرير صغير عن كلِّ عمل هندسي يُنْدَبُ له.
وفي جوانب هذا النهر صروح فخيمة وفنادق لا تُعَدُّ وغرف ومنازل مفروشة ومعبَّدة للأجرة، يقضي فيها المصطافون بعض زمانهم مستريحين متنعِّمين، والمناظر تتنوَّع يرى المسافر أشكالها لا سيما إذ تلتف السفينة مع النهر بين تلك الجبال والغياض، ومن أجملها منظر جبل بن نفس، وهو أعلى جبال اسكوتلاندا. وبعد هذا الجبل سِرْنَا في منبَسَطٍ من الأرض بديع زَرَعُوا فيه إلى جانبَي النهر من هنا ومن هنا صفوفًا طويلة من شجر الحور الجميل، فكنا في تلك البقعة كمن يتمشَّى بين جدارين من الخضرة النضرة والشجر البهي يهبُّ بين أوراقها الهواء، فيُسمع لها حفيف ترتاح إليه القلوب، وبعد ذلك كثرت في النهر الجزائر والبحيرات فكنا ساعة في نهر وساعة في بحيرة، ثم نحن مرة أخرى في النهر ثم ندور حول جزيرة أو نقف عند بلدة أو نلتفُّ حول غابة، ومن فوقها منظر الجبل الفخيم أو في وادٍ خصيب رُصِّعَتْ جوانبه بالقصور والحدائق والمناظر المنعشة للنفوس حتى وصلنا مدينة غلاسكو العظيمة بعد سفر يومين في هذا النهر، ونحن نتمنَّى لو تطول تلك السياحة المفرِحَة في نهر كليد البهي.
بلفاست
أرى قبل التقدُّم إلى الكلام عن مدينة بلفاست هذه في جزيرة أرلاندا، وعن عاصمة الجزيرة دبلن وغيرها من الأماكن الأرلاندية، أنْ أقول شيئًا عن تاريخ هذه البلاد موجَزًا؛ لأنَّ أهمَّ ما يُقال فيه ورد في الخلاصة التاريخية العامَّة عن إنكلترا، غير أن أرلاندا هذه عمرت وتقدَّمت في الحضارة قبل إنكلترا بزمان طويل، وكان لها دولة زاهرة من قبل أيام التاريخ المسيحي، ولمَّا دخل يوليوس قيصر إنكلترا وأخضعها سنة ٥٥ لم يمكن له أن يخضع أرلاندا؛ لأن ملوكها كانوا أقوياء.
ولمَّا بدأ الدانماركيون وأهل شمال أوروبا يسطون على ممالك أوروبا كانت هذه الجزيرة في جملة ما دخلوا من الأراضي، وتمكَّنوا من الانتصار على ملوكها في أول الأمر، فدام القتال بينهم وبين الأهالي من سنة ٤٣٨ مسيحية إلى سنة ٨٣٨ حين جاء أولاف ستريك ملك الدنماركيين وَمَلَكَ البلاد، وظلَّت أرلاندا خاضعة له ولخلفائه حتى سنة ١٠٨٤ حين قام بطلٌ من أهلها اسمه أوبريان حَارَبَ المعتدين وطَرَدَهُم من البلاد وأعاد إليها استقلالها فنمَتْ وتقدَّمت تقدُّمًا عظيمًا.
وكانت مملكة إنكلترا في ذلك الزمان تَقْوَى وتمتدُّ أيضًا وهي مجاورة لأرلاندا، فبدأ ملوكها يتطلَّعون إلى هذه الجزيرة، وأول من حاول فَتْحَها منهم هنري الثاني؛ فإنه صدر له أمر من البابا بضمِّ أرلاندا إلى أملاكه في سنة ١١٥٥ وحارب البلاد، فملكها بعد عدة مواقع وولَّى عليها أناسًا من قِبَلِهِ ونَقَلَ بعضًا من الإنكليز إليها، ومن ذلك العهد بدأ العدوان بين الأرلانديين والإنكليز وتعاظَمَ في أيام إدورد الثالث الذي ضيَّق على أهل هذه الجزيرة وَقَمَعَ ثورتهم بعد أن هبُّوا يريدون الاستقلال، وعيَّن حكامًا جائرين شدَّدوا الوطأة على الأهالي، واشتدَّ بسبب ذلك الجفاء بين الأمتين. وكان لأرلاندا مجلس نواب يسنُّ النظامات الداخلية، فصدر أمر الملك هنري السابع سنة ١٤٩٥ بأن تكون قرارات هذا المجلس كلها قابلة للتغيير لا يُعْمَلُ بها إلا إذا صدَّق عليها مجلس النُّوَّاب الإنكليزي، ثم لما وَلِيَ الملك جيمس الأول نقل إلى الجهة الشمالية من أرلاندا عددًا كبيرًا من أهل اسكوتلاندا وإنكلترا وأقطعهم الأراضي في ولاية الستر التي تُعَدُّ مدينة بلفاست عاصمتها، وزاد الملوك الباقون على هذا إلى أن كانت أيام الثورة الإنكليزية سنة ١٦٨٨، وولي الأمر بعدها الملك وليم الثالث فَنَقَلَ كثيرين من الإنكليز أيضًا إلى قضاء الستر، وكان القوم من حزبه ضد المنتمين لآل ستيورت المعزولين وعُرِفُوا من ذلك الحين باسم الحزب الأورانجي نسبةً إلى وليم الثالث، وهو في الأصل يُعْرَفُ باسم أمير أورانج وما زالوا حتى يومنا هذا شأنهم في البلاد.
وبقيت أرلاندا على هذا النظام وهي تشكو ظلم العمال الإنكليز والنظامات التي أفقرت الأهالي، وجعلت الأرض كلها ملكًا لبضعة من الأكابر حتى أول هذا القرن الماضي، حين سعى وزراء الدولة الإنكليزية في ضمِّ أرلاندا ضمًّا نهائيًّا إلى إنكلترا، وتمَّ لهم ذلك فأُبطل البرلمان الأرلاندي وصار أعضاؤه من أعضاء البرلمان الإنكليزي في سنة ١٨٠١، ولكن الأعضاء الأرلانديين شعروا بفقد الاستقلال والخسارة من هذا النظام فبدءوا يطلبون العود إلى النظام الأول، ويلحُّون على مجلس النُّوَّاب الإنكليزي أن ينصِفَ أهل بلادهم ويغيِّر نظام الأراضي فيها حتى قام منهم في العصر الحاضر رجال كبار العقول نظموا الحزب الأرلاندي، وجعلوا له قوة كبرى تَحْسُب الحكومة حسابها، وكان رئيس هذا الحزب أيام صولته المستر بارنل المعروف باسم ملك أرلاندا الغير المتوَّج، ولكنه تضعضعت أحواله قليلًا بعد موت بارنل وما زال أفراده على مطالبهم، وأهمها أن يُغيَّر نظام الامتلاك الجائر؛ لأن الجزيرة — كما قلنا — مِلْكُ بعض اللوردة والموسرين ورثوها عن أجداد أخذوها في أيام ملوك إنكلترا الذين ذكرناهم في هذه الخلاصات التاريخية. وأهل البلاد قاعدون في الأرض بصفة مستأجرين يزرعونها ويستغلُّونها ويؤدُّون مالًا معلومًا عنها للورد كل سنة يتقاضاه وهو بعيد عن الأرض، سواء صحَّت المواسم أو لم تصح، فأكثر مال البلاد يروح إلى إنكلترا ويُنفق على غير الأرلانديين، والأُجَر التي يؤدِّيها المستأجرون للوردة كبيرة، فإذا عسر في أحد السنين عليهم أداؤها أمكن للورد أن يطردَهم منها، ولو أنهم أقاموا فيها هم وأجدادهم الأجيال، وقد حدثت عدَّة حوادث من هذا القبيل أظهرت جَور النظام الحالي وهيَّجت أحقاد الأرلانديين فأصرُّوا على مطالبهم حتى رأى المستر غلادستون المشهور أن يجيب سؤلهم ويمنحهم استقلالًا داخليًّا، ولم يوافقه جمهور الإنكليز على رأيه لما بين الأمتين من العدوان؛ ولأن الإنكليز يخشون أن يتخذ الأرلانديون هذا الاستقلال الداخلي وسيلة للاستقلال التام وتجزئة المملكة الإنكليزية، وما زالت هذه عُقْدَة المسألة الأرلاندية إلى الآن.
وأرلاندا جزيرة بهيَّة تُعْرَفُ بمروجها السندسية حتى إنهم يسمُّونها جزيرة الزمرد؛ لكثرة خضرتها الشهيَّة. وأهلها أكثرهم من الكاثوليك ما خلا سكان ولاية الستر فإن أكثرهم من البروتستانت، وهم أهل ذكاء وفصاحة وحِذْق كثير، قام منهم عظام الرجال من القُوَّاد مثل لنتون وروبرتس وولسلي وكتشنر وأرباب السياسة مثل دفرن وأوبريان وبارنل وغيرهم وكُتَّاب الأرلانديين وخطباؤهم البلغاء في هذه الأيام أكثر من أن يُعَدُّوا، وقد كانت أرلاندا عامرة بالسكان لا يقلُّ عدد سكانها عن ٨ ملايين نفس في بدءِ القرن الماضي، فَنزح منهم ألوف وملايين إلى الولايات المتحدة والمستعمرات الإنكليزية بسبب نفورهم من نظام الحكومة الحالي، حتى إنهم لا يزيدون اليوم عن أربعة ملايين.
وأمَّا بلفاست فإنها مدينة زاهرة عامرة في الجهة الشمالية من أرلاندا لا يزيد عنها في الأهمية في هذه الجزيرة غير العاصمة دبلن — التي سيجيء الكلام عنها — وقد اشتُهرت بلفاست في الأيام الحديثة بما حَدَثَ في المظاهرات السياسية ضد الحزب الأرلاندي الوطني الطالب الانفصال عن إنكلترا؛ لأن معظم أهل هذه المدينة من الحزب الأورانجي كما تقدَّم معنا في الخلاصة التاريخية، وقام منها بعض فحول السياسة وأصحاب النفوذ الكثير، وعُرِفَتْ أيضًا بين المدائن البريطانية بالنماء السريع والتقدُّم الباهر مدة الأعوام الأخيرة؛ فإنها كانت في بدء حكم الملكة فكتوريا مدينة صغيرة وصارت الآن ثانية مدائن أرلاندا، عدد سكانها ٣٥٠ ألف نفس، ولها شهرة بتنسيق الشوارع وجمال الأبنية وغِنَى المخازن وأهمية المعامل الكثيرة المشهورة عنها، منها معامل السفن البخارية والشراعية على أشكالها تُصْنَعُ فيها الباخرات الكبرى لوزارة البحر الإنكليزية، ولبعض الممالك الأخرى وللشركات التجارية العديدة، ولا يقلُّ عدد العمال في بعضها عن ثلاثين ألفًا.
وامتازت بلفاست أيضًا بصُنْعِ الخَزَفِ وأشكال الفخار وبالمنسوجات الجميلة من الكتَّان (التِّيل) والحرير، ولأقمشتها الكتَّانية شهرة ذائعة في الخافقين حتى إن ملوك أوروبا وسراتها يوصون معاملها على ما يلزم لهم من القماش للقمصان والمناديل والفوط، وهم يرسلون منها في كلِّ عام مقادير كبرى إلى الأقطار الخارجية. ولمَّا كانت صناعة الكتَّان من الأسرار الخاصة بهذه المعامل على طرقها المعروفة، فهم يحرصون على إبقاء سرِّ الصناعة في معاملهم ويحذرون من السرقة وتقليد بضاعتهم، فلا يصرِّحون لزائر أن يزور معاملهم إلا إذا وثقوا من أمره ولم يخشوا عاقبة زيارته؛ ولهذا فإنِّي لمَّا قصدتُ التفرُّج على أحد هذه المعامل دخلتُ مع أحد المعارف، وكان المعمل في شارع يُعْرَفُ باسم شارع يورك، وهو متَّسع المجال يشغل من الأرض مساحة أربعة فدادين وله بناء فخيم كبير ذو خمس طبقات، فدار بنا أصحاب المعمل في جوانبه يروننا كيفية صنع التيل من بَدْءِ أمره إلى آخره، فرأينا كيف يُغْسَلُ التِّيل ثم يُنَقَّى ويُنَظَّف ثم يُسرَّح ويُمشَّط، ثم يُجْدَل ويُفْتَل ثم يُغْزَل ثم يُنْسَج ثم يُبَيَّض ويُصْقَل، ثم يُقْطَع ويُفْصَل ثم يُطْوَى ويُحْزَم كلُّ نوعٍ منه على حِدَة، فكانت الفُرْجَة على طرق هذه الصناعة من ألذِّ ما يمكن للمرء أن يمتِّع النظر به ويستفيد من دَرْسِهِ، وقد رأيتُ أبضعة هذا المعمل بعد أن ينتهي العمال منها، فإذا هي متينة بيضاء جميلة تشرح الصدر بهيئتها، وأخص بالذكر منها أنواعًا من المناديل البيضاء يرسلون منها المقادير إلى جلالة الملك وأهل بلاطه وكثير من السراة الإنكليز، وفي هذا المعمل ٤٥٠٠ عامل وقوة آلاته البخارية ١٤٠٠ حصان، وفي قاعة منه عظيمة للنسج ٦٥٠٠٠ دولاب تدور عليها خيطان التيل فتُغْزَلُ وتُنْسَجُ، ولها دويٌّ هائل يصمُّ الآذان.
واتجهتُ بعد هذا إلى معمل للحبال، وصناعة الحبال في هذا الثَّغْرِ مشهورة أيضًا حتى إن أكبر معامل الأرض للحبال توجد في مدينة بلفاست هذه، وكان المعمل الذي دخلته عظيمًا يشغل من الأرض مساحة عشرين فدَّانًا وفيه ثلاثة آلاف عامل ومائة كاتب، فدُرْتُ في جوانب المعمل ورأيت من أدلَّة الاجتهاد في هذه الصناعة البسيطة ومن مقدار الربح الوافر ما جعلني أفكِّر في حال الشرق ومصنوعاته التي كادت تنقرض بسبب وجود هذه المعامل الكبرى في مدائن الغرب، وتمنَّيت لو يبدأ أهل هذه الأقطار بالتعاون على العمل والاشتراك حتى يمكن لهم مجاراة أهل أوروبا في بعض الصناعات وإبقاء مقدار من الربح لهم بَدَلَ أن يكون النفع كله لمعشر الأوروبيين.
وقد اشتُهر تُجَّار هذه المدينة بالثروة، وبنوا لهم القصور الفخيمة في جوانبها وتقدَّموا في العلم أيضًا حتى ارْتَقَتْ مطابعهم وجرائدهم ومدارسهم ارتقاءً كبيرًا، والذي يرى مكتبة الخواجات أرل في هذه المدينة يظنَّها قصرًا؛ فإنها في بناءٍ لها ذي ثلاث طبقات مُلِئَت بالمؤلَّفات والعمال في كل الجوانب. وفي بلفاست من الشوارع الكبرى والحدائق والمتنزَّهات ما يعْسُرُ علينا عدُّه ولا يفيد سردُهُ، ولكن أهم هذه الطرق الفسيحة شارعا يورك ورويال يتصل أحدهما بالآخر، وينتهيان في الطرف الواحد بميدان فسيح جميل اسمه ميدان دونجال، وفي الطرف الآخر بالمينا والأحواض البحرية، حيث تُبْنَى السفن وقد سبقتِ إليها الإشارة. ويمرُّ بهذه المدينة من ناحيتها الجنوبية نهر لاجان فتستقي منه الحدائق والمتنزَّهات، يؤمُّها القوم في أكثر الأحيان ولها منظر كثير الجمال.
وقد أقمتُ في بلفاست أيامًا تمكَّنْتُ فيها من مشاهدة معالمها وآثار عظمتها ثم برِحْتُهَا إلى دبلن عاصمة أرلاندا، والمسافة بين البلدين بقطار الحديد ١٠٠ ميل يقطعها المسافر في أرض جميلة تكسوها المزارع والخضرة، تحكي مناظر فرنسا في إتقانها ولها دروب جميلة، زُرِع الحور والصفصاف إلى جانبيها، وقد نمت نماءً عجيبًا بسبب خَصْبِ الأرض وكثرة الأمطار فأضافت إلى حسن البلاد حسنًا.
ويلسن
بُنِيَتْ هذه المدينة في سهلٍ فسيحٍ واتسع لها المجال وأحاطت بها المناظر الطبيعية الجميلة، فكان موقعها من أحسن المواقع في المملكة الإنكليزية، ولها أهميَّة سياسية كبرى؛ لأنها عاصمة أرلاندا من قِدَمٍ، فيها آثار العظمة الأولى والقوة الحالية، وعدد سكانها لا يقلُّ عن ستمائة ألف نفس جلُّهم من الكاثوليك، فهي مخالِفَة لبلفاست في هذا الأمر؛ لأن أهل بلفاست أكثرهم من البروتستانتيين، ويزيد هذه المدينة حسنًا أنها يشطرها نهر ليفي شطرين، ويخترقها من الشرق إلى الغرب ثم يصبُّ في خليج مار جرجس الفاصل بين إنكلترا وأرلاندا، وعند مصبِّه أحواض ومين عظيمة الأهمية لا يقلُّ عددُ السفن التي تنتابها كل عام عشرة آلاف سفينة وباخرة، وقد نظموا خطوطًا من البواخر تسير بين هذه المدينة وثغور إنكلترا والسويد وأميركا وروسيا تنقل الركاب والأمتعة، وأهمُّ ما تنقله من أرلاندا إلى الخارج حاصلات البلاد الزراعية، مثل البطاطس والماشية والأسماك المقدَّدة تُصاد من شطوط البلاد وبحيراتها، وبعض الحبوب والزبدة واللبن والبيض والجبنة، فإن للأهالي عناية بالزراعة وبسباق الخيل مشهورة، وقد بنوا فوق نهر ليفي الذي يخترق المدينة ١١ جسرًا تسهيلًا للمرور ووسَّعوا الشوارع لسبب انبساط الأرض ورحْبِها في تلك الجهة، فجاء منظر المدينة بديعًا لا سيَّما وأن لها مميزات كثيرة في مناظرها وأهلها، من ذلك أنَّ طول القامة صفة تكاد تكون عامة في رجال هذه المدينة ونسائها، حتى إنك لترى الصبيَّات والسيدات يمشين على عجل ببسيط اللباس في شوارع المدينة، ولهنَّ قامات تزري بغصن البان ووجوه طلقة ناصعة البياض، وترى الرجال أيضًا أكثرهم طوال ولا سيَّما أفراد البوليس؛ فإنهم يُنْتَخَبُون انتخابًا لحسن مناظرهم، وتعتني الحكومة بأمرهم وتدرِّسهم في مدارس خاصة بهم حتى إن بعض الممالك الأخرى تَنْسِجُ على منوال أرلاندا في نظامات البوليس وتَنْقُلُ عنها.
وتمتاز هذه المدينة أيضًا بعربات الأجرة فيها؛ فإنها بُنيت على طَرزٍ لا نظير له في أكثر المدائن المعروفة، يقعد الراكب فيها إلى مقعد طويل ويمدُّ رجليه ويسند ذراعه إلى وسادة في آخره، وفي الجانب المقابل له مقعد آخر على شكله، والحوذيُّ على منصته بين المقعدين، وهذه العربات كثيرة في كلِّ ناحية من المدينة أخذتُ واحدة منها حين خرجتُ من فندقي لأدورَ في جوانب دبلن، وكنت قد نزلتُ في فندق متربول، وهو في شارع ساكفيل أكبر شوارع هذه المدينة يبلغ عرضه ستين مترًا، وفي وسطه عمود شاهق نُصِبَ في أعلاه تمثال نلسون أمير البحر المشهور، والعمود مجوَّف في داخله ١٦٨ درجة، صعدتُ أعلى البرج عليها ورأيت المدينة كلها من دوني فإذا بها زاهرة بهيَّة لا يشوِّه منظرها دخان المعامل الكثيرة؛ لأن المعامل متباعدة عنها في الضواحي الفسيحة ثم هبطتُ الذرى إلى قاعدة العمود وسِرْتُ في شارع ساكفيل حتى التقيت بتمثال أوكونل الذي كان زعيمًا في أرلاندا ورَأَسَ مجلس نوابها في أواخر القرن الماضي، نصبوا له هذا الأثر على قاعدة علوُّها ٤٠ قدمًا وارتفاع الأثر من فوقها ١٢ قدمًا، ثم ظللتُ على المسير وانتقلتُ فوق جسر من الجسور المشهورة في هذا البلد إلى الجانب الآخر من الشارع؛ فوجدتني أمام بناء قديمٍ فخيمٍ هو مجلس النُّوَّاب الأرلاندي الأول بُنِيَ سنة ١٧٣٩، ولمَّا أُلْغِيَ نظامه على مثل ما ترى في الخلاصة التاريخية صار هذا المجلس مصرفًا، وهو الآن موضع بنك أرلاندا المشهور من منذ سنة ١٨٠٢، وقد تركوا في جانب من البناء قاعة الاجتماع على حالها فهي باقية فيها كراسي الرئيس والأعضاء على مثل ما كانت في القرن الثامن عشر، وأنشئوا على مقربةٍ منه مدرسة تُدرَّس بها العلوم العالية، ولها مكتبة عمومية طولها ٣٠٠ قدم كلما طُبِعَ كتاب مفيد أُضيف إلى ما فيها من نفيس الكتب حتى أضحت من أكثر المكاتب قيمة ونفعًا. وللمدرسة هذه حديقة جميلة يقضي التلامذة فيها أوقات الرياضة، وفيها تمثال وليم أوبرين وهو من فصحاء الأرلانديين حرَّض قومه على الثورة ومحاربة الدولة الإنكليزية سنة ١٨٤٨ حين كانت الأمَّة في هياج على أثر الثورة الفرنسية الثانية، فقبض عليه أولياء الأمر وحكموا عليه بعد المحاكمة بالإعدام، ولكنهم أشاروا على الملكة أن ترأف به فأبدلت الإعدام بالنفي المؤبَّد، وما مرَّت أعوام حتى صدر العفو عنه وعاد إلى بلاده.
ومررتُ بعد هذا بكثير من الشوارع المهمة، مثل شوارع آدم وناسو قامت إلى جانبيها المنازل المشيَّدة والصروح الفخيمة والمخازن الكبرى حتى وصلتُ حديقة ستيفن جرين في وسط العاصمة، وقد أُحيطت بسور من قضبان الحديد ومُلِئَتْ بالأغراس الشهية والأعشاب النديَّة يلعب عليها الرجال والنساء والأولاد بقصد ترويض الأجسام، وفيها بِرَك وتلال وطرق تشرح بمرآها الصدور، ومن حول سورها بيوت الأكابر والموسرين كثرت زخارفها وأطلَّت شرفاتها على جوانب الحديقة، فهي مرتعُ الآمنين ومقرُّ أهل اليسار المتنعِّمين، مع أنها كانت في الذي مرَّ من الزمان مقر اللصوص وأهل الجرائم ينتابونها على مثل ما كان أشقياء مصر ينتابون الأزبكية قبل أن عمرت وصارت مركز العزِّ في هذا القُطْر السعيد.
وتابعتُ المسير في هذه الجهة حتى أتيتُ المتحف الأرلاندي، وهو من مشاهد دبلن المعدودة، فيه من آثار أرلاندا الأولى شيء كثير، مثل الخلاخل والأساور والجيب والجلابيب على أشكالها، وبعضها يقرب في طرزه من الشرقي والطبول، ظهرها من النحاس كالتي يستعملها العرب حتى اليوم في أفراحهم والأدوات الحربية على أنواعها والأقمشة الأرلاندية مع آلات الغزل والنسيج والحياكة الأصلية، وغير هذا كثير مما يستحقُّ الذكر ويضيق عن سردِهِ المقام.
كلُّ هذا يراه السائح إذا سار على خطٍّ واحد من حيث بدأنا في شارع ساكفيل حتى إذا انثنى من ذلك الطريق رأى بعض الأبنية العظيمة، مثل بناء المحاكم على ضفَّة النهر أنفقوا عليه نحو ٢٠٠ ألف جنيه، وبناء الجمرك وهو من أثمن ما في هذه العاصمة لا تقلُّ الأموال التي صُرِفَتْ عليه عن ٥٠٠ ألف جنيه، وكنيسة القدِّيس بارتك تضاهي كنائس أوروبا الكبرى في تحفها وجمالها، وهي أعظم كنائس أرلاندا طُرًّا بنوها على اسم القدِّيس باترك حامي الجزيرة وقدِّيسها الخاص بها يجلُّ الأهالي ذكره إجلالًا، ولهم وسامات رفيعة الشأن باسمه ومحافل يدخلها كبراء الناس تُعْرَفُ باسم القدِّيس باترك أيضًا فهو بمثابة القديس جورجيوس عند الإنكليز أو القدِّيس نفسكي عند الروس.
ولمَّا انتهيت من هذه المشاهد قصدتُ أعظم حدائق دبلن وأشهرها، أريد بها حديقة فنكس العظيمة، اشتُهرت في الأيام الحديثة ببعض الحوادث التي سنذكرها، وبالاجتماعات السياسية التي تُعْقَدُ بعض الأحيان في جوانبها، وتعدُّ حديقة فنكس من أكبر حدائق المملكة الإنكليزية تبلغ مساحتها ١٧٥٣ فدانًا، وفيها من الهضبات والآكام والربض والآجام وحراج الشجر الغضيض ومرابع العشب السندسي وباسق الشجر ويانع الزهر ما يقصر عن وصفه قلم البليغ، وقد زادها حسنًا أنَّ النهر يشطرها شطرين إذ يمرُّ في وسطها، وأنَّ فيها من التماثيل والآثار لذكر مشاهير الرجال شيئًا كثيرًا أهمُّه مسلَّة من الصوَّان الأحمر أُقيمت لذكر ولنتون القائد العظيم الذي يتباهى الإنكليز على ممرِّ الزمان بانتصاره على نابوليون، وهو من الذين وُلِدُوا في هذه المدينة صرفوا على إقامة هذا الذكر له ٢٠ ألف جنيه، ونقشوا جوانب المسلَّة بكتابات مذهبة تدلُّ على انتصاره في المعارك المشهورة. والمنزل الذي وُلِدَ فيه هذا القائد العظيم كائنٌ في شارع ماريون نمرته ٢٤، يقصده السائحون ويذكرون من رؤيته أعمال هذا البطل الكبير. ولوالي أرلاندا قصر صيفيٌّ في هذه الحديقة يقرُبُ منه موضع فيها وجَّه الدليل نظري إليه؛ لأنه قُتِلَ فيه اللورد كافندش والي الجزيرة والمستر بورك وزيرها سنة ١٨٨٢ في وسط النهار، وكان لقتلهما رنَّة ودويٌّ في الأقطار بسبب مكانة الاثنين، وأولهما اللورد كافندش أخو الديوك أوف دفونشير ومن أكبر البيوت الإنكليزية العريقة في شرف المَحْتَد، والثاني وهو المستر بورك كان من الخطباء وفحول السياسة. وعُدْتُ من هذه الحديقة فرأيتُ الناس في استعدادٍ لزيارة الديوك أوف يورك حفيد جلالة الملكة مع قرينته، وكان الاثنان قد عزما على هذه الزيارة ليحضرا سباق الخيل وبنوعٍ أخص النوع المعروف منه بقفز الخيل من فوق الأسوار في علوٍّ عظيم وهو سباق تُعْطَى فيه الجوائز الكبيرة، ويشهده الألوف من أطراف البلاد، فهم يعتنون بتربية الخيل عناية خاصة، وكان سموُّ الديوك يريد من زيارته أيضًا إزالة أثر الجَفَاء من صدورِ الأهالي الناقمين على الهيئة الحاكمة وعلى الأمة الإنكليزية، فأحسنت البلاد استقباله وكانت أكثر الجرائد تحرِّض الناس على إكرامه وإظهار الاحترام له فعاد الرجل من أرلاندا شاكرًا مسرورًا.
ولدبلن من الضواحي الجميلة ما لا يمكن لنا وصفه إلا موجِزين، نذكر منها تلال كيلني سِرْنَا إليها بالترامواي البخاري ما بين مناظر البحر من جهة وخضرة الجبال الشهيَّة من ناحية أخرى، حتى إذا وصل الترامواي سفْح الجبل قمنا في عربة جعلت تلتفُّ وتتعوَّج بين تلك الصخور حتى وصلت غابة اضطررنا من بعدها أن نترجَّلَ ونرتقي قمَّة التلال على الأقدام، وهنالك رأينا منظرًا من أجمل المناظر يحكي في بدائعه منظر جبل العصافير في موسكو أو كاهلمبرج من ضواحي فيينَّا، ويزيده حُسْنًا أنَّ فيه صخورًا طبيعية أو هي من بقايا معبد وثني قديم تُرِكَتْ في جوانب الجبل، وفي تلك الجوانب قصور وحوانيت تلتقي حولها جماعات الناس وتتلذَّذ بالنظر وسمع الأنغام.
ومن هذه الضواحي الجميلة موقع اسمه كلوندارف ذهبتُ إليه مع غيري من السائحين، وهو موقع معركة حربية انتصر فيها أهل أرلاندا على الدنماركيين في العصور الأولى وطردوهم من البلاد، وهنالك قصور وحوانيت وحمَّامات بحرية يأتيها عددٌ كبير من الناس في فصل الصيف وتقصدها جماعات الناس من دبلن في أكثر الأحيان.
ولكن الذي ذكرناه لا يُعَدُّ شيئًا عند بحيرات كيلارني الذائعة الصيت في الآفاق وهي من المشاهد المعدودة في أوروبا، تبعد عن دبلن مسيرة ٤ ساعات في القطار وهو يخترق سهولًا فسيحة تُزْرَعُ فيها البطاطس التي يعوِّل الأرلانديون عليها في الغذاء حتى إنهم إذا أمْحَلَ موسمها أصابت بلادهم مجاعة، وبُنِيَتْ في هذه السهول جذور يقطعها الأهالي ويجفِّفونها ويستعملونها وقودًا، وهي كثيرة المراعي للماشية تحدُّها صخور الجبال الزرقاء اللون، وفي بعض نواحيها حراج الصنوبر وغيره، وظَلَلْنَا في القطار حتى وصلنا جهة هي مِلْك اللورد كيلدر أكبر أصحاب الأرض والمالكين في هذه الجهة، له نصف القضاء برُمَّته والنصف الآخر لثلاثة من الموسرين الإنكليز ما عدا قليلًا منه للأهالي، ونزلنا في فندق بتلك الجهة فوُزِّعَ علينا بيان السياحة في البحيرات مطبوعًا، وسِرْنَا ذلك النهار مع جماعة كبيرة تقصد البحيرات في عربات كبيرة تنقل الواحدة منها ١٢ راكبًا، وتسير ساعتين بين الجبال والآكام وكان المطر يهطل يومئذٍ مدرارًا ورفاقي من السياح لا يعبئون به ولا يبالون حتى إذا انحبس المطر جَعَل صِبْيَةٌ من أولاد القرى يجرون وراء عرباتنا ويبيعون للسائحين أمتعة وجوارب من الصوف يعملونها بأيديهم، وبعد مسير ساعتين في هذه العربة تركناها وركبنا خيلًا سارت بنا في وادٍ هائل المنظر كثير الصخور والعقبات لولا أنِّي كنت مع كثيرين مدة سفري فيه لحسبتُ أنِّي في أرض خَلَتْ من الآدميين، ثم مررنا بأراضي بعض المالكين الكبار، وقد فرضوا رسمًا على كلِّ عابر طريق يمرُّ في أرضهم — قيل إنه يُعْطَى للخادمين — حتى وصلنا ضفَّة البحيرات، وجاءنا الزاد من الفندق، لكلٍّ زاده في سلَّة صغيرة عليها نمرة الغرفة المخصَّصة له، فجلسنا نأكل والماء من حولنا وقد لذَّ الطعام وحَلَتْ مناظر البحيرات أمامنا، وهي ثلاثة: اسم الأولى منها البحيرة العليا وطولها ٥ أميال وفي وسطها صخر علوُّه ١٠٠٠ قدم اسمه صخر النسر؛ لأن النسور تعيش فيه، وقد رأيتُ عددًا كبيرًا منها تحوم فوق البحيرة، وقد دُرْتُ فيها مع غيري من السائحين في أحد القوارب. وأمَّا البحيرة الثانية فطولها ميلان وتُدْعَى الوسطى سِرْنَا فيها مع التيار من غير مقذاف ثم دخلنا في البحيرة الثالثة أو السفلى، وهي أجمل الثلاثة طولها ٥ أميال وعرضها ٣، فيها ٢١ جزيرة وصخور متناثرة هنا وهنا في البحيرة ومنظرها جميل، ولطالما تغنَّى الأهالي بمدح هذه البحيرات ونَظَمُوا القصائد في وصفها، يغنِّيها الأرلانديون في مجتمعاتهم إلى اليوم. ويفصل بين هذه البحيرات شلال تهبطه الزوارق ويرتجف من هبوطها بعض السائحين، فأثَّر فينا ذلك السفر البديع، ولا سيَّما حين اجتاز زورقنا الشلَّال ودخل البحيرة السفلى، وهي أجمل أخواتها وأوسعهنَّ مجالًا، ولها منظر مفرِط الجمال. ولمَّا وصلت كلُّ الزوارق منتهى البحيرات من ناحية داخلية البلاد رأينا العربات تنتظرنا على الشاطئ؛ فركبناها وعُدْنَا إلى الفندق في تلك العربات، وقد رأيتُ أثناء سفري هذا ابن اللورد كيلدر الذي ذكرناه، كانت امرأة فقيرة الحال ترجوه أن يأمرَ وكيله بالرِّفْقِ بها وتتوسَّل شاكية، وهو لا يردُّ عليها حتى قام القطار وغاب اللورد عن نظرها، وبعد سفر أربع ساعات فيه وصلنا دبلن، ومن ذلك الحين عزمتُ على السفر إلى لفربول التي ترى الكلام عنها فيما يلي.
لفربول
إن المسافة في البحر ما بين دبلن ولفربول ١٢ ساعة، اجتزناها في يوم رَاقَتْ سماؤه وصَفَا هواؤه، فلمَّا دخلت الباخرة نهر مرزي الذي بُنيت عليه هذه المدينة رأيت من ضجَّة الخلق الكثير المزدحم فوق رصيف الميناء وحركة البواخر الذاهبة والقادمة ما يعجز القلم عن وصفه؛ لأن هذه المدينة من أهمِّ مراكز التجارة في الأرض برُمَّتها يقوم منها كلُّ ثلاث ساعات باخرة كبرى إلى بعيدِ الأقطار، ومن هذه البواخر ١٥٠٠ تذهب إلى شطوط أميركا ويأتي مينها الكثيرة أكثر من عشرين ألف سفينة في كلِّ عام تَنْقُلُ إليها حاصلات الأرض، وتأخذ منها الأبضعة الإنكليزية التي اشتُهرت هذه المدينة العظيمة بتوريدها، حتى إنه لا يخلو بلد صغير في أطراف الشرق والغرب من أثر لمدينة لفربول.
ولقد وصفتُ كثيرًا من مدائن بريطانيا العظمى وأرلاندا فلستُ أرى موجِبًا للإسهاب في ذكر بقية المدن الآتي ذكرها؛ لأن أكثر ما فيها متقارب في نوعه لا يخرج كثيرًا عن وصف الذي تقدَّم إيراده عن مشاهد إنكلترا وعواصم الممالك الأوروبية الأخرى، غير أنِّي أقول هنا موجِزًا إن لفربول كانت مدينة صغيرة لا تُذْكَر وما عظمت إلا من عهد قريب؛ فقد ورد في التاريخ أنها كانت قرية لبعض صيَّادي السمك في أيام الملك تشارلس الأول، وكانت ضريبة الدولة على أهلها ١٥ جنيهًا في كلِّ عام، وهم يعدُّونها ثقيلة رابية يريدون خفضها، حتى إنهم لمَّا رفع الملك مقدارها في سنة ١٥٧٢ وجعلهَا ٢٥ جنيهًا، ثاروا على حكومته ونادوا بالانضمام إلى الحزب الذي رَأَسَهُ كرومويل، وكانت شكواهم من أسباب الحرب التي انتهت بخذلان الملك وإعدامه، ولكن هذه المدينة كبرت ونمت بعد تلك الأيام فمنحها الملك وليم الثالث سنة ١٧٢٣ لقب مدينة، وبدأ أهلها من ذلك الحين يتجرون ويرسلون أبضعة ومصنوعات حديدية إلى أراضي أفريقيا الشرقية في سفن شراعية جعلت تعود من تلك الأراضي محمَّلة عبيدًا، وراجت تجارة العبيد عندهم زمانًا؛ لأنهم كانوا يرسلونهم إلى جزائر الهند الغربية ويسخِّرونهم في الزرع وبقية الأعمال، فلمَّا بَطَلَت النِّخَاسة من كلِّ الممالك الإنكليزية في سنة ١٨٠٦، تحولت الأذهان إلى الاتجار والمصنوعات والبضائع ونَقْل حاصلات الممالك الأخرى إلى إنكلترا عن طريق لفربول، وكان هذا كله يتمُّ في سفن الهواء فلمَّا صُنِعَت البواخر وَجَرَتْ فوق نهر مرزي تجاه لفربول كبرت أهمية المدينة وتيسَّرت أحوالها وزادت حركة التجارة فيها، حتى إنه بعد أنْ كان الناس يعبرون البحر ما بين لفربول هذه ونيويورك في سفن البخار في ٢٦ يومًا كما فَعَلَ أحدُ الأميركيين سنة ١٨١٥ في زورق بخاري أصبح المسير الآن هيِّنًا، والمسافة تُقْطَعُ في خمسة أيام وبعض الساعات. وشركات البواخر كثيرة، منها شركة كيونارد وشركة النجم الأبيض وغيرها من الشركات التي تَبْنِي البواخر الكبرى منها وتَنْقُلُ في السنة ألوفًا من بعيد الأقطار وإليها.
ولفربول الآن ثانية المدائن الإنكليزية في العظمة بعد لندن لا يقلُّ سكانها مع الضواحي عن مليون نفس بُنِيَتْ على شاطئ النهر كما تقدَّم، وهي قريبة من البحر وفيها من محطَّات سكك الحديد شيء كثير، فالاتصال دائم بينها وبين مدن إنكلترا والأقطار النائية، وقد لا يقلُّ عدد القُطُر التي تقوم منها في اليوم الواحد عن ألف، ومن هذا تعلم مقدار أهميتها وعظيم حركتها التجارية. وأمام لفربول مدن عامرة أهمها نيوبريطن، وهي متنزَّه لطيف على شاطئ البحر، فيه مرابض ورمال شهيَّة ينتابها المتنزِّهون، وفيها ألاعيب وحانات وهواؤها جميل. ومنها بركنهد، وهي مدينة كبيرة سكانها مائة ألف تُعَدُّ ساعد لفربول وعضدها في الأعمال التجارية، والاتصال بين هذه الجهات والمدينة تامٌّ لا ينقطع، فإن في لفربول شركات لبواخر خاصة بنقل الناس بين الضفتين كثيرة الجمال تقوم منها كل نصف ساعة، وهي أبدًا ملأى بالمتنقِّلين؛ لأن عددًا كبيرًا من سكان لفربول يسكن في هاتين المدينتين، والذي يزور أرصفة المينا — حيث تقوم هذه البواخر — يرى المهابة والعظمة؛ لأن أرصفة لفربول أكبر ما في الأرض من نوعها وأعظمها، وهي كثيرة العدد بعضها للجهات القريبة وبعضها لبواخر الشركات الكبرى، فلا يقلُّ عدد الأحواض التي ترسو فيها عن ٢٦ حوضًا وطول المينا من طرف إلى طرف ثمانية أميال، بنوا فوقها الأرصفة للسفن العظيمة كما قلنا، ومهَّدوا بها الطرق الفسيحة وإلى جانبها طريق فسيح للعربات والمارَّة تليه البيوت والمخازن والحانات العديدة، وهي تشرف منافذها وكواها على تلك الحياض والمرافئ ويرى الناس منها أعظم مشاهد الحركة التجارية في الأرض، ولم يكفِ كلُّ هذا لتسهيل النقل والانتقال حتى إن القوم بنوا سكة حديدية فوق قناطر من الحديد تمرُّ من تحتها العواجل والحوافل وعربات النقل على أشكالها، ومن فوق القناطر أرتال تقوم بالراكبين وتسير بالقوة الكهربائية، أتمُّوا بناءها سنة ١٩٠٢ واحتفلوا بافتتاحها احتفالًا عظيمًا، وهي مرتفعة ١٦ قدمًا فوق سطح الأرض، ومنظرها في غاية الجمال، ومنظر المينا والمدينة منها يستحقُّ الذكر والإعجاب، وهذا كله لم يكفِ أيضًا للحركة الكبرى في لفربول حتى إنهم حفروا نفقًا تحت النهر ومدُّوا فيه سكة الحديد تنقل الأرتال وما فيها بين ضفَّتَي نهر مرزي، وهم ينزلون هذا النفق بالآلات الرافعة والخافضة أو على سُلَّمٍ كثير الدرجات، فإذا وصل المرء المحطة تحت الأرض رأى نفسه في مثابة تنيرها الكهربائية ويأتيها الهواء النقي بمراوح يديرها البخار، وفيها الخلق والمناظر البهيَّة والأرتال تسير تحت مجرى النهر إلى الجهة الأخرى مسافة ألفَي متر تظهر فيها غرائب الصناعة الحديثة واقتدار جماعة المتمدِّنين.
ومشاهد لفربول كثيرة، منها البورصة تلي المينا ولها شهرة ذائعة في الخافقين، منها بورصة الأقطان، وبورصة الحبوب وأعمالها تفوق الحصر حتى إن المشتغلين بها لا يلقون وقتًا لمناولة الطعام على مهْلٍ، فهم يتغذُّون في مطاعم قريبة منها ويقرءون الصحف التجارية والنشرات، في حين هم يأكلون ويشربون حتى لا يضيعَ عليهم شيء من الوقت الثمين، ويمكن الوصول من هذه البورصة إلى ميدان القدِّيس جورجيوس في شوارع بهيَّة غنيَّة، أهمها اسمه لورد ستريت، ويليه تشرتش ستريت وغيرهما حتى إذا وصل المرء هذا الميدان رأى من عظمة المدينة ما يؤثِّر في النفس، ولا سيَّما تلك القاعة الكبرى في البناء الفخيم المعد للولائم الرسمية، وفيه دار المحافظة والمجلس البلدي إلى جانبه من الحدائق والكنائس والمكاتب العمومية والشوارع ما يضيق المقام عن عدِّه، وقد صرفوا على هذا البناء العظيم نحو أربعمائة ألف جنيه، وأحاطوه بالحدائق اللطيفة وتماثيل العظام، منهم الملكة فكتوريا وزوجها في بَدْءِ الاقتران وهما على الجياد، وهنالك تمثال غلادستون الوزير المشهور والجنرال أرل الذي كان من قُوَّادِ حملة السودان سنة ١٨٨٥، وقُتِلَ في معركة كربكان، والرجلان وُلِدَا في هذه المدينة، وما زال البيت الذي وُلِدَ فيه غلادستون باقيًا على حاله يذكِّر الناس بفعال هذا الرجل العظيم.
مانشستر
ضربتُ صفحًا عن ذكرِ كثيرٍ من المعامل والأشياء المهمَّة في لفربول، وأنا سأفعل ذلك في مانشستر التي ذاع صيتها في الخافقين بمصنوعاتها والأقمشة القطنية التي تُنسج في معاملها العظيمة، فهي أشهر مواضع النسج في الأرض بلا مراء، ليس في الأقطار كلها بلدة حقيرة تخلو من بعض ما نُسِجَ في هذه المعامل الكبرى التي اشتُهرت بها مانشستر ولفربول حتى صار ذكرهما مرادفًا لذكر الشيت والخام وكل نسج من القطن، والحقُّ يُقال إن أهمَّ ما في مدينة مانشستر هذه معاملها العظيمة، وأماكن التجارة الكثيرة فيها، وهي لا تمتاز بجمال في المنظر والأبنية، ولو أنها من أشهر مدن الأرض طُرًّا فإن أحسن بناء فيها للمجلس البلدي ويُعْرَفُ باسم مار جورجيوس أيضًا، ومن أشهر مواضعها البورصة الجديدة، دخلتُها مع أحد المعارف فأذهلني اتساعها وزخارفها وعلو سقفها، وهي قليلٌ نظيرها في كلِّ مدن أوروبا ومحطات سكك الحديد التي يقوم منها عدد يماثل القطرات التي تقوم من لفربول والترعة التي حفروها بين مانشستر ولفربول، وأنفقوا عليها الملايين حتى تردَ إليهم البضاعة رأسًا من البحار بدل أن تُفرَّغ في لفربول وتُنْقَل منها إلى معاملهم. وقد اشتُهرت هذه الترعة بكثرة ما أُنْفِقَ عليها وقلَّة إيرادها وجمال البواخر التي تجري فيها، وهي لا تزيد في الطول عن ٣٦ ميلًا وعرضها ١٢٠ قدمًا والعمق ٢٦، وهنالك أبنية ضخمة هي وكالات ومكاتب قد لا يقلُّ عدد المكاتب في بعضها عن ألف، وأمَّا عن العربات والحركة وقتام المعامل فلا تسل، فإن ظاهر المدينة كله أسود من كثرة الدخان والجبلة في بعض أنحائها لا تطاق، والسكن غير ذي لذَّة إلا لأصحاب المكاتب والأعمال، وهي مع كلِّ هذا تكسو الأرض بمنسوجاتها ولا تفوقها في الشهرة مدينة قديمة أو حديثة، وهي تُعَدُّ بثمانمائة ألف نفس.
بريطن
وقد زُرْتُ من مدائن الإنكليز كثيرًا غير الذي ذكرته لا أرى حاجة إلى وصفه، فلمَّا عوَّلت على الرحيل من هذه البلاد العظيمة قصدتُ أشْهَر مصايفها الواقعة على الشطوط الجنوبية — وهي مدينة بريطن هذه — لا ريب في أنها من أجمل المدن الأوروبية منظرًا وموقعًا، والذين ينتابونها في أشهر الصيف من كُبَراءِ الإنكليز لا يُعَدُّون، فهي قائمة بمال المصطافين من أهل لندن وسواهم، وفيها من الحوانيت والفنادق ما ليس في غيرها من مدن إنكلترا، أكثره واقع على البحر صفًّا واحدًا طوله أربعة أميال، ومن دون هذا الصفِّ البديع طرق جميلة على ضفَّة الماء يسير فيها المتنزِّهون وحمَّامات وألعاب ومشاهد بحرية من أشكال شتَّى، أجملها لسان من الخشب أدخلوه في البحر مسافة ١١٥٠ قدمًا، وفي آخره فوق الماء مطاعم وحانات وملاهٍ تشتغل في الليل والنهار، ومن حولها الزوارق البهيَّة تَنْقُلُ المتفرِّجين في البحر، وقد انشرحت منهم الصدور وافْترَّت الثغور، وزاد بهجة ذلك الموقع أنهم بنوا على مقربةٍ منه سكة حديدية في وسط البحر يغمرها الماء وجعلوا القطار لها قاعة من الزجاج قائمة على عُمُدٍ من الحديد، ولها من الأسفل عجلات تجري فوق خطوط الحديد التي يغمرها الماء، فهي إذا سارت في البحر بجماهير المتنزِّهين تظنَّها قصرًا من البلُّور سابحًا فوق الماء، ولا تعرف كيفية مسيره وعلوها عن سطح البحر ٣٠ قدمًا، تدفعها القوة الكهربائية في المسير فتجعل النُّزْهة فيها من غرائب المشاهد التي لم أرَ لها نظيرًا في الحمَّامات البحرية مع كثرة ما رأيت منها في أوروبا وأميركا.
ومن مناظر هذه المدينة قصر بناه الملك جورج الرابع سنة ١٧٨٧ وأنْفَقَ عليه مائتين وخمسين ألف جنيه؛ ليكون مصيفًا له، وقد باعتْهُ جلالة الملكة الحالية في أوائل حكمها بخمسة وثلاثين ألف جنيه؛ لأنها لم تعوِّل على قضاء فصل الصيف في هذه المدينة، وتُقام الآن في هذا القصر بعض الولائم، وهو يحيط به عدَّة أبنية جميلة التزويق والنَّقْش ترتاح النفس إلى السَّكَنِ فيها، وقلَّ أن ترى مدينة مثل بريطن كهذه تحلو الحياة في منازلها ومتنزَّهاتها، وسكانها نحو ١٥٠ ألفًا من النفوس.
هنا انتهتْ سياحتي في مدائن المملكة الإنكليزية فبرحتُ بريطن بقطار سكة الحديد إلى نيوهافن، وهي بعد دوفر أقرب فرضة من شطوط إنكلترا إلى المين الفرنسوية، وهنا أوضِّحُ للقارئ أنَّ الخطوط ثلاثة ما بين فرنسا وإنكلترا لبواخر الرُّكَّاب، فالخطُّ الأول ما بين ثغر كاليه في فرنسا وثغر دوفر في إنكلترا، ورد تفصيله في هذا الكتاب عند وصْفِ السفر من فرنسا إلى إنكلترا، حتى أذهب منها إلى أميركا، والخطُّ الثاني من ثغر بولون في فرنسا إلى فولكستون في إنكلترا، والثالث هو هذا من نيوهافن بإنكلترا إلى دبيب في فرنسا، والمسافة بينهما تستغرق ثلاث ساعات في عرض البحر. وفي الناس مَنْ يؤثِر هذا الطريق؛ نظرًا لاتساع البحر هنا خلافًا لطريق كاليه ودوفر، فإن بحره ضيِّق ولكنه قصير لا يزيد عن ثلاثة أرباع الساعة وصلت من بعدها إلى دبيب، وذهبت منها بالسكة الحديدية إلى باريس قاصدًا بلاد الطليان.