إيطاليا
خلاصة تاريخية
كانت إيطاليا في الزمان القديم بلاد العز والسؤدد ومقر العظمة والسلطان الواسع حينما عمَّ ملك الرومان من رومة، وهي عاصمة البلاد من قِدَمٍ، وانتشر نفوذهم في أنحاء الأرض فما بقي لغير دولتهم ذكر مدة وجودها إلى أن سطا عليها برابرة الشمال ودوَّخوها، ومن ثمَّ بدأ تاريخ إيطاليا الحديث. وأمَّا التاريخ القديم فمشهور وعلاقته بهذه الرحلة لا توجب أكثر من الإشارة إليه.
وقد كانت أكثر أجزاء إيطاليا الحالية من ممالك رومة القديمة، فلمَّا انقسمت سلطنة الرومان شطرين، أحدهما غربي قاعدته رومة، والثاني شرقي قاعدته القسطنطينية، ظلَّت هذه الأجزاء الإيطالية تابعة للمملكة الغربية حتى خُلِعَ آخر الإمبراطرة سنة ٤٧٦ وتولَّى الملك أودتشر زعيم قبائل النوثة، ثم ضاعت المملكة من يده ونالها تيودوريك ملك الإستروغوث سنة ٤٩٣ بعد التاريخ المسيحي، ومن ذلك الحين لم يهدأ لبلاد الرومان بال من كثرة الهاجمين والطامعين، ولا سيَّما في الجهات الشمالية، وهي لم تزل آثار الرومان والقبائل الأولى كثيرة فيها، حتى إن اسم الجهة المحدقة بولاية ميلانو تُسمَّى إلى الآن لومبارديا نسبة إلى قبيلة اللومبارديين الذين دخلوا البلاد من الجهات الألمانية وأسَّسوا فيها مملكة طال عهدها واشتُهر أمرها زمانًا، ولكن ملوكها طمعوا برومة وزحفوا عليها في القرن الثامن فاستغاث البابا، وهو يومئذٍ صاحب المدينة بملوك فرنسا، وأغاثه يبن وابنه شارلمان، وهو الذي أخضع مملكة اللومبارديين وضمَّها إلى أملاكه وتُوِّج في سنة ٨٠٠ إمبراطورًا للسلطنة الغربية في رومة؛ فأعاد عزها إلى حين وقُسِّمَت الإمبراطورية على حفدة شارلمان بعد وفاته — كما رأيت في تاريخ فرنسا — فأصاب لونابر الولايات الإيطالية وظلَّت البلاد تابعة من بعد هذا لملوك الدولة الكارلوفنجية زمانًا كثرت فيه الحروب والأهوال؛ لأن الملوك كانوا ضعفاء، والأمراء الذين طمعوا بالاستقلال كثر عديدهم. وجاء بعد هذه الحروب أوثو إمبراطور ألمانيا، ففتح الجزء الشمالي من إيطاليا سنة ٩٥٠. وأما الأجزاء الجنوبية فكانت مرة تستقلُّ ومرة تتبع الدولة الشرقية حتى آل بها الأمر إلى الاستقلال لمَّا ضعفت الإمبراطورية، ونشأت جمهوريات وممالك كثيرة لها في تاريخ العمران ذكر كبير، أشهرها جمهورية البندقية أو فنيس التي وصل تُجَّارها أقاصي الأرض وقام منها السياسيون والعلماء والمكتشفون، واختلطت بالأقوام الشرقية أكثر من بقية دول إيطاليا وحاربت العرب واتصلت بممالكهم زمانًا، ونال تُجَّارها الامتيازات من سلاطين آل عثمان وملوك اليابان وغيرهم. وعمَّت قوة بابا رومة في تلك العصور حتى صار الملوك يتذلَّلون له ويعدُّون رضاءه واجبًا لبقاء المُلْكِ في أيديهم، وكانت الدولة الألمانية السابقة الذكر تخسر بعض أملاكها حينًا وتضيف إليها حينًا، وساد في كثير من الجهات أشراف اهتضموا حقوق العامة فحاربهم الشعب زمانًا حروبًا طويلة انتهت سنة ١٣٢٨ بتقسيم البلاد على بعض العائلات المالكة ولا محلَّ هنا لتسميتها كلها. وفي سنة ١٤٩٤ بدأت حروب طويلة بين فرنسا والنمسا على امتلاك إيطاليا فانتهى الحال بانكسار الفرنسويين في معركة بافيا سنة ١٥٢٥ وتخلِّيهم عن البلاد.
وبقيت إيطاليا وممالكها في زُهَاء وحروب متواليين، واتسع نفوذ البابوات فحكموا — غير رومة — أكثر الممالك الأوروبية، وقبضوا على سياسة الدول وتصرَّفوا بحقوق الملوك والإمبراطرة، وحدثت حروب كثيرة في إيطاليا ذُكِرَ معظمها في تاريخ الدول الأخرى، وكان أمراء فكونتي يحكمون إمارة لومبارديا وآل مدسي يحكمون فلورنسا، وفرع من آل بوربون يحكم نابولي وصقلية، وأكثر الجهات الباقية جمهوريات زاهرة نامية يرأس البابا شئونها رئاسة سياسية ودينية حتى قام نابوليون بونابرت المشهور، وسطا على لومبارديا ورومة وبقية ممالك إيطاليا؛ فأخضعها وضمَّها إلى أملاك فرنسا سنة ١٧٩٢ ثم انتقضت عليه وساعدتها ألمانيا وروسيا وإنكلترا على الاستقلال، فعاد إليها بونابارت وأخضعها مرة أخرى سنة ١٨٠٠ وتُوِّج مَلِكًا عليها، وسُمِّي ابنه الصغير بعدئذٍ ملك رومة، وكان يوم تصرف بالممالك قد أقام أوجين بوهارني ربيبه ملكًا عليها، ثم صار يوسف أخو نابوليون ملكًا لنابولي، فما دام هذا الحال طويلًا؛ لأن إيطاليا خرجت من قبضة الفرنسويين بعد سقوط نابوليون وعادت إلى الاستقلال فقويت شوكة ملوك نابولي وصقلية وهم من آل بوربون، وملكت النمسا جزءًا مهمًّا من شرقي إيطاليا فما تخلَّت عنه إلا في أول حكم فرانس جوزف الإمبراطور الحالي حين ساعدتها فرنسا على الاستقلال في سنة ١٨٩٩.
وبينا البلاد في هذه الحالة تتنازعها عوامل الحرب والثورة قام في سردينيا فكتور عمانوئيل ملكها المشهور بالدهاء، وبدأ بتحريض الناس على الانضمام إلى رايته وساعدته فرنسا وإنكلترا؛ لأنه انضمَّ إليهما في حرب القرم وحارب روسيا معهما، وكان من حُسْنِ حظِّه أنه رُزِقَ وزيرًا عظيم الذكاء واسع العقل اسمه كافور، وقام على أيامه غاريبالدي بطل إيطاليا المشهور فحارب ملوك لومبارديا ونابولي وغيرهم، واستخلص البلاد منهم فجعلها مملكة واحدة ثم دخل رومة في ٢٠ سبتمبر من سنة ١٨٦٩ بمساعدة الجنود الفرنسية واغتصب القوة من البابا؛ فصارت إيطاليا كلها مملكة واحدة عاصمتها رومة كما كانت في الزمان الأول، ومات فكتور عمانوئيل أول ملوك إيطاليا بعد إعادة حياتها في ٩ يناير من سنة ١٨٧٨ فخَلَفَه ابنهُ أومبرتو، عُرِفَ بين قومه بالبساطة الزائدة وحب الرعية والميل إلى الإصلاح والعدل، وقد تقدَّمت إيطاليا في أيامه تقدُّمًا يُذْكَر في الصناعة والتجارة وحاولت أن تمدَّ سلطانها وتعمِّر الجهات القاصبة، فملكت بعض الحبشة والصومال وأبرمت محالفة مشهورٌ أمرها مع النمسا وألمانيا، وهي الآن من الدول العظيمة في الأرض، وقد بقي الملك أومبرتو على سرير إيطاليا إلى يوم ٢٩ يوليو سنة ١٩٠٠ حين كان راجعًا إلى قصره في مونزا وانقضَّ عليه في العربة فوضوي أطلق عليه الرصاص فَقَتَلَهُ، وكان حزن أوروبا وإيطاليا — على نوع أخص — شديدًا جدًّا على هذا الملك، وكان ولي عهده — وهو جلالة الملك فكتور الحالي — يومئذٍ متجولًا في البحر مع عروسه، فلم يعرف بما أصاب والده إلا بعد الحادثة بيومين حين أسرع إلى رومة واستلم مهامَّ الملك. وقد اقترن هذا الملك بالأميرة هيلانه كريمة البرنس نقولا صاحب الجبل الأسود، ورُزِقَ منها ثلاث بنات وابنًا واحدًا، واشتُهرت هذه الملكة بما أتته من المساعدة في الزلزال الذي أصاب مدينة مسينا، فكانت تداوي الجرحى وتواسي المصابين، ولمَّا هاج جبل النار في نابولي وجعل يقذف بنيرانه كانت هي في مقدمة الجميع لترى بنفسها الخَطْبَ وتسعف المصابين، واعترف الملوك بحسن عملها فأرسلوا إليها الوسامات تذكارًا لما قامت به من واجبات الإنسانية والمروءة. وسكان إيطاليا — حسب الإحصاء الأخير سنة ١٩٠٦ — نحو ٣٦ مليونًا ونصف مليون.
تورين
غادرتُ باريس ووجْهَتِي المدائن الإيطالية، أولها مدينة تورين، فمرَّ بنا قطار سكة الحديد في عدة مدن فرنسوية مثل شمبيري ومودان، وهذه الأخيرة واقعة على حدود فرنسا وإيطاليا، فيها جمرك مشترك للدولتين، نزلنا من القطار فيها؛ ليفتِّش العمال ما معنا من أمتعة وعفش، ثم عدنا إلى قطار آخر إيطالي، ودخلنا في نفق جبل سيني المشهور، وهو من آثار المدنية العظيمة ومن المناظر المشهورة في الأرض، يُعَدُّ ندًّا لنفق سان غوثار الذي تقدَّم الكلام عليه في باب سويسرا، وقد بدءوا بنقبه في الجبل سنة ١٨٦١ فما انتهى عملهُ إلا عام ١٨٧٠، واشترك في هذا العمل أمَّتا الطليان والفرنسيس فبلغت جملة المال الذي أُنْفِقَ عليه ٧٥ مليون فرنك، وطول هذا النفق ثمانية أميال من جانب في الجبل إلى جانب، وعرضه ٢٦ قدمًا وعلو سقفه عن سطح أرضه ١٩ قدمًا، وفيه خطَّان لأرتال البخار، أحدهما للقُطُر الذاهبة والآخر للقادمة، وهم ينيرونه بمصابيح غاز بين الواحد منها والآخر مسافة ٥٠٠ متر، فإذا دخل القطار هذا النفق أُقفلت نوافذه والكوى، ولم يُسْمَح لأحد المسافرين بفتح شيء منها ولا بمدِّ يده أو إخراج رأسه مدة وجود القطار داخل النفق، لئلا يدخل قتام الآلة البخارية عربات المسافرين أو يحدث مكروه بسبب ضيق المجال، فكأنما المسافر في هذا النفق محبوس تحت قلب الأرض إلى حين، ثم يأتيه الفرج؛ إذ يخرج إلى وجه الأرض فيرى المرء نفسهُ طائرًا في هذا القطار محلِّقًا في تعاريج الجبل البهيِّ يلتفُّ من حول جبال الألب الموصوفة، وتتنوَّع من دونه آيات الجمال الطبيعي الرائع، فيكون الفَرْق بين ظلام النفق وقتامه وبهاء هذه المشاهد البديعة مما يزيد تأثيرها في النفس رسوخًا، ويُبقي لجبل سيني ونفقه ذكرًا غريبًا في الأذهان.
ووصلت تورين بعد سفر ٣٠ ساعة في القطار المستعجل، ولهذه المدينة أهمية كبرى؛ فإنها كانت قاعدة إمارة بيامونته في القرون الوسطى، ثم علا شأنها حين دخلت في حوزة أمراء سافوا سنة ١٤١٨، ولمَّا عاد أمراءُ هذه الدولة إلى امتلاك إيطاليا برمَّتها على عهد فكتور عمانوئيل جد الملك الحالي، جُعلت هذه المدينة أيضًا قاعدة المملكة الإيطالية الجديدة من سنة ١٦٥٩ إلى ١٨٦٥، ومن بعد ذلك نَقَلَ الملك كرسيه إلى فلورانس فاحتجَّ أهل تورين واعترضوا على هذا الإبدال؛ لأنهم كان لهم اليد الطولى في توحيد المملكة الإيطالية، فما سكتوا عن الاحتجاج إلا لمَّا صارت رومة عاصمة المملكة وهي أكبر مدائن إيطاليا وسيدتها من قِدَمٍ كما تعلم، وفي هذه المدينة مع ضواحيها نحو أربعمائة ألف نفس، وهي مبنيَّة في منبسط من الأرض واسعة الميادين مبلَّطة الشوارع تبليطًا حسنًا، وأكثر شوارعها طويلة لا يقلُّ الواحد منها عن ألف متر في طوله، وكلها تحفُّ بها الأشجار من الجانبين، وفيها الأبنية الجميلة المنسَّقة، فهي ممتازة بهذا الوضع وبنظافتها عن بقية المدن الإيطالية، وقلَّ أن يخلو شارع أو رحبة في هذه المدينة من تمثال لأحد المشاهير الذين نبغوا في تورين أو سواها من مدن إيطاليا، فترى فيها تماثيل الجنرال لامرمورا قائد عساكر سردينيا في حرب القرم وغاريبالدي وكافور، وغير هؤلاء من الذين خدموا بلادهم خدمة خلَّدت لهم الذكر، والحق يُقال إن مدن إيطاليا ملأى بهذه الآثار الجميلة.
ومن أهمِّ مواضع هذه المدينة ميدان كاستيلُّو واقع في قلب البلد وهو يتفرَّع منهُ عدة شوارع مهمة كشارع غاريبالدي وشارع بو وشارع رومة، وفيه قصر قديم يُعْرَف باسم «قصر المداما» أو السيدة سُمِّي بذلك؛ لأنه كان لوالدة الملك فكتور أماديوس الثاني، وفي الجهة الشمالية من هذا الميدان قصر آخر للملك يقيم فيه حين يزور المدينة، ولا تخلو مدينة مهمة في إيطاليا كلها من قصر للملك أو قصرين كانت للأمراء والملوك الأُوَل وهي كاملة الرياش والمعدَّات، ولكن أعضاء العائلة المالكة لا يقيمون في هذه القصور الآن إلا قليلًا، وقد دخلت هذا القصر المنوَّه به، وهو قديم العهد بُنِي سنة ١٦٦٠ فألفيتُ رياشه جيدًا بسيطًا وقاعاته رَحْبَة، وأهمُّها قاعة السلاح وفيه تمثال نابوليون الأول والسيف الذي انتضاه في معركة مارنجو، ونسران فرنسويان وأسلحة قدَّمتها مدن إيطاليا للملك فكتور عمانوئيل، وسيف قدَّمته لجلالته مدينة رومة سنة ١٨٥٩، وإكليل من مدينة تورينو قدَّمته سنة ١٨٦٠ وغير هذا كثير. وهناك ملابس آل سافوا الحربية الأولى تشبه التي وصفناها في غير هذا الفصل من ملابس فرسان القرون الوسطى وأسلحتهم، وسروج خيلهم أكثرها من القطيفة الحمراء المزركشة بالقصب، وتجاه هذا القصر — أي في الجهة الجنوبية من ميدان كاستيلو — قصر كارينانو القديم، وُلِدَ فيه الملك فكتور عمانوئيل، ويليه متحف فيه من الآثار المصرية ما لا يوجد في المتاحف الأخرى، ولا سيما البردي أو ورق البابيروس؛ فإن فيه ما لا يوجد نظير له في متحف الجيزة، وفيه من تماثيل الفراعنة الضخمة المصنوعة من الصوَّان الأحمر ما يستحقُّ الذكر والإعجاب، وقد وصل معظم هذا إلى متحف تورين من قنصل لدولة إيطاليا أقام زمانًا في مصر وأصله من هذه المدينة، فأرسل إلى متحفها كلَّ هذه الآثار النفيسة.
وفي تورين ميدان آخر يُعْرَفُ باسم كارلو عمانوئيل نصبوا فيه سنة ١٨٧٣ تمثالًا لكافور الوزير المشهور، وهو من أبناء هذه المدينة أيضًا، وقد وضعوا على رأس التمثال إكليل الظَّفَر وفي يده لوح عليه شعار كافور وهو «كنيسة حرة في بلاد حرة»، وما زال كُتَّاب الغرب يتناقلون هذه العبارة عن كافور في كتاباتهم السياسية، وقد نَقَشُوا على قاعدة هذا التمثال تاريخ استقلال إيطاليا، وتاريخ رجوع الجنود الإيطالية من حرب القرم، وتاريخ مؤتمر باريس وغير هذا مما كان لكافور به دخل كبير. ويتفرَّع من هذا الميدان شارع باسم كافور ما زال فيه البيت الذي وُلِدَ فيه هذا الوزير سنة ١٨١٠ وتُوفي سنة ١٨٦١ والناس يقصدونه ويذكرون صاحبه العظيم كما يفعلون في كلِّ موضع مثل هذا لذكر الرجال الكبار.
على أنَّ أجمل ميادين تورين بلا مراء هو المعروف باسم فكتور عمانوئيل مؤسس المملكة الإيطالية الحالية، والشارع الفخيم الذي يتفرَّع منه بهذا الاسم أيضًا، فإن هذين الموضعين هما نقطة الأهمية في المدينة ترى فيهما طبقات الأعيان وأهل البزَّة والترف، وفي كل الجوانب قصور فخيمة ومخازن عظيمة وشجر بهي وغرْس شهي وماء يتدفَّق من البِرَك البهيَّة، ومئات من سراة المدينة تخطو متنزِّهة، أو تروح وتغدو لشراء البضاعة النفيسة أو لقضاء الحاجات، وأنغام شجيَّة تُسْمَع في جوانب الميدان، فهنا ملتقى العز ومركز الحظ وهناء البال في هذه المدينة الحسناء. ويمكنك الوصول من هذا الشارع العظيم إلى الحدائق العمومية أو إلى الجسر المبنيِّ فوق نهر بو، وهو الذي مررت من فوقه وذهبت صعدًا إلى جبال الكبوشيين البهية، سُمِّيَت بهذا الاسم؛ لأن بعض رهبان الكبوشيين بنوا فوقها ديرًا على ارتفاع ألف قدم عن سطح الأرض. والصاعد على قمة هذا الجبل في الترامواي البخاري يسير في طرق تزيِّنها الصخور الضخمة، وتتخلَّلها الأعشاب النديَّة وأشجار الصنوبر العطرية، فإذا ظللت صاعدًا إلى جبل هنالك اسمه السوبرجا وارتفاعه ٢٠٠٠ قدم عن سطح الأرض وجدت في أعلاه كنيسة ومدفنًا لآل سافوا بناها الدوك فكتور أماديو من أمراء الدولة الحاكمة في إيطاليا الآن، وفي الكنيسة قُبَّة علوُّها ١٤٠ قدمًا إذا ارتقيت أعلاها رأيت من دونك منظرًا يسحر الألباب لفرْطِ جماله؛ فإنك يحيط بك المدينة والسهل والنهر وسلسلة جبال الألب العظيمة، منها جبل روزا ارتفاعهُ ١٥١١٥ قدمًا، وجبل براديزو علوه ١٣٧٨٠ قدمًا، وغير هذا مما تحلو الفُرْجَة عليه وتنشرح لرؤيته الصدور، وهو كثير في تورين وفي أكثر المدن الإيطالية التي زرنا عدة منها، وكانت وجهتَي من بعد تورين مدينة ميلان المشهورة، وإليك بعض ما يستحق الذكر عنها.
ميلان
هي عاصمة إقليم لومبارديا المعروف بالإقليم العالي في إيطاليا، وقد كانت من أهَمِّ مدن المملكة الرومانية في أكثر العصور؛ لأنها في القرن الحادي عشر كان تعدادها ثلاثمائة ألف نفس، واشتُهرت في القرن الخامس عشر بصناعة التصوير حين قام فيها برامانته وليوناردو فنشي وتلامذتها الكثار، ولها الآن شهرة بالمصنوعات كالمنسوجات الحريرية؛ لما يُزْرَع من شجر التوت في إقليم لومبارديا وغيرها من لوازم الأثاث والرياش، وهي بوجه الجملة من أكبر مدن إيطاليا تجارة وأكثرها ثروة، يبلغ عدد سكانها الآن نصف مليون ويشطرها شارع فكتور عمانوئيل المتصل بشارع فنسيا، وهما يوصلان إلى الحديقة العمومية، وفيها من أشجار المانيلا شيء كثير يتضوَّع منها روائح عطرية قوية، وحول البِرْكة زهر ومقاعد وغير هذا مما لا أطيل وصفه؛ لأنه مثل الموجود في الحدائق العمومية الأخرى، وقد وصفتُ كثيرًا منها، ولكن مدينة ميلان هذه تمتاز بأشياء لا نظير لها في الأرض، من ذلك الدوم أو الكنيسة تعدُّ من عجائب الدنيا ولا يزيد عنها في الاتساع إلا كنيسة بطرس في رومية وكنيسة جيرالدا في إشبيلية بالأندلس — وقد مرَّ ذكرها — وتعدُّ كنيسة ميلان بين كنائس الطبقة الأولى في جمال بنائها وزخارفها، وما فيها من تماثيل القديسين المنقوشة على الحجر والرخام في سقفها وجدرانها داخلًا وخارجًا، وما أُنفق على تذهيبها ودقائق صناعتها العجيبة، حتى إن مجموعها يعدُّ مثال الجمال المؤثِّر في الأذهان، ولمنظرها مهابة من الخارج والداخل يشهد بها كل من أسعده الحظ برؤيتها، وصورها منتشرة في كل جهات الأرض، ومساحة هذه الكنيسة العظيمة ١٤٠٠٠ متر مربَّع، يمكن نحو أربعة آلاف نفس أن يجتمعوا فيها، ويبلغ طولها من الداخل ١٦٢ مترًا وعرضها ٩٢ مترًا وعلوُّها ٢٢٠ قدمًا. والكنيسة كلها مبنية من الرخام، وهي قائمة على ٥٢ عمودًا محيط كل منها ١٢ قدمًا وسقفها من الرخام المختلف الألوان، ولها عدة شبابيك ونوافذ صُنِعَتْ ألواحها الكبيرة من قِطَعِ الزجاج المختلف الألوان على شكل الفُسَيفِسَاء، وهي تمثِّل حوادث الإنجيل والتوراة ولا يقلُّ عدد هذه القطع في كلِّ نافذة عن ٣٥٠ قطعة، وهي من أثمن ما نزل على الزجاج من الصور المتْقَنَة، يقف المرء أمام بعضها ساعات ولا يملُّ الفُرْجَة، وقد يخيَّل للناظر إليها أنه يرى رجالًا ومناظر صحيحة طبيعية لولا أن الصور تنقصها حركة الأشياء الحية، وعلى جدران الكنيسة من الخارج ٢٠٠٠ تمثال نقلًا عن التوراة والإنجيل في القدِّ الطبيعي، ولا حاجة إلى القول إنه كُتِبَ مجلَّد في تاريخ بنائها وعمل المهندسين الذين اشتغلوا بها، والنقود التي جُمِعَتْ وصُرِفَتْ عليها حتى تمَّت وتكرَّست في سنة ١٥٧٧، وهي من ذلك العهد لا تبطل التحسينات فيها سنة بعد سنة حتى إنه أُضيف إليها تمثال نابوليون الأول في سقف الكنيسة سنة ١٨٠٥، ولكن العين المجرَّدة لا ترى بدائع النَّقْشِ والزَّخْرَفَة في أعلى السقف بالنظر إلى ارتفاعه، ولهذا ترى كثيرين من السُّيَّاح في يدهم النظَّارات ينظرون إلى ما فوقهم قبل البدء في الصلاة أو بعد ختامها، ولهذه الكنيسة برج يُصْعَد إلى أعلاه على ٣٠٠ درجة ترى من أعلاها جبال الألب، مثل الجبل الأبيض وجبل برنار وجبل السوبرجا في تورين السابق الكلام عنه، وغير هذا من المناظر البديعة.
وفي شارع فكتور عمانوئيل رواق دُعِيَ باسمه مبني على شكل صليب صُرِفَ عليه ثمانية ملايين فرنك، طوله ٣٢٠ مترًا وعرضه ١٦، وارتفاعه ٩٤ مترًا وعلوُّ قبَّته ١٨٠، ينتابه خلق كثير بعضهم يجلسون في القهاوي وبعضهم يأكلون في المطاعم والبعض يشترون لوازمهم من مخازنه كل ذلك داخل الرواق، وهو يمكن الوصول منه إلى تياترو سكالا المعدود من أكبر مراسح إيطاليا يضم ٣٦٠٠ شخص، والقارئ يعلم أن الطليانيين أهل طرب وفن، فالفقير منهم لا يتخلَّف عن الذهاب إلى ملهى لسماع الروايات أو الأغاني، وهم لا ينكرون الغناء أثناء مرورهم في الشوارع، تراهم في ليالي الصيف يجتمعون ومعهم آلات الموسيقى فتدوِّي الشوارع بأغانيهم وهم يعزفون ويطربون. وفي ساحة التياترو تمثال ليوناردو دي فنشي، ومن هذه الساحة يبتدئ شارع مانسوني، وهو من أبناء ميلان كان من أكبر الساعين في توحيد مملكة إيطاليا بقلمه كما سعى غاريبالدي بسيفه. وليس بعيدًا من هنا متحف بريرا، رأينا في ساحته الخارجية تمثال نابوليون الأول، ثم دخلنا قاعاته فرأينا صورًا كثيرة من صنع رفائيل وليوناردو وهي تُعَدُّ في الطبقة الأولى، وأكثرها دينية بينها صورة مار مرقص يبشِّر في الإسكندرية، وصورة موسى وقد وُجِدَ طفلًا على ضفة النيل، وخروج بني إسرائيل من مصر وخمسون ألف قطعة من النقود القديمة والجديدة من الذهب والفضة. ومما يُذْكَر بين مشاهد ميلان، مدفنها المشهور، مساحة أرضه مائتا ألف متر، وهو يحيط به سور له أعمدة وأبواب بُنِيَتْ بأدقِّ صناعة، فإذا دَخَلْتَ المدفن رأيت تماثيل الرخام الأبيض قائمة على تلك القبور، وهي أشكال كثيرة العدد والإتقان، فيها رموز وإشارات إلى المتوفِّين، فإذا كان المتوفَّى طفلًا صور ووالدته تنوح عليه أو شابًّا، فهناك عمود من الرخام قُصِفَ قصفًا، وغير هذا من أدلة الاعتناء. وقد خُطِّطَتْ شوارع منظَّمة فيها الأشجار والزهور والرياحين وبِرَكِ الماء، فما هذا المكان إلا من المتنزَّهات الموصوفة، وليس هو مجموع قبور يأنَفُ من رؤيتها أو سمع حديثها السامعون.
ومن ضواحي ميلان بلدة مونتزا، وهي على مسافة ساعة بالسكة الحديدية، واقعة في أخصب بقعة من بقاع الأرض في جهة يقلُّ لها النظير بين الجهات المعروفة بجمالها واعتدال هوائها؛ ولهذا اتخذها والد الملك الحالي مَصْيَفًا له، وقد زاره في قصرها رصفاؤه الملوك والقياصرة في السنوات الأخيرة، ودُبرت هنالك المهام الخطيرة، والبلدة كلها غياض غضيضة ورياض غنَّاء مُلِئَتْ بشهي الشجر ولذيذ الفاكهة، وفيها من شجر التوت وجداول الماء العَذْب وبهي الحدائق ما لا تَشْبَعُ العين من التمتُّع بحسنه المُنْعِش، وقد غُرِسَتْ أشجار الصفصاف والحور في طرفها وجهاتها على طرق هندسية، وهم يعتنون بأغراس العنب وكرومه؛ لأنك ترى عروق العنب وأثمارها ممتدَّة مدلَّاة من شجرة إلى شجرة على نسق يروق للناظرين، وقد كان لوجود قصر الملك هنا تأثير كبير، فإن سراة ميلان بنوا لهم قصورًا ومنازل فخيمة، وبعضهم يقضون فصل الصيف في بحيرة كومو يبلغ طولها ٣٠ ميلًا، وتتصل بها بحيرة أخرى تُدْعَى لوكو، بُنِيَت على ضفافها القصور والمنازل والفنادق يؤمُّها سراة الميلانيين وغيرهم. وهذه البحيرات تضاهي بحيرات لوسرن وجنيف في سويسرا، وتمخر فيها الباخرات ما بين المدن القائمة على ضفافها، ويتخلَّلها غابات وأشجار الكستناء والصنوبر، فهي من جنات الأرض المعدودة، والذي يقْضِي زمن الصيف في هذه الجهة من إيطاليا فإنه ينشرح صدره من المناظر الطبيعية على أشكالها، لا سيما وأنَّ الفنادق فيها مُتْقَنة ورخيصة الأثمان، وقد عُدْتُ من مونتزا بعد أن متَّعْتُ النظر بآيات جمالها، ورجعت إلى ميلان ثم برحت هذه المدينة قاصدًا مدينة فنسيا.
فنسيا
هي البندقية المشهورة التي تفرَّدت بعجيب موقعها وغريب وضعها حتى أطلق عليها الكُتَّاب اسم سلطانة الأدرياتيك، وضُرِبَتْ بمحاسنها الأمثال وتعشَّق طلاب الأدب ذكرها وزيارتها من قِدَم، فنَظَموا عقود الشعر الرنَّان في مدحها ووصف غرائبها، واشتُهر اللورد بيرون الإنكليزي وغيره بما نشروه من نفثات يراعهم عنها، ولا عجب؛ فإنها المدينة العجيبة التي بُنِيَتْ فوق الماء بدل الأرض، والتي تقوم فيها الزوارق والقوارب مقام العربات والخيل، وتحلُّ الترع محل الشوارع والبِرَك محل الميادين والرحبات، فكل ما فيها خاص بها يميزها عن سواها، بُنيت على ١١٧ جزيرة تتكوَّن منها أحياء المدينة، وتفصلها بعضها عن بعض ١٥٠ ترعة هي الشوارع العمومية بنوا فوقها ٣٧٨ قنطرة، فسهل المرور من جانب إلى جانب، وأكثر هذه القناطر جميل المنظر، وأمَّا الأحياء أو الجزر المتباعدة فلا بدَّ للوصول إليها من ركوب هاتيك الزوارق المستدقَّة المعروفة عندهم باسم جوندولا، وهم يتقنون عملها، ويديرها رجل واحد أو رجلان يقعد أحدهما في مقدمة القارب والآخر في المؤخرة، وترى هذه الزوارق أينما سرت تنقل الناس في ترع البندقية، وهي تنثني وتتعرَّج بين الجدران والمنازل وتحت الفنادق والمخازن أو تنساب انسياب الأفعى فوق الماء المترقرق، وإذا تقابل منها عدة تخلَّلت بعضها بعضًا وانسلَّت هذه من هنا وهذه من هنا بلا صدام ولا فرقعة، فيحلو السير فيها لجماعة المتفرِّجين.
ولقد أتيت هذا البلد مرارًا برًّا وبحرًا، ومررت هذه المرة على بلدة دزنسو، وهي قريبة من سلفرينو التي حدثت فيها المعركة المشهورة بين جنود إيطاليا وجنود فرنسا من جهة، وجنود النمسا من جهة أخرى سنة ١٨٥٩، وقد تقدَّم ذكرها، وكان من نتيجة انكسار النمسويين فيها أنَّ دولتهم تنازلت عن إقليم البندقية لإيطاليا، وما زال القطار من هنالك يجتاز الأبعاد ويخترق المزارع والعمائر مدة عشر ساعات حتى دخلنا محطة البندقية وسِرْنَا منها في زورق إلى باب الفندق.
وأهمُّ ما يُذْكَرُ عن فنسيا ساحة القِدِّيس مرقس يبلغ طولها ١٧٥ مترًا وعرضها ٨٣، وهي مثابة الهيئة الاجتماعية ينتابها خلق كثير في أواخر النهار، ويكثر الازدحام في الليل حتى يتعذَّر المسير مع اتساع تلك الساحة، وهم يخطرون في جَنَبَاتها لسمع ما تَصْدَح به الموسيقى من الأنغام الطليانية الحماسية. ويحيط بهذه الساحة من ثلاث جهات أروقة بُنِيَ تحتها حانات ومطاعم ومخازن تُبَاع فيها الحلي والجواهر وكثير من مصنوعات فنسيا الزجاجية الملوَّنة، وهذه حرفة قديمة العهد حُفِظَ سرها للآن، وفوقها منازل كانت لنواب البلاد، وهم أصحاب المراكز الأولى في حكم البندقية، ولكن قسمًا منها آل بالإرث إلى أربابه وقسمًا خصَّ بالملك يقيم فيه حين يأتي هذه المدينة، وفي الساحة المذكورة برج قديم بُنِيَ سنة ١٣٢٩ لأجراس الكنيسة صعدنا إلى أعلاه على طريق مبلَّط لا دَرَجَ له، وهو في عرض مترين يدخل النور إليه من نوافذ وكوى صغيرة، ولمَّا بلغنا القمة رأينا الجزر عشرات ولمنظرها تأثير في النفس، قيل إن نابوليون الأول صعد أعلى هذا البرج ممتطيًا جواده، وفي طرف الساحة برج قديم لساعة فلكية، ومع أنها تخرَّبت فما زال فيها أمر غريب، فإنه يظهر من خلف البناء عبد بيده مطرقة يضرب بها المواقيت، وفي الساحة أسراب الحمام يُقال إنهم كانوا في أيام جمهورية البندقية يطلقونها من الكنيسة للساحة في أحد الشعانين ابتهاجًا وفرحًا، وكان لها مرتبات، وهي إلى الآن تأوي هذه الرواقات فإذا دقَّت الساعة موعد الظهر اجتمع الحمام لالتقاط الحبوب التي تُنثر له في الساحة المذكورة.
وفي آخر الساحة من الشرق كنيسة مار مرقس قيل إن عظام هذا القِدِّيس نُقِلَتْ من الإسكندرية ودُفِنَت فيها سنة ٨٢٨، وهي مبنية على شكل الكنائس الشرقية (البيزانتية) لها هيكل في داخلها بُني في الشرق، وهي من أقدم الكنائس أُنْشِئَت في القرن التاسع وأُدْخِلَ فيها نحو خمسمائة عمود ما بين كبير وصغير، وكلها من الرخام الشرقي فيها من أشغال الفُسَيفساء مثل ما في كنيسة آيا صوفيا في الآستانة، وتُقدَّر مساحتها بخمسة وأربعين ألف قدم، وفيها من الأواني الذهبية كالصلبان والمراوح والمباخر القديمة شيء كثير يعدُّ كنوزًا يباهون بإظهارها للطالبين، ويوصل من هذه الكنيسة إلى دار الدوجات، وهي قديمة العهد أُنْشِئت في القرن الثامن، ومن غرائب بنائها أنها قائمة على ١٠٧ أعمدة، منها ٣٦ عمودًا صُفَّت الواحد بعد الآخر في الدور الأول، وفوقها هذا العدد في الدور الثاني، وذلك في طول واجهة القصر على مسافة ٨٢ مترًا، وهم لما تهدَّم منها شيء أعادوه إلى مثل حالته الأصلية، فدخلنا في قاعاتها الواحدة بعد الثانية، وهي كثيرة العدد والزخارف، أهمُّها القاعة التي كان الأمراء والدوجات يقابلون فيها سفراءهم ومندوبي الأجانب، وقد نُقِشَ على جدرانها وسقفها صور زيتية دينية تمثِّل حوادث الإنجيل والتوراة حتى إنك لتفهم منها ولادة المسيح وحياته وصَلبه وارتفاعه، أو قصة يوسف مع إخوته وإبراهيم وولده، وفيها أيضًا صور تاريخية تمثِّل حياة الدوجات في كل أدوارهم، وقِسْ على ذلك.
وأحسن أشكال النزهة في هذا البلد أن يدخل المرء زورقًا من الزوارق المبنية على الطراز الحربي القديم؛ فإنها مستدقَّة طويلة، ورأسها ومؤخِّرها مرتفعان يسمُّونها جوندولا ولها مقاعد في الوسط مغطَّاة لوقاية الجالسين من الشمس والمطر، وهي تمخر في الترعة العمومية، فيرى المرء على الجانبين منازل وقصورًا بنى بعضها الدوجات وبعضها بناه نواب المملكة، وقد فطن لها جماعة من الأميركان الموسرين فاشتروا بعضها واعتزلوا فيها الأشغال، حتى إن السر هنري لايارد السياسي والأثري الإنكليزي المشهور اشترى قصرًا منها لم يزل لورثائه. ومن المتنزَّهات المعدودة في زمن الصيف أنه يجتمع مئات من هذه الجوندولات أو الزوارق في هذه الترعة ويحتشد الناس فيها أزواجًا وأفرادًا معهم آلات الطرب، أخصها النوع المعروف بالماندولين (القيثار) يغنُّون ويطربون، ويأتي بعض الناس لهذه الغاية من البلاد المجاورة في الليالي المقمرة، ونظرًا إلى كثرة الجزر المتباعدة فهم عندهم بواخر صغيرة تمخر كل نصف ساعة بين البلد وهذه الجزر، منها جزيرة ليدو وهي جيدة التربة فيها حدائق غَنَّاء وأشجار غُرِسَتْ صفوفًا على شاطئ البحر، وهناك حانات وملاهٍ صيفية وترامواي توصل إلى الحمامات البحرية يجتمع فيها خلق كثير، فزيارة هذه الجزيرة يعدُّها الغريب من أجمل النزهات؛ لأنه يتأمل منها حسن موقع فنسيا خصوصًا من جهة البحر، ويُقال مثل هذا عن جزيرة ثانية تُسمَّى موارنو فيها قسم بكير من معامل الزجاج الملون، وهم يعملون منه المرائي المعروفة ويحيطونها ببراويز من البلُّور ملوَّنة بألوان مختلفة، وقد وقفنا أمام الصُّنَّاع وهم يفعلون ذلك، ويظهرون الزجاج كالخيط أو كالشعر في طول متر وأكثر، ويصنعون من خيوط هذا الزجاج أدوات ومنسوجات كأنها صُنِعَتْ من القطن، وأزرارًا للقمصان أو دبابيس للبرانيط، كل ذلك وأنت واقف أمامهم تتفرَّج، هذا أهم ما يمكن أن يُذكر عن فنسيا. ولتاريخها لذة وفائدة ما بعدهما لذة كما يعلم القارئون، وقد برحتها قاصدًا مدينة فلورانس، والمسافة بينهما ثماني ساعات، فقام القطار يمرُّ في ولاية توسكانا المشهورة، ووقف في عاصمتها بولونيا الواقعة في أهمِّ مركز حربي؛ فلهذا وضعوا فيها لواء من الجيش يقيم في حصونها، وهي مَبْنِيَّة في منبسط من الأرض عند أسفل جبال الألب ويلتقي فيها عدة أنهر وهي أيضًا مركز أسقفية، ومع أن سكانها لا يزيدون عن مائة وثمانين ألفًا، فإن فيها ١٣٠ كنيسة، وهذه حالة أكثر مدن إيطاليا أو كلها في كثرة الكنائس.
فلورانس
لم تكن هذه المدينة شيئًا يُذْكَر قبل أن قام فيها رجل يُدْعَى جيوفاني دي ميديسي، مؤسس الدولة التي حكمت هذه البلاد واشتُهرت في أوروبا، وخلفه ابنه كوزيمو سنة ١٤٣٤ الذي أدخل إصلاحات شتى، حتى إن الأهالي لقَّبوه بأبي الوطن، ثم خلفه ابنه بيترو سنة ١٤٦٤ وتلاه سنة ١٤٩٦ لورنسو الذي لُقِّبَ بالعظيم؛ لأنه وجَّه الفكر إلى إنشاء المدارس وتعليم الفنون اللطيفة، وأهمها فن التصوير حتى صارت فلورانس على عهده المستودع العام لبيع الصور، ولها الفضل الأكبر على متاحف أوروبا، كما أنَّ لمدارسها الفضل على اللغة الطليانية؛ لأنها أصلحت قواعد نطقها وكتابتها وما زال الفلورانسيون حتى يومنا هذا يحسنون التكلُّم باللغة الطليانية أكثر من بقية أهل إيطاليا.
أما فلورانس الحالية فاسمها عند الطليان «فلورانس الجميلة»، يشطرها نهر أرنو الصغير ويرى المتجوِّل فيها جبال الألب العظيمة عن بُعْدٍ تتقدَّمها تلال بهيَّة على مقربة من المدينة، وهي الضواحي التي اشتُهرت عنها، فيها قصور عظيمة للموسرين من الأهالي والأجانب ولا سيَّما الإنكليز؛ فإنهم يستوطنون هذه الضواحي بعد اعتزال الأشغال حتى إن الملكة فكتوريا قضت زمنًا في أحد هذه القصور، وقد مهَّدوا في هذه التلال شوارع معوجَّة متعرِّجة طولها أربعة أميال وعرضها ستون مترًا، يرى المتجوِّل فيها بالعربة مناظر بديعة تتنوَّع في كل أوانٍ من صفوف الأشجار وأشكال الحدائق، فيرى المدينة من دونه وهو سائر في هذه التلول. والمتنزَّه الآخر في طرف البلد يُدْعَى كاشبني طوله بضعة كيلومترات وصفوف الشجر إلى جانبيه والماء يتدفَّق من بِرَكِهِ الكثيرة، ومنظر حدائقه الصغرى بديع، والموسيقى تصدح فيه كل يوم، فهو من أعظم متنزهات أوروبا عامَّة ويظنُّه بعضهم معادلًا للشان إليزيه في باريز.
وقد أكثرت في سياحتي هذه من ذكر المتاحف والآثار القديمة وما يقرب منها حتى خشيت أن يملَّ القارئ؛ فلهذا أُضْرِبُ هنا صفحًا عن بعضها وأَقْتَصِرُ على ذكرِّ ميدان واحد يُعْرَفُ بميدان السنيورة — أي السيدة — فيه تمثال كوزيمو الأول من عائلة ميديسي وقصره القديم بُنِيَ في القرن الثاني عشر، ترى على جدرانه شعار الأحزاب القديمة من حزب جلفه شعاره النسر، وحزب ميديسي شعاره البندقية، وقد قام من حزب جلفه أمراء وملوك عظام لهم شهرة في التاريخ، وأهم فروعهم ملوك هانوفر الذين صاروا بعدئذٍ ملوك إنكلترا، والملكة فكتوريا آخر الملكات من هذا البيت. وأما آل ميديسي فذكرهم أشهر من نار على علم؛ لأنهم اختلطوا بأكثر العائلات المالكة في أوروبا، وقام منهم سيدات حكمن مملكة فرنسا زمانًا في القرون الوسطى وعُرِفْنَ بالذكاء والاقتدار، وعلى مقربةٍ من هذا القصر رواق قديم قائم على عُمُدٍ من الرخام، كانوا في القرن الثالث عشر يقيمون فيه الاحتفالات لرئيس الجمهورية وزوجته؛ فتركنا هذا المكان وذهبنا إلى متحف أوفيسي الذي أُسِّسَ في القرن الخامس عشر على ضفة النهر للصور الزيتية، جمعوها قرنًا بعد قرن مدة خمسة قرون، فلمَّا ضاق بها هذا الموضع بُني دهليز طويل من هذا المكان إلى الضفة الأخرى سِرْنَا به حتى إذا وصلنا إلى الجانب الآخر ذهبنا إلى قصر بيتي، وقد سُمِّي باسم أمير اشتُهر بمقاومة آل ميديسي في القرن الرابع عشر، ولكنهم فازوا عليه واستولوا على هذا القصر وأقاموا فيه، وهو الآن مِلْك حكومة إيطاليا يقيم فيه الملك الحالي حين يزور هذا البلد فدخلناه من باب كبير، وصعدنا إلى الدور الأعلى، أهم ما فيه القاعات وفيها خمسمائة صورة زيتية، ويتبع هذا القصر حديقة بوبولي سُمِّيَتْ باسم أمير من آل ميديسي وأُنْشِئَتْ في القرن الخامس عشر فوق مرتفعات تشرف على البلد، ولمَّا عُدْنَا في الغد إلى ميدان المداما ومشينا في شارع كالسايولي رأينا بعض السياح يسيرون حثيثًا، وعلمنا من التُّرجمان الذي كان معنا بأنهم يقصدون المنزل الذي وُلِدَ فيه دانته الشاعر الإيطالي المشهور؛ فسرنا معهم لزيارته، ورأينا على باب البيت لوح رخام كُتب عليه: «إن الشاعر دانته ولد في هذا البيت»، وليس يُؤجر البيت ولكنه يدخله السائحون بدفع فرنك فيجمع صاحبه من هذا الرسم مالًا وفيرًا، وفي غرف المنزل كتب قديمة استعملها ذلك الشاعر المجيد، ثم سرنا إلى متحف الآثار المصرية تجد بينها تمثال الآلهة هاتور تُرْضِعُ الملك الطفل هور مهب وُجِدَ في الأقصر بالصعيد، وما زلت أتردَّد على متنزَّهات فلورانس حتى جاء موعد السفر فبرحتها وقمت إلى رومية والمسافة بينهما ثماني ساعات في سكة الحديد.
رومية
هي عاصمة الرومان وكرسي مملكتهم من قِدَمٍ مرَّت عليها أعوام كانت فيها سيدة الممالك وحاكمة العالم المتمدِّن، وقام فيها أقيال الرومان العظام وقُوَّادهم وفلاسفتهم وقياصرتهم، واجتمع فيها كبراء كلِّ الممالك المعروفة في الزمان القديم بعضهم أسرى وبعضهم تجار أو طلاب علم، فما سادت مدينة وشادت كما سادت مدينة رومية هذه في أيام صولتها. وتاريخها القديم من ألذِّ فصول التاريخ وأكثرها فائدة للعالمين، لم نتعرَّض لذكره؛ لأننا لم نُجْمِل غير تاريخ الممالك الحديثة في هذا الكتاب، ولكننا نذكِّر القارئ هنا أنَّ رومية بُنِيَت سنة ٧٥٣ قبل التاريخ المسيحي، وكان بانيها روملوس قيصرها الأول، وظلَّت هي سيدة المدائن الإيطالية وقاعدتها إلى سنة ٨٠٠ بعد المسيح، حين تُوِّجَ شارلمان إمبراطورًا للغرب على مثل ما ورد في تاريخ فرنسا، وصارت المدينة من ذلك العهد مقرًّا لبابوات الكنيسة الكاثوليكية، وما زالت حتى الساعة مركز الملك والرئاسة الدينية معًا، وكانت رومية القديمة محاطة بسور عظيم لا يقلُّ طوله عن ١٢ ميلًا، وله ٣٧ بابًا يخرج منه الجنود ويدخلون، واشتُهرت من قِدَم برحباتها الفسيحة وشوارعها الكبرى التي كان القُوَّاد العظام يعرضون فيها على الرومانيين غنائمهم ودلائل انتصارهم في الحروب، فكم من ملك وأمير قاده الرومان في تلك الشوارع أسيرًا ذليلًا، وكم من كنز ثمين ومُلك عظيم غَنِمَه أهل رومية وتاهوا به فخرًا ودلالًا في تلك العصور، حين كانت هذه المدينة سيدة الأرض وأهلها لا يقلُّون عن مليونين وخمسمائة ألف يُعَدُّون أمراء الزمان وحكام الممالك وموالي الأمم في مشارق الأرض ومغاربها وأصحاب العز العظيم.
وقد بُنِيَتْ رومية الحديثة موضع المدينة القديمة على تلال عشرة، فهي كثيرة المرتفعات والمنخفضات في أسواقها وشوارعها، وهي لا تبعد عن البحر غير ١٣ ميلًا، ولكن ميناها شيفيتا فيكيا ليست بذات أهمية؛ لأن العاصمة قريبة من مدينة نابولي، ولها ارتباط بداخلية البلاد من كل جانب بواسطة سكك الحديد، وعدد سكانها الآن نصف مليون.
ولا حاجة إلى القول إن أشهر ما في رومية قداسة البابا، ومقره، وجلالة الملك ومركزه. فأمَّا البابا فمقرُّه في الفاتيكان، وهو حيٌّ من أحياء المدينة قائم بنفسه فيه القصور والكنائس والحدائق والمنازل، صار مقر البابوات من بعد رجوعهم من أفنيون في فرنسا في القرن الخامس عشر، وكان البابوات يزيد الواحد منهم بعد الآخر في قصور هذه الجهة ومحاسنها حتى بلغ عدد الغرف في هذه الدائرة العظيمة عشرة آلاف غرفة، وقد أتاح لنا الحظ زيارة الفاتيكان، ورأينا على الباب حرسًا سويسريًّا ما زال أفراده يُنْتَقون من أهل سويسرا ويلبسون الملابس المزوَّقة بالألوان الباهرة على مثل ما كان الحرس يلبس في الأيام القديمة. ودخلنا القصر فرأينا قاعات رفائيل المصوِّر العظيم حيث كان يشتغل بالهندسة والرسم مع تلاميذه، وأَطَلْنَا النظر في هاتيك الصور البديعة التي تشغل جوانب كثيرة من القصر، ولها قدر في العيون وقيمة؛ لأن مصوِّرها أبرع مَن اشتُهر بهذا الفن اللطيف إلى الآن، وأكثرها صور دينية كما تعلم. والذي يزور متحف الفاتيكان يلزم له أيام وأسابيع حتى يرى نفائسه ويدرك مقدار قيمته؛ فقد رأيت هنالك من النقوش والتماثيل وقبور القياصرة والآثار العظيمة المختلفة الأشكال ما يعجز القلم عن وصفه، أذكر منها تمثال أوغسطس قيصر وُجِدَ سنة ١٨٦٣، وتمثال النيل من الرخام، وهو عبارة عن بلاطة جميلة حُفر عليها ١٦ صبيًا دلالة إلى أذرع النيل في زمن فيضانه، وغير هذا من الآثار شيء كثير. ولا يخفى أن الفاتيكان مركز العالم الكاثوليكي، وأنَّ الزوار يأتون هذه المدينة من كلِّ الأقطار ليروا آثارها وكنائسها وليحظوا برؤية قداسة البابا إذا أمكن، وهم يرونه حين يحضر للصلاة مرارًا معلومة في السنة، ويمكن لوجهاء الناس أن يقابلوه مقابلة خصوصية بعد المخابرة والاستئذان، ولكن يُشْتَرط على المرأة أن تغطِّي رأسها برداء أسود ولا تلبس في يديها الكفوف (القُفَّاز).
ولمَّا كان هذا مركز رومية في العالم الكاثوليكي صار لكنائسها شهرة عظيمة وقيمة كبرى، وأشهر هذه الكنائس — بل هي أشهر كنائس الأرض طرًّا وأوفرها قيمةً وأكثرها تحفًا وآثارًا نفيسةً — كنيسة مار بطرس الكبرى المعروفة، بُنيت سنة ١٥٠٦، وما انتهى العمل منها إلا بعد مائة عام من ذلك التاريخ، واشتغل في الرسم والنقش لها رفائيل وأنجلو اللذان ذكرناهما قبل. وقد سُمِّيَت باسم القديس بطرس؛ لأنه دُفِنَ في هذا الموضع، وبنى الأقدمون كنيسة صغيرة من الخشب فوق قبره ثم، شُيِّدَتْ هذه الكنيسة العظيمة موضع الأولى، وطولها ١٨٧ مترًا والعرض ١٣٧، ومحيط قُبَّتها ٤٢ مترًا، وهي مشهورة بهذه القُبَّة المرتفعة، وقد أُحيطت القبة بأربعمائة تمثال من الحجر، طول الواحد منها ٢٥ قدمًا، وهي يراها الناس من صحن الكنيسة، وإذا وقف المرء حول سياجها رأى الناس في أرض الكنيسة صغارًا؛ نظرًا إلى علوِّه الكثير، وقد وضعوا في صحن هذه الكنيسة قياسًا يُعْلَم منه اتساع الكنائس الكبرى في الأرض، وهاك بيانها:
متر | |
---|---|
١١٠ | طول كنيسة آيا صوفيا في الآستانة. |
١٢٨ | طول كنيسة مار بولس في رومية (خارج السور). |
١٣٦ | طول كنيسة ميلان. |
١٥٩ | طول كنيسة بولس في لندن. |
١٨٧ | طول كنيسة بطرس الكبرى. |
هذا في الاتساع، وأمَّا في العلو فبعض الكنائس تزيد عن هذه الكنيسة العظيمة، وأشهرها كنيسة كولون في ألمانيا وكنيسة روين في فرنسا وكنيسة ستراسبورغ في الألزاس، وقد قامت هذه الكنيسة على عُمُدٍ وركائز عظيمة الضخامة، وفيها تمثال القِدِّيس بطرس الرسول جالسًا إلى قاعدة من الرخام في يده اليسرى مفاتيح السماء، وهو رافع يده اليمنى يبارك بها على الطريقة الشرقية، وقد تقدَّم القول إن الرسول بطرس دُفِنَ في أرض هذه الكنيسة، وهنالك دُفِنَ كثار غيره من البابوات والكاردينالية، وخرستينا ملكة السويد دُفِنَت سنة ١٦١٩ بعد اعتناقها المذهب الكاثوليكي. فالمرء حال دخوله هذه الكنيسة يشعر بمهابة ووقار، ولكن الفائدة لا تتمُّ للمرء إلا إذا أكثر من التردُّد فإنه في كل مرة يرى ما لم يره من قبل؛ لأن هذه الكنيسة وغيرها من الكنائس الشهيرة بُنِيَتْ يوم كان الدين أهمُّ شأنًا منه في العصر الحالي، وليس في الإمكان الآن جمع الملايين للقيام ببناء كنائس كالموجودة في رومية وغيرها، فضلًا عن كثرة عددها في كل مدن أوروبا وخصوصًا في إيطاليا وروسيا، وأمام هذه الكنيسة فسحةٌ قائمٌ في وسطها تمثال بطرس وبولس ومِسَلَّة مصرية من الصوَّان الأحمر بأعلاها صليب وبجانبها رواق إهليلجي له أربعة صفوف من الأعمدة يبلغ عددها نحو ثلاثمائة، تخرقها دروب وفي أعلاها تماثيل كثيرة للقِدِّيسين.
ومن هذا القبيل كنيسة يوحنَّا ده لاتران، بُنيت على أحد التلال، وهناك مِسَلَّة نقلها قسطنطين الكبير من هليوبوليس — أي مدينة الشمس عند مصر — إلى الإسكندرية، ثم نقلها ابنه قسطنطينوس إلى رومية، وقد لا يخلو تلٌّ أو ميدان في رومية من مِسَلَّة مصرية نقلها قياصرة الرومان، وكنيسة ماري ماجيور فيها من الأواني الذهبية ما يبهر البصر، وأشهر منها كنيسة مار بولس خارج السور، فإنها من بدائع الزمان قائمة على ٨٥ من الأعمدة الضخمة الصوانية الوردية اللون، وتيجانها من الرخام الأبيض ينشرح الصدر من رؤيتها ولها خمسة أروقة، منها الرواق القائم على هذه العمد بأعلاه صور جميع البابوات بهيئتهم الطبيعية صُفَّت صفوفًا وزُخْرِفَتْ بالفسيفساء، وفيها عشر نوافذ كبيرة من الزجاج الملوَّن عليها رسوم القِدِّيسين والملائكة، وهي على ما يُقال أجمل من كنيسة مار بطرس، وليس فيها مقاعد أو كراسيُّ مثل بقية كنائس رومية، بل هم يقفون فيها أو يركعون لسماع الصلاة.
قلنا إن روميَّة خالية من المتنزَّهات والميادين والشوارع العظيمة مثل التي في العواصم الكبرى، ولكن فيها متنزَّه البنشيو وميدان الكيرينال على أحد التلال به قصر الكيرينال المشهور، كان مسكنًا للبابوات فاهتمَّ كلٌّ منهم بزخرفته وعلى نوعٍ أخص قداسة البابا بيوس التاسع؛ فإنه أنفق عليه المبالغ الطائلة، والقصر الآن مسكن ملك إيطاليا منذ سنة ١٨٦٠، ويتصل بميدان الكيرينال هذا شارع فكتور عمانوئيل في قلب البلد، فيه الفنادق والحوانيت، وفيه عمود الإمبراطور تراجان من قياصرة الرومان العظام، علوُّه ٤٣ مترًا، وفي أعلاه تمثال هذا القيصر تذكارًا لانتصاره على الداكيين، وقد دُفِنَ تحت العمود المذكور، ولكن البابا سكستوس الخامس وَضَعَ مكانه تمثال القديس بطرس. والعمود المذكور أثرٌ جليلٌ حُفِظَ على حالته هذه من أيام الرومانيين، وهو من الرُّخَام لُبِّس بالبرونز وحُفِرَ عليه من أسفله إلى أعلاه ٢٥٠٠ رسم تمثِّل الرجال والسلاح القديم والخيل والوقائع الحربية، وفي جوف هذا العمود سُلَّم لولبي له ١٨٢ درجة يدخل لها النور من ٤٣ نافذة نُقِبَتْ في جوانبه.
ومشاهد رومية كثيرة لا أقدر على عدِّها كلها هنا، منها الحمَّامات التي بناها قياصرة الرومان، مثل نيرون ونيطس وكاركلَّا، في الحمَّام الواحد منها كثير من المغاطس والأجران والبرك، فيها مياه سخنة وباردة وبخارية، وكلها من الرخام الطلياني النقي يسع الواحد منها ٢٥٠٠ مستحمٍ في وقت واحد، وهناك بُنِيَت القاعات للتكبيس والتعطير، وأُنْشِئَتْ الحدائق والألعاب الرياضية، وفي رومية أيضًا آثار الملاعب الأولى بُنِيَتْ على شكل مستدير (أمفتياتر) وُضِعَتْ فيها المقاعد بعضها فوق بعض صفوفًا متوالية، منها ملعب مارشلَّس كان يضمُّ ٤٠٠٠٠ وملعب سكاروس ٨٠٠٠٠، وكان الرومانيون القدماء يطلقون الوحوش في هذه الأماكن ويتفرَّجون من مقاعدهم على قتالها أو مصارعة الرجال لها، وكثيرًا ما كانوا يلقون الذين اعتنقوا الديانة المسيحية للوحوش في هذا الموضع فتفترسهم وتقطِّع أجسامهم والمتفرِّجون يُسَرُّون لعذابهم ولا يتأثرون، وما زال في العاصمة آثار الفوروم — وهو البارلمان الروماني — وقصور القياصرة وهياكل للمعبودات، مثل جوبيتر والزهرة والمشتري، وهم كلما وجدوا أثرًا ينقلونه إلى المتحف، دخلناه فرأينا فيه قبور القياصرة من الرُّخام عليها نقوش بارزة تشير إلى وقائعهم الحربية وتاريخ حياتهم في الحروب، ويُرى في أطراف المدينة بقايا أقواس النصر التي أقامها القياصرة، وقِسْ على ذلك من آثار عظمة رومية الأولى وبقايا أصحابها السابقين.