الولايات المتحدة

figure
خريستفوروس كولمبوس مكتشف أميركا.

خلاصة تاريخية

كانت القارَّة الأميركية برُمَّتها من مجاهل الأرض عند الساكنين في بقية الأنحاء إلى أن قام المكتشف العظيم خرستوفر كولومبو في أواسط القرن الخامس عشر وأذهل باكتشافها العالمين. وقد وُلِدَ هذا الرجل العظيم في عام ١٤٣٦ في مدينة جنوا من مدائن إيطاليا، وكان والده صاحب معمل للنسج. وأمَّا هو فعُرِفَ من أول عهده بحبِّ السفر وخوض البحار حتى إذا كثرت معارفه وزاد ميله إلى السفر البعيد خطر له أن يصل الهند من ناحية البحار الغربية، وجعل يفكر في ذلك زمانًا ويحسب ألَّا بدَّ من وجود أرض في الطريق لم يصلها سواه، فطلب من حكومة بلاده أن تعينه على اكتشاف تلك الأرض ولم يلقَ منها قبولًا، ثم قصد حكومات البورتوغال وفرنسا وإنكلترا، فكان نصيبه منهنَّ الإعراض حتى إنه طرق باب الحكومة الإسبانية وملكها يومئذٍ فردناند والملكة إزابلَّا، فرضيا بطلبه وأمرا بإعداد سفن قليلة تسير في عرض البحار تحت أمره، فقام من شطوط إسبانيا في ٧ أوغسطس من عام ١٤٩٢، وبعد سفر ٦٥ يومًا بلا انقطاع، ومعاناة متاعب شتى وصل جزائر الهند الغربية مثل كوبا وسان سلفادور، وهو الذي أطلق عليها هذا الاسم؛ لأنه ظنَّها جزءًا من بلاد الهند المعروفة، وعاد كولومبو بعد هذا الاكتشاف إلى إسبانيا، فأكرمت وفادته وعُيِّن واليًا على الأرض التي اكتشفها، ثم عاد إليها في سياحة ثانية وظلَّ يروح ويجيء ما بين إسبانيا وتلك الجزر حتى اكتشف القارَّة الأميركية بنفسها في رحلته الرابعة عام ١٥٠٢ عند شطوط فنزويلا في أميركا الجنوبية.

وكثر الكارهون للمكتشف العظيم بعد اشتهار أمره حتى إنه حُرم لذَّة اكتشافه، فمات حزينًا والناس لا يعرفون قدره، وتوافد المكتشفون على أميركا من بعده وكان في جملتهم ربَّان اسمه أميركو عُرِفَ باكتشاف مصبِّ نهر الأمازون في بلاد برازيل وسُمِّيَت القارة كلها باسمه، وظلَّ الناس بعد ذلك في اكتشاف حتى عرفوا جوانب القارَّة الأميركية كلها في زمان قصير، وكان للدولة الإسبانية القسم الأوفر منها ولا سيما في القارَّة الجنوبية ما خلا بلاد البرازيل؛ فإنها ملكتها البورتوغال وظلَّت في قبضتها زمانًا.

وكان الهولانديون والفرنسويون والإنكليز يومئذٍ في بدء قوَّتهم فأخذوا يملكون الأراضي الأميركية، وكان معظم أملاك الإنكليز في شمال الولايات المتحدة وإلى شمالهم الفرنسويين في بلاد كندا وإلى الجنوب منهم الهولانديون، ولكن الإنكليز حاربوا هاتين الأمَّتين وانتصروا عليهما، فصارت كندا ونيويورك وأكثر الولايات المتحدة من أملاكهم، ثم تقهقرت الدولة الإسبانية فاستقلَّ معظم البلدان الأميركية التي كانت خاضعة لها وانفصلت بلاد البرازيل عن دولة البورتوغال، وصار للقارَّة الأميركية شأن عظيم.

أمَّا الولايات المتحدة فإنها ظلَّت تحت حكم إنكلترا إلى سنة ١٧٧٦ حين هبَّت للثورة، ومعظم سكانها يومئذٍ مهاجرون من بلاد الإنكليز ساءهم أنَّ حكومة بلادهم قرَّرت عليهم ضرائب فادحة، ولم تنظر إلى بعض مطالبهم؛ فأرسلوا إليها يطلبون أن يكون لهم نُوَّاب في مجلس الأمة الإنكليزية يناضلون عن حقوقهم أسوةً بالإنكليز الذين تطلب منهم الضرائب والرسوم، فامتنعت حكومة إنكلترا عن إجابة هذا الطلب وزادت الضغائن بين الطرفين حتى اجتمع نواب الأميركيين من الولايات كلها، وهي في ذلك الحين ثلاث عشرة ولاية وقرَّروا محاربة الدولة الإنكليزية والانفصال عنها وتأسيس حكومة مستقلَّة وجعلوا جورج واشنطن الشهير قائد جنودهم، ومن ثَمَّ دارت رَحَى الحرب، وكان النصر في أكثر مواقعها للأمير كان وساعدتهم فرنسا على الإنكليز، ففازوا بالاستقلال المرغوب وأسَّسوا جمهورية مستقلَّة كان رئيسها الأول جورج واشنطن الذي ذكرناه، وسنُّوا نظامًا بديعًا لبلادهم هو على حاله إلى اليوم، وسنعود في فرصة أخرى إلى بيانه.

ورقيت الولايات المتحدة بعد استقلالها مراقي العز والفلاح، وفتحت أبوابها للراحلين والمهاجرين من كل بلاد حتى تقاطر إليها الألوف والملايين فعمروا البلاد واستدرُّوا خيرها، وزادوا قوة البلاد وعظمتها في عهد قريب حتى إن هذه الجمهورية العظيمة اشترت من فرنسا ولاية لويزيانا في الجنوب بعد استقلالها بقليل — أي سنة ١٨٠٣ — واستولت على فلوريدا وهي في الجنوب أيضًا عام ١٨١٨، وعلى تكساس وكالفورنيا ومكسيكو الجديدة عام ١٨٤٦، وكانت كلما ملكت أرضًا تجعلها ولاية مثل بقية الولايات المتحدة حتى عمَّ شأن البلاد، وزاد عدد سكانها زيادة عجيبة، فإن عددهم لم يزد أول القرن الغابر عن خمسة ملايين، وصار ١٢ مليونًا في سنة ١٨١٣، و٢٣ مليونًا في سنة ١٨٥٠، و٣٥ مليونًا في سنة ١٨٦٦، و٥٠ مليونًا في سنة ١٨٨٠، وهو الآن لا يقلُّ عن ٨٥ مليونًا، منهم ٧٧ مليونًا من أصل أوروبي، و١٦ من العبيد و٦ من الهنود الأصليين، ومعظم العنصر الإفرنجي في أميركا من أصل إنكليزي، فأفراد هذا الجنس الآن نحو ٣٥ مليونًا، ومعهم ١٥ مليونًا من أرلاندا و١٣ من ألمانيا و٥ من فرنسا، و٤ من إسبانيا و٥ من أجناس أخرى.

figure
جورج واشنطن أول رئيس لجمهورية أميركا.

وفي الولايات المتحدة الآن أكثر من مائتي ألف ميل من السكك الحديدية، منها الخط الذي يوصل نيويورك بسان فرانسيسكو على شاطئ الباسيفيك، وهو يخترق القارة الأميركية من الشرق إلى الغرب مسافة ٣٥٠٠ ميل أو خمسة أيام ونصف يوم متوالية في القطر المستعجلة.

وتحاربت الولايات المتحدة وإنكلترا مرَّتين بعد الاستقلال كان النصر فيهما أكثره للأميركان. وفي سنة ١٨٦١ نشبت في البلاد حرب أهلية هائلة دامت ٤ سنوات بين أهل الولايات الشمالية والولايات الجنوبية، بسبب أن أهل الشمال أرادوا إبطال النِّخاسة واستعباد البشر وخالفهم أهل الجنوب لكثرة ما عندهم من مزارع القطن والسكر والعبيد، فتحارب الفريقان حربًا يذكرها معظم كبراء الأميركان إلى الآن، ففاز أهلُ الشمال بعد أهوال جمَّة، وأُلْغِيَ الاستعباد من تلك البلاد الحرة، وقد اشترت الولايات المتحدة بعد هذه الحرب بلاد ألاسكا من روسيا وحاربت إسبانيا سنة ١٨٩٨ ففازت، وظهر للملأ اقتدارها، وهي اليوم أغنى دول الأرض بلا مراء، ولها قوة تحاكي قوة أعظم الممالك الأوروبية، وشأن في الخافِقَين عظيم.

وقد توالى الرؤساء على هذه الجمهورية من بعد استقلالها، فكان أولهم جورج واشنطن وتلاه آخرون أهمهم إبراهام لِنْكون الذي حدثت الحرب الأهلية السابقة الذكر على عهده. والرئيس يُنْتَخَبُ مرة كل ٤ سنوات، كان راتبه في أول الأمر ٥ آلاف جنيه في السنة، ثم صار ١٠ آلاف وهو الآن ١٥ ألفًا، واسم الرئيس الحالي تافت والرئيس السابق روزفلت، وكلاهما من أعاظم الرجال، وقد زادت قوات أميركا البحرية في الزمان الأخير حتى إنها أصبحت الثانية بين دول الأرض في قوة أساطيلها، ولكن جيشها البري قليل الأهمية، وأمَّا صناعة هذه البلاد وتجارتها فإنهما نمتا نماءً هائلًا عجيبًا كما نما السكان في عددهم حسب البيان الذي ذكرناه.

المعرض الأميركي

لمَّا اشتُهرت مصر وسارت في سبيل الحضارة والارتقاء بعد الذي فعله ولاتها العِظَام من آل محمد علي باشا، صارت الدول العظمى تنظر إليها وتعدُّها في مصافِّها عند كل حادثة علمية أو تاريخية كبرى، ولا سيما من بعد أن فُتحت ترعة السويس على عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وما كان من احتفاله الباهر بافتتاحها؛ فإنه كما يعلم الجمهور فاق الأوائل والأواخر في السخاء على الاستعداد لتلك الحادثة المشهورة، ودعا إليها ملوك الزمان، وأعدَّ لهم فوق الذي يليق بأهل الأُبَّهة والسلطان، فجاء هذا القطر السعيد ملوك عظام في مقدِّمتهم إمبراطور النمسا وإمبراطورة فرنسا السابقة — نريد بها أوجيني أرملة نابوليون الثالث — وجاء الأمراءُ الفخام مثل ولي عهد السلطنة الإنكليزية، والوزراء النائبون عن بقية الملوك، فزادت شهرة مصر زيادة كبرى، وجعلت الدول من بعد ذلك الحين تدعوها إلى معارضها ومؤتمراتها، فهي دُعيت رسميًّا لمعرض باريس العام سنة ١٨٦٧ ولمعرض فيينَّا الذي تلاه. ولمَّا أقامت دولة الولايات المتحدة معرضًا عامًّا في مدينة فيلادلفيا عام ١٨٧٦ احتفالًا بمرور مائة عام على استقلالها — كما ترى في الخلاصة التاريخية — كانت مصر في عِدَاد الدول المدعوَّة؛ فصدر أمر إسماعيل باشا الخديوي بتشكيل لجنة في مصر تعدُّ المعدات اللازمة للقسم المصري في ذلك المعرض، وكان رئيس اللجنة توفيق باشا الخديوي السابق — رحمه الله — وهو يومئذٍ ولي عهد الخديوية المصرية؛ فجمعت هذه اللجنة شيئًا كثيرًا من الأبضعة المصرية والحاصلات الطبيعية، كسنِّ الفيل وريش النعام والصمغ وخشب الأبنوس والسنمكة والخرتيد من السودان، ومصنوعات فضية كالصواني وعلب السجارة وظروف وفناجين وأطباق وسلال قش من عمل السودانيين. وأخذت من محصولات مصر قطنًا وغلالًا على أنواعها، وأخذت من المتحف المصري مثالًا للأهرام بديعًا وبعض الحلي والآثار الثمينة، ووُضِعَتْ هذه كلها مع حاصلات البلاد ومصنوعاتها في صناديق عِدَّتها مائة وخمسون، على أن تُرسل إلى المعرض الأميركي، فلمَّا انتهت من ذلك صدر الأمر بانتخاب رجال ينوبون عن البلاد المصرية في ذلك المعرض وترسل معهم تلك التحف والرواميز، فوقع الانتخاب على دانينوس باشا وبروغش باشا وكاتب هذه السطور، وورد علينا كتاب من دولتلو نوبار باشا ناظر الخارجية في ذلك الحين يعلننا بالانتقاء لهذه المهمة بأمر من سموِّ الخديوي، ويشير علينا بالإسراع في السفر إلى الولايات المتحدة حتى نكون في المعرض يوم افتتاحه في أول مايو سنة ١٨٧٦، فصدعنا بالأمر ومَثَلْنَا بين يدَي الخديوي فأوصانا بالاجتهاد وإتقان شكل المعرض المصري؛ حتى يكون من ورائه شهرة لمصر ومقام مذكور، ثم تشرَّفنا بمقابلة ولي عهده توفيق باشا، وهو رئيس اللجنة التي مرَّ ذكرها فسُرَّ بانتقائنا لهذه المهمة، وسأَلَنا أن نُرْسِلَ إليه كل أسبوعين تقريرًا عن المعرض وشئونه، وأعطانا رسمه الكريم فخرجنا من لدن الأمير وولي عهده معجبين، وبدأنا بالاستعداد للسفر بدون إمهال.

وتركنا مصر وجِهتنا الإسكندرية، ومنها ركبنا باخرة من بواخر الشركة الإنكليزية الشرقية في ٨ نوفمبر سنة ١٨٧٥، وكان ذلك أول عهدي بالسفر إلى الغرب، فعسر عليَّ أمره لا سيما وأنه كان في فصل الشتاء حين يكثر البرد القارس في جهات أوروبا وأميركا، ويشعر به الذي يعرف شتاء مصر اللطيف. ووصلنا مدينة برندزي في إيطاليا بعد سفر أربعة أيام، فخرجنا من السفينة إلى قطار كان في انتظار الركاب والبريد لينقله إلى لندن، فقام بنا القطار يمرُّ حينًا على المين الإيطالية الواقعة على بحر الأدرياتيك، مثل أنكونا، وحينًا يوغل في داخل البلاد ويمرُّ بمدائن مشهورة، مثل فوجيا وإسكندرية وبارما حتى وصل بعد ثلثي ساعة إلى مدينة تورين، وهي من مدائن إيطاليا الزاهرة ترى وصفها ووصف غيرها في باب إيطاليا من هذه الرحلة، وقمنا من تورين على عَجَلٍ إلى مدينة باريس في قطار سريع يسير بين الجهتين، ويخترق جبال الألب المشهورة، ويدخل في نفق تحت الأرض نَقَبُوه لهذه الغاية عند جبل سيني. فلمَّا وصلنا حدود فرنسا عند مدينة مودان خرجنا من القطار الإيطالي إلى قطار فرنسوي جعل يخترق الهضاب والبطاح، ويمرُّ بالأراضي العامرة، مثل بلاد شامبيري وماكون وديجون حتى وصل باريس بعد سفر ٢١ ساعة.

وقمنا من باريس في قطار سريع (إكسبرس) إلى حدود فرنسا لنبحرَ منها إلى بلاد الإنكليز، فلمَّا أتينا فرضة كاليه، وهي أقرب المين الفرنسوية إلى إنكلترا دخلنا باخرة تسير في بحر المانش وشعرنا في الحال بصعوبة السفر في ذلك البحر المزيد الطامي وله شهرة ذائعة في كثرة أمواجه وعلوها؛ لأنه خليج قليل عرضه حُصِرَ بين بحرين واسعين، فهو آفة المسافرين من بلاد الإنكليز وإليها، أصابنا فيه الدوار الشديد كما يصيب سوانا حتى أتينا على آخره ورست الباخرة على مينا دوفر في بلاد الإنكليز، فخرجنا من الباخرة إلى قطار أُعدَّ على الشاطئ وسِرْنا به إلى مدينة لندن فبلغناها في اليوم السابع من مبارحة الإسكندرية، ورأينا على المحطة فيها جناب المستر تيلر قنصل أميركا السابق في مصر، فرحَّب بنا ودعانا إلى منزله في ويتشموند، وهي من ضواحي لندن.

وفي اليوم التالي رأينا المرحوم الطيب الذكر سليم بسترس — وكان لنا معه علاقات وداد — ففرِحَ بوصولنا وسُرَّ لمأموريتنا، ودعانا إلى منزله الفخيم في شارع الملكة. وَسَرَتْ أيام قليلة علينا في لندن أخذنا بعدها تذكرة السفر إلى نيويورك في باخرة من بواخر شركة كيونارد — ومقرها في لفربول — فسافرنا من لندن في يوم كثر ضبابه واشتدَّ برده إلى درجة جعلتني أفكِّر في مصر وسمائها الصافية وهوائها العليل، حتى إذا وصلنا مدينة لفربول سرنا إلى الباخرة توًّا وقمنا إلى أميركا في ٢٧ نوفمبر سنة ١٨٧٥، فلمَّا وصلت بنا إلى كوينستون وقفت قليلًا لتأخذ ما يُرسل إلى هذه الفرضة من بريد لندن، ثم عادت تمخر في عُبَاب البحر، ولا وقوف من بعد ذلك الموضع حتى تستقرَّ في مينا نيويورك، والمسافة بين الجهتين ٣٠٠٠ ميل، وكان يوم سفرنا من بلاد الإنكليز إلى أميركا جميلًا، والهواء معتدلًا فلم نلقَ عناءً كبيرًا. ورأينا في أثناء المسير دخانًا يصعد من تحت الماء وبخارًا يخرج من البحر، فعرفنا أنَّ ذلك من بركان تحت الماء وحرارة في داخل الأرض، وكان من أمر بعض النوتية أنهم ألقوا أدلية في الماء وانتشلوها ملأى بماء حميم، كلُّ هذا مع أنَّ الماء بارد في هاتيك النواحي، ويزيد برده في جهات «نيوفوندلاند»، حيث يجمد الماء وتطفو منه على وجه البحر قطع كبرى إذا اصطدمت بها البواخر لحِقَ بها أذى كبير، وأصحاب السفن يحذرون شرَّها ويحسبون لها فوق حسابهم للأنواء والعواصف، وظللنا على مثل هذا الحال إلى اليوم السابع حين خيَّم الغَسَقُ وملأ الضباب جوانب الأفق، فتعذَّر على باخرتنا المسير، فأمر الربَّان بأن تسير الباخرة على مهل، وجعل يطلق الأسهم النارية في الفضاء والمدافع أيضًا تحذيرًا للسفن القادمة من الاصطدام وتنبيهًا، فكان من وراء ذلك اشتغال بالنا زمانًا بهذا الأمر حتى إذا خلصنا منه وظهر نور الشمس، هاج البحر وعَلَتْ أمواجه فتأمَّلتها ووجدتُّها أشدَّ هولًا من أمواج البحر المتوسط، وهي تختلف عنها في أنَّ لونها قاتم، والفترة بين الموجتين طويلة وأمَّا البحر المتوسط فإن أمواجه أصغر ولون مائها ضارب إلى الزُّرْقة، وهي سريعة التوالي موجة بعد أخرى، وظلَّ البحر في هياج كهذا يومين كاملين، ونحن تارة نصعد مع الباخرة فوق الماء كمن يرتقي جبلًا وطورًا ننحطُّ كأنما نحن في وادٍ أو حضيضٍ، حتى إننا لمَّا فررنا من هذا الهول إلى غرف النوم وعوَّلنا على تناسي الموج جعلنا ننقلب من هنا ومن هنا، ونكاد في بعض الأحيان نهوي من السرير بسبب ميل السفينة مع الأمواج ميلًا شديدًا، ولكن الأزمة فرجت في اليوم الحادي عشر من هذا السفر حين علمنا أننا صرنا على مقربة من أميركا، وخرجنا إلى ظهر الباخرة نتفرَّج فإذا نحن تجاه الشطوط الأميركية، وقرب فرحنا في تلك الساعة من فرح كولومبو مكتشف هذه القارة. وكان أول ما رأيناه من العالم الجديد منارة جزيرة فاير، ثم بعد أن سرنا ثلاث ساعات دخلنا خليج ساندي هوك، وسارت الباخرة إلى أنْ دخلت ما بين جزيرة ستاتن وجزيرة أخرى اسمها لونغ آيلند، وبعد حين ظهرت مدينة بروكلين، وهي ملاصقة لنيويورك إلى جهة اليمين يفصل بينهما نهر، ثم ظهرت مدينة جرزي، وهي أيضًا ملاصقة لنيويورك إلى جهة الشمال، فهي مثل الآستانة يرى القادم إليها هاتين المدينتين كما يرى الداخل إلى الآستانة قاضي كوي إلى اليمين وبرنكبو إلى الشمال.

نيويورك

في اليوم الثامن من شهر ديسمبر سنة ١٨٧٥ استقرَّ النوى بالباخرة، وألقت رَحْلها في مينا نيويورك، وكان ذلك بعد قيامنا من الإسكندرية بشهر كامل، وهو زمان طويل لو يذكر القارئون. ولكن طرق السفر والإسراع تقدَّمت في هذه الأعوام الأخيرة حتى صار الوصول من مصر إلى نيويورك ممكنًا في ١١ يومًا فقط، وحين خرجنا من السفينة إلى الجمرك وأراد عماله أن يفتِّشوا ما معنا من الأمتعة أعلمناهم بالمهمة التي كُنَّا فيها، وأبرزنا الأوراق اللازمة فرحَّبوا بنا ترحيبًا وسهَّلوا طرق الخروج، ومن ثَمَّ استأجرنا عربة توصلنا إلى الفندق الذي اخترنا النزول فيه، وهو «ففث أفنيوهوتل»، وهو إلى اليوم من أكبر فنادق هذه المدينة العظيمة وأفخمها وأوفرها استعدادًا، فلمَّا صرنا إليه طلب منا مديره أن نسجِّل أسماءنا والجهات التي قدِمْنَا منها حسب العادة المتَّبعة في أكثر الفنادق المعروفة، ثم سألنا أن ندخل غرفة ظنَنَّا أنها لراحة المسافرين، فدخلناها ورأيناها مفروشة بالرياش الكامل، وفيها الكراسي والطنافس والسجف والمرايا وغيرها، حتى إذا جلسنا فيها تحرَّكت من نفسها وصعدت بأكملها إلى الأدوار العليا من البناء، فعلمت حينئذٍ أنها الآلة الرافعة التي يستغنون بها عن الدرج، وكان ذلك أول عهدي بهذه الآلة واسمها الأسنسور أو «لفت» في لغة الأميركان والإنكليز، وفي فنادق العاصمة المصرية اليوم منها أشكال بديعة، وهي من اختراعات الأميركان، نقلها عنهم أهل أوروبا وشاع استعمالها على ما تعلم، وبعد أن غيَّرنا الملابس في غرف النوم نزلنا إلى قاعة رحيبة واسعة الجوانب أُعدَّت لموائد الطعام، وقد وقف من حولها الخادمون بأنظف الملابس وعدتهم ستون من العبيد الأميركان، فبدأنا بالأكل ورأينا اختلافًا عن فنادق أوروبا في النظام، فإن الفنادق الأوروبية يجوز في أكثرها للسائح أن يأكل أينما أراد، وأمَّا في فنادق أميركا فالمرء يدفع أجرة اليوم بأكمله، ولا بدَّ له من الأكل فيها، غير أنهم قد سهَّلوا ذلك على الناس فجعلوا للفطور وللغداء وللعشاء أوقاتًا يمكن معها للأكثرين أن يحضروها، فإن فطور الصبح يمكن تناوله هنالك من الساعة السادسة في الصباح إلى الساعة العاشرة، والغداء من الظهر إلى ما بعده بساعتين، والعشاء من الخامسة بعد الظهر إلى السابعة أو من السابعة إلى التاسعة. وتمتاز فنادق أميركا عن فنادق الأوروبيين الآن في أنَّ أكثرها يأكل فيها الواحد الأصناف التي يختارها من كشف يُقدَّم إليه، وفيه جميع الألوان والمسافر، يدفع المطلوب عن الأيام التي يقيمها في الفندق ويستريح من دفع الذي يدفعه في الفنادق الأوروبية ثمن الشمع أو الخدمة أو غير هذا، ومما ينقده للخادمين على سبيل «البخشيش»؛ فإن الرجل قد يدفع في أوروبا إلى هؤلاء الخادمين رسومًا على مثل ما ذكرنا تقرُبُ في قيمتها مما يدفعه إلى أصحاب الفنادق ثمن الطعام وأجرة النوم، أمَّا المطاعم الأميركية فإنها على نَسَقِ المطاعم الأوروبية.

وقد بدأ الأميركان من عهدٍ ليس ببعيد باستخدام البنات للخدمة في المطاعم، فعمَّ هذا النظام في أكثر المحلَّات المشهورة، وصار ذلك مزيَّة لفنادق الأميركان ومطاعمهم وداعيًا إلى التشويق والإتقان. وتمتاز فنادق الأميركان أيضًا في أنَّ أهل البلاد يجعلونها مساكن للعائلات أكثر من سواهم، وفي مدائن الولايات المتحدة عائلات كثيرة تسكن في الفنادق، وتُؤْثر ذلك على استئجار البيوت وإدارتها، ولو أن فيه زيادة في الإسراف. وفنادق الأميركان كاملة العُدَّة فيما يلزم لراحة النازلين فيها من الحمَّامات ومواضع الغَسْل والحلاقة وغير ذلك، وفي غرف النوم رفوف مرتفعة قليلًا تُوضَع عليها الصناديق والأمتعة ولا تُرْمَى في الأرض، وفي ذلك حرص على الشيء نفسه من التلف وعلى راحة المسافر؛ لأنه إذا فتح صندوقًا له لم يتكلَّف الانحناء إلى الأرض ولم يجد مشقَّة، وفي أكثرها آلات من الخشب تنزع الأحذية من الرِّجل بدل أن تتعب الأيدي بها، وأمور أخرى تدلُّ على انتباه الأميركان وإتقان أعمالهم. وفي «الففث أفنيو هوتل» هذه أولادٌ نجباء يلبسون الكساوي المميزة لهم عن سواهم، وهم تعيِّنهم البلدية لقضاء الأغراض وإيصال الرسائل من الفندق إلى أنحاء المدينة بأجرة تُقدَّر على نسبة المسافة التي يسيرونها.

وكنا قد أتينا بكتب إلى بعض الوجهاء أكثرها توصيات، ومنها كتاب إلى والد المستر تيار الذي مرَّ بك ذكره، وهو من أصحاب الملايين الكثيرة، وله منزل في ففث أفنيو حيث أُقيم الفندق الذي كنا فيه، وهو أحسن شوارع المدينة وأبهاها، وجاء على أثر قدومنا كثيرون من مكاتبي الجرائد طلبوا مقابلتي لأخبرهم ما أعلم عن مصر وحصتها في المعرض العام فحدَّثتهم بما يريدون وانثنوا وهم يشكرون، ثم جعلوا يكتبون عن القسم المصري في المعرض وعما سيكون من غرابته أمورًا شتى، ولا سيما إذا ذكروا أنه سيكون فيه آثار بالغة في القِدَمِ تشهد باقتدار أمة نَمَتْ وعظمت من خمسة آلاف عام، في حين أن بلادهم لم يمر على استقلالها وبدء عظمتها غير مائة عام.

ولا بدَّ من إفراد قسم من هذا الكتاب لوصف نيويورك، فأقول: إن تاريخها يقرب من تاريخ الولايات المتحدة كلها أو بعضه؛ فقد قيل إن أول مَنْ وطأ أرضها السنيور فرازاني في سنة ١٥٢٤، ولكن المعروف أنَّ إنكليزيًّا اسمه هدسن كان من عمال الشركة الهولاندية، جاء النهر الشمالي الذي يحدُّ نيويورك من جهتها الغربية ومعه بعض السفائن الهولاندية، وقد سُمِّي النهر ومصبه باسمه إلى هذا اليوم فرُفِعَ عليها العَلَمُ الهولاندي في سنة ١٦٢٤، وكان أول حاكم هولاندي عليها رجلًا اسمه بيتر منوي اشترى تلك الأرض التي بُنِيَتْ عليها المدينة من أصحابها الهنود الأصليين بخمسة جنيهات، وسمَّاها أمستردام الجديدة على اسم المدينة الكبرى في بلاده. وتوالى على نيويورك الحكام الهولانديون بعد مَنْ ذكرنا إلى سنة ١٦٥٠، وهي لا يزيد عدد سكانها يومئذٍ عن ألف نفس أكثرهم يشتغلون بتجارة الخشب والغراء، والهنود يتهددونهم من كل جانب حتى جاءها الإنكليز في سنة ١٦٦٤ واحتلوها وملكوها، وقائد جنودهم يومئذٍ الكولونيل نيكولسون سماها نيويورك باسم الدوك أوف يورك، الذي صار فيما بعد الملك جيمس الثاني، وكان امتلاك الإنكليز لهذه المدينة فاتحة الإقبال على الولايات المتحدة؛ لأنها مفتاح البلاد ودليل خيرها الوافر وربوعها الواسعة، فتوافد عليها الألوف من كل جانب، ولا سيما من إنكلترا وأرلاندا وتفرَّقوا في جوانب البلاد فعمروا المدائن العظيمة، مثل بوسطون وفيلادلفيا، وهي كلها من المدائن العامرة، فلمَّا رأت الحكومة الإنكليزية أنَّ البلاد التي ملكتها حديثًا بلغت هذه الدرجة من الأهمية عنيت بتنظيمها وتقسيمها ١٣ ولاية، وكان من أمرها ما كان إلى أن استقلَّت في ٤ يوليو من سنة ١٧٧٦ على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وكان لمدينة نيويورك النصيب الأوفر في المحاربة والاستقلال، فتحها واشنطن عنوة وطرد الإنكليز منها فكان ذلك داعيًا إلى خروج الجنود الإنكليزية من البلاد كلها.

ونيويورك هذه تعدُّ جزيرة؛ لأنها واقعة بين نهرين يجعلانها كثيرة الطول قليلة العرض، أحدهما نهر الشمال غربًا وثانيهما نهر الشرق شرقًا، ولها الآن مينا جميل وافر الاتساع يكفي للعدد العديد من السفن التي تصله وتقوم منه كل يوم، طوله ثمانية أميال وعرضه يقرب من خمسة، وهو يمثِّل ما وصلت إليه التجارة البحرية في هذه الأيام من اتساع النطاق، فإن نيويورك أول أساكل الولايات المتحدة وأكبر مراكزها التجارية تقرب تجارتها من ثُلُثَي تجارة البلاد كلها، فقد لا يقلُّ عدد السفن التجارية التي تزورها سنويًّا عن عشرة آلاف، وهي فوق هذا مركز المهاجرة إلى الولايات المتحدة، والمهاجرة من أهَمِّ الأمور هنالك؛ لأن البلاد ما عُمِرَتْ إلا بالملايين التي جاءتها من كل صقع وصوب، ولا يقلُّ عددهم عن نصف مليون نفس كل سنة وأكثرهم يقيمون فيها زمانًا ثم يضربون في مناكب الأرض ويتفرَّقون منها في جوانب البلاد؛ ولذلك زاد عدد سكانها زيادة مدهشة ولا سيما بعد أن ضُمَّت إليها مدن بروكلين ولونغ آيلند، ومن عهد ليس بعيد أُضيف إليها بعض البلاد المجاورة فأصبحت مساحتها ٣٢٦ ميلًا مربعًا، وسكانها أربعة ملايين، فهي المدينة الثانية في العالم. ولنيويورك مَزِيَّة خصوصية على بقية المدن المشهورة بعلوِّ بناياتها المؤلَّفة من ١٨ طبقة إلى ٣٠ طبقة، ويُقال إنهم يقيمون الآن أعظم ما فيها من الأبنية، فيه ٤١ طبقة وعلوه ١٨٦ مترًا، وفيه أربعة آلاف غرفة للنوم وللجلوس، وفيه المطاعم والمخازن والقهاوي ودوائر تجارية، والبناء على العموم يضمُّ ٦٠٠٠ نسمة يشتغلون ويأكلون ويشربون وينامون ويجدون كلَّ ما يحتاجونه كأنهم في مدينة، ومساحة أرضه أربعمائة ألف قدم مربع، وستكون قيمته مليونَي جنيه.

figure
نموذج بناء في نيويورك يسع ٦٠٠٠ نسمة.

وفي نيويورك ٣٤٤ فندقًا، منها ٥١ يسع الواحد منها ٦٠٠ شخص، وفيها ٩٨ مرسحًا للتمثيل و٢٦ غابة وحديقة للنُّزْهَة، وسكك الحديد الداخلية تنقل أربعة ملايين راكب في كل يوم، ولا أزيد القارئ علمًا بثروة الأميركيين، بل إنِّي أذكر واحدًا منهم — وهو روكفلر — إيراده فيما يُقال يزيد عن ٤ ملايين جنيه في السنة، وأغنياؤهم يبذلون المال في الأعمال النافعة، مثل مساعدة المدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية، فإن روكفلر وهب في سنة واحدة — وهي سنة ١٩٠٧ — نحو ٤٠ مليون ريال، والست ساج ١٣ مليونًا، وكرنجي ٨ ملايين، والست جنيش ٥ ملايين، وقِسْ على ذلك. ولنساء الأميركان الأغنياء ولعٌ يقرب من الجنون بإنفاق الأموال على الملابس وغيرها، ذكر سنكلير — وهو عالم خبير بهذه الأمور — أنَّ السيدة منهنَّ تصرف على جلباب حرير مطرَّز من الزي الباريزي نحو ٣٠٠ جنيه، وتعمل له قبعة تلائمه بمبلغ ٥٠ جنيهًا، وقبعات الربيع بنحو مائتي جنيه، وتشتري الحذاء من جِلْدِ الأيائل وأزراره من صَدَفِ اللؤلؤ بعشرين جنيهًا، وملابس لحفلات الرقص مزخرفة بالفضة على أشكال الزهور ولها ذيل مرصَّع بالجواهر ثمنها ١٢٠٠ جنيه غير ما عليها من الجواهر، وتدفع ثمن المنديل عشرة جنيهات، وثمن الجوارب الحريرية عشرة جنيهات، وثمن مظلَّة قبضتها ذهب ولؤلؤ خمسين جنيهًا، وبعضهنَّ يلبسن الثوب مرة أو مرتين ثم يهملنه، وقد قَدَّرت ثمن الحلي على إحدى السيدات بخمسين ألف جنيه وهي ذاهبة لحفلة رقص وكان معها أحد رجال البوليس السري يحرسها بالذهاب والإياب. ولمَّا اشتُهرت ثروة الأميركان في أوروبا جعل كل ذي لقب برنس ولورد وكونت وبارون يطلب الاقتران بأميركية، فمنهم اللورد كرزون والي الهند السابق، والدوك أوف مارلبرو، والمستر شامبران، والديوك أوف مانشستر، وغيرهم من الإنكليز تزوَّجوا الأميركيات، هذا غير سراة الفرنسيس والألمان والمجر وسواهم من الذين تزوَّجوا بنات الأميركان، حتى قيل إن المبالغ التي اكتسبتها أوروبا من المثريات الأميركيات لا تقلُّ عن خمسين مليونًا من الجنيهات.

وقد خُطِّطَتْ شوارع نيويورك الأصلية من الشرق إلى الغرب تقطعها شوارع أخرى على زوايا قائمة، فتجعل منظر الطرق الكبرى متشابهًا يضلِّل الغريب لولا أن لها نِمَرًا فوق كل منزل أو باب تدلُّ عليه، ونُمِّرت الشوارع من واحد إلى ما فوق، فما على الغريب إلا أن يطلب عدد الشارع، فإذا وصله رأى نمرة المنزل على اليمين أو على الشمال وهي طريقة بسيطة يسهل حفظها على الغريب. وقد بدأت التفرُّج على هذه المدينة من شارع وول وأوله عند البحر، ولشارع وول هذا أهمية؛ لأن به الأعمال المالية الكبرى، وفيه الأبنية العظيمة، أذكر منها البورصة، وهي بناء فخيم من المرمر، دخلناها مع بعض الأصدقاء وسمعنا فيها من الغوغاء ورأينا من الحركة ما يعسُرُ وصفه، فإنهم قدَّروا أنَّ قيمة الذي يُباع في هذه البورصة من أسهم السكك الحديدية وحدها تبلغ مليون جنيه في كل يوم، ولاحظت هنالك لأول مرة أن كثيرين من الأميركان يمضغون الدخان مضغًا، وقد وُضِعَتْ لهم براميل صغيرة في زوايا القاعة ليبصقوا بها، وأذكر أيضًا بناءً عظيمًا لأعمال التأمين على الحياة وفي داخله ١٥٠٠ عامل، وإلى القرب منه مصارف ومحلات تجارية كبرى فيها من الحركة التجارية ما يشهد لهذه المدينة بالتقدُّم في مضمار الأعمال المفيدة.

ويلي هذا في الأهمية شارع عظيم اسمه برودواي أو الطريق العريض، وهو طويل يمتدُّ مسافة خمسة أميال على خطٍّ واحدٍ، وفيه عمارات عظيمة عمومية، أذكر منها محل البوسطة وفيها ٢٥٠٠ عامل وخَلْفَها المجلس البلدي والمحكمة التي أنفقوا على بنائها وزخرفها نحو مليونين وأربعمائة ألف جنيه، وقد سِرْتُ في هذا الشارع واجتزتُ نحو ميلين بين صفوف البناء الفخيم حتى بلغتُ المكتبة العمومية التي بناها آل إستور الكرام، وملئوها بنفائس المؤلَّفات ومفيد الكتب، وأنفقوا عليها حوالي ثلاثمائة وأربعين ألف جنيه، وهم من العائلات العريقة في المجد الوافرة اليسار في أميركا، تُقَدَّرُ ثروتهم الآن بنحو ستين مليون جنيه أو تزيد، وتُعَدُّ من أغنى العائلات في الدنيا، وكان عدد الكتب في هذه المكتبة يوم زرناها ٢٨٠ ألف كتاب، وعدد الذين يدخلونها للمطالعة والبحث عما يفيد ٧٠ ألفًا في السنة.

وإلى مقربةٍ من هذا الشارع طريق الأشْرَاف والسراة ومقر آل اليسار والنعمة — نريد به «ففث أفنيو» الذي ذكرناه — وفيه الفندق الذي اخترنا النزول فيه مدة إقامتنا بمدينة نيويورك، وفيه ميدان ميدسون حيث أُقيمت التماثيل لعظماء الأميركان وقُوَّادهم، منهم أمير البحر فاراجوت والجنرال ورث، والمستر ستورت الذي كان وزير الخارجية مدة الحرب الأهلية، وواصلنا المسير من هذا الشارع إلى شارع ٥١، وفيه كنيسة قديمة يتبعها أرض زادت قيمتها زيادة فاحشة بعد أن تقدَّمت المدينة وَعَلَتْ أسعار أرضها، فباعوا جانبًا منها بأربعمائة ألف جنيه أنفقوه على تجديد بنائها. وإلى جانبها بيت آل فاندربلت، وهم من أغنى أهل الأرض، وقد عُني ببناء هذا القصر جد المستر فاندربلت الحالي، وهو الذي جَمَعَ المال كله وأورثه لابنه وبناته، وكنت قد رأيت هذا الرجل في الصعيد وتعرَّفْتُ به لمَّا ساح في مصر، فوددتُ مقابلته ولكنني علمت أنه غائب فوقفتُ أتأمَّل بيته وتلك الزخارف المدهِشَة التي أنفق الرجل عليها بعض ملايينه.

وظللتُ على المسير حتى وصلتُ الحديقة العمومية، وهي في عُرْفِ الأكثرين من أجمل حدائق الأرض، تبلغ مساحتها ٤٨٠ فدانًا، وقد جاء في كتاب بادكر أنه صَرَفَ عليها ثلاثة ملايين جنيه، فلا عَجَبَ إذا كانت جنة زاهرة وروضة باهرة تحيي بجمالها النفوس وتختلب بمحاسنها العقول، ذلك مع أنها كانت قبل غَرْسِهَا مستنقعًا تضرُّ روائحه بالأبدان، فصيَّرها المال وهمَّة الرجال جنة تجري من تحتها الأنهار، وهي يُدخل إليها من ٢٠ بابًا، فيها أربعمائة فدَّان غُرِسَتْ بباسق الأشجار ولطيف الأزهار، و٤٣ فدانًا يتدفَّق منها الماء ما بين جداول وبحيرات تَسْحَرُ الأنظار وبقية أرضها طرق مرصوصة بالحصى أو شوارع فسيحة بعضها للعربات، وطولها عشرة أميال، وبعضها لراكبي الخيل وطولها ستة أميال وبعضها للمارَّة على الأقدام وطولها ثلاثون ميلًا، وفي قسم منها القناطر البديعة بُنِيَتْ لوقاية الناس من المطر فإذا زُرْتَ الحديقة في أحد أو عيد رأيتَ ما ترقص له القلوب طربًا من اجتماع الجمال الطبيعي بجمال الصناعة، والتقيت بألوف وعشرات الألوف من المتفرِّجات والمتفرِّجين في هاتيك الطرق البهيَّة، والموسيقى تعزف بالألحان، والناس ما بين راكب وماشٍ يسمعون وينظرون، وآخرون في قوارب بديعة الصنع تجري فوق ماء البحيرات البهية، وآخرون في المطاعم أو فوق الكراسي بين أدغال الحديقة وأزاهرها والكلُّ في نعيم يمرحون، وعند باب الحديقة معرض ومسلَّة مصرية هي التي أهداها الخديوي إسماعيل باشا للجمهورية الأميركية، ونُقِلَتْ من مصر على نفقة المستر فاندربلت الغني الذي سبق ذكره، وقد كنت واقفًا في الإسكندرية يوم جاء المهندس الأميركي ونَزَعَ هذه المسلة من موضعها، وهي من أيام الملك توتميس الثالث، أَمَرَ بصُنْعِهَا قبل المسيح بنحو ١٥٠٠ سنة، وعليها الكتابات الهيروغليفية بهذا المعنى، ثم زاد الملك رعمسيس الثاني اسمه عليها بعد ثلاثة قرون — أي في أيام موسى النبي — وهي تبلغ ٦٩ قدمًا في طولها، ووزنها مائتا طونلاتة، بلغت نفقات نقلها إلى نيويورك عشرة آلاف جنيه؛ لأنه صُنِعَ لها أدوات خاصة بها وباخرة قامت لهذا الغرض.

وأمَّا المتحف الذي أشرْتُ إليه فلم يكن يوم زيارتي له بالشيء الذي يُذْكَر، بل إن فيه رسومًا وصورًا تقلُّ كثيرًا في العدد والقيمة عما في متاحف أوروبا؛ وسبب ذلك واضح هو أن متاحف الأميركان جديدة لم تمر عليها الأعوام حتى يجتمعَ فيها مثل ما في متاحف أوروبا من النفائس، ولكن القوم ذوو أَنَفَة وغَيرة إذا قيل لهم إن في أوروبا شيئًا أحسن مما عندهم أثَّر ذلك فيهم؛ ولهذا فهم جمعوا مالًا طائلًا بالاكتتاب لمتحف نيويورك واشتروا له بنحو مليونَي جنيه في مدة عشرين سنة ما يفتخر به كل أميركي، وعُدْتُ إلى فندق في قطار سكة الحديد الذي يسير فوق الأرض، وهم يبنون لذلك القناطر العظيمة قائمة على عُمُدٍ من الحديد متوالية الوضع فتسير القُطُر فوقها والناس من تحتها في حركتهم وأعمالهم، فهم في هذا يخالفون نظام الإنكليز الذين يبنون سكك الحديد في لندن تحت الأرض ونظام الأميركان أصلح للمسافرين لا يضطرُّهم إلى استنشاق الهواء العفِن تحت الأرض ولا يحرمهم منظر الأرض التي يسافرون فيها، ولكن نظام الإنكليز أوفق لأصحاب الحركة التجارية ولمنظر الشوارع؛ لأنه لا يشوِّه منظرها ولا يقلِّل سعة الطرق على الساكنين، وقد مُدَّ فوق هذه القناطر ثمانية خطوط للسكك الحديدية تنقل في السنة أكثر من مليونَي نفس في جهات المدينة من مائة وعشرين محطَّة، يقوم ٣٠ قطارًا في كلِّ ساعة، وهي من أملاك المستر فاندربلت المُثْرَى الشهير، يدخل منها ثلاثة آلاف جنيه في اليوم له ولشركائه.

وقد علمتُ أنَّ مدينة بروكلن متصلة بنيويورك، يفصل بينهما نهر، وفوق النهر جسر يُعَدُّ من عجائب هذا الزمان في دقَّة صنعه وغرائب شكله؛ لأنه بُنِيَ بدون قناطر، بل هو معلَّق على قوائم متينة في الطرفين، واسمه الجسر المعلَّق، ولعله أجمل الجسور التي بُنِيَتْ من نوعه إلى الآن، وقلَّ أن تخلو جريدة مصوَّرة أو رحلة من رسوم هذا الجسر ووصف بدائعه، فإن طوله ٥٩٩٠ قدمًا وعرضه ٨٥ قدمًا، وعلوُّه عن سطح النهر ١٣٥ قدمًا، فهو تسير من فوقه العربات على أشكالها والمارَّة على الأقدام وأرتال سكة الحديد، فلا يقلُّ عددُ الذين يمرُّون فوقه في السنة عن أربعين مليونًا، فلا عجب إذا قيل إنه من عجائب هذا الزمان. ولمَّا كان الوصول إلى هذه المدينة لا بدَّ منه لسائح زار نيويورك، فقد قصدناها ودُرْنَا في جوانبها، وتأمَّلنا محاسنها، وزُرْنَا أحدَ الأصدقاء عرفناه في الإسكندرية ثم عُدْنَا إلى الفندق في نيويورك استعدادًا للسفر إلى مدينة فلادلفيا التي أُقيمَ فيها المعرض العام ونُدِبْنَا لحضوره، وكنا نظن أول الأمر أننا سنعاني مشقَّة نَقْلِ الصناديق معنا في السفر، فعلمنا أننا في غِنًى عن ذلك؛ لأننا سلَّمنا هذه الصناديق بإشارة العارفين إلى شركة آدم، وأخذنا منها وصلًا بها، ثم سافرنا وأُرْسِلَتْ تلك الصناديق على يدِ الشركة؛ وعلى ذلك تمَّت مدة إقامتنا في مدينة نيويورك العظيمة. ووصلنا مدينة فلادلفيا بعد سفر يسرُّ الخواطر في داخلية الولايات المتحدة؛ فوجدنا صناديقنا في الفندق الذي قصدناه واسمه أوتل كونتينينتال.

فلادلفيا

بنى هذه المدينة قومٌ من طائفة الكويكرس أو جمعية الأصحاب، وكان ذلك في سنة ١٦٨٢. وأمَّا هذه الطائفة فلها شهرة في أوروبا وأميركا، وإن تكن غير معروفة في القُطْرِ المصري. وهي من الطوائف البروتستانتية، لها أمور كثيرة تمتاز بها عن غيرها من الطوائف، منها أنَّها تحرِّم القسم تحريمًا تامًّا، فلا يُقْسِم أفرادها بالله أو بغيره ولو يكون ذلك في المحكمة، حتى إن إنكلترا اضطرَّت أن تسنَّ اللوائح الخاصة للقَسَمِ في المحاكم ومجلس الأمة بسببهم، وهم يُعِدُّون أنفسهم جماعة السلام، فلا ينتظمون في الخدمة العسكرية ولا يقبلون حربًا ولا يشربون مُسْكِرًا ولا يحفلون بالمراقص والملاهي، ولا يتأنَّقون في الملابس، وقد كان من أشهر رجالهم الوزير جون بريط الحر الإنكليزي المشهور الذي يعدُّه الإنكليز من أكبر أركان النهضة الإنكليزية في العهد الحديث، دخل مع غلادستون في عدة وزارات واستقال من الوزارة عام ١٨٨٢؛ لأنه لم يوافق زملاءه على محاربة مصر. وأفراد هذه الطائفة لا يعرفون للأشهر وأيام الأسبوع أسماء، بل هم يقولون اليوم الأول للأحد والثالث للثلاثاء والسادس للجمعة وقِسْ على ذلك. ويعرفون الأشهر بنمرها أيضًا، فيقولون الشهر الأول والشهر الخامس بدل يناير ومايو، وفي ذلك مزيَّة لهم مشهورة. وهم يختلفون عن كلِّ طائفة من الطوائف النصرانية في أنهم لا يعتدُّون بالمعمودية وتناوُلِ العشاء الربَّاني أو الاشتراك، ولهم شُهْرَة صحيحة في الصِّدْقِ والشهامةِ والمحافظة التامَّة على مبادئ الشَّرَفِ والشهامة، فليس بين أهل الأرض كلها أناس أَشْهَر منهم في الفضيلة والصدق، ذلك حقٌّ يعترف به لهم كل العارفين، وهم ذوو بساطة في معيشتهم وعبادتهم لا ينفقون المال على الزخرف الفاني، ولا يشربون الخمور ولا يؤمُّون مواضع الرقص والطرب. والناس في إنكلترا وأميركا إذا قلت لهم إنك كويكري عدُّوا ذلك دلالة كافية على سموِّ آدابك.

هذا مُجْمَل الذي يُقَال عن طائفة الكويكرس التي أَسَّسَتْ مدينة فلادلفيا والولاية الملتفَّة حولها، وقد سُمِّيت الولاية بنسلفانيا باسم المستر بن رئيس هذه الطائفة في ذلك الحين، وسُمِّيت المدينة فلادلفيا، ومعنى الاسم «بلد المحبة» إشارةً إلى مبدأ الذين أسَّسوها، وكان ذلك في سنة ١٦٨٢ على ما علمت. وتوارَدَ الناس على هذه المدينة فعَمَرُوها، ولكنها ظلَّت بلا امتياز بلدية حتى سنة ١٧٠١، وكان عدد سكانها يومئذٍ ٤٥٠٠٠ نفس فقط، فجعلت تنمو وتتقدَّم حتى صار عدد الساكنين فيها الآن فوق مليون وربع مليون من النفوس، وأصبحت ثالثة مدن الولايات المتحدة في الأهمية التجارية، وأوَّلها في الأهمية الصناعية؛ لأنها تمتاز الآن عن مدن أميركا كلها بكثرة ما فيها من المصانع والمعامل. ولهذه المدينة موقع بديع؛ لأنها بُنيت في سهل فسيح بين نهرين، هما نهر دلوار ونهر سكولكل، ولها شُهْرَة في اتساع المجال؛ فإن طولها ٢٢ ميلًا وعرضها لا يقلُّ عن خمسة أميال، وأكثر منازلها ذات طبقتين، وقلَّ أن تزيد عن أربعة، فهي من هذا القبيل أنْسَبُ لسكن العائلات وأفضل من حيث الشروط الصحية من كلِّ مدينة كبرى تكثر فيها طبقات البناء. ولما أسَّس المستر بن هذه المدينة جعل شوارعها أسماء تنطبق على ما كان فيها من الأشجار، فأحسن طرقها الآن تُعْرَفُ باسم شارع البندق أو شارع الكرم أو شارع الصنوبر وغير هذا. وفي المدينة أربعة ميادين كبرى تُعْرَفُ بأسماء: واشنطن وفرانكلن ولوجان ورتنهوس، وكلُّ شوارعها فسيحة جميلة واضحة النِّمَر لا يضيع فيها الغريب. وفي فلادلفيا مركز إدارات سكك الحديد الكبرى ولثَغْرِها أهمية كبرى؛ لأنها واقعة على الأوقيانوس الأتلانتيكي، ولها خطوط عظيمة من البواخر البحرية تمخر بينها بين بقية البلدان، وأخصُّها إنكلترا وفرنسا وممالك الشرق الأقصى.

ولا بدَّ أن يسأل القارئ عن السببِ الذي حَمَلَ حكومة الولايات المتحدة، بعد أن تمَّ مائة عام على استقلالها، على جَعْلِ هذه المدينة مقرَّ الاحتفال بذلك العيد العظيم، ومركزَ المعرض العام الذي بُنِيَ لهذه الغاية، فنخبره أنَّ هذه المدينة كان لها اليد الطولي في حرب الاستقلال المشهورة؛ لأن الجمعية التي قرَّرت محاربة إنكلترا في ذلك الحين عُقِدَتْ في فلادلفيا، وهنالك وقَّع نواب الأميركان على قرار الاستقلال رسميًّا في ٤ يوليو من سنة ١٧٧٦، وهو اليوم الذي يعتبره الأميركان في كل زمان ومكان يوم عزِّهم وبدء حياتهم، ويجعلونه عيدهم الوطني الأكبر، ولمَّا انتخب القائد جورج واشنطن رئيسًا أول للجمهورية الأميركية بعد استقلالها كان مركزه ومركز الجمعية العمومية في هذه المدينة أيضًا، وظلَّ الحال على مثل هذا حتى بُنِيَتْ مدينة واشنطن، وهي العاصمة الحالية، ونُقِلَت الإدارة إليها في سنة ١٧٩٧، ولم يزل المنزل الحقير الذي أُمْضِيَ فيه قرار الاستقلال في فلادلفيا على حاله، والأميركان يحتفظون به ويعدُّونه أجلَّ آثارهم، وفيه أدوات استُعْمِلَتْ في ذلك القرار، منها الكراسي التي جلس النواب وواشنطن عليها، والمنضدة التي وقَّع فوقها، ومقاعد وبعض الرياش كانت يومئذٍ في ذلك البيت، وأقلام وجرس رنَّ في ساعة مشهورة علامة الإجماع على المناداة بالاستقلال، وعلم كُتِبَ عليه بالإنكليزية عبارة معناها «احذر أن تطأني»، وصور الرئيس والأعضاء الاثني عشر، ورسوم الثلاث عشرة ولاية التي نالت الاستقلال، وغير هذا كثير مما تعدُّه الأمَّة الأميركية كبيرًا غالي الثمن.

وأمَّا مشاهد هذه المدينة العظيمة فكثيرة تستحقُّ الوصف، صحيح أنه ليس فيها ولا في غيرها من مدائن الولايات المتحدة ما يقرُبُ من كنائس أوروبا المشهورة، مثل كنائس رومة وكولون وميلان وستراسبورغ التي مضى عليها مئات من السنين في زيادة وتحسين، ولكن الأميركان كما قلنا أهل حماس وغيرة، وهم يحاولون سبْقَ أوروبا في كلِّ باب ومطلب، وقد أوجدوا من غرائب المشاهد ما ذَكَرْنَا بعضه، ومنه قصر المجلس البلدي في هذه المدينة كله من الرخام الأبيض الجميل، وقد أشْغل بناؤه ١٢٨٠٠ متر، وفيه ٧٥٠ غرفة معدَّة لأعمال المجلس البلدي والمجالس المحلية والاستئناف، ويبلغ ارتفاعه ٥١٠ أقدام، وفوقها تمثال المستر بن مؤسِّس المدينة. ويلي هذا بناء فخيم للماسون أُنفق عليه ثلاثمائة ألف جنيه، ويقول الخبيرون إنه لو بناه غير هذه الفئة؛ لأنفق عليها فوق هذا المال الكثير. ومن هذه المشاهد مركز البوسطة، وهو بناءٌ عظيمٌ من الرخام الأبيض أيضًا بلغت نفقاته مليون جنيه، ومنها مدرسة كبرى تُعْرَفُ باسم مؤسِّسها جيرار ولها شهرة واسعة يقصدها طلَّاب العلم من شاسع الأقطار، وكان المسيو جيرار هذا رجلًا فرنسيًّا رَحَلَ إلى الولايات المتحدة وهو فقير؛ فأثرى وجمع مالًا طائلًا ثم عاد إلى بلاده وهو يُضْمِرُ الخير لأقاربه الفقراء، وقد عَزَمَ على إعطائهم بعض ماله، ولكنه تنكَّر وجاءهم بلباس الفقراء فنَفَرُوا منه وتبرَّءوا من قرابته، ونصحوا له أن يعود إلى حيث أتى، فلمَّا رأى الرجل هذا من أقاربه أظْهَرَ حقيقة أمرِهِ وعَدَلَ عن إمدادهم بالمال، وشعروا بذلك فجعلوا يعتذرون ويتقرَّبون، ولكنه لم يقبل لهم عُذْرًا وأعلنهم أنه عائدٌ إلى حيث أتى، فعاد إلى فلادلفيا وتُوفِّي فيها سنة ١٧٥٠ وتَرَكَ ثروته وَقْفًا لمدرسة بُنِيَتْ وسُمِّيَتْ باسمه، وفيها الآن نحو ألفَي تلميذ، ولا تقلُّ الأموال والعقارات الموقوفة لها عن ثلاثة ملايين جنيه.

ولهذه المدينة حديقة من أكبر حدائق الأرض وأجملها، تبلغ مساحتها ٢٨٠٠ فدَّان، وهي تمتدُّ مسيرة أربعة أميال على ضفَّة نهر سكولكل، ولها بذلك رونق وبهاء كثير، وكنت أتردَّدُ على هذه الحديقة وغيرها من مشاهد المدينة وأنا أستعدُّ للمعرض الذي جئتُ من أجله، فلمَّا رأيتُ أنَّ الفندق الذي كنَّا فيه بعيد عن محلِّ المعرض انتقلتُ إلى منزل أقرب منه إلى المحل المقصود، وجعلتُ أتردَّد على محلِّ اللجنة المفوَّضة بالنظر في أمور العارضين وأبضعة الممالك والولايات، أحرِّر القوائم اللازمة حتى فرغت من الاستعداد وقرب يوم افتتاح المعرض، وَحَصَلَ لي في ذلك المنزل نادرة غريبة وهي أنَّ في كلِّ منزل سلكًا يتصل بإدارة الأولاد السعاة الذين سبق ذكرهم، إذا ضَغَطَ صاحب المنزل أو مَنْ فيه على زرٍّ كهربائي في طرف السلك دقَّ جرس في إدارة السعاة فحضر أحدهم لقضاء المطلوب، وكان عندي كتاب في ذلك اليوم أريد إرساله إلى أحد الأصدقاء فضغطتُ على الزر، ولمَّا أبطأ الساعي في الحضور ضغطتُ مرةً ثانية وثالثة، فما مضى على ذلك زمان حتى رأيت العربات المُعَدَّة لإطفاء الحريق ومعها المضخَّات والطلمبات يسوقُها الرجال المتمرِّنون بملابسهم المعروفة وخوذهم النحاسية جاءوا إليَّ يستعلمون عن محلِّ الحريق، فقلت إنه لم يحصل ذلك على ما أعلم، قالوا إنك طلبتَ أدوات إطفاء النار بالضغط على الزرِّ ثلاثًا وأوضحوا ليَّ حينئذٍ أنَّ الضغط على الزرِّ مرة معناه طلب الساعي، ومرَّتين طلب البوليس لضبط واقعة، وثلاث مرَّات طلب الرجال والأدوات لإطفاء النار، وكان ذلك أول عهدي بهذا النظام.

ويذكر القارئ أنَّ المغفور له توفيق باشا — رئيس لجنة المعرض الذي نحن في شأنه — كان قد كلَّفنا إرسال تقرير إليه كل ١٥ يومًا، فأنا قمت بهذا الأمر وأرسلت أول التقارير بعد أن رأيتُ المعرض قبل افتتاحه، وأرسلتُ معه رسومًا وجرائد وجعلتُ ذلك دأبي كل ١٥ يومًا، وقد أسعدني الحظُّ بورود كتب بخطِّ يده الكريمة إليَّ ردًّا على تلك التقارير، وهي إلى الآن عندي حفظتها كنزًا ثمينًا، ووردت الصناديق التي وضعت فيها المعروضات المصرية قبل غيرها فسُرَّ لذلك مدير المعرض، وسهَّل لنا الطرق لترتيبها في مواضعها، وكان نواب الأمم يتواردون واحدًا بعد واحدٍ، والناس يدعونهم على الولائم الحافلة، حضرت منها في أول الأمر وليمة حَضَرَها من النُّوَّاب غيري النائبون عن مملكتَي الصين واليابان؛ لأنهم جاءوا فلادلفيا عن طريق البحر الباسفيكي، فلمَّا كان الصباح التالي لهذه الوليمة وَفَدَ عليَّ مكاتبو الجرائد الكبرى يطلبون الاستعلام عما سيكون في معرضنا المصري من التحف والآثار، فأعطيتهم ملخَّص الكشف العمومي ونشروه في جرائدهم، ومن ذلك الحين كثرت عليَّ الدعوات والزيارات من أعظم العائلات حتى إن أيام الأسبوع لم تَعْد تكفيني لإجابة كل الدعوات، لا سيَّما وقد اشتُهر الأميركان بالكرم وحب الغريب إذا كان من بلاد بعيدة مثل مصر لها شهرة بآثارها القديمة، وتميل نفوسهم إلى سماع أخبارها ووصف مناظرها. والآن أتقدَّم إلى وصف المعرض العظيم الذي ذهبنا إلى فلادلفيا من أجله، وأجعل الاختصار خطَّتي في وصفه؛ لأن التطويل لا يمكن في هذا المقام.

المعرض

علمتَ مما مرَّ بك أنه لمَّا مرَّ مائة عام على استقلال الولايات المتحدة أنفق أهلها على الاحتفال بذلك احتفالًا باهرًا، ودعوا ممالك الأرض ودولها إلى إرسال مَنْ ينوب عنها في حضور معرض أُقيم لهذا الغرض، وفي عرض ما تريد من الآثار أو الأشياء الدالَّة على منزلتها، وقرَّروا أن يظلَّ المعرض ستة أشهر من أول مايو إلى آخر أكتوبر من سنة ١٨٧٦. ولمَّا كنت من المندوبين المصريين لحضور الاحتفال والمعرض توجَّهْتُ لمقابلة مدير هذا المعرض بعد وصولي إلى مدينة فلادلفيا بقليل وأطلعتُهُ على أوراق تعييني وتداولت معه طويلًا فيما يلزم للقِسْمِ المصري، وفي اليوم التالي جاءني هذا المدير مع كاتب يده العام وردَّ لي الزيارة، وأخذني معه إلى الحديقة الكبرى التي بُني فيها المعرض ومرَّ ذكرها، فذهبتُ ورأيتُ أرض المعرض، وهي داخل دائرة يحيط بها سور ومساحتها ٢٣٦ فدَّانًا، منها الأرض المخصَّصة لعرض البهائم، ومليونا قدم مربَّع لأصحاب الأبضعة المطلوب عرضها على الزائرين والمتفرِّجين، وكان في ذلك المعرض أبنية فخيمة خُصِّصَتْ كلٌّ منها لغرض معلوم، منها الأبنية الآتية:
  • (١)

    القسم العمومي في بناء فخيم، مساحة أرضه ٢١ فدانًا، وطوله نحو ١٨٨٠ قدمًا، وعرضه ٤٦٤ قدمًا، وعلوُّه ٧٠ قدمًا، وفيه قسم لكلِّ حكومة خارجية دُعِيَتْ للاشتراك في هذا المعرض، وفي جملتها القسم المصري.

  • (٢)

    قسم الآلات الصناعية و«الماكينات»، مساحة أرضه ١٤ فدانًا، وطوله ١٤٠٢ قدم، وعرضه ٣٦٠ قدمًا، وارتفاعه ٧٠ قدمًا، وهو محاذٍ للقسم العمومي كأنَّهما بناء واحد طوله ٣٨٢٤ قدمًا.

  • (٣)

    قسم الزراعة مساحته عشرة أفدنة، طول بنائه ٨٢٠ قدمًا، وعرضه ١٢٥.

  • (٤)

    قسم النبات في فدان واحد من الأرض، طول بنائه ٢٨٣ قدمًا، وعرضه ١٩٣، وعلوه ٧٢.

  • (٥)

    قسم الصور والرسوم، طوله من الداخل ٣٦٥ قدمًا، وعرضه ٢١٠، وارتفاعه ٩٥، وفيه قبة من الرخام ارتفاعها ١٥٠ قدمًا، أنفقوا على بنائها مليونًا ونصف مليون من الريالات.

هذه الأقسام العامة في المعرض، وأمَّا الخاصة فكان فيه بناء عظيم للحكومة عُرِضَتْ فيه الآلات القتَّالة، كالمدافع والبنادق، وأمثلة على شكل البواخر الحربية، وقسم لكلِّ ولاية من الولايات المتحدة بُنِيَ أكثرها على الطرز الخاص بتلك الولاية ومُلِئَ بأنواع الأبضعة الفاخرة وأدلَّة التقدُّم العظيم. وكان في أرض المعرض سكة حديدية ينتقل فيها المتفرِّجون من أحدِ جوانبه إلى الآخر؛ نظرًا لاتساع أرضه وأُقيمت فيه المطاعم البديعة، وأشهرها للخواجات بروفانسو جاءوا من باريس لهذا الغرض، وقد بلغت نفقات هذا المعرض ٦ ملايين ريال أميركي، جَمَعَ الأهالي منها بالاكتتاب خمسة ملايين، فلمَّا لم يكفِ ساعدتهم الحكومة بمليون واشترطت أن يُردَّ إليها المليون من إيراد المعرض بعد اشتغاله.

وأمَّا افتتاح المعرض فكان يوم ١٠ مايو من سنة ١٨٧٦، وقد تمَّ باحتفال عظيم من الحكومة والأهالي معًا، فإنه لمَّا جاء اليوم الموعود حضر رئيس الولايات المتحدة، وهو يومئذٍ جناب الجنرال غرانت المشهور، وجاء معه من واشنطن عاصمة البلاد وزراء الجمهورية ونواب الولايات وأعضاء مجلس الشيوخ وكبراء الحكومة، فوصلوا في قطارٍ خاصٍّ كثير الزخارف، ونَزَلَ الرئيس ضيفًا على المستر تشايلد، وهو من سراة هذه المدينة وصاحب جريدة لدجر المشهورة، التي لا يقلُّ الربح منها عن مائتي ألف ريال في السنة، ذلك فضلًا عن إيراد المستر تشايلد من أمواله وأملاكه الأخرى، وهو مثل أكثر أصحاب الملايين في الولايات المتحدة جاء مهاجرًا يطلب الرزق في بدء عمره؛ فجمع ثروته الطائلة بالجدِّ والدأب وحسن التوفيق، وكان وصول رئيس الجمهورية ومَنْ معه إلى فلادلفيا قبل افتتاح المعرض بيوم واحد، فلمَّا كان الغد ازدحمت الطرق من جميع الجوانب بخَلْقٍ كثير من الأميركيين والسيَّاح المتفرِّجين، ومُلِئَتْ جوانب الحديقة التي أُقيم فيها المعرض بالناس على اختلاف الأجناس، وجاء الرئيس إلى منصَّة بديعة في الحديقة أمام القسم العمومي زُيِّنَتْ بالأزهار والأعلام على شكل يسحر الناظرين، وكانت الطرق كلها يحرسها جنود أُرْسِلُوا من كلِّ الولايات لهذا الغرض، فرقة من كلِّ ولاية. فلما رقي رئيس الجمهورية تلك المنصَّة جلس إلى كرسيٍّ كبير وُضِعَ له في وسطها، وجَلَسَ إلى يمينه المدير العام للمعرض وإلى شماله المدير المالي للمعرض، وجلس من ورائه وزراء الجمهورية وكبراؤها وأعضاء مجلس الأمة والشيوخ وحكام الولايات، وإلى جانبيه من هنا ومن هنا مندوبو الممالك والدول الأخرى وبعض خاصة المدعوين، وكان في الحديقة منصَّة أخرى تجاه هذه المنصَّة وقف فيها خمسمائة سيدة؛ لينشدن نشيد الاستقلال بصوتهنَّ الرخيم، فلمَّا تمَّ عقد ذلك المجلس المهيب وَقَفَ جناب رئيس الجمهورية، وقال: «إنِّي أفتح هذا المعرض بعد مرور مائة عام على استقلالنا، مُظْهِرًا لأمتنا وللأمم الأخرى نتيجة تقدُّمنا في قرن واحد من الزمان، وإنِّي أسأل الله تعالى أن يحْفَظَ ولاياتنا المتحدة.» فتصاعدت أصوات التأمين على هذا الدعاء من أربعمائة ألف نفس تجمَّعت في حديقة المعرض، ثم أَطْلَقت المدافع مائة وواحدًا، ونَزَلَ الرئيس من تلك المنصَّة فدخل أقسام المعرض والجموع من ورائه، وجعل يتفقَّدها قسمًا قِسْمًا، وكان كلَّما جاء قسمًا من أقسام الدول الأجنبية يلاطف المندوبين فيها بالكلام الرقيق حتى إذا وصل قسم الآلات الصناعية صَدَرَ أمره بتشغيلها، فَصَدَعَ العُمَّال بالأمر، وجعلت تلك الآلات هذه تدقُّ وهذه تثقب وهذه تخرط وهذه تضغط وهذه تدور، وكان لها دويٌّ هائل. ولمَّا زار معرض الزراعة أمعن نظره في آلات الزرع والحرث والحصد وغير هذا، وكان في ذلك القسم آلات تَرْفع الماء من حوض وتصبُّه في حوض وهو يتدفَّق تدفُّقًا بديعًا، وكان في كلٍّ من هذه الأقسام جدول ببيان ما فيه، والناس يتفرَّجون ويَعْجَبون ولا سيما إذا وصلوا إلى معرضنا المصري وشاهدوا غرائبه، ولطالما سألوني وسألوا غيري عن أمور لا تخطر على بال المواطنين، فهذا يريد العلم بكيفية تربية دود القزِّ إذا رأى الحرير الطبيعي، وهذا يسْأَل أنْ كيف يفقس البيض ويصير فراخًا بالطرق الصناعية؟ وبعضهم يطلب جريدة عربية ليحفظها عنده أثرًا من الآثار، وهذه تسألنا أن نكتبَ اسمها بالعربية على بطاقة الزيارة، وتلك تستفهم عن طرق الزواج وتعدُّد الزوجات عندنا، وغير هذا مما لا يخطر إلا على بال الغريب، وكانت جرائد أميركا تنقل إلى قُرَّائها أخبار هذا المعرض بالبيان الوافي، وأكثرها ترسم صور المناظر والأشخاص، وكان أكثر الرسوم شيوعًا رسْم الرئيس وهو في المنصَّة يفتح المعرض ومن حوله مَنْ ذكرنا، وفي جملتهم مندوبو الحكومة المصرية بملابسنا الرسمية والطرابيش.

وقد تشرَّفنا بمقابلة الرئيس غرانت بعد يوم الافتتاح في بيت المستر تشايلد، وكان ذلك بدعوة أُرْسِلَتْ إلى جميع مندوبي الدول، فأظهر جنابه للجميع لُطْفًا كثيرًا، وبعد أنْ مرَّ على هذه المقابلة يومان ورد إلينا كتاب من المستر تشايلد المذكور يقول فيه إن قرينة الجنرال غرانت رئيس الجمهورية عازمة على زيارة القسم المصري في المعرض، وهو يرجونا أن نستعدَّ لمقابلتها وإطلاعها على ما تريد، فعملتُ بهذه الإشارة وكنتُ في الموعد المضروب مستعدًّا لمقابلة هذه السيدة الكريمة حتى إذا حضرت ومعها ابنتها وصهرها، دُرْتُ معها أوضِّح لها ما في معرضنا من الآثار والأشكال، وهي تَطْرَب وتَعْجَب مدَّة ساعة من الزمان وتستقصي العلم بكلِّ ما تراهُ، وقد استلفتت أنظارها ملاعق صغيرة صُنِعَتْ على شكل غريب من خشب الأبنوس، فرجوتُ حضرتها أن تقبلَ تلك الملاعق هدية صغيرة وتذكارًا للمعرض المصري؛ فقبِلَتْها متلطِّفة شاكرةً، ومعها بعض الآثار المصرية القديمة. ثم خرجت بعد أن تكرَّمت بدعوتي إلى قصرها في واشنطن عاصمة الجمهورية فشكرتُهَا، وأرسلتُ تقريرًا خاصًّا إلى سموِّ الخديوي توفيق باشا عن هذه الزيارة التي جعلت للقسم المصري شأنًا كبيرًا في هذا المعرض. ومما يريك الفرق بين الحكومات الجمهورية المبنيَّة على رأي الأمة وتوافُق الأفراد، وبين الحكومات الوراثية التي يتعالَى أمراؤها عن بقية الناس ويتشامخون، أنَّ رئيس الجمهورية في هذه البلاد العظيمة يُعِدُّ نفسه واحدًا من الناس، فينزل في بيت صديق له كما رأيت، ويقبل طلب أصدقائه فيحضر سهراتهم وولائمهم ولا فرق بينه وبينهم مع أنه رئيس أمَّة في الطبقة العليا من التمدُّن، يزيد عدد أفرادها عن عددِ الناس في كلِّ مملكة أوروبية ما خلا مملكة روسيا، وقد كان من أمرِ الجنرال غرانت أنَّ المستر بول من الوُجَهاء دعاه إلى العشاء في أحد الأيام ودعانا معه أيضًا، فذهبتُ إلى بيته في الساعة المعيَّنة، وكان رئيس الجمهورية وقرينته وغيرهما في قاعة فخيمة بانتظار ساعة العشاء، وقد حدَّثت حضرة السيدة الكريمة زوجها بما كان من واجب إكرامنا لها عند زيارتها للمعرض المصري، فرحَّبَ بي جنابه ترحيبًا خاصًّا، وقُمْنَا على أثر وصولي إلى المائدة الفاخرة، فلمَّا انتهينا من العشاء دخلنا قاعة التدخين حسب عادة الرجال، وكانت السيدات في قاعة الاستقبال ريثما ينتهي الرجال من التدخين، ولمَّا كنا في تلِّ القاعة أخبرني رئيس الجمهورية بعزْمِهِ على السياحة في مصر في الشتاء التالي، فسألتُهُ إذا كان يسمح لي بإبلاغ ذلك رسميًّا للحكومة المصرية، فأجابني بالإيجاب وأظهر لُطْفًا لا ينتظره المرء من بطل ضرغام مثله، شَهِدَ الحروب وحارب الألوف وانتصر على القوات العظيمة، فإنه — ولا يخفى — كان قائد الجنود الشمالية في الحرب الأهلية التي ورد ذكرُهَا في الخلاصة التاريخية بين أهل الجنوب وأهل الشمال، وكان له النصر في كلِّ المواقع القاضية، واشتُهر جنابه بالصمت وكثرة التأمُّل، ولكنه لم يقلل الكلام لما تشرَّفت بمعرفته، وأذكر أنه لمَّا ورد اسم السياحة، قال لي إنه لا بدَّ من معاناة المتاعب إذا ساح في فرنسا والنمسا وإيطاليا؛ لأن له لسانًا واحدًا فقط هو لسان الصدق، فضحِكَ الحاضرون لهذه النكتة، وكان له وَلَعٌ بالتدخين حتى إنه لم يترك السيجار من يدِهِ إلا عند الاضطرار إلى تركها، وهو يُعَدُّ من أكبر رؤساء الجمهورية الأميركية وأعظمهم.

وقد كان احتفال الناس بهذا المعرض وبمرور القرن على استقلالهم عظيمًا يعزُّ نظيره؛ فإن المدينة كانت مُزْدَانَة من جميع جوانبها على نَفَقَةِ الأهالي، وكانت الجماهير ألوفًا مؤلَّفة في كل شارع كبير، ولا سيما في جوانب المعرض وحول ذلك البناء القديم الذي تمَّ فيه قرار الاستقلال وذكرناه قبل الآن، وفي جميع الساحات والحدائق الأخرى. وكان الخطباء يقومون للخطابة في موضوع الاحتفال والوطنية والناس تتألَّب من كلِّ جانب لسماع أقوالهم، حتى إذا فاه الخطيب بقولٍ يوجب الحماس الوطني أو أشار إلى ما كان من حَزْمِ الأجداد الكرام والنصر في الحرب التي أدَّت إلى الاستقلال صرخوا مستحسنين متحمِّسين، وألقوا قبَّعاتهم في الهواء رجالًا وأطفالًا، وفي مثل هذه المظاهر ما يبثُّ روح الوطنية في القوم، ويوضِّح لأبناء أميركا منزلتهم الرفيعة من بَعْدِ الاستقلال، فهم يعِدُّون أنفسهم أهل كرامة لما نالوا من الحرية التامَّة، وفي ذلك ما لا يخْفَى من الفخر الصحيح.

ولمَّا جاء الليل في يوم الاحتفال سَطَعَت الأنوار الباهرة في كلِّ ناحية من المدينة، ودار في شوارعها موكب حافل له منظر مؤثر مهيب، وتبع ذلك الموكب آلاف من الناس حتى إن الذي رأى تلك الليلة في فلادلفيا رَسَخَ في ذهنه ذكرها وذِكْر معرضها واحتفالها الباهر. وقد كان حاكم المدينة في مقدِّمة هذا الموكب، ومن ورائه أشكال المحتفلين وأغربهم أصحاب الحرف، كالنجارة والحدادة والتجارة والفلاحة وغيرها، يتقدَّم كلُّ فئة من أصحاب هذه الحِرَف شيخها، ومعه علم خاص بها وموسيقى تَصْدَحُ بالأنغام الوطنية وأنوار باهرة. وكان عدد المحتفلين كثيرًا جدًّا إلى حدِّ أنه لو وَقَفَ المتفرِّج على الموكب في نقطة من المدينة ومرَّ به الموكب لم ينته من الفُرْجَة إلا بعد انقضاء ثلاث ساعات تتوالى فيها المناظر المختلفة والمشاهد العظيمة، وكانت لجنة المعرض قد أقامت وليمة فاخرة في تلك الليلة لكبراء الناس، وفي جملتهم نُوَّاب الممالك الأخرى فَحَضَرْنَا تلك الوليمة وسَمِعْنَا من بعد الطعام خطبًا رنَّانة، كان أول القائلين فيها رئيس المعرض الذي رحَّب بالحاضرين وأَطْنَبَ في مدْحِ الحرية، وتلاه غيره من الأميركان والمندوبين الذين شاركوا الأميركان في فرحهم وهنَّئوهم بما وصلوا إليه، فاستغرقت تلك الوليمة ثلاث ساعات من الزمان.

وظللنا في المعرض نقوم بمواجِبِهِ حتى بَلَغَنَا في أحد الأيام أنَّ رئيس المعرض عَقَدَ اتفاقًا مع مديري سكك الحديد على إعداد قُطُرٍ خاصَّة لمندوبي الدول تأخذهم إلى أعظم مشاهد الولايات المتحدة على نفقة الدولة، وأهمُّ هذه المشاهد شلَّال نياغارا وإقليم البترول (زيت الغاز)، والفحم الحجري وغير هذا مما سيأتي وصفه. وبعد قليل وردتْ إلينا أوراق تدعونا إلى هذه السياحة الجميلة، وشارات خاصَّة تُوضَع على صَدْرِ المدعوين لتميِّزهم عن سواهم، وطُبِعَتْ أوراق أخرى فيها بيان هذه السياحة وما تمَّ الاتفاق على أنْ يراه المدعوون، وعُيِّنَ اثنان من أهل الخبرة والمهندسين الأميركيين لمرافقة المندوبين الأجانب في هذه السياحة وإطلاعهم على كلِّ أمر يريدون العلم به، فبناءً على هذه الدعوة قمنا في قطار خاص في الساعة السابعة من أحد الأيام وسِرْنَا في داخلية البلاد نحو ٧ ساعات، رأينا في خلالها بلاد لانكاستر ولاندسفل وجاكستون وغيرها حتى بلغنا مدينة التونا، وهي شهيرة في أنَّها معمل بناء العربات لشركات السكك الحديدية في ولاية بنسلفانيا وما يجاورها، ولهذه الشركة أراضٍ لا تقلُّ في اتساعها عن عشرين ألف فدان. ولمَّا وَقَفَ القطار في المحطة ركبنا عربات أُعِدَّتْ للمندوبين وسِرْنَا إلى فندق استُؤجرت فيه غرف لنا أيضًا، وكان اهتمام عمال هذا الفندق بإكرامنا شديدًا حتى إن مدير الفندق كان يخدمنا على مائدة الطعام بنفسه، ويملأ كئوس الخمرة لنا بيده وهو يُعْرِبُ عن سروره باجتماعنا لمشاركة قومه في احتفالهم العظيم.

وسِرْنَا بعد ذلك بقليل إلى معمل العربات والآلات لسكك الحديد، وهو محلٌّ واسعٌ يشْغَلُ من الأرض حوالي ١٥٠ فدنًا أو ٦٣٠٠٠ متر، وفيه عشرة آلاف عامل ويُصْنَعُ فيه من الآلات البخارية التي تجرُّ الأرتال مئاتٌ كل عام، ومن عربات الرُّكَّاب والأبضعة ألوفٌ كثيرة، فلمَّا وصلنا ذلك المعمل دار بنا مديروه يشْرَحُونَ ويوضِّحون، وكانوا يأمرون العمال أن يصنعوا «الوابورات» والعربات على مرأى منا ونحن نتفرَّج مُعْجَبِينَ لجمال تلك الآلات والعربات التي تمتاز عن العربات الأوروبية بطولها وإتقان صُنْعِهَا والعمل على راحة المسافرين فيها، وليس يخْفَى أنَّ أهل أوروبا جعلوا يشترون بعض عربات الركوب لقطاراتهم من أميركا أو هم يصنعون على مثالها، واشتُهرت عربات التونا هذه بمحاسنها حتى قام المستر بلمان المشهور واخترع نوعًا من العربات المتينة التي يقلُّ في سيرها الارتجاج وتكثُرُ الراحة للمسافرين واحتكر صناعتها. ولشركته أكبر معامل العربات في ولاية نيويورك، وقد أصبح الرجل من أصحاب الملايين وشركات السكك الحديدية في كلِّ البلاد تشتري من عربات بولمان لقطاراتها، ورجعنا إلى الفندق بعد أن تمتَّعنا بمشاهدة هذا المعمل وغرائبه، فكنَّا نرى العربات مُعَدَّة لركوب مَنْ شاء منا بلا أجرة ندفعها حتى إذا شاء أحدنا أن يقصد نُزْهَة أو فُرْجَة كانت العربات في خدمته متى أراد.

وفي تلك الليلة أولموا لنا في العشاء وليمة فاخرة، ودعونا بعدها إلى موضع للتمثيل، وكان كلُّ مندوب يطلب فيه وفي الحانات والقهاوي ما أراد من المشروب ولا يؤخَذُ منه الثمن حتى إنِّي مسحتُ حذائي ولم يشأ الصبي أن يأخذ أجرة؛ لأنه رأى من الشارة في صدري أنِّي أحد المندوبين وأجرة عمله واصلة من الحكومة، فذكرني هذا بالكرم الحاتمي الذي أظهره سموُّ إسماعيل باشا الخديوي الأسبق عند الاحتفال بترعة السويس، فإنه أتى مثل ذلك في المطاعم والفنادق التي أَمَّهَا المدعوون للاحتفال، وذلك غير الذي أتاه لإكرام إمبراطور النمسا وإمبراطورة فرنسا وولي عهد إنكلترا على وجه خاص.

بتسبرج

قُمْنا في اليوم التالي على قطار يشقُّ الجبال شقًّا، ويخترق الأودية والسهول، فيمرُّ في مناظر بهجة للغاية، ويدور من حول الجبال فلا يخترق قلب الأرض في نفق أو سرداب إلا اضطرارًا، وفي هذا مَزِيَّة للأميران على الأوروبيين في سككهم الحديدية؛ فإن أهل أوروبا يحفرون للأرتال نفقًا تحت الأرض كلَّما وصلوا إلى جبل، فإذا ما دخل القطار مثل هذا النفق لم يرَ المسافر غير الظلام الدامس، وَفَاتَهُ منظر الجبال وسفْحها، وأمَّا في أميركا فإنهم يجتنبون النفق ما أمكن، ويعرِّجون من حول الجبل بدل اختراقه فيتسنَّى للراكب في بلادهم أن يمتِّع نظره بأحسن المناظر الطبيعية، وظَلَلْنَا على المسير في هذا القطار حتى بلغنا منابع كريسون، وهي عيون من الماء الحديدي فيه نفع للأبدان وعافية يقصدها كلُّ ذي علَّة يستشفي بمائها المعدني، فتفرَّجنا عليها وشربنا ثم عُدْنَا إلى القطار وعاد يخبُّ في الأرض خبًّا ويرينا من أشكال الطبيعة عجبًا، حتى وصلنا مدينة بتسبرغ المشهورة؛ فنزلنا في محطتها ولقينا العربات مُعَدَّة لنا على مثل ما رأينا كل موضع زُرْنَاه مدة هذه السياحة.

ومدينة بتسبرغ هذه ثانية مدائن ولاية بنسلفانيا يبلغ عدد النفوس فيها ثلاثمائة ألف أو يزيد، ولها موقع بديع ما بين نهرَي الجاني ومونونجاهيلا يلتقيان فيها، ومنهما يتفرَّع نهر أوهايو. وتجاه هذه المدينة مدينة أخرى اسمها الجاني على اسم النهر الذي ذكرناه، وفيها من النفوس حوالي ١٣٠ ألفًا، والبَلَدَان يُعَدَّانِ في عُرْفِ الأكثرين مدينة واحدة؛ لأنهما يفصل بينهما ذلك النهر فقط وفوقه جسور عديدة وطرق شتى للاتصال، وهذه المدينة حديثة العهد مثل أكثر مدن الولايات المتحدة، فإن تأسيسها كان في سنة ١٧٥٤ حين بنى بها القائد الفرنسوي دوكين قلعة سُمِّيَتْ باسمه، واستولى عليها الإنكليز بعد ذلك، ثم أخلوها بعد انخذالهم في حرب الاستقلال، فعمرُ المدينة لا يزيد عن ١٤٤ سنة، وهي في وسط إقليم كله حديد وفحم حجري تكثُرُ فيه المناجم لاستخراج هذين المعدِنَين حتى إنهم ليخرجون من أربعة مراكز في مليونين ونصف مليون طونلاتة من الحديد، وعشرين مليون طونلاتة من الفحم الحجري في كل سنة، ويخرج من الإقليم فوق أربعين مليون من زيت البترول، وبذلك تعلم أهمية هذه الجهة من جهات الولايات المتحدة ووفْرَة غناها في المعادن، ومعلومٌ أنَّ زيت البترول هذا على شُهْرَتِهِ الحالية لم يُعْرَف إلا من نحو مائة عام فقط، ولم يشتهر استعماله إلا في سنة ١٨٢١ وقد حسبوا طول الأنابيب التي يسير فيها البترول هنا، فإذا هو ١٢٠٠ ميل ومقدار الزيت الذي يجري فيها مليار قدم مكعب.

وسِرْنَا بعد هذا إلى معامل الحديد العظيمة، وأشهرها معمل الخواجات تومسون، يعمل فيها العاملون بنحو ستمائة ألف طونلاتة في كلِّ سنة، أكثرها قضبان لسكك الحديد، وفيها أفران هائلة لتذويب الحديد وسكْبِهِ وتليينه يسمِّيها العمال جهنم، وهم يزيدون في هذا المعمل عن ستة آلاف عامل، اعتصبوا مرة وأضربوا عن العمل؛ بغية أنْ تُقَلَّلَ لهم ساعات العمل وتُزَاد الأجور، فاقتضى لتسكين هياجهم أن تجرد الحكومة عليهم فرقة منظَّمة من الجيش ومعها المدافع، وقائدها جنرال من قُوَّاد الجيش الأميركي. وتحوَّلنا بعد زيارة هذا المعمل في أنحاء المدينة، وصعدنا إلى قسمٍ منها فوق قمة جبل واشنطن، وهو مسكن الأكابر وأهل اليسار، ولمَّا كان الصعود إليه والنزول عسرًا بسبب علوِّه صنعوا آلات تَصْعَد وتنزل بقوة البخار، وتنقل الناس والبهائم والحاجات لها، وهي على شكل الآلات المستعمَلة في جبال سويسرا إلا أنها أسرع سيرًا؛ لأنها تصعد وتنزل على خطٍّ مستقيم والركوب فيها يخيف الذي لم يتعوَّد استعمالها، والذي يصعد القمَّة بهذه الطرق يرى منظرًا يعزُّ نظيره، فإنه في وسط بلد زاهر فخيم المباني، ومن تحته معامل يتصاعد منها الدخان فيحجبُ منظرها عن العيون، والنهر في الجانب الآخر ينْسَابُ فيه الماء انسياب الأفعى فيفتن بجماله الناظرين.

وفي هذه المدينة أبنية كبرى أُنفق عليها الملايين، وهي تضارع أجمل ما رأينا في مدن أميركا الأخرى، من ذلك بناء البنك العمومي والبنك المحلِّي والبوسطة وغيرها. والبواخر التي تسير فوق الماء من هذه المدينة وإليها في داخلية الولايات المتحدة تجتاز مسافة عشرين ألف ميل في جوانب البلاد من هنا ومن هنا؛ لأنها تجري على ثلاثة أنهر، فيبلغ مجموع ما تَنْقُلُ مليون طونلاتة ونصف مليون في العام، وهي كل عام في ازدياد. والذي يسافر على هذه البواخر في هذه الأنهر يرى كلَّ ما يسرُّ الخاطر من جمال الطبيعة وتقدُّم الصناعة في بلاد الحرية، وكان حاكم هذه المدينة شديد الاهتمام بما يسرُّ المندوبين ويريهم اقتدار مدينته، حتى إنه أمر بإضرام النار في منزل، وأرسل إليه رجال المطافئ بمضخَّاتهم وطلمباتهم على مرأى منا ومسمع، فأرانا كيف يجدُّ أولئك الرجال في المسير على تلك العربات الثقيلة، وهي تقرقع وهم يصيحون ويقْرَعُون الأجراس تنبيهًا للمارَّة حتى يفرُّوا من طريقهم ولا تصدمهم العربات في عدْوِهَا السريع، وأكثر رجال المطافئ في أوروبا يسيرون على مثل هذا عند حصول الحرائق، ولكن الأميركان امتازوا بحسن نظامهم وسرعة قيام المطافئ عندهم إلى محلِّ النار، وإيصال المساكن كلها بأجراس كهربائية إلى مقرِّ العمل حتى إن مدينة لندن مع اشتهارها بالنظام والإتقان في كلِّ الأعمال لمَّا أرادت أن توصل أعمال المطافئ إلى درجة الكمال أرسلت أحد رجالها المشهورين إلى مدن أميركا؛ ليتعلَّمَ فيها طرق الأميركان، وينقل المفيد منها إلى بلاده.

وسِرْنَا في صباح اليوم التالي على القطار الخاص إلى إقليم الزيت، ووقفنا في بلدة تُعْرَفُ باسم أويل ستي أو مدينة الزيت، وبعد الغداء في الفندق الذي أُعِدَّ لنا توجَّهنا إلى مناجم البترول، وكنت أظنُّها في أرض قاحلة قَفْرَة، شوَّه الزيت ظاهرها، وأحرق الكلأ والعشب فلم يبقَ غير منظر قبيح ورائحة كريهة، فرأيت الحال على غير ما ظننت؛ لأن الأرض هنالك مكسوَّة كلها بالخضرة البهيَّة، وفيها مئات من الآبار يُسْتَخْرَجُ زيت البترول منها، وهي تختلف حجمًا وعمقًا، فمنها ما يقلُّ عمقه عن ثلاثمائة قدم، ومنها ما يزيد عن ثلاثة آلاف، وهي كلُّها تُسْتَخْدَم فيها الطلمبات لإخراج الزيت منها إلى أقنية تجري فيها جداول وتُصَبُّ من بَعْدِ ذلك في حوض كبير، ومنه يُؤخذ الزيت ويعلَّل بالطرق المعروفة عندهم، ثم يُوضَع في الصناديق الصفيحية، ويُرْسَلُ إلى جوانب الأرض، وهو متى خَرَجَ من البئر يُعْرَفُ بصفائه، ولكن النزح يؤثر فيه، فإنه يختلط بالأكدار كلَّما أُخِذَ منه شيء وقلَّ الموجود في البئر، فإذا كثرت أكداره تركوه يومًا أو يومين ريثما يعود إلى النقاء، ثم عادوا إلى نزحه، وبعض هذه الآبار تنشف بعد نزحها مرات معلومة فيتركها أصحابها ويحفرون آبارًا أخرى على مقربة منها، وهم يربحون منها الأموال الطائلة حتى إن أكبر أصحاب الملايين اليوم هم تُجَّار الزيت وأصحاب الأسهم في سكك الحديد، وكان أحدُ المهندسين الأميركيين مدَّة وجودنا عند هذه الآبار يشْرَحُ لنا طرق استخراجها وشَحْنِها وتنقيتها، ويوضِّح كلَّ ما أُشْكِلَ علينا حتى إذا انتهينا من هذه الفُرْجَة عُدْنَا إلى القطار، فعاد إلى المسير في وسط أراضٍ شهيَّة ومناظر بهيَّة، ظهر لنا في آخرها بحيرة مشيغان، وهي أكبر بحيرات أميركا، ليس لها في أوروبا نظير من حيث الاتساع، طولها ٣٦٠ ميلًا وعرضها ١٠٨ وعمقها ٩٠٠ قدم. وتقدَّمنا إلى ما وراء هذه البحيرة، فمررنا ببحيرة أصغر منها تُعْرَف باسم تشور، وبعد ١٢ ساعة وصلنا إلى بلدة أري بُنِيَتْ على بحيرة بهذا الاسم، ولها منظر بديع، وهي من الأماكن التاريخية في الولايات المتحدة حَصَلَ فيها معركة بين الإنكليز والأميركان في الحرب الثانية بعد الاستقلال، وكان النصر في هذه المعركة للقائد الأميركاني بري، فإنه حطَّم سفن الإنكليز ومَلَكَ الموقع سنة ١٨١٣، وبِتْنَا تلك الليلة في فندق ريد بهذه المدينة. وفي ثاني الأيام أراد حاكم المدينة أن يدعو المندوبين إلى رؤية البحيرة وجوانبها، وهي من البحيرات العظيمة، طولها ٢٩٠ ميلًا وعرضها ٦٠ ميلًا، ولها اتصال ببحيرتَي هورون وبحيرة أونتاريو، ويخرج منها نهرا دتروا ونياغرا، فاستأجروا لهذه الغاية باخرة جميلة قُمْنَا فيها وسارت تجري في ماء البحيرة تارةً توغل في عرضها وطورًا تنتقلُ بين الشطوط وتشرح الصدور بمرأى هاتيك الضفاف البهيَّة والمنازل العظيمة التي رُصِّعَتْ بها تلك الأرض الطيِبة فعُدْنَا في المساء وكلُّنا ألسنة تَلْهَجُ بحسن تلك المناظر.

بفالو: وتركنا هذه البلدة في اليوم التالي، فاستقرَّ بنا النَّوَى بعد ذلك في مدينة بفالو، وهي من مدن أميركا العظيمة التي تقدَّمت تقدُّمًا سريعًا لا مثيل له في تاريخ المدن الأوروبية؛ لأنها بُنِيَتْ في سنة ١٨٢٥، وعدد سكانها الآن يزيد عن ثلاثمائة ألف، وهي في وسط سهول فسيحة، وفيها مروج خضراء وحدائق غَنَّاء، وقد أُطْلِقَ عليها اسم بفالو أو جاموس؛ لأنها كثيرة المرْعَى؛ ولأن هذا الحيوان يستقي من نهرها، وهي ذات هواء طيِّب وماء عَذْب، يقصدها المهاجرون من كلِّ ناحية وتزيد على نسبة كبرى كما تقدَّم القول، وفيها معامل مشهورة للجعة والصابون والنِّشا يشتغل بها ألوف من العمال أكثرهم من الألمانيين والأرلانديين، ويصدر من معاملها لهذه الأصناف الثلاثة ما تُقَدَّر قيمته بمائة مليون ريال كل سنة.
نياغارا: ويعلم القارئ أنَّ غاية هذه السياحة اللطيفة الوصول إلى نياغارا، وهي أعظم شلَّالات الأرض طُرًّا وأكثرها غرابةً وجمالًا، قلَّ أن يجيء الولايات المتحدة زائر أو سائح ولا يقصدها، وعلى ذلك فنحن عُدْنَا إلى المسير حتى وصلنا إلى هذه الشلالات العظيمة، وهي واقعة في حدود الولايات المتحدة من جهة الشمال حتى إن قِسْمًا كبيرًا منها تابع لبلاد كندا الإنكليزية، فبَعْدَ أن استرحنا قليلًا في أحد الفنادق قُمْنَا لنرى أعظم المشاهد التي جئنا لأجلها، وهي تلك الشلَّالات العجيبة التي تلتقي فيها أربع بحيرات كبرى، هي أري وهورون ومشيغان وسوبيريور، يخرج منها نهر نياغارا في عرض ٤٧٥٠ قدمًا، وينصبُّ فيه من الماء نحو ١٥ مليون قدم مكعَّب في كلِّ دقيقة، وهذا المقدار الهائل من الماء ينحدر من علوِّ ١٦٧ قدمًا إلى وادٍ كبير الصخور فينحطُّ عليها بقوة لا توصَف، ويُحْدِث ضجَّة تصمُّ الآذان ومنظرًا لم تكتحل بمثله عينُ إنسان، هذا هو الجانب الأميركي من الشلَّال العظيم ومجموع الشلَّالات المعروف باسم نياغارا، وتجاهه القسم الكندي، وهو كثير الاتساع يُعْرَفُ باسم «نعل الحُصَان»؛ لأنه يُشْبِه النَّعل في تكوينه، ويجري الماء هنالك في عَرْضِ ٣٠٠٠ قدم، فينحطُّ من علوِّ ١٥٨ قدمًا إلى وادٍ بهيجٍ، ولشدَّة انحدار الماء يتكوَّن منه قوس مِنَ القطرات يحيط بها هالة من الضباب تزيد منظره رونقًا ومهابةً، وما أخطأ القائلون إن نياغارا أفْخَم ما في الطبيعة من المناظر، ولَطَالَمَا تغنَّى شعراء الفرنجة في وصْفِ هذه الأماكن العجيبة، وعني المصوِّرون برسمها، حتى إن واحدًا منهم قَضَى ١٧ عامًا في رَسْمٍ وتصوير نقلًا عن بدائع الطبيعة في ذلك المكان. وقد اهتمَّ الإنكليز والأميركان في بناءِ الحواجز والأرصفة حول هاتيك السيول المتدفِّقة وبنوا الفنادق والمتنزَّهات إلى جانبها، فصارت السياحة حول نياغارا من ألذِّ ما يمكن التمتُّع به، هذا غير أنهم اهتدوا من عهدٍ قريبٍ إلى استخدام القوة الكبرى الناشئة عن انحدار الماء في تلك الشلَّالات لتوليد الكهربائية، وهم الآن ينيرون بعض المدن بالقوة الكهربائية المتولدة منها، وفي نيَّتهم أن يتوسَّعوا في العمل ويجروا القوات وينيروا الجهات بهذه القوة الغريبة. والذي يقف إلى مقربةٍ من ذلك السيل المنحدِر ويتأمَّل غرائب الطبيعة يضيع في التأمُّل وينسى الذي كان فيه، وإذا كان مع صديقٍ إلى جانبه لم يسمع له قولًا ولو صَرَخَ بملء صوته؛ لأن هدير الماء في انحداره وصوت التطامه بالصخور يصمُّ الآذان. والماء إذا ما استقرَّ في تلك الأودية بعد انحداره الغريب سار في النهر الذي يقلُّ عجيجه حينًا، وحينًا يصل مقدار الماء الهائل إلى مضيق من الأرض يجري فيه أو إلى نقطة من مجراه تكثر فيها الصخور، فينشأ عن ذلك منظر يقرب في الغرابة من انحدار ذلك السيل الغريب؛ لأن الماء تتعالى أمواجه ويشتدُّ في السير هياجه، فيؤثِّر ذلك على ذهن السامع والرائي تأثيرًا لا يمحوه الزمان ولو طال.

وقد مرَّ بك القولُ إن القوم اهتمُّوا لتشييد الفنادق وإقامة المتنزَّهات حول هذه الشلالات، وساعدهم على هذا خَصْب الأرض وكثرة الماء يروي الغرس والزرع، حتى إن الأشجار التي تنمو على ضفافِ تلك المجاري تكبر إلى حدٍّ عجيب، وهم قطعوا بعضًا منها وعرضوها في المعرض مع غرائب البلاد، وقد كان اجتماع المحاسن الطبيعية في هذا الموضع داعيًا إلى توافُدِ الأفراد والجماعات عليه من كلِّ صوب، فلا يقلُّ عدد الزائرين كل عام عن نصف مليون، وكثير من الذين يتزوَّجون في الولايات المتحدة يقصدون نياغارا في الشهر الأول بعد الاقتران، وهو يُعْرَفُ عندهم بشهر العسل، فيختلي المرء بعروسه مدَّة الشهر في أرض كلها دواعٍ إلى الفكر والتأمُّل وتناسي زحام الدنيا ومشاغلها، ويروق للمتزوِّجين ذلك الشهر. وفوق هذا، فإن بعضًا من أصحاب الهوس تعلَّقوا من عهد قريب على أمر ينهى عنه العقل، وهو أن ينحدروا مع الشلَّال في نياغارا ويصلوا إلى طرفه الأخير سالمين، وفي ذلك من الخطر العظيم ما لا يخْفَى، ولكن كثيرين منهم حاولوا ذلك فراحوا ضحيَّة الهوس والمخاطرة الكبرى، وكان أكثرهم يضعون أنفسهم في براميل محكمة السد علَّها تقيهم من ضغط الماء وفِعْلِ الأمواج المتلاطمة، فما نجا منهم أحد، وكان في جملة هؤلاء الناس إنكليزي اسمه الكبتن وب، اجتاز بحر المانش الكائن بين فرنسا وإنكلترا سباحة، ولم يعبأ بكثرة أمواجه، ونال من وراء ذلك شهرة وجَمَعَ له بعضهم مكافأة بالاكتتاب بلغت ألف جنيه، فَذَهَبَ هذا الرجل بعد حين إلى نياغارا مع امرأته، وهناك أراد فِعْلَ المستحيل ولم يُصْغِ لنصائح امرأته وإلحاحها، وكانت النتيجة أنه اختفى في عُبَابِ ذلك البحر العجاج، ولم يقف له الباحثون على أثر، وكان قد قَصَدَ نياغارا لتمضية شهر العسل مع عروسه فخيَّب منها الآمال. وقد خربت جسور بُنيت فوق هذا التيار لقوَّة سيره، فجعلوا الآن كلَّ الجسور من النوع المعلَّق التي تقف على عُمُدٍ في طرفَي الأرض من الجانبين، وليس لها قوائم ولا عمد في الماء.

ولمَّا انتهينا من التأمُّلِ في بدائع نياغارا اجتزْنَا الحدود ودَخَلْنَا مدينة أونتاريو في بلاد كندا التابعة للدولة الإنكليزية، وكان البعض منَّا يودُّون لو تطول الإقامة هنا زمانًا، ولكننا عُدْنَا بإشارة أولياء الأمر إلى القُطْرِ وسافرنا إلى مدينة روتشستر، وهي يبلغ عددُ النفوس فيها نحو مائة وثمانين ألفًا، وقد بُنِيَتْ على ضفَّة نهر جنسي، وعلى مقربة منها شلَّالان ينحدر الماء في أولهما من علوِّ ٢٥ قدمًا، وفي الثاني من ارتفاع ٨٥ قدمًا، والماء هنالك عَذْبٌ نقي يشبه الفضة في لونه؛ لذَّ لنا الشرب منه، وعلى ضفاف ذلك النهر البهي عدَّة معامل، منها معمل للجِعَة (البيرا)، لمَّا علم صاحبه بقدومنا دعانا للتفرُّج على محلِّه فسِرْنَا إليه، وهناك فُتِحَتْ لنا البراميل الصغيرة هديَّة من صاحب المعمل؛ فشربنا وشكرنا وعُدْنَا إلى المسير حتى وصلنا بحيرة سنكا، وهي مشهورة بجمالها، طولها ٣٨ ميلًا وعرضها يختلف ما بين ٣ أميال و٦ وعمقها يزيد عن ٦٠٠ قدم، ولها مزيَّة أنها لا تجلد في فصل الشتاء. وقد بُنِيَ على شطوطها منازل عظيمة وقصور فخيمة لها الحدائق الغَنَّاء، فسرَّحْنَا الطرْف زمانًا بمناظرها، وتابعنا السفر حتى بلغنا خور واتكنس، وهو من المشاهد العجيبة لا مثيل له في أوروبا، طوله نحو ميلين ونصف وعمقه ٣٠٠ قدم، وفيه صخور هائلة الحجم وأعشاب برِّيَّة بالغة منتهى الضخم، فيحار الإنسان في وصف غربته وفخامته، ويعلم منه مقدار عظمة الطبيعة وتقصير المناظر الصناعية عنها في الفخامة والغرابة. وفوق هذا الخور جسر كبير مررنا عليه، ثم نَزَلْنَا إلى قسم من أسفله على سُلَّمٍ من الخشب والصخور ترشح ماء من فوقنا؛ ولذلك المنظر وقار ومهابة، وصعدنا من الناحية الثانية إلى فندق بُنِيَ في ذلك الموقع البديع، ومنه يرى المرء البحيرة والأودية والشعب والسهول المحيطة بتلك البقعة، فَبِتْنَا هنالك ليلة واحدة، وقمنا في الصباح التالي إلى مدينة وليمسبورت، فلمَّا دخلناها أُطلق ٢١ مدفعًا، وجاء حكمدار البوليس ومعه نفر من رجاله لاستقبال المندوبين، وبِتْنَا في تلك المدينة ليلة أخرى.

وفي اليوم التالي وَقَفَ بنا القطار بعد مسير ساعة في إحدى القرى الصغيرة؛ لنرى كيف تُقْطَع الأخشاب وتُنْقَل، فرأينا الرجال يقطعون الأشجار ويلقون بها إلى النهر من داخل البلاد فتسير من نفسها مع الماء حتى تبلغ هذا المكان فيلتقطها أصحاب المعامل بالآلات التي تَرْفَع القطع الكبرى كما يرْفَع المرء القلم بأصابعه، وتنتشلها من الماء فتُدْخِلها في آلات أخرى في دور أعلى من البناء فتقشِّرها وتدفعها إلى آلات أخرى تنشرها ألواحًا، وهذه تدفعها إلى مكان ترصُّ به بعضها فوق بعض إلى أن يجيء زمان إرسالها إلى المواضع البعيدة، وهي تُشحن في قُطُرٍ خاصة لها والعربات والخطوط وبقية اللوازم في داخل المعمل، وقد قُطعت أمامنا عدَّة أشجار بالآلات البخارية بأسرع من لمح البصر. وفي ذلك المعمل ألواح مقطَّعة وأخشاب تشغل مساحة لا تقلُّ عن مائة فدان من الأرض. وزرنا بعد ذلك مدينة هارسبرج دُعيَتْ على اسم مؤسسها المستر هارس، وهي على نهرٍ صغيرٍ وفيها حديقة لطيفة في مركزها تمثال للمستر هارس المذكور، وإلى جانبه جذْع الشجرة التي ربطه إليها الهنود حين أحرقوه حيًّا في سنة ١٧١٨، وكان ذلك ختام السياحة البديعة التي أعدَّها مديرو المعرض لمندوبي الدول واستغرقت ١٢ يومًا، رأينا في خلالها من كَرَمِ أصحاب البلاد ولُطْفِهِم ومن اعتناء أولياء الأمر بشأننا ما أطلق ألسنتنا بالشكر، وغَرَسَ ذكر تلك السياحة في أذهاننا إلى آخر الزمان.

عودٌ إلى المعرض: ولمَّا عُدْنَا إلى أعمالنا في المعرض كان فصل الصيف قد دخل، وهجر أهل اليسار فلادلفيا وقصدوا مصايفهم في الجبال أو على شاطئ البحر، وأشهر هذه المصايف فرضة لونغ برانش على المحيط، عُرِفَتْ بحمَّاماتها ويرِدُ إليها نحو ثمانين ألف زائر وزائرة كل سنة، وفيها الفنادق الكبرى كثيرة العدد على شاطئ الأوقيانوس بطوله. وللكبراء قصور في ذلك الموضع، منها قصر للجنرال غرانت رئيس الجمهورية، وفيها السباق المشهور للخيل يُعْقَدُ مرة في العام، وتكثُرُ مسابقة الناس إليه وتراهنهم على أيِّ الخيل يسبق، فقصدتُ هذا المحل ونزلتُ في فندق كان فيه بعض عائلات أعرفها. وفي اليوم التالي ذهبتُ إلى الحمَّامات ورأيتُ هنالك لأول مرة أنَّ الرجال والنساء يستحمُّون في حمام واحد بعضهم مع بعض، فأنكرتُ هذه العادة، وهي ينكرها كلُّ شرقي، ولكنَّ الذين يألفونها لا يرون فيها نُكْرًا لا سيما وأنَّ المستحمِّين والمستحمَّات يسترون الأبدان بملابس خاصَّة للحمام ولا يأتون ما يوجب النفور، وقد كان هذا الأمر قاصرًا على الأميركان فصار الأوروبيون يأتونه في عدَّة أماكن بحرية، وقد شرحت لذَّة الإقامة في الحمامات البحرية عند الكلام على هولاندا وبلجيكا، وقضيتُ في تلك الناحية زمانًا إلى أن اتصل بي خبر وصول جلالة إمبراطور البرازيل إلى فلادلفيا، وعرَفْتُ أنَّ في نيته التفرُّج على المعرض فعُدْتُ إليه حتى أكون على استعداد لمقابلته إذا أراد زيارة القسم المصري. وبعد ذلك أبلغنا ولاة الأمر أنَّ جلالته سيقابل مندوبي الدول في قاعة المدرسة الجامعة بواسطة سفيره في الولايات المتحدة؛ فذهبنا في الأجل المضروب، ولقينا من مؤانسته وضعته شيئًا كثيرًا، وكان جلالته يحدِّث كلًّا بما يسرُّه، فلمَّا وصل إليَّ أشار عليَّ أن أدقِّقَ في درس طرق التعليم ونشر المعارف في الولايات المتحدة؛ لأن مصر في حاجة إلى ذلك لترقية شعبها. وفي ثاني الأيام وصلني كتاب من مندوب دولة البرازيل يخبرني فيه أنَّ جلالة الإمبراطورة عَزَمَتْ على زيارة القسم المصري في المعرض، فانتظرت قدومها في الساعة المعيَّنة، ولمَّا جاءت مع المندوب البرازيلي دُرْتُ مع جلالتها أفصِّل لها وأشرح، وهي تبدي الإعجاب والمسرَّة حتى انتهت من قسمنا وخرجت شاكرة متلطِّفة.

ودعاني بعد هذه الأمور حضرة الصديق المستر ولش مدير المعرض الحالي إلى الإقامة في مصيفه أيامًا في جرمانتون من ضواحي فلادلفيا، فلبَّيتُ الطلب وأقمتُ معه ومع عائلته ثلاثة أيام، وتلك عادة عند هؤلاء القوم الكرام يدعون الغريب إلى منازلهم ويرحِّبون به ترحيبًا، وهم يعدُّون كلَّ كلمة يقولها عن بلاده علمًا ثمينًا حتى إنِّي لمَّا رأيتُ مندوب بلد السويد بعد هذا أخبرني أنه تعرَّف بعائلة دعتْه إلى مصيفها أيامًا، وهنالك تعرَّف بعائلة أخرى فدعتْهُ وعرَّفته بعائلة ثالثة، واستمرَّ على ذلك مدة شهر كامل يتنقَّل في تلك المصايف معزَّزًا أينما حلَّ، وهم يتبادلون الدعوات بعضهم مع بعض بمعنى أنَّ الذي له مصيف على البحر يدعو صديقًا مع عائلته له مصيف في الجبال، ثم يزوره مع عائلته، فهم يتمتَّعون بكل أطايب النُّزْهَة على أشكالها بمثل هذا النظام اللطيف. وقد كان من حسن حظِّي أنِّي أقمت تلك الأيام في بيت المستر ولش المذكور الذي صار سفيرًا لبلاده في إنكلترا بعد أن انتهت مهمته في المعرض، وكان له ابنة لها ولعٌ بركوب الخيل، فدَعَتْنِي في أحد الأيام إلى الركوب والمسابقة على ظهور الجياد، وقدَّمَتْ لي فرسًا مثل فرسها، فعملت بإشارتها ووقف والدها حَكَمًا بيننا يحكم للسابق بالفضل، فسبقتها في أول الأمر، ولكنها جدَّتْ في السير ووصلت الشأو الأخير قبلي فصار الواقفون يصفِقون لذلك تهنئةً للفتاة بإحراز قصب السبق. وتمشَّينا من هنالك إلى النقطة التي حصلت فيها المعركة بين اللورد هو الإنكليزي والجنرال واشنطن محرِّر أميركا وكان الفوز فيها للأول. ورافقتُ مضيفي وعائلته يوم الأحد إلى الكنيسة، وهم لا يهزأ شبَّانهم بالمتعبِّدين كما يفعل شُبَّان غيرهم، بل يعدُّون ذلك دليل العلم والتهذيب.

ودعاني بعد ذلك المستر شاربلس — من وُجَهاءِ فلادلفيا — إلى مصيفه في شستر فسِرْتُ إليه وقضيتُ أيامًا مع الرجل وعائلته في هناء ونعيم، نقضي الأوقات بلعب الأكر وركوب الخيل والنُّزْهَة في قارب بديع يُمْسِكُ المستر شاربلس دفَّته ويقذف أولاده وبناته ترويضًا لأبدانهم، وعُدْتُ بعد هذا إلى مركزي في فلادلفيا.

وَحَصَلَ في هذه الأثناء أنِّي كنت أتمشَّى في بعض شوارع المدينة، وسمعتُ الناس يجرون ويقولون النار أُضْرِمَتْ في المعرض، فخشيتُ أن يكون ذلك في القسم المصري وتضيع المثمنات التي لا تعوَّض فيه، وركبتُ عربة أسرعتْ بي إلى جهة المعرض والتقيتُ بعربات الإطفاء مسرعة، فلمَّا دخلت حديقة المعرض علمتُ أن النار في فنادق بعيدة عن قسمنا، ورأيت رجال المطافئ يصبُّون سيلًا مدرارًا على النار ويخرِّبون الأبنية المجاورة لها حتى يحصروها في دائرة معينة فأُخْمِدَت النار بعد أن أتلفت ثلاثة فنادق بعد الاشتغال ساعتين، ولم يُصَبْ أحد الناس بضُرٍّ. وظللتُ في تنقُّل بين ضواحي فلادلفيا حتى جاء الموعد الذي اخترتُهُ لزيارة عاصمة الولايات المتحدة وحضرة رئيسها بناءً على دعوته ودعوة قرينته، كما رأيتَ في الفصول السابقة.

واشنطن

والآن أتقدَّمُ إلى عاصمة هذه الدولة العظيمة وأصف بعض مشاهدها الكبرى، ولا بدَّ من ذكر شيء عن نظام حكومتها حتى يكون القارئ على بينة من أمره، وإنِّي ذاكرٌ هذا النظام على وجه الاختصار، وسوف أجعل ذكره في خلال الكلام عن المشاهد حتى لا يشعر القارئ بشيء من الملل، وتتمُّ الفائدة.

فقد مرَّ بك أنَّ حضرة زوجة الرئيس غرانت لمَّا جاءت المعرض دعتْنِي إلى زيارة «البيت الأبيض» في مدينة واشنطن، وهذا اسم القصر الفخيم الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية مع عائلته مدَّة تولِّي الرئاسة، بُنِيَ على نفقة الدولة وأكثره من الرخام الأبيض، وفيه كل ما يلزم من لوازم المعيشة المنزلية، والخُدَّام تُصْرَف لهم رواتبهم من الحكومة، فلا يتكلَّف الرئيس غير نقل أمتعته وخدمته الخاصة فقط حتى إذا انْقَضَتْ مدتُهُ تَرَكَ القصر لمن يخلفه في المنصب. وفي هذا القصر غرف فسيحة بديعة الإتقان فُرِشَتْ بالرياش الفاخر على نفقة الدولة أيضًا؛ لاستقبال وفود الناس والسفراء ورجال الأمة وغيرهم من الذين لا غِنَى للرئيس عن مقابلتهم، وهو في كلِّ أسبوع يقابل مَنْ شاء مقابلته من الناس ويصافح الصغير والكبير، ويسير بين رجال الدولة وأصغر العُمَّال سيرًا واحدًا، فلا تعرفه من بقية الرجال إلا إذا دلَّكَ إليه عارف بحاله. ومدة الرئاسة عندهم أربع سنوات يمكن أن يُعاد الانتخاب من بعدها، ولكن القوم تعوَّدوا من بعد أيام استقلالهم ألا يعيدوا انتخاب الرجل للرئاسة أكثر من مرة واحدة؛ لئلا تطول مدة حكمه ويستأثر بالأمر، فيكون في ذلك رجوع إلى الحكم الملوكي الذي ينفرُ منه الأميركان نفورًا كبيرًا. ويُعَدُّ الرئيس بمثابة رئيس الوزارة والملك في الممالك الدستورية، فهو أوسع سلطة وأكبر قوَّة من ملك الإنكليز أو ملك إيطاليا، ولهُ حق تعيين الوزراء من أعوانه دون سواهم، وكذلك هو يعيِّن السفراء والقناصل من أهل حزبه، وَلَهُ راتب قدرُهُ ٧٥ ألف ريال في السنة أي ١٥ ألف جنيه فقط، وكان فيما مرَّ خمسة آلاف، ويجوز لمجلس الأمة محاكمته وعزله إذا ثبت عليه إثم، وله الحق في رفض كلِّ قرار لمجلس الأمة إلا إذا أصرَّ المجلس على القرار بعد رفضه ولم يحصل ذلك إلى الآن، غير أنَّ أحد الرؤساء السابقين واسمه أندرو جونسون اتُّهم بأمور وَوَقَفَ أمام مجلس الشيوخ للمحاكمة فلم يقر المجلس على إدانته.

ووكيل الرئيس قليلة خصائصهُ، ولكنه يُنْتَخَبُ مثل الرئيس لأربع سنوات، وهو يرأس جلسات مجلس الشيوخ الذي سيأتي ذكره، وإذا مات أو قَضَتْ عليه علَّة بالانسحاب لم يُنْتَخَب سواهُ للرئاسة، بل قام الوكيل بأعماله إلى آخر المدَّة.

وإني بناءً على دعوة الرئيس غرانت وقرينته تركتُ فلادلفيا في قطار مرَّ على ضفة سكونكيل ودلوار، وهما النهران المحدقان بالمدينة، واخترق بعد ذلك سهولًا فسيحة فوصل واشنطن بعد ستِّ ساعات، وذهبتُ من المحطة توًّا إلى فندق فبتُّ ليلتي وقمتُ في الصباح التالي في عربة إلى قصر رئيس الجمهورية، فبعد سير قليل وَقَفَ الحوذي وقال لي إن هذا هو «البيت الأبيض» فأخذني العجب؛ لأنِّي لم أرَ شيئًا من أدلَّة الرئاسة والمُلْك حول ذلك البيت، فلا حُرَّاس يخطرون ولا جنود يقيمون ولا رجال بملابس الأُبَّهة والزخارف يظهرون، وفي ذلك مخالفة لكلِّ الممالك الأوروبية، فنزلتُ من العربة وقَرَعْتُ الجرس عملًا بإشارة الحوذي، فظهر لي خادم فتح الباب، وقال مَنْ تريد، فأعطيته اسمي على بطاقة الزيارة، وسألني أتريد مقابلة الرئيس نفسه أم قرينته أم صهره المستر سارتوريوس وجميعهم خرجوا من المنزل، قلت إذًا قدِّم ورقتي هذه إلى جناب الرئيس بنفسه وانصرفتُ وقد أذهلني بساطة الحاكم على دولة من أقوى دول الأرض، وعجبتُ لقوَّة النظام الذي يسود بلا جنود، والحرية التي تساوي رئيس الأمة الكبرى بأحقر أفرادها، وعُدْتُ إلى الفندق فأتاني في اليوم التالي مديرهُ وبيده بطاقة الزيارة باسم الجنرال غرانت رئيس الجمهورية، وعليها دعوة للعشاء في الغد عند الساعة السابعة مساءً، وعلمتُ أنَّ أحد المعاونين في القصر الأبيض أَحْضَرَ إليَّ تلك البطاقة، فذهبتُ إلى البيت الأبيض في الساعة المذكورة، وأدخلني الخادم إلى قاعة جميلة ما لبثتُ فيها قليلًا حتى جاءتها زوجة الرئيس، ثم حَضَرَ هو ومعه الجنرال شريدن وزير الحرب، وهو من أبطال الحرب الأميركية الأهلية أيضًا، وذهبتُ معهم إلى قاعة الطعام فوَجَدْنَا ابنة الرئيس وصهره، وجلسنا جميعًا على المائدة، وتناولنا العشاء ونحن نتحدَّث عن أمور كثيرة، أهمها عن مصر ومشاهدها وأحوالها، ولم أرَ في هذا القصر شيئًا يوجِبُ الذكر غير أنهُ في فرشهِ وأدواتهِ ونظامهِ ومنظرهِ لا يختلف عن بيوت الأكابر من الأميركان، وكثيرون من أصحاب الملايين لهم قصور أعظم من هذا القصر وأفخم، أنفقوا على زخرفها وإتقانها أضعاف الذي أُنْفِقَ على بيت رئيس الجمهورية. ولطالما رأيتُ هذا الرئيس العظيم مدَّة إقامتي في واشنطن نازلًا من بيته الأبيض أو في الشوارع المعروفة يتمشَّى وحده مثل بقية الناس، ويداه من وراء ظهره حسب العادة التي اشتُهرت عنه.

وأمَّا مشاهد هذه المدينة غير البيت الأبيض الذي يقيم فيه رئيس الجمهورية، فأهمُّها الكابتول، وهو دار الندوة الأميركية حيث يجتمع نُوَّاب الأمة وشيوخها للبحثِ في مهامِّ الدولة وما يلْزَمُ لها من النظامات والشئون، ومعلومٌ أنَّ حكومة هذه الجمهورية مثل غيرها من الحكومات الدستورية لها رئيس هو الذي تقدَّم ذكره، ومجلسان، أحدهما مجلس الشيوخ يرأسه وكيل رئيس الجمهورية كما تقدَّم وأعضاؤه ٨٨ كبيرًا يُندبون من كل ولاية اثنين، وعدد الولايات المتحدة الآن ٤٤ ولاية، وتنحصر أعمال هذا المجلس في التصديق على مشروعات النواب، ولكن لهم سلطة كبرى ليست لغيرهم من أعضاء المجالس العليا في أوروبا، فإنهم يعدُّون المجلس الأعلى في الجمهورية يحاكم أمامه رئيس الجمهورية والوزراء إذا ارتكبوا في وظائفهم ما يوجب هذه المحاكمة، ولهم حق المعارضة للرئيس إذا انتخب للمناصب العليا غير الذين يليقون لها، وفوق هذا فإن لهذا المجلس حق التصديق على المعاهدات أو المحالفات التي يبرمها الرئيس والوزراء مع الدول الأخرى، فهم بهذا لهم سلطة فوق كلِّ سلطة في الولايات المتحدة، وكبراء الأميركان يتسابقون إلى إحراز العضوية فيهِ ويدفعون الأموال الطائلة لنَيلِ هذا الشَّرَف، فترى أكثر الشيوخ الحاليين من الأغنياء وأصحاب الملايين، ولكلِّ عضوٍ من أعضاء مجلس الشيوخ هذا — أو السناتو كما يسمُّونه — خمسة آلاف ريال في السنة أو ألف جنيه، وهم يُنْتَخَبُون لمدة ست سنوات يجوز إعادة انتخابهم من بعدها، وفي كلِّ سنة يتغير ثلثهم ويبقى الثلثان إلى أن تنتهي السنوات الست فيتغيَّر الكل أو يُعاد انتخابهم، وهم يجتمعون في قاعة كبرى من قاعات الكابتول التي نحن في شأنها، ولكلٍّ منهم مقعد خاص به أمامه منضدة صغيرة ودُرْج لكتابة المذكرات وحفظ الأوراق، وفي ناديهم أماكن كثيرة للزائرين على اختلاف أنواعهم ولمكاتبي الجرائد، فهم في هذا مثل بقية المجالس النيابية في كلِّ الممالك الدستورية.

وفي الكابتول أيضًا قاعة كبرى لمجلس النواب، وهم الآن ٣٥٦ نائبًا يُنْتَخَبُون كل أربع سنوات مع رئيس الجمهورية، ويُنْتَقون من أعضاء المجالس النيابية في كلِّ ولاية، فليس يخْفَى أنَّ الولايات المتحدة مجموع ولايات مستقلَّة تمام الاستقلال في أمورها الداخلية، ولكلٍّ منها نظام يوجده رجالها وحاكم ووكيل الحاكم وأحكام وقوانين خاصة بها ومجلسان لسنِّ القوانين. وبقية ما يُقال عن مجلس النواب، مثل الذي قيل عن مجلس الشيوخ واسم المجلسين عند الأميركان «كونجرس»، كما أنَّ اسم مجلسي النواب والشيوخ عند الفرنسويين والإنكليز «بارلمنت».

وفي قصر الكابتول غير هذه القاعات أماكن أخرى لا محلَّ لذكرها هنا. والكابتول بناءٌ بديع أُسِّس على أكمة قائمة بنفسها مرتفعة حوالي ٩٠ قدمًا، وطول هذا البناء ٧٥١ قدمًا، وعرضهُ ٣٢٤ وعلو قبته ٢٨٨ قدمًا، في رأسهِ تمثال الحرية، وتُعَدُّ هذه الدار من أعظم أبنية المتمدِّنين، فإنه أُنْفِقَ عليها نحو ثلاثة ملايين ومائتي ألف جنيه، ولها ثلاثة مداخل كبرى، فالذي يدخلها من الباب الأوسط يرى في صدر البناء تمثال كولومبوس مكتشف أميركا وإلى يمينه من الداخل تمثال الاستقلال الأميركي، وعند الباب الشمالي تمثال يشير إلى تنصيب واشنطن على رئاسة الولايات المتحدة وتماثيل أخرى تمثِّل وصول كولومبوس إلى هذه القارَّة سنة ١٤٩٢، والتوقيع على قرار الاستقلال سنة ١٧٧٦، وتسليم كورنوالس القائد الإنكليزي سنة ١٧٨١، ورسم الولايات الأصلية وعددها ١٣، وغير هذا مما يوضِّح تاريخ أميركا وتقدُّمها من سنة الاكتشاف إلى سنة المعرض الذي كنَّا في شأنه.

هذا كله تجده في بناء الكابتول العظيم، ولا بدَّ قبل الانتقال منه أنْ نخبر القارئ أنَّ حكام الولايات المتحدة ورئيس جمهوريتها والنُّوَّاب والشيوخ وكل الذين يجتمعون في هذا المحلِّ وذكرنا أسماءهم، ينتمون إلى أحدِ الحزْبَين العظيمَين في البلاد، وهما حزب «الربوبليكنس» أو الجمهوريين، وحزب «الدموقراطس» أو العاميين. وكل مَنْ له دخل في سياسة الولايات المتحدة لا بد أن يكون تابعًا لأحد هذين الحزبين، ولكن الأكثرية لحزب الجمهوريين من زمانٍ طويل وأكثر رؤساء الجمهورية الذين انتُخبوا من بعد الحرب الأهلية منه، ما خلا المستر كليفلاند رئيس الجمهورية السابق فإنهُ زعيم الحزب الديموقراطي، فما دام الحزب الجمهوري له الأكثرية في البلاد فالرئيس يكون منه وكذلك السفراء والقناصل؛ لأن حكومة الولايات المتحدة جَرَتْ على عادة تختلف عن عادةِ الممالك الأوروبية في ترقية سفرائها ونقْلهم؛ فإن الرئيس هو الذي يعيِّن هؤلاء القناصل والسفراء في مراكزهم، فإذا انتهت مدته وجاء رئيس جديد تغيَّر أكثرهم وجاء بدلهم أصدقاء الرئيس الجديد. وفي هذا ما لا يخْفَى من تسليم المناصب السياسية إلى الذين لم يتمرَّنوا على أعمالها.

ويلي الكابتول في الأهمية المكتبة العمومية، ولها بناءٌ عظيم تظنه قصرًا منيفًا، طوله ٤٧٠ قدمًا وعرضه ٣٦٥، وقد أنفقوا عليها مليون ومائتي ألف جنيه، وفيها أربعة ملايين مجلَّد يجوز لمن شاء أن يطالعَ الذي يريده فيها، وهم كل سنة يزيدون عدد الكتب حبًّا في ترقية شأن العلم وإفادة الجمهور.

ودارُ التُّحَفِ وفيها من الأواني الصينية الغريبة صُنِعَتْ في الهند والصين واليابان، وفرنسا شيء كثير، وفيها قسم للصور من ضمن رسومه ستمائة رسم أو تزيد تمثِّل هيئة الهنود ومشايخهم وطرائق معيشتهم، ونريد بالهنود هنا أهل أميركا الأصليين، وهم جنس منفرد عن غيره من أجناس البشر عُرِفُوا بطول القامة ودقَّة الأنف وحِدَّة النظر واللون النحاسي المميِّز لهم عن سواهم، وقد كانوا كثارًا في أول الأمر، ولهم اطلاع واسع على بعض العلوم ولا سيَّما الفلكية منها، وآثارهم في بلاد المكسيك وما يليها إلى الجنوب تشهد بتقدُّمهم في العصور الخالية، ولكنهم أصحاب خديعة ومكر وحيلة ينفر الأوروبيون الذين عَمَرُوا أميركا منهم، وقد حَدَثَتْ بين الفريقين حروب كثيرة كادت تفضي إلى انقراض هؤلاء السكان الأصليين. وفي الولايات المتحدة نحو نصف مليون منهم الآن في الولايات القاصية، وهم بلا صوت في إدارة البلاد ولا شأن ولا نفوذ، وأكثر أهل الولايات المتحدة يكرهونهم كرهًا شديدًا، وإذا سُجِنَ أحدهم لجناية تعمَّدوا أذيَّتهُ ولم يصبروا عليه إلى حين صدور الحكم القانوني. وقد اشتُهر هؤلاء الهنود بالفتْك الذريع بالفتيات الأميركيات، وأهاجوا سخط الأميركان عليهم بسبب هذه الخَلَّة، فصار القوم الآن كلما سُجِنَ أثيم لمثل هذه التهمة يتنكَّر بعضهم ويهجمون على السجن ليلًا، فيستاقون الهندي الأثيم ويشنقونه بأمرِ أنفسهم بدل أمر العدل، وهذه عادة غريبة قاصرة على تلك الولايات المتحدة لا يأتونها إلا مع الهنود، ولا سيما إذا كانت جريمتهم من نوع تعذيب البنات، وتُعْرَفُ هذه العادة الأميركية باسم «لينتش»، وهي من أغرب ما يُرْوَى عن الأميركيين.

ويلي هذا المتحف في الأهمية بناءٌ عظيم للمتقاعدين أو هم أرباب المعاشات، فيه قاعات فسيحة تُعْقَدُ داخلها بعض الجمعيات الحافلة، ويمكن أن تضمَّ عشرين ألفًا من السامعين.

وقصر الاختراعات، وهو من أعظم الأبنية الأنيقة، خُصَّ بإدارة الاجتماعات وحصرها في المخترعين، وفيها الدلالة الكافية على اتساع نطاق الاختراع والسعي المفيد في بلاد الولايات المتحدة؛ فإن عدد الطلبات المسجَّلة في هذه الإدارة لا يقلُّ عن ألوف الألوف، وفيها نموذج من كلِّ اختراع يقدِّمه الذين يطلبون أن تُحصر منفعة الاختراع فيهم، فلا يقلُّ عددها عن نصف مليون مثال مُتْقَن الصنع، وقانون الاحتكار والاختراع في الولايات المتحدة كثير المواد، ولكنه يفي بمراد المخترعين أكثر من قوانين إنكلترا وفرنسا وغيرها، وأهمُّ موادِّه أنَّ المخترع يحقُّ له أن يحتكر بيع الصنف الذي يخترعه أو بعضه إلى مدة معلومة لا تقلُّ عن عشر سنين، وفي بعض الأحوال خمس عشرة سنة، لقاء رسوم لا تُذْكَر يدفعها إلى خزانة الدولة أقساطًا، فلا عَجَبَ إذا نَمَتِ الصناعة وكثر الاختراع في ظلِّ دولةٍ هذا نظامها.

ويلي ذلك قصور عظيمة للنِّظَاراتِ، وهي: الخارجية والمالية والحربيَّة والعدلية والزراعة والبحرية والبوسطة، وليس للداخلية وزارة في واشنطن؛ لأن كلَّ ولاية حرة في أمورها الداخلية، ولها وزيرٌ خاصٌّ بها في قاعدة الولاية، وقد دخلتُ سراي الخارجية بعد أن أرسلتُ اسمي إلى الوزير وهو يومئذٍ المستر فيش، فقابلني وقرأ كتاب توصيةٍ بي جئتُ بهِ من صديقٍ له في فلادلفيا فرحَّب بي كثيرًا، وأراني بعض جوانب الوزارة، وفي جملتها قاعة عظيمة حَوَتْ رسوم الوزراء الأميركيين جميعهم من يوم تأسيس الجمهورية إلى ذلك الحين، وقد دعاني هذا الوزير للعشاء في منزله فلبَّيت الطلب ووجدتُ عندهُ المستر سانفورد سفير الأميركان في بلاد البلجيك، وتوجَّهنا بعد العشاء إلى منزل وكيل الوزارة لحضور مرقص واحتفال كبير فلقيت هنالك النواب والشيوخ والحكام وسراة الأميركان، وفي جملتهم بعض من الذين قضوا فصل في الشتاء في مصر وعرفتهم فيها. ودخلتُ أيضًا وزارة المالية متفرِّجًا في جوانبها وفيها مطبعة سرِّيَّة تَطْبَعُ أوراق الحكومة المتداولة بين الناس كالنقود، وعملها سري لا يصل إليه العمال أنفسهم؛ لأن الذي يطْبَع لا يرى الذي يجمع الحروف، والذي يصْنَع الورق لا يعْرِف صانع الحبر وهلمَّ جرًّا، وفي كلِّ ذلك حذر من التقليد وتحمُّل الغبن والخسارة. ونظارة المالية هذه تصرف كل ورقة من هذه الأوراق تُقَدَّم إليها بقيمتها نقود، وهي في ذلك مثل بنك إنكلترا وبنك فرنسا وغيرها من المصارف تتداول الأيدي أوراقها كما نتداول النقود، وإذا وُجِدَت أوراق ماليَّة مزوَّرة من هذا القبيل فما على صاحبها إلا أن يحضر إلى نِظَارة المالية فتعطيه ورقة بقيمتها، وتغيِّر أيضًا الأوراق البالية من كثرة الاستعمال.

ومدينة واشنطن مثل الدولاب شكلًا، مركزها الكابتول الذي ذكرناه، ومن هناك تتفرَّع الشوارع في شكل دائرة، وتُسمَّى بأسماء حروف الهجاء تسهيلًا واختصارًا. والمنازل والحوانيت كلها منمَّرة مثل بقية المدن الكبيرة، والشوارع مصقولة بالأسفلت وهي واسعة كثيرة النظافة. وفي المدينة نحو ثلاثمائة وخمسين ألف نفس كانوا في أول هذا القرن ٨٠٢٨ فصاروا ٢٣٣٦٤ في سنة ١٨٤٠، ومائة وعشرة آلاف في سنة ١٨٧٠، ونحو مائة وخمسين ألفًا في سنة ١٨٨٠، وفي جملة سكانها ٤٠ ألفًا من النواب والشيوخ وموظفي الحكومة والسفراء وعائلات هؤلاء الموظفين؛ فلذلك قيل إنها مدينة الموظَّفين والنواب، وقد ارتفعت أسعار المأكولات فيها ارتفاعًا كبيرًا حتى إنها لتُعَدُّ الآن من أكثر مدن الأرض غلاءً، وأكثر الخادمين في منازلها من سكانها السود، وهم يقربون من خمسين ألفًا فيها. وفيها من المشاهد الكبرى غير الذي عَدَدْنَاهُ تماثيل لواشنطن محرِّر أميركا، ومسلَّة تُعْرَفُ باسمه أيضًا ارتفاعها ٥٥٥ قدمًا، وكلها من الرخام الأبيض بلغت نفقة إنشائها ثلاثمائة ألف جنيه، ومنها تمثال لافايت القائد الفرنسوي الذي أعان الأميركان على الاستقلال، وتمثال مارشال وهو مؤسِّس نظام المحاكم والقضاء في الولايات المتحدة.

وعُدْتُ بعد هذه السياحات إلى مركزي في فلادلفيا، فعلمتُ من المستر تشايلد أنَّ فيها اثنين من أشراف الإنكليز وكبراء مشاهيرهم، هما اللورد دوفرن واللورد روزبري، فأمَّا اللورد دوفرن فقد كان مدعوًّا للعشاء في تلك الليلة عند المستر تشايلد ودُعِيتُ أنا أيضًا، وكان اللورد دوفرن يومئذٍ حاكم مستعْمَرَة كندا الإنكليزية ثم صار واليًا للهند، ونُقِلَ منها إلى الآستانة سفيرًا ثم نُقِلَ إلى رومة فإلى باريس، ومنها استقال من الخدمة بعد أن شَهِدَ جميع الناس أنه من أبرع سفراء زمانه وأكثرهم استعدادًا لحلِّ المعضلات. وقد كان من حسن حظي أنِّي اجتمعتُ به للعشاء في منزلِ المستر تشايلد، وكان في جملة قوله لنا أنه شديدُ الميل إلى رؤية مصر وآثارها، وقد تحقَّقت أمنيته هذه؛ لأنه جاء مصر بعد إخماد الثورة العرابية مندوبًا من قِبَلِ حكومته لتنظيم حكومتها، وتقرير القواعد التي تسير عليها، ويذكر القُرَّاء أن مصر سائرة الآن بحسب آرائه المنشورة في التقرير المشهور، وأنه كان يدير حركة المسألة المصرية مدَّة وجوده في الآستانة، ولمَّا جاء مصر في مهمَّته المذكورة ندبني دولتلو رياض باشا يومًا لإبلاغه كلامًا، فلمَّا اجتمعتُ به ذكَّرني باجتماعنا في فلادلفيا قبل ذلك الحين بسبعة أعوام. وأمَّا اللورد روزبري فإنِّي أخبرني صديقي المستر دركسيل — الذي مرَّ ذكره — أنه كان ضيفًا عنده، ودعاني للعشاء في ذات ليلة فاجتمعت بهذا الرجل العظيم، وهو الذي صار بعد ذلك وزيرًا للخارجية على عهد غلادستون، ثم خَلَفَهُ في رئاسة الوزارة الحرَّة، وله شهرة تدوِّي بها الآفاق، فلست أزيد القرَّاء به علمًا، وكان يوم قابلتُهُ شابًّا تلوح عليه أدلَّة العظمة ويُكْثِرُ من الصمت والتأمُّل، ولكنه إذا قال شيئًا كان قوله عذْبًا طليًّا يسحر السامعين.

ختام المعرض

كلُّ الذي مرَّ بك تمَّ في ستة أشهر ونحن في المعرض الأميركي العام، حتى إذا قرب ختامه بدأنا بالاستعداد للعود إلى مصر، ووُزِّعَت الجوائز قبل الختام بقليل على أصحاب الصناعة والتجارة وغيرهم ممن عَرَضَ شيئًا يستحقُّ الذكر، وكان في جملة الجوائز واحدة للمعرض المصري نالها على نوع من القطن، ولمَّا جاء يوم الختام — وهو ١٠ نوفمبر سنة ١٨٧٦ — قدِمَ رئيس الجمهورية من العاصمة باحتفال مثل الذي وصفناه عند افتتاح المعرض، فألقى خطابًا وجيزًا شَكَرَ فيه الدول المتحابَّة التي شاركت الولايات المتحدة في احتفالها ومعرضها، وذكر مصر معها بنوع خاص، وأعلن إقفال المعرض، فأُطلق مائة مدفع ومدفع، وصَدَحَتِ الآلات الموسيقية بالأنغام، ودار ذكرُ الوداع والتهاني، وكان مدير المعرض وعماله يثنون على الحاضرين ويودِّعون ويذكرون أوقات الصفاء. وفي مساء ذلك اليوم استقبل رئيس الجمهورية مندوبي الدول للوداع وَشَكَرَ كلًّا منهم على حِدَة، وانصرفنا ونحن نذكر أيامًا قضيناها بكلِّ ما يفيد العقل والنفس، وأَرْسَلْتُ آخر التقارير عن المعرض إلى سموِّ الخديوي توفيق باشا، وبدأنا بتوديع أولئك الأصدقاء الذين أظهروا لنا لُطْفًا وكرمًا غير معتاد. ثم سافرنا من مدينة فلادلفيا آسفين لفِرَاقها ومَنْ فيها، وسِرْتُ إلى مدينة نيويورك ونزلتُ في فندق هوفمان أيامًا، ثم ركبتُ باخرة من بواخر شركة هويت ستار الإنكليزية، ومعنى اسمها النجم الأبيض ومركزها في مدينة لفربول ببلاد الإنكليز، فودَّعت الأصدقاء وغادرت ربوع الأميركان بعد إقامة ١٤ شهرًا، وكان ربَّان الباخرة رجلًا كريم الأخلاق، وفيها كثار من أهل الوجاهة بينهم الموسيو بلتنف معتمد روسيا في المعرض، ولمَّا كان زمان سفرنا في فصل الخريف أو أول الشتاء، فإن الجوَّ أظلم مدة السفر كله، وكثر الضباب والمطر، ولكن الأمواج لم تزد عن الحدِّ المعتاد فوصلت السفينة ميناء لفربول ليلة عيد الميلاد من تلك السنة بعد أن مخرت في البحر تسعة أيام اجتازت فيها ٣٠٠٠ ميل، وكان بعض الرُّكَّاب لا يصدِّقون أنها تصل في ذلك اليوم والبعض يصدِّقون، فجعلوا يتراهنون ولمَّا قُضي الأمر وتمَّ المراد ربح بعضهم من البعض الآخر مالًا وافرًا بهذا الرهان، وعوَّل أكثرهم على شراء هدية لربَّان الباخرة بهذا الربح؛ لأنه كان كثيرَ الاهتمام براحة المسافرين.

وعُدْتُ بعد ذلك إلى مصر فتشرَّفت بمقابلة سمو الخديوي وعرضتُ عليه نتيجة المأمورية، فأظهر الرضى والارتياح، وكان ذلك ختام سياحتي في الولايات المتحدة ومأموريتي في معرضها المشهور، والحمد لله على حسن الختام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤