معرض باريس العام
لمَّا أوشك قرنُ الحضارة والاختراع على الختام، خَطَرَ لأمة الفرنسيس أن تَجْعَلَ عامهُ الأخير ممثِّلًا لآياته جامعًا لكلِّ حسناته، فتقيم في باريس الحسناء معرضًا عامًّا لتسابق الأمم فيه إلى عرض النفائس والبدائع، وتتجلَّى آيات التقدُّم الباهر في كلِّ أبواب العمران والارتقاء، فنادت أممَ الأرض تدعوها إلى الاشتراك في هذا المعرض العظيم ولبَّتْهَا الشعوب متوافدة على عاصمتها البهيَّة من جميع الأمصار قادمةً بما أنْتَجَتْ قرائح نوابغها من فنون هذا الزمان ومصنوعاته وعلومه واكتشافاته، حتى إذا فُتِحَتْ أبواب هذا المعرض المشهور كانت القصور المنيفة قائمة في جوانب أرضه الرحيبة بين ما مهَّدوا من بهيِّ الطرق وبديع الحدائق والمشاهد التي تختلب العقول، وقد مُلِئَتْ هاتيك القصور بآثار الأوائل والأواخر، ونُسِّقَتْ غرائب التقدُّم الحديث من مبتكرات الأقوام المختلفة، فبدتْ جميعها آيات بيِّنات تشهد بمقدرة الإنسان وارتفاع درجة العمران في ذلك القرن العجيب؛ لأن المعرض كان صورة للأرض مصغَّرة ولكنها بديعة الإتقان وافية البيان ساحرة للأذهان، ما أتى الناس بمثلها في جميع الأزمان.
وما اشتُهر في الأقطار بناء هذا المعرض حتى بدأ كلُّ ذي قدرة على الذهاب يتحفَّز استعدادًا لرؤية محاسنه وبدائعه؛ لأنَّ المعرض مدرسة للمرء تزيده علمًا واختبارًا، وتمثِّل لديه ما صَنَعَ الأولون والآخرون وما أدركوا من أسرار الطبيعة، وما سخَّروا من عناصرها، وما أنجزوا لترقية حالة الأفراد والأقوام في كلِّ زمانٍ ومكان، وما يمكن أن يكون قد بلغه بالخبر ولم يظهر أمامه بالعيان، ولا سيَّما هذه المخترعات التي لا تُعَدُّ، وقد تناولت معظم ما في الأرض وغيَّرت شكلهُ تغييرًا يكاد يُحْسَب من خوارق المعجزات، مثل البخار الذي أودى بالأبعاد وقرَّب البلاد من البلاد، حتى إنه يمكن أن يسير المرء في أيامه حول الأرض في أقلِّ من أربعين يومًا لو استمرَّ على المسير، وما كان ذلك فيما قبل بالأمر الميسور، ومثل التلغراف الذي جعل الأرض أصغر مما صغَّرها البخار، حتى إن الواقف في أطراف الشمال يمكن له العلم بأخبار النائي في أقاصي الجنوب والوقوف على أحوالِ كلِّ صقع سحيق ساعة بعد ساعة، وأصبح الأمر الذي كان يلزمه صبر الأعوام حتى يصلَ بعض المواقع المتباعدَّة يذيع حال وقوعه وينتشر بين جميع الأقوام، وأغرب ما في هذا النوع تلغراف ماركوني الذي ينقل الأخبار بلا سلك ولا موصل عبر دقائق الهواء، تدفعها آلته الكهربائية أمواجًا تلو أمواج في الفضاء حتى إذا بلغت موضع آلة أخرى من هذا النوع نقرت عليها نقرًا خفيفًا وطبعت إشارات مثل إشارات التلغراف المألوف، فيقرأها القارئون وهم لا يرون مصدرها ولا واسطة وصولها.
وقد أصبح أهل أوروبا وأميركا يتناقلون درجات الحرارة وأخبار الهواء ومجاريه في الأوقيانوس الأتلانتيكي، ويعلمون حقيقتها قبل أن تبلغ شطوط أرضهم بهذا التلغراف العجيب، حتى إذا ظَهَرَ لهم أنَّ إعصارًا أو عصفًا كبيرًا قادم عليهم استعدُّوا له ولم يخاطروا بالسفن في ساعة البلاء الكبير، وأهمُّ من هذا أنَّ السفن ترسل أخبارها إلى الشواطئ، وهي في عَرْضِ البحر على بُعْدِ ألف وخمسمائة ميل عن البرِّ، فيدري الناس بأخبارها، وتعرف كلَّ أخبار الناس وهي بعيدة عنهم هذا البُعْد، حتى إذا وقعت إحداها في مصاب أمكن لها أن تخابر أقرب الشواطئ بأمرها فتأتيها النجدة بدل أن تستسلم للقضاء وتَغْرق في البحار، ثم هم جعلوا الآن يطبعون جرائد تصدر في البواخر كل يوم مدَّة سيرها وتستقي أخبارها ساعة بعد ساعة على طريقة ماركوني من الشطوط، فلا يحسب المسافر نفسه منقطعًا عن العالم وأهله مدَّة السفر؛ لأنه يعلم ما يريد بهذا الاختراع البديع. هذا وكثير غيره يراه المرء في المعارض موضحًا من نشأته إلى آخر درجاته، ويدرك بالعيان ما يلْزَم لإدراكه في الكتب طويل الأعوام.
ولو شئنا أن نعدَّ غرائب العصر الحديث التي مُثِّلَتْ في هذا المعرض لضاق دون عدِّها المقام؛ لأنهم طيَّروا الأصوات بتلفونهم وأنطقوا الجماد بفونوغرافهم، وولَّدوا غرائب الصناعة بهذه المجاري الكهربائية التي تُعَدُّ أساس الاختراعات الأخيرة وقاعدتها، حتى إنهم بدءوا يستعيضون بها عن البخار ويستخدمونها لكلِّ غاية من أمثال ما ذكرنا، ولا بدَّ أن يكون شأنها عظيمًا في المستقبل القريب، ففائدة المعارض الجامعة في هذه الأبواب ظاهرة، ولكن الخبر ليس كالعيان، هذا غير أنَّ المعارض تُعَدُّ أندية لأهل القول ورجال العلم والعمل، ومجامع لكلِّ فنٍّ ومطلب يختلف إليها زعماء الأفكار وينتابها المجدُّون العاملون على ترقية درجة الحضارة في الشرق والغرب، فيتبادلون الآراء ويتناقلون أخبار علومهم واكتشافهم، وينشرون آيات اختبارهم وفوائد بحثهم على العالمين.
ولقد كان من حظِّ العالم العربي أنَّ معرض باريس الأخير انتابه اثنان من الكُتَّاب المجيدين، ونشروا على الجمهور خلاصة ما رأوا فيه بألطف أسلوب وأجلى بيان، هما حضرة الفطِن الذكي أحمد بك زكي اتفق مع صديقه حضرة الدكتور ألفريد عيد صاحب مجلة طبيب العائلة، وأَرْسَلَ رسائل رنَّانة عن المعرض طَبَعَهُ كتابًا اسمه الدنيا في باريس، ووُزِّع على قُرَّاء تلك المجلة بلا ثمن فكان تحفة، عدد صفحاته ٢٧٢ مزيَّنة بجميل الرسوم تستحقُّ الذكر بين مفيد المطبوعات إلى آخر الزمان، وثانيهما حضرة العلَّامة المشهور الدكتور يعقوب صرُّوف صاحب مجلة المقتطف الغرَّاء؛ فإنه طبع في مجلته سلسلة مقالات بَلَغَتْ غاية الأرب في متانة عبارتها وبديع تنسيقها وصدق معانيها، حتى إنه لم يُكْتَب بلغة العرب أحسن منها في كثير من الفصول، هذان الكاتبان المُجيدان سبقا كلَّ سابق في كتابة المواد عن المعرض، حتى إنِّي لمَّا بدأت بتسطير هذا الفصل عوَّلت في كثير من أجزائه على مقالاتهما وأصبح شكرهما واجبًا بلا مراء.
ولقد عنَّ لي أن أُلْقِي دلوي في الدِّلاء فأزور هذا المعرض الأكبر، وأسجِّل ما يدور في خاطري عن بعض مشاهده وآياته، فاجتزتُ البحر إلى مرسيليا يوم ٢٩ يونيو سنة ١٩٠٠، وسرنا ذلك اليوم، فلمَّا كان الغد ظهرت جزيرة كريت ودَنَت الباخرة منها، فكانت تسير على مَقْرُبَةٍ منها وهي إلى الجهة اليُمْنَى حوالي ١٢ ساعة؛ لأنها جزيرة طويلة لا تقلُّ عن ١٥٠ كيلومترًا من طَرَفٍ إلى طرف. ثم دخلت الباخرة البحر اليوناني أطلقوا عليه هذا الاسم لوقوع الجزيرة اليونانية فيه، وفي جملتها الجزر التي كانت لدولة الإنكليز ثم تنازلت عنها لحكومة اليونان في بَدءِ حكم الملك جورج الحالي سنة ١٨٦٤، وظهرت في اليوم الثالث جزيرة «سيسيليا» إلى جهة اليمين وجبال كلابرا إلى جهة الشمال، وكلاهما من الأملاك الطليانية، ثم بلغنا خليج مسينا، وهو مضيق من الماء تنحصر فيه الأمواج وتكثُرُ أهوال السفر فيه بسبب الأنواء، وقد بُنِيَتْ على شاطئه مدينة مسينا المعروفة بجمال منظرها وحسن موقعها، فكنَّا نرى شوارعها من الباخرة وأعمدَّة قناديلها نظرًا إلى اقترابنا منها. وفي اليوم الرابع مَرَرْنَا بجزيرة كورسكا على الجهة اليمنى، وهي الجزيرة التابعة لفرنسا، وقام منها نابوليون الكبير، ثم جزيرة سردينيا وهي تابعة لإيطاليا، مَرَرْنَا بها وهي إلى الجهة اليسرى وظَلَلْنا على هذا السفر المتوالي حتى بلغنا مدينة مرسيليا في اليوم الخامس من أيام السفر، وأقمنا ١٢ ساعة في القطار.
وأقمتُ في باريس شهرًا كاملًا أتردَّد يومًا بعد يوم على معرضها العظيم، فرأيتُ أنَّ الذي يريد العلم الصحيح بكلِّ ما فيه يلْزَمُ له أن يقيم على ذلك مدَّة المعرض بأكملها وقد لا تكفيه، حتى إن أصحاب المعرض أنفسهم لا يعلمون — فيما أظنُّ — كلَّ ما يعرضون فيه من الأشكال، وتاريخ هذه المعارض يرجع إلى الأسواق التي كانوا يقيمونها في المدائن والقرى مدَّة العصور الغابرة، ولكنها لم تصر شيئًا يستحقُّ الذكر إلا في أواسط القرن الماضي حين أقام الإنكليز معرضًا عامًّا سنة ١٨٥١ بناءً على اقتراح البرنس ألبرت والد جلالة الملك إدورد الحالي، وقد بقيتْ أجزاء هذا المعرض وحُفِظَ كثير من بقاياه في سدنام من ضواحي لندن واسمه قصر البلور، وهو من مشاهد لندن المعدودة إلى اليوم، ومساحة هذا المعرض ٧٣١٥٠ مترًا مربَّعًا، زاره مدَّة وجوده ستة ملايين نفس، وعُدَّ ذلك يومئذٍ نجاحًا كبيرًا، ثم بدأت فرنسا بإقامة هذه المعارض فأنشأت أولها سنة ١٨٥٥ بعد الانتهاء من حرب القرم المشهورة في ميدان شان ده مارس، وكانت مساحته ١٦٨٠٠٠ متر مربَّع ومساحة قصره ٣٢٠٠٠ متر مربَّع، ثم عادت لندن في سنة ١٨٦٢ وأقامت معرضًا آخر في حي كنزنتون، وهو من مساكن الأكابر في عاصمة الإنكليز وقصره باقٍ إلى الآن جعلوه معرضًا للمنحوتات والنقوش القديمة والحديثة، ونَقَلُوا إليه كثيرًا مما كان في المتحف البريطاني المشهور. وفي سنة ١٨٧٣ قامت دولة النمسا لمجاراة الرفيقات في هذا المضمار فأنشأت معرض فيينَّا، وتبعتها جمهورية أميركا، ففتحت معرضها الأول سنة ١٨٧٦ تذكارًا لمرور مائة سنة على إعلان حريتها واستقلالها، وعلى أثر ذلك أصدرت حكومة فرنسا قرارًا بإقامة معرض عام في عاصمتها كل عشر سنين؛ لأن جمال باريس الفتَّان واتساع ضواحيها وميادينها وتوسُّط مركزها وشهرتها بالمحاسن عامَّةً تضمَّن إقبال الناس على معارضها — ولو كثرت — فأقامت معرضًا سنة ١٨٧٨ وبقي منه إلى الآن قصر ألترو كاديرو، وأقامت المعرض التالي سنة ١٨٨٩ تذكارًا لمرور مائة عام على سقوط الباستيل في يد الشعب الفرنسوي وسقوط الاستبداد ونشأة الحكومة الجمهورية في فرنسا، فكان معرضًا عظيم الشأن، وكانت جمهورية الأميركان أبدًا في تقدُّمٍ كبير، فرأت بعد ذلك أن تبرز أدلَّة تقدُّمها الباهر للعالمين، وأقامت معرض شيكاغو سنة ١٨٩٣ وجعلتهُ أكبر ما تمَّ من نوعهِ إلى ذلك الحين وانتهت بإقامة معرض سان لويس الأخير سنة ١٩٠٤، فكان أوسع المعارض طُرًّا في مساحة أرضهِ وزادت نفقاتهُ عن عشرة ملايين جنيه.
وأمَّا فرنسا فإنها عادت إلى العمل بقرارها السابق، وأرادت أن تخلِّدَ ذكر القرن التاسع عشر بتمثيل غرائبهِ، وجعلت المعرض في سنة ١٩٠٠ آخر سني القرن المذكور، وهو موضوع كلامنا الآن.
أُقيم هذا المعرض على ضفَّتَي نهر السين في ساحة شان دي مارس، وبلغت مساحة أرضه مليون وثمانين ألف متر مربَّع، منها ٤٦٠ ألفًا شُيِّدَتْ عليها الصروح الفخيمة والمباني الفاخرة ونحو مائة ألف متر زُرِعَتْ حدائق غنَّاء وروضات فيحاء تَشْرَح برؤيتها الصدور، وفي جملة ذلك زُهاء أربعين ألف متر فُرشَتْ بالعشب النضير بساطًا عديم المثال، ومثل هذا العشب السندسي كثير في جهات أوروبا ولونه كالزمرد البهي، وقد غَرَسُوا ٣٠٠٠ شجرة في جوانب هذا المعرض وجَعَلُوا بعضها حرجات في البهاء والرواء، وكان الرواء المزروع على أشكالهِ الكثيرة يشغل ٣٠٠٠ متر من الأرض وحدهُ غير بقيَّة الأشجار والأزهار، وجاءوا بنحو ٢٨ ألف قصعة أو برميل نَمَتْ فيها الشجيرات والأعشاب والأزهار المتنوِّعة ورصُّوها في طرق المعرض، وهم يتعهَّدونها يوميًّا ويسقونها ما يعادل ٣٠٠ ألف ليتر من الماء، وأقاموا كثيرًا من الأنصاب والتماثيل صُنِعَتْ من الرُّخَام يتدفَّق الماء منها على أشكال تروق للناظرين، يكفي للعلم بمحاسن هذه الأشجار والرياحين والأزهار أنه أُنْفِقَ عليها وحدها مبلغ ٢٣ ألف جنيه.
وقد فُتِحَ للمعرض ٤٥ بابًا تتوارد جموع الناس منها كل يوم إلى أجزائه، وبنوا فوق نهر السين ٢٥ جسرًا أو قنطرة، لمَّا أن المعرض كان على ضفَّتي النهر كما تقدَّم الكلام، فكان الجسر لا يبعد عن الجسر إلا مسافة ٣٠٠ متر بوجه التقريب حتى لا يجدَ الناس عناءً في الانتقال من جزء في المعرض إلى جزء، وكانوا يفتحون هذه الأبواب كلَّ صباح لجماهير المنتظرين في الساعة ٨ من الصباح، ويوصدونها في الساعة ١١ من الليل، ولكن عمال المعرض وهم لا يقلُّون عن ٢٠٠ رجل، كانوا يهبُّون للعمل قبل فَتْحِ أبوابه بساعتين على الأقلِّ لكنسِ طرقه وجوانبه وإعادة رونقه ونظامه، ويلي ذلك توارد المكلَّفين بحفظ الأمن والنظام وهم ٢٠٠ من الشرطة و٦٠٠ من الحُرَّاسِ و٣٠٠ من الفرسان و٥٠٠ من الحرس الجمهوري و٤٠٠ من المراقبين على الأبواب لتذاكر الدخول، فمجموع هؤلاء العمال ٣٠٠٠ وهم المعيَّنون رسميًّا من الحكومة ولجنة المعرض للقيام بأعماله العمومية لا يدخل في عدادهم العمال الذين خصُّوا من داخل المعارض بخدمة أجزائه وهم يُعدُّون بالألوف. وكان هؤلاء يدخلون بعد العمال الرسميين الذين ذكرناهم فيتواردون أفواجًا من باب المطاعم والحوانيت وخدمة الحانات والمقاولين والمتعهِّدين والجزَّارين وباعة السمك والطير وعمال البريد والتلغراف والتلفون، ويليهم موظَّفو المعرض كلٌّ يذهب إلى محلِّه، حتى إذا جاءت الساعة ٨ والمراقبون على الأبواب فُتِحَتْ للداخلين وبدأت حركة الأعمال، وقد كان عناؤهم بمسألة الانتقال شديدًا حتى يسهِّلوا سبل الحركة والمسير على الزائرين، فما تركوا وسيلة حتى عمدوا إليها فأتوا بالشيء الكثير من العربات السيارة والترامواي الكهربائي والبخاري أو الذي تجرُّه الخيل والدرَّاجات والسيارات أو هي الأوتوموبيل على أشكاله، والباخرات تسير في نهر السين طول مدَّة العمل مملوءة بالزائرين، تأتي بهم من بعيد الجوانب، وكلُّ عربة أو سفينة قادمة تُنْزِل الرُّكَّاب عند أقرب الأبواب إليها، فكان عددُ الداخلين ما بين مائتي ألف وثلاثمائة ألف في اليوم، وزاد عن هذا المعدَّل كثيرًا في أيام الآحاد والأعياد؛ لأنه دخله يوم عيد العنصرة نصف مليون زائر، وفي غد ذلك العيد نحو ذلك، وزاد عددهم في يوم الأحد ٩ سبتمبر حتى بلغ ستمائة ألف نفس.
وقد أنشئوا مكاتب للبريد داخل المعرض ووضعوا ٧٦ صندوقًا للمراسلات يفرغها السعاة في أوقات معلومة، وأوجدوا أيضًا مكاتب للتلغراف والتلفون بَلَغَ عددها ٥٦ مكتبًا حتى إن الواقف في أرض المعرض كان يمكن له مراسلة أيَّة جهة أرادها من أقاصي الأرض وهو في مكانه، فكان في ذلك تسهيل كبير لأعمال المعرض وأصحابه وزائريه، وفتحوا ثلاثة فروع للبنوك المشهورة داخل أرض المعرض، فكان المرء يقبض المال إذا أبرز تحويله بلا مشقَّة الانتقال إلى مكان بعيد، وبلغ عدد المطاعم في جوانب المعرض مبلغًا كبيرًا، ولكن كثرتها لم تغنِ عن الزِّحام بالنظر إلى كثرة القادمين، فكانوا يدخلون الطالبين في أكثرها بموجب نِمَر يعطونها لكلِّ قادم في دوره فيقف الرجل وبيده النمرة حتى إذا خلا مكان على موائد المطعم دخل وتغذَّى فيه، فكان كثير من الناس يضْجَر من طول زمان الوقوف وانتظار أمر الخادم له بالدخول فينصرف وهو جائعٌ والمال في جيبهِ وفير كثير.
- القصر الكبير: فأمَّا القصر الكبير فكان معرض الفنون، وما تمَّ في بابها مدَّة السنين
العشر التي مضت قبل افتتاح المعرض بلغت ساحته ٤٠٠٠٠ متر مربَّع أو أقل من
عشرة فدادين بالشيء القليل، وَجَمَعَ بين متانةِ البناء وفخامته وبين غرائب
الزخرف ودقَّة الصناعة وبهاء الألوان، ولم ينهج مهندسوه منهجًا واحدًا في
بنائه، ولكنهم جمعوا بين الأساليب اليونانية والأوروبية الوُسْطَى
(رنيسانس)، وهم يريدون بهذا الاسم تجدُّد الحضارة على عهد لويس الثالث عشر،
ولويس الرابع عشر من ملوك فرنسا في القرن السابع عشر. وقد جعلوا عُمُد هذا
البناء العجيب مضلَّعة وَنَقَشُوا بين ضلوعها ورق السنديان وثمرهُ على
المرمر النقي، وجعلوا هذا النقش بلون السنديان الطبيعي، فكان لمنظر تلك
العُمُد البهيَّة تأثير يُفْرِح النفوس، وزخرفوا واجهته بالتماثيل
والأنصاب، وجعلوا له بوَّابة واسعة ذات عُمُدٍ رخامية تُوصِل إلى رواقين،
قام كلُّ رواق منهما على ١٤ عمودًا، وهما يتصلان بفناء رحيب طوله ٢٠٠ متر
وعرضه ٥٥، وقد سُقف بالزجاج، فعرضت دولة فرنسا في هذا الفناء ما صنعه
النحَّاتون والمصوِّرون من أبنائها من النَّقْشِ والحفر على الرُّخَام
والحجر والجبس أشكالًا لا تُعَدُّ، هي رسوم رجال أو نساء من المشاهير ووحوش
ضارية وطيور، فكان عدد هذه القطع أكثر من ألف، واشتركت بقيَّة أمم أوروبا
مع فرنسا في عرض هذه الأنصاب والتماثيل، فكان لمجموعها منظر رهيب ولا
سيَّما إذا رآها المرء بمفرده في الليل، وقد تفنَّن الصُّنَّاع في نقش بعض
التماثيل فجعلوا بدن التمثال من الرُّخَام الأبيض وشعره من الأسود وملابسه
من الرُّخَام الملوَّن مثل تمثال الطبيعة، وهي شكل فتاة أسفرت عن وجهها
وكشفت ستارها، جسمها من الرُّخَام الأبيض وثوبها من الرُّخَام المعرَّق
بالأحمر والأصفر وشعرها من الأشقر الذهبي ورداؤها ضارب إلى الصُّفرة، وغير
هذا مما يُحْدِثُ فتنةً في نفوس الناظرين.
ولقد صعدنا الدور الثاني من هذه الفُسْحَة على سُلَّمٍ بديع الصنع من الحديد، جعلوا له أشكالًا يشتغل بها الفكر دون سواها مدَّة الصعود، فإنهم صنعوا الحديد على شكل الأوراق والأغصان الطبيعية وطلوها باللون الأخضر تمثيلًا للشكل الطبيعي، وقد خُصَّ هذا الدور الثاني بالفنون الجميلة أو «التصوير بالقلم»، وهو مطلبٌ له عند الغربيين قدر وقيمة، حتى إن نفقات هذا القسم في المعرض بلغت ١٢ مليون فرنك، وكان فيه ٤٠ قاعة جميلة عالية السقوف عريضة الجدران محلَّاة بعروق الذهب، وقد عُلِّقَتْ في جدرانها الرسوم النفيسة فلم تقل عن خمسة آلاف رسم، نصفها من صُنْعِ مصوِّري فرنسا والنصف من بقيَّة الأمم. وقد رأيتُ بين هاتيك الرسوم البديعة ما يمثِّل كل حالة في الأرض وأهلها، ففيها رسوم الليل والنهار، وصور الضاحك والباكي والشيخ والفتى والحب والهجر والجبال والبحار والمعارك والمؤتمرات والملوك والكبراء، وبقيَّة الأحوال على أشكالها، فكانت أفواج الزائرين تقف متأمِّلة ممعنة معجَبَة بتلك المحاسن التي أظهرتها فنون المصوِّرين، وحانت مني التفاتة إلى صورة في القسم الروسي، فألفيتُها تمثِّل ملك الحبشة في مجلسه الرسمي واقفًا ويده على رأس نمر، ورأيت صورة القيصر بطرس الأكبر وبيده طفل هو لويس ملك فرنسا العظيم؛ لأنه لمَّا ذهب بطرس لزيارة باريس كان لويس طفلًا فأخذه بين يديه وقال: إنِّي الآن أحمل فرنسا كلها بيدي، وهنالك صور أفراد بالشكل الطبيعي لا تستره الملابس، وهو منظر لم تأْلَفْه الأذهان الشرقية، ولكنهم تعوَّدوه في بلاد الغرب فترى صغارهم وكبارهم من النوعين يتفرَّجون عليها ولا يبالون، مثل صورة الريشة، وهي على شكل فتاة لم تلبس غير قميص يستر بدنها ومنكبيها، وحول وسطها منطقة تتدلَّى منها الحمائل وقد عقصت شعرها ولفَّتْهُ في أعلى الرأس غدائر متوالية صعدًا، ثم عصبت هذه الغدائر الحسناء بعصابة من الذهب مرصَّعة باللؤلؤ والجوهر، وقد أمسكت ريشة زرقاء بيسارها فكان ذلك علَّة اسمها.
ومن ذلك صورة الزهرة، وهي أيضًا على شكل فتاة غضَّة الشباب بهية الإهاب، أرخت بعض ذوائبها على جبين لها وضَّاح يزري بنور الصباح، وقد كلَّلت رأسها الجميل ببديع الأزهار والرياحين، وأمسكت بيمينها عرقًا من هذه الأزهار. وغير هذا كثير.
- القصر الصغير: وأمَّا القصر الصغير فما أُطلق عليه هذا الاسم لصغر فيه أو قلَّة في موادِّه؛ لأنه كان كثير الجوانب واسع الغُرَف جامعًا لكلِّ أثر من آثار الإنسان في أدواره السابقة جميعها، فترى فيه أدوات الحروب القديمة كالسيوف والخوذ والدروع والتروس، مما كانوا يحاربون به قبل السلاح الناري، وفيه الساعات القديمة والنقود على أشكالها، والأقفال والأمواس والسكاكين والآنية الفخارية، ورياش البيوت كلها وضعت على نَسَقٍ يريكها لمَّا كانت في أول الحالات كيف تحسَّنت وارتقت إلى أنْ بلغت مبلغها الحالي؛ لأنهم جمعوا موادَّ الحياكة والنسج كلها ليراها الرائي، ويتضح له كيف يُنْسَجُ الثوب، ثم كيف يُفصَّل، ثم كيف يُخاط، إلى غير ذلك، وسيبقى هذان القصران في جملة معارض باريس الدائمة إتمامًا للفائدة، وضنًّا بكنوزهما من التَّلَفِ، ذلك مع أن عاصمة الفرنسيس ملأى بالمتاحف، مثل: اللوفر والترو كاديرو، ولكنها أبدًا تطلب المزيد في مثل هذا الأمر المفيد.
ولمَّا انتهيتُ من هذه الأقسام صعدتُ الدور الأعلى من البناء، ولكن الصعود كان على طريقة تُعَدُّ من ألطف غرائب الصناعة؛ ذلك أننا لم نَرْقَ سلمًا في الصعود، بل وَقَفْنَا على بساط عرضه متر واحد، وهو أبدًا يدور ويلتفُّ على أسطوانة تديرها الكهربائية ولا نهاية له فيما يرى الراءون، فإذا وَقَفَ المرء على هذا البساط العجيب وأمسك بيمناه حبلًا من القطيفة يستعين به على الثبات جعل البساط السحري يلتفُّ من نفسه تحت الأرجل، ويرفع الواقف عليه بسير رويدًا حتى يوصله إلى الدور الأعلى، فكأنَّما هو بساط الريح الذي توهَّمته عقول الأولين فيما نشروا من الحكايات والأساطير. ولمَّا بلغت الدور الأعلى رأيتُ جماهير الخلق محتشدة ما بين البنايتين، وعلمتُ أنهم ينتظرون قدوم جلالة شاه إيران متفرِّجًا على المعرض، فنزلتُ ووقفتُ مع الواقفين، ورأيتُهُ حين أقبل مع بعض الكبراء، فإذا هو كما يمثِّله الرسم الشائع، ولكن الاصفرار ظاهر في عينيه، وقد خطَّ الشيب عارضيه، فنزل من العربة وسار من ورائه حاكم إقليم السين، ورئيس المجلس البلدي وياور رئيس الجمهورية، ولم يرجع من حيث تمكُن رؤيته؛ لأنه كان يؤثر التواري يومئذٍ بعد أن حاول أحد الفوضويين قتله في اليوم السابق.
هذه سلسلة القصور التي بُنِيَتْ على ضفَّة النهر تمثِّل حالة الدول والأمم تمثيلًا يجعل المتنقِّل بينها كأنه ساح من قُطْرٍ إلى قُطْرٍ، ورأى زُبْدَة ما يستحقُّ الذكر في كلٍّ من تلك الأقطار، وأمَّا قصور الدول الأخرى التي بُنيت في شارع تروكاديرو فهي كما يجيء:
ومن هذا القبيل قصر أوستراليا — أي القارة التي مَلَكَتْهَا إنكلترا برُمَّتها، وهي تزيد خمسة وعشرين ضعفًا عن مساحة أمِّها إنكلترا — وقد عرضوا في هذا القصر أنواع الذهب الأوسترالي، وهو أهمُّ حاصلات البلاد الطبيعية، وكان المُسْتَخْرَج منهُ في السنوات الخالية مقدارًا عظيمًا، فهم بنوا في هذا القصر هرمًا ورقموا عليه السنين التي اشتغلوا فيها بإخراج الذهب من أرض أوستراليا، ومقدار ما أخرجوا كل عام، وقد بَلَغَ الذي استخرجوه قبل عام المعرض — أي في سنة ١٨٩٩ — مليون أوقية ونصف مليون، بلغت قيمتها ٦ ملايين جنيه.
ومن هذا القبيل أيضًا قصر الترانسفال، وكانت يومئذٍ جمهورية مستقلَّة ولم تكن مستعْمَرَة إنكليزية كما هي الآن، وكانت الحرب سجالًا بينها وبين إنكلترا في أيام المعرض، فأراد أهلُهَا أن يظهِروا قوَّتهم على ما هم من قلَّة العدد وبراعتهم في مقاتلة دولة عظيمة جرَّدَتْ عليهم ٢٦٠ ألف مقاتل، قُتِلَ منهم وجُرِحَ نحو ٤٥٠٠٠ وأُنْفِقَ عليهم وعلى لوازم تلك الحرب ٢٣٠ مليون جنيه بعد حربٍ دامت ٣٠ شهرًا، وكان في صدْرِ القصر يوم دخلتُهُ صورة كروجر آخر رؤساء جمهورية البوير، وفيه نساءٌ وأولاد من البوير يظهِرون طرق استخراج الألماس من بلادهم وتنقيته والبحث عنه في الأتربة والحصى، وهنالك جدول بمقدار ما استُخرج من هذا الجوهر سنة بعد سنة، وجدول آخر بمقادير الذهب التي استخرجوها من مناجم جوهانسبرج، وكانت أهمية الترانسفال يومئذٍ منحصرة في الذهب والألماس والحرب التي أدَّت إلى تظاهر كثير من الزائرين.
على أنَّ الأمم لم تكتفِ بهذه القصور كما تقدَّم القول؛ فإن إنكلترا عَرَضَتْ أشياءها المتعدِّدة في ٢١ مكانًا غير قصرها في الأبنية العمومية، مثل قصر الآلات الميكانيكية، وقصر البحرية والحربية والمعادن والخمور. وأميركا أشغلت ٢٠ مكانًا بمعروضاتها، والنمسا وألمانيا ١٩، وبلجيكا ١٧ وإيطاليا ١٥، وكلٌّ من إسبانيا والسويد والنورويج ١٣، فكان تمثيل حالة الأمم ظاهرًا في كلِّ جزءٍ من أجزاء هذا المعرض العظيم.
وقد عرضوا في هذا القصر أيضًا أمثلة من البارجات الحربية على أشكالها، فكنتَ ترى المدرَّعة الكبرى مثالًا أمامك واقفًا على قاعدةٍ من الخشب، وقد ظهرت في هذا المثال أجزاء المدرَّعة إلى أعلاها بكلِّ وضوح، حتى إنهم صنعوا تماثيل الضباط واقفة تدير حركة البارجة وقد أعدُّوها للحرب والقتال أو للسفر إلى بعيد الثغور، فكان إعجاب الزائرين كثيرًا بما في هذا القصر الجميل.
ولبيان ما تقدَّم عن هذه الآية الكبرى من غرائب المعرض أقول: إنه شُكِّل في باريس شركة بَنَتْ جسرًا (كوبري) من خشب، طوله ٣٣٧٠ مترًا، ولكنه كان مع هذا الطول له منظر يقرب من الاستدارة، وقد أقاموا هذا الجسر على عُمُدٍ متينةٍ ضخمة من الحديد والخشب، وكان علوُّه سبعة أمتار عن سطح الأرض، وبنوا فوق هذه العُمُد رصيفًا من ألواح الخشب رُصَّتْ بعضُها إلى بعض حتى كأنَّها لوح واحد من الخشب، وركَّبوا تحت هذه الألواح عجلات صلبة، مثل عجلات السكك الحديدية تدور بقوَّة المجرى الكهربائي، وأنت لا ترى حركتها من تحت قدميك ولكنك ترى نفسك واقفًا فوق الرصيف أو جالسًا إلى أحد الكراسي الموضوعة عليه، وقد قسَّموا هذا الرصيف ثلاثة صفوف أو أرصفة، أحدها إلى جانب الآخر، ولا يبعد الرصيف منها عن التالي له إلا مقدار قيراطين، وكان الرصيف الأول أو هو الصف الأول من هذا الرصيف المتحرِّك ثابتًا لا يتحرَّك، وعرضه متر وعُشْر المتر، وأمَّا الرصيف الثاني وعرضه متر وتسعون سنتيمترًا، فكان يتحرَّك سائرًا بسرعة ٤ كيلومترات في الساعة، والثالث وعرضُهُ متران يتحرَّك أيضًا بضعْفَي سُرْعَة الرصيف الثاني — أي ٨ كيلومترات في الساعة — فكان الرُّكَّاب إذا أرادوا الذهاب على الرصيف المتحرِّك من مكانٍ في المعرض إلى مكانٍ يشترون تذكرة الانتقال من الرصيف، ثم يخطون إلى الرصيف الثاني المتحرِّك بالسرعة المعتادة، وهي سرعة الماشي في الطريق، ويتقدَّمون إلى الرصيف الثالث السريع، فإذا شاءوا وقفوا وإن شاءوا جلسوا إلى الكراسي، ويُخيَّل لهم أنَّ المكان ثابت بهم؛ لأنهم لا يرون له حركة ولا يشعرون بقلقلة ولا رجرجة ولا ضجَّة ولا غوغاء، ولا تصفير ولا عثير مثل الذي ينشأ عن الركوب في أرتال سكَّة الحديد، كلُّ ذلك والرصيف سائرٌ بهم يتنقَّل على ضفَّة السين ما بين هاتيك المباني الفخيمة والمشاهد العظيمة والحدائق الغنَّاء والقصور الشمَّاء والزخارف الحسناء، فهي سياحة قصيرة ليس لها نظير فيما تجتازه أرتال السكك الحديدية في جميع الأقطار.
ولقد كان الراكبون في الرصيف المتحرِّك يرون المعرض برُمَّتِهِ تقريبًا خلافًا للواقف في جانب منه ويمرُّون بالبواخر السائرة في النهر فتزيد المشاهد التي تُعْرَض عليهم في هذا السفر الشهي، وكان الرصيف المذكور دائم التحرُّك لا يبطُلُ انتقاله في جوانب المعرض من الصباح إلى المساء والناس تنتابه ألوفًا، هؤلاء يصعدون على الطريقة التي تقدَّم وصفُهَا، وهي طريقة التدرُّج من الرصيف الثابت إلى المستعجل، وهؤلاء ينزلون على عكس الطريقة المذكورة؛ أي إنهم ينتقلون من الرصيف الأخير إلى الثاني ومنه إلى الأول الثابت حيث يريدون النزول. وقد جعلوا حركة هذا الرصيف في أبهى بقاع المعرض وأعظم جوانبه، وكان يجتاز هذه المسافة في ٢٥ دقيقة، ويمكن أن يقفَ عليه ١٣٤٠٠ شخص في آنٍ واحد، وكان إقبال الناس على هذا الرصيف الجميل عظيمًا، وكثر حدوث النكات والحوادث المضحكة عليه في كلِّ يوم، فإن زُمَرًا من الناس كانت تجيء معًا للانتقال عليه، فإذا انتقل بعض الرفاق قبل غيرهم إلى الرصيف المستعجل سبقوا رفاقهم الذين يسيرون بسرعة الرصيف البطيء، فتنقسم الزُّمَر ويبعد الرفاق عن الرفاق، وهم لا يرون حركة توجب هذا الانفصال. ويقوم المتأخِّرون منهم عدْوًا حتى يدركوا المتقدِّمين، وكان بعضهم — ولا سيَّما الصغار — يركضون إلى الوراء فوق الرصيف — أي في جهة تخالف جهة سيره — فيتعبون من الجري، وهم على ما يرون ما زالوا في مواضعهم لا ينتقلون، وكان لهذا الرصيف تسع محطات، ولكنه لم يجعل تلك المحطات للوقوف؛ لأنه كان دائمَ الحركة، إنما الرُّكَّاب كانوا يدخلونه أو يخرجون منه في تلك المحطات، وكان المتفرِّجون من الكبار والصغار مئات على جوانبِ هذا الرصيف، والمصوِّرون أبدًا هنالك يأخذون رسوم الراكبين، وقد عرضوها بعد أيام المعرض بالسنماتوغراف، أو هي طريقة الصور المتحرِّكة في كثير من الأقطار، فكان الناس يرونها كأنَّما هم في أرض المعرض واقفون أمام الرصيف المذكور.
هذا أهمُّ ما يُقال في الرصيف المتحرِّك، وهو بدعةُ المعرض ونقطة بهائِهِ، وقد بَنَتْهُ الشركة التي بَنَتْ سكَّة الحديد الكهربائية وكان رأس مالها أربعة ملايين فرنك.
وقد فطنوا إلى طرق أخرى كثيرة غير هذه لتسهيل الانتقال على الزائرين، ووضعوا ألوفًا من المقاعد والكراسي في شوارع المعرض وميادينه وطرقه، كان الذين يتعبهم الانتقال الطويل يستريحون عليها بزهيد الأجرة، وكان في هذه الطرق نوعٌ من الكراسي المتحرِّكة يجلس إليها المرء مستريحًا ومن فوقه المظلَّة تقيه من المطر أو حر الشمس، ومن ورائه خادم يدفع الكرسي فيسير على عجلات صغيرة إلى حيث يريد الراكب الوقوف. وعلى الجملة فإنهم أظهروا مزيد الاهتمام براحة الزائرين، فلم أسمع بشكوى مدَّة هذا المعرض العظيم.
كان برج إيفل غريبة من غرائب الدهر في الليل؛ لأنك إذا رأيتَهُ في النهار حسبتَهُ طَودًا من الحديد، وأمَّا في الليل فإنه كان قطعةً من الذهب الوضَّاح رُصِّعَتْ بالجوهر الوهَّاج؛ لأنهم مدُّوا الأسلاك الكهربائية وأوصلوها بالمصابيح الملوَّنة في جميع أجزائه من أسفله إلى قمَّته الباسقة على علوِّ ٣٠٠ متر عن سطح الأرض، فكانت تلك الأنوار تتألَّق وتسطَعُ كأنها الكواكب في كبد السماء، وكذلك البوَّابة الأثرية أبدعوا وأجادوا في تنسيق مصابيحها الملوَّنة وعددها ٣٠٠٠ نور، وقنطرة إسكندر الثالث زيَّنوها بنحو ١٢٠٠ نور، وفعلوا مثل ذلك في كلِّ صرح وحرجة وبِرْكَة وطريق، فما كنتَ ترى في الليل إلا أنوارًا وراء أنوارٍ ترتاح إليها نفسك ويَعْجَزُ عن وصْفِ بهائها اللسان.
وفي وسط هذه البركة نحو ٦٠ أنبوبة يتصاعد الماء منها، ثم يعود وينصبُّ في البِرْكَة، وفي دائرها وجوانبها تماثيل وحوشٍ من الرُّخَام يخرُجُ الماء أيضًا من أفواهها، فما كنتَ ترى إلا مياهًا متدفِّقة بين تلك المناظر الحسناء. ثم إذا جاءت الساعة التاسعة من الليل بدأ موعد السِّحْر الحلال وآية الجمال الذي يُحْدِثُ في النفوس فتنة ويشرح الصدور؛ ذلك أنهم كانوا في هذه الساعة ينيرون قصر الماء بالأنوار وعددها ٥٠٠٠ في جوانبه، ويطلقون الماء فيتدفَّق في تلك العيون والنوافذ التي ذكرناها، ثم يبدءون بإرسال الألوان الشهيَّة البهيَّة على تلك المصابيح، وعلى الماء المتساقِط أيضًا من جميع الجوانب فترى القصر وماءه حينًا كله أخضر ثم يبدلون اللون، فإذا هو أحمر فإذا هو أزرق فإذا هو بنفسجي؛ ولهذا التغيير تأثير ساحر ومنظر لا يعْرِف قدره إلا من يراه؛ لأنك ترى جداول الماء أمامك تتدفَّق وهي حمراء أو خضراء، وقد يجعلون بعضها أحمر والبعض أخضر، أو يجعلون النقط المتساقطة من موضع واحد ألوانًا تُفرح القلوب وتدعو إلى الطَّرَبِ والإعجاب؛ ولهذا كان الناس يتسابقون إلى رؤية هذا المنظر الفتَّان من قبل موعده، ويتألَّبون ألوفًا شاخصة عيونها إلى قصر الماء حين تدنو ساعة هذه الأنوار وهذه الألوان، فما ترى إلا استحسانًا ولا تسمع إلا استصوابًا وإعجابًا من الواقفين، وقد بنوا هذا القصر البديع في شارع تروكاديرو، وهو الذي قام في وسطه برج إيفل وفيه خمسون ألف نور، وفي الطرف الآخر قصر التروكاديرو لا تُعَدُّ أنواره، فكنتَ ترى الناس كلَّ ليلة في هذا الشارع تُعَدُّ بعشرات الألوف، وقد عنَّ إليها أن تنتقلَ من بؤْرَةِ المحاسن الباهرة وتَبْرَح هذا المكان العجيب.
ولمَّا أقبل الرئيس لوبيه في الساعة الثالثة بعد الظهر بموكبه الحافل خفَّ الوزراء والقُوَّاد من سرادقاتهم لاستقباله، فلمَّا استقرَّ في مكانه رَفَعَ علم الجمهورية فوق رأسه، وأُطْلِقَت المدافع، وهتفت جماهير الناس بالدعاء له وللجيش، ثم بدأ الاستعراض بأمرٍ من وزير الحرب، وجعلت فرق المشاة والفرسان تمرُّ تباعًا بأزيائها المختلفة ونظامها البديع، وكلَّما وصلت فرقة أمام موضع الرئيس حيَّتْهُ، وكان رجال المدافع في آخر الجنود المستعرضة فلمَّا مرُّوا بعرباتهم الثقيلة ومدافعهم الفخمة ضجَّ الناس بدويِّ الاستحسان لهم، وكان منظر الفِرَق عامَّة غاية في الجمال والانتظام، ثم انتهى الاستعراض وجعلتْ هذه الفرق تعود إلى ثكناتها أمام كلِّ فرقة منها الموسيقى العسكرية، وعاد رئيس الجمهورية إلى قصره وهو في كلِّ موضع يحيِّي الجمهور ويحيُّونه بالهتاف ورَفْع القُبَّعَات، وبقي الناس كل ذلك النهار في هَرَجٍ وحماس وطَرَبٍ عظيم، حتى إذا جاء الليل وأُضيئت الأنوار التي لا تُعَدُّ في المعرض والمدينة، كانت باريس كأنها شعلة من نار تتوقَّد بما فيها من بدائع السحر الحلال، ومُدَّت الموائد في أطراف الطرق والرحْبات، فكان الناس ينتابونها للأكل والشرب وسماع الأنغام، ويقوم كثيرٌ منهم للرقص والمخاصرة في وسط الميادين، وقد بَطَلَ النقد وعمَّ السرور، وسار حكم العيد على الجميع. وكان في أجمل مواضع باريس في تلك الليلة بعد المعرض ساحة الكونكورد (الاتحاد) المشهورة، حيث اتجهت الأنظار إلى تمثال الألزاس واللورين، وهما الولايتان اللتان سُلِخَتَا من فرنسا وملكتهما ألمانيا بعد حرب سنة ١٨٧٠، وقد أقامت لهما الجمهورية هذا التمثال بعد الحرب على شكل أختَين متعانقتين، وغطَّى الجمهور شكلهما بالسواد إشارةً إلى الحداد على فَقْدِهما وضياعهما من قبضة فرنسا. وكان نشيد المارسليين الحماسي المشهور يُنشد حول هذا التمثال في كلِّ حين، والناس ينشدونه متأثرين متحمِّسين، وقد اشتدَّ زحام الناس مدَّة الليل في شوارع باريس وطرقها؛ لأن الناس رأوا أنَّ الليل صار نهارًا بما ضَاءَ من الأنوار في كلِّ منزلٍ وحانوت وسكَّة، فخرجوا بألوفهم يتمشَّون ويشاركون الآخرين في الفرح بالعيد ويتفرَّجون على تلك الأنوار والمشاهد التي تسحر الناظرين.
وإنِّي في الختام أقول إني شهدتُ معارض شتَّى في هولاندا وأميركا وفرنسا، والذي أرى أنَّ المعارض الباريسية تزيد رونقًا وأهميةً عن كلِّ المعارض التي تُقَام في المدن الأخرى، ولا عِبْرَة باتساع المعارض الأميركية الأخيرة؛ فإن ذلك الاتساع لم يجعلها أهمَّ من معارض باريس ولا أجملَ، وباريس نفسها تُعَدُّ معرضًا عامًّا لأنواع الحضارة وطوائف البشر؛ فهي أبدًا مثابة الكبراء والموسرين ومتنزَّه السائحين من كلِّ قُطْرٍ وملَّة، ليس يمكن أن تجاريها مدينة أخرى في هذه المزيَّة؛ نظرًا إلى ما اشتُهر عن باريس من المحاسن، وإلى قرب مركزها البديع من أكثر ديار المتمدِّنين.
فيشي
هي المدينة التي اشتُهرت بمياهها المعدنية على اختلاف الأشكال، تُوزَّع منها على سائر الأقطار، وينتابها ألوف الناس في كلِّ عام من كلِّ صوب، وبعضهم من أهل هذا القُطْر لمعالجة داء المعدة والكبد بمياهها، إمَّا شُرْبًا أو استحمامًا حسب شور الأطباء. ذهبتُ إليها من باريس والمسافة بينهما بسكَّة الحديد سبع ساعات، فإذا بها مدينة قامت في سهل فسيح منبسط يحكي أراضي القُطْر المصري، لا حَزَنَ فيها ولا وادٍ، وقد بُنِيَتْ على ضفَّتَي نهر اسمه آليه، يتدفَّق ويسيل في الشتاء من ماء المطر، فإذا جاء الصيف جفَّ أكثر الماء، ورأيت قاعه وما فيه من حصى ورمل مثل كثير من الأنهر التي تفيض بماء الأمطار. ومعظم ما نعلم عن تاريخ هذه المياه المعدنيَّة في فيشي، أنه كان في هذه الجهة دير لرهبان السيلستين، كانوا يعرفون نفع المياه التي تخرج من تلك الينابيع، بعضها بارد وبعضها حار، ويعالجون مرضاهم وبهائمهم بهذه المياه، فاتصل الأمر بأطباء باريس وعرفوا مزية ماء فيشي، حتى إن أطباء الملك لويس الرابع عشر استحضروا منها مقادير بالبراميل، وعولوا عليها في شفاء الأمراض، فثبت حينئذ نفعها، وبدأ الناس يعرفون طرق الانتفاع منها، وزاد في شهرتها أن مدام سفينيه الكاتبة المشهورة زارت فيشي سنة ١٦٧٦، وطفقت ترسل منها الرسائل الرنَّانة الشهيَّة بإنشائها اللطيف، فلمَّا شاعت تلك الرسائل أصبحت فيشي كعبة المستشفين. ولمَّا كانت أيام نابوليون الأول أَمَرَ هذا القائد الذكي ببناء مستشفى في مدينة فيشي وحمَّامات لجنوده، وبنى الإمبراطور نابوليون الثالث قصرًا فيها لقرينته الإمبراطورة أوجيني أقامت فيه زمانًا، وما زال القصر على حاله، وهو الآن مِلْك أحد الأطباء.
أمَّا ينابيع هذه المدينة المعدنية فثمانية، بعضها بارد والبعض حار، من ذلك نبع الكران كريل، ماؤه حار بدرجة ٤٤ سنتغراد، وماء أوبيتال وهو دافئ بدرجة ٣١، وماء سيلستين بارد درجته ١٢. وقد أظهرت الحكومة عناية كبرى بتحسين هذه المدينة، فأنشأت من زمان طويل روضة غنَّاء في وسطها، لها سور من الحجر علوُّه نحو متر، ولها أبواب عديدة لا تُقْفَل، وقد غَرَسُوا في جوانبها باسق الشجر الجميل من الصنوبر والكستناء، ونُظِّمَت الطرق البهيَّة في وسطه لتمشي فيها جماهير الناس والأفراد بعد شُرْبِ المياه أو تستريح على مقاعدها، وفي القهاوي الكثيرة الموجودة فيها، ويحيط بهذه الروضة دائرة من الفنادق لا يقلُّ عددها عن أربعين، وهي متلاصقة متوالية يتَّصل أحدُهَا بالآخر اتصالًا، فكلَّما جاء الصباح خَرَجَ المستَشْفُون من هذه الفنادق، وسار كلٌّ منهم إلى النَّبْعِ الموصوف لدائه، وأكثر الينابيع على مسيرة عشر دقائق من دائرة هذه الفنادق، وقد أحاطوا بعضها، مثل الكران كريل وأوبيتال التي تُبَاع مياهها في كلِّ الصيدليات بجدار من العُمُدِ الثخينة منفصل بعضها عن بعض، ومن داخلها بنات يمشين على القباقيب العالية؛ حذرًا على أرجلهنَّ من البلل، وهنَّ يأخذن من الناس أقداحهم؛ إذ يقف الناس خارج دائرة العُمد المذكورة فيملأنها بالماء ويناولنها للشاربين من طاقات صغيرة صُنِعَتْ لهذا الغرض، وإذا لم يكن مع الشارب قَدَح أعطينه الماء بقدح من عندهنَّ. ويتَّبع الناس في مقدار الماء المشروب وكيفية شُرْبِهِ أَمْرَ الأطباء، حتى إن بعضهم يشرب من نبع قبل الظهر ومن نبع آخر بعده، وإذا كان الماء حاميًا مثل الذي درجته ٤٤ شربوه مصًّا، كما يُشْرَب الشاي والقهوة. وأكثرهم يتحتَّم عليهم التمشِّي ساعات معلومة بعد شُرْبِ هذه المياه وتناوُل الطعام، وإذا جاء أحد الشاربين بشيء للفتاة التي تخدمه في هذه الينابيع، أخذت الفتاة ماله ووضعته في علبة ليُقسم المجموع كله على الرفيقات بالسواء في آخر النهار.
وفي هذه المدينة معامل يُصْنَعُ فيها الملح والأقراص من موادِّ مياهها المعدنية، وتُبَاع في جميع الصيدليات، وفيها مواضع كثيرة للتصدير تُمْلأ الزجاجات فيها بالماء المعدني مئات وألوفًا كثيرة كل يوم، وترسَلُ في القطارات إلى جميع الأقطار، وعدد الذين يذهبون للفُرْجَة على هذه المواضع ليس بقليل. وفي هذه المدينة من المتنزَّهات والملاهي ما يجعل السكن فيها هيِّنًا على المستشفين؛ أهمُّ ذلك الكازينو، وهو بناءٌ فخيمٌ على بُعْدِ خطوات قليلة عن الحديقة يمكن أن يضمَّ ١٠٠٠ متفرِّج وتُمثَّل فيه الروايات المفرحة والهزلية. وهنالك قاعة للرقص فسيحة أناروا سقْفَها بعشرات من المصابيح الكهربائية، فهي تَسْطَع كالنجوم في قُبَّة السماء، وهنالك أيضًا قاعات مشهورة للعب الميسر وقاعات للجرائد والكتابة، وعندهم جريدة تَنْشُرُ أسماء القادمين إلى فينشي كل يوم وأخبار السياسة والتجارة. وللكازينو ميدان واسع يشرف على الروضة التي سبق ذكرها، وفيه كثير من المقاعد والكراسي يجلس الناس إليها ويسمعون الموسيقى كل يوم بعد الظهر، وليس هذا كل ما في فيشي؛ لأنها أصبحت مثابة المتنزِّهين ومُلْتَقَى المتفرِّغين من عناء الأعمال، كما أنَّها مقصد الطالبين للعلاج، فهي فيها — غير ما تقدَّم ذكره — روضة أخرى أُنْشِئَتْ في أيام نابوليون الثالث، وفيها شجر الكستناء والصنوبر والدلب، وقد نُظمت هذه الروضة على ضفَّة النهر، وأُنْشِئَتْ بها مغارس الأزهار اللطيفة يعنون بها شديد العناء، فالناس يختلفون إلى هذه الروضة الحسناء ألوفًا يتمشَّون كلَّ يوم بين صفوف الشجر أو يجلسون إلى المقاعد القائمة في وسط الأزهار البهيَّة والرياحين. وهم يقيمون حفلة لسباق الخيل مرة كل عام في فيشي، فيأتيها المتفرِّجون من باريس وسواها لرؤية هذا السباق. وقد كان وصولي إلى فيشي في يوم ١٥ أوغسطس، وهو يوم عيد السيدة العذراء، عمَّ الناس فيه دليل السرور، فرأيتُ أنَّ زيارة هذه المدينة على الجملة تملأ البدن عافيةً والنفس سرورًا، ولا يخرج المرء منها إلا شاكرًا ما لقي من أسباب الصحة، والصحة أساس الحياة وهناء الوجود.
أمَّا مناظر الطريق بين هاتين المدينتين، فإنها مما لا تملُّ النفس رؤيته؛ فكلُّها بدائع طبيعية كالتي سبق وصفها في كثير من فصول هذا الكتاب، وصفوف من الشجر غُرِسَتْ على طرق هندسية تروق للناظرين، ولا سيَّما حين كان القطار يقرب من ضفاف الرون. ولمَّا قربنا من حدود فرنسا وسويسرا عند مدينة بل جارد تنوَّعت ألوان الغرس والزهر، فكانت الأرض جنَّات تجري من تحتها الأنهار، والأعشاب والأزهار كأنَّها الجواهر الحسناء تُبْهِرُ ببهائها الأنظار، وجبل سافوا يزيد في جمال هذه المناظر والوقار. ولمَّا بلغت مدينة جنيف ذهبتُ توًّا إلى فندق البوسطة، ونزلتُ في غرفة تطلُّ على بحيرتها المشهورة، وكان الليل قد أرخى سدوله فبِتْنَا ليلتنا فيها. فلمَّا أصبح الصباح عليَّ في تلك الغرفة فَتَحْتُ شباكها فتجلَّى لديَّ منظر بديع فتَّان لم أرَ أشهى منه وأبهى في كلِّ سياحاتي؛ لأنَّ البحيرة النقية البهيَّة كانت تحت طاقة غرفتي، وفيها الباخرات الجميلة تنقل ألوف السائحين والمتفرِّجين، ومن ورائها مباني جنيف وحدائقها الموصوفة، ويلي ذلك مناظر جبال جنيف مما ترى وصفه في الفصل الذي يجيء.
جنيف
هي قاعدة سويسرا الفرنسوية، ويُعَدُّ تاريخها جزءًا من تاريخ سويسرا العام، فنكتفي هنا بالقول إنها تولَّاها أمير ألماني حين دخلتْ في حوزة ألمانيا في القرن العاشر، فوقع النفور بين هذا الأمير وبين الأسقف؛ لأن الأمير استقلَّ بالأحكام فأغضب الأسقف وهو يومئذٍ ذو نفوذٍ عظيمٍ، فَوَقَعَ معظم الضرر من هذا التنافس على الأهالي الذين سئِمُوا الحالة ودعوا الكونت سافوا — وهو أمير جبل سافوا المجاور لجنيف — ليريحهم من الاثنين، فلبَّى الرجل الدعوة وقد لُقِّبَ خلفاؤه بلقب دوك سافوا، ومن نسله أمراء البيت المالك في إيطاليا الآن، أُطْلِقَ عليهم اسم موطنهم الأصلي، وهي عادة البيوت المالكة في أكثر الممالك الحديثة، مثل آل كوبرج وآل أورليان وآل هوهنزولرن، وغير هذا كثير ومعروف.
- (١)
تُعْتَبَر جميع المستشفيات الثابتة والنقَّالة في الحرب على الحياد، فيلزم على الجانبين حمايتها ومراعاتها ما دام فيها جريح أو مريض.
- (٢)
أنَّ رجال الدين والأطبَّاء وخَدَمَة المستشفيات عامة يُعدُّون على الحياد.
- (٣)
يجوز لخَدَمَةِ المستشفيات أن يبقوا على عملهم في معالجة المرضى والجرحى بعد أن يخرج جيشهم من موضع وجودهم ويحتله العدو، وإذا شاءوا الانسحاب بعد ذلك ساعدهم قائد العدو على الخروج، ولا يأخذون معهم في هذه الحالة غير أمتعتهم الخصوصية.
- (٤)
يجب المحافظة على جميع المرضى والجرحى والاعتناء بهم، بقطع النظر عن جنْسِهِم أو دينهم، ويحقُّ للقواعد أن يسلِّموا الجرحى والمرضى بعد الاتفاق بين الفريقين، حينما تَسْمَح الأحوال.
هذه أهمُّ الشروط التي اتفقوا عليها سنة ١٨٤٦، وقد جعلوا الصليب الأحمر علامة هذه الجمعيات؛ لأنه علامة جمهورية سويسرا التي ابتكرت هذا النظام، والشعار المذكور كثير في مصر يلبسه عمال المستشفيات في الجيش الإنكليزي ويُطْبَعُ على عرباتهم، وقد أُبْدِلَ بالهلال الأحمر في الجيش المصري ومستشفياته، وقد جَرُوا على هذه السُّنة في كلِّ حرب حتى إنه كلَّما نشبت حرب تألَّفت جمعيات الصليب الأحمر من أهل الأقطار الباقية على الحياد، وأَرْسَلَتْ عمالها وبواخرها وأدويتها لخدمة المتحاربين على السواء.
وسكان جنيف مع ضواحيها نحو ٨٠ ألفًا، نصفهم من البروتستانت، وكلهم يتكلَّمون الفرنسية، والسبب في تكاثر البروتستانت هنا مذبحة يوم برثلماوس المشهورة التي حَدَثَتْ في فرنسا سنة ١٥٧٢، حين هَرَبَ جون كالفن وبعض الذين أصابهم اضطهاد وخيم، وقام هذا الرجل خطيبًا في المدينة يُلْقِي الأقوال الحماسية حتى ضمَّ الأهالي إلى رأيه وحمَلهم على اعتناق مذهبه وطرد أسقفهم الكاثوليكي، فكثر أهل هذا المذهب من ذلك الحين. والمدينة على الجملة جوهرة من جواهر سويسرا، وهي من أجمل مدائنها، يحدُّها من الشرق والغرب والجنوب إقليم سافوا الذي ذكرناه، وقد كان مِلْكًا لأمراء سردينيا — وهم ملوك إيطاليا الحاليون — فأهْدَتْهُ حكومتهم لفرنسا سنة ١٨٦٠ جزاء مساعدتها لفكتور عمانوئيل الثاني على توحيد إيطاليا، وجعلها مملكة واحدة له ولنسله من بعده. وقد امتاز أهل جنيف من قِدَمٍ بصياغة المعادن والجواهر وبعمل الساعات؛ فهم يصدِّرون منها كل سنة ما تبلغ قيمته ١٠ ملايين فرنك أو تزيد، وأول ما صُنِعَ من الساعات التي تُدَار بلا مفتاح كان في هذه المدينة. ولها شهرة بمدارسها أيضًا؛ لأن التعليم فيها على قواعد قويمة حتى إن الطلبة يؤمُّون مدارسها من جميع الأقطار. وهي من قِدَمٍ مثابة الأدباء، نبغَ فيها الكاتب الفرنسي المشهور جان جاك روسو، وأقام فيها الشاعر الإنكليزي اللورد بيرون والقصَّاص الفرنسي لامارتين، وكتبوا فيها كثيرًا من ذائع مؤلَّفاتهم.
وقد بُنِيَ قسم من جنيف — وهو الأهمُّ — على ضفَّتي بحيرتها المشهورة التي سنُفْرِدُ لها فصلًا خصوصيًّا. وأمَّا القسم الآخر فبُني على نهر الرون الذي يخرج من طرف البحيرة وعليه ٨ جسور أو قناطر، أهمها جسر مون بلان، يذهب الناس عليه إلى الأحياء المبنيَّة على ضفة البحيرة أو النهر. وجنيف مثابة السائحين والزائرين، قلَّ أن يذهب امرؤ إلى سويسرا إلا ويقصدها؛ لأنَّ موقعها بديع وهواءها طيِّب، وأسباب المعيشة فيها هيِّنة، وليس فيها مع كلِّ متنزَّهاتها وملاهيها عيوب المدن الكبيرة الداعية إلى الانهماك وإضناء القوى. والجبل القريب منها مرصَّع بالضياع العامرة والفنادق الحافلة بالزائرين، قد تقيم فيها العائلات برخيص الثمن، وتتمتَّع بلذيذ المأكول الذي لا يدخله غشٌّ؛ فإن لبنَها وعسلها مما تُضْرَبُ به الأمثال، وإذا أردتَ أن ترى شكل المدينة عامَّة فقِفْ على جسر مون بلان الذي سبق ذكره ترَ البحيرة البهيَّة تمْخر فيها الباخرات المزخرفة، وإلى الضفتين صفَّان من شجر الدلب، تليهما الفنادق والمنازل الحسناء. ومن وراء هذا الجسر يرى الواقف كيف يخرج نهر رون الذي يروي قسمًا عظيمًا من أراضي فرنسا، فإذا سار المرء قليلًا من هذا الجسر إلى الضفَّة اليمنى رأى تمثال دوك برنسوك، وهو من أفْخَرِ آثار الصناعة الحديثة في أوروبا كلها، كان سبب إنشائه أنَّ هذا الأمير الألماني جارَ برعاياه فطردوه سنة ١٨٣٠، فلجأ إلى جنيف وأقام فيها بقيَّة أيامه، حتى إذا تُوفِّي سنة ١٨٧٣ وهب المدينة عشرين مليون فرنك، فأقاموا له هذا الأثر الجميل بمليونَي فرنك داخل حديقة صغيرة، وصُرِفَ الباقي في تحسين المدينة. ويليه الكورسال، وهو مثابة النزلاء والسائحين، فيه مواضع للمقامرة، ووراءه متحف إريانا فيه آثار سويسرية. وكلُّ هذا الطريق يرى السائرُ إلى يمينه البحيرة وباخراتها، وإلى يساره صفوف البناء المنسَّق والحوانيت الملأى بصناعة السويسريين، مثل الحلي والجواهر على أنواعها، ويمكن الوصول من هنا إلى قصر البارون روتشلد وحديقته بتذكرة تُعْطَى في الفنادق مجانًا. وفي هذا القصر من بدائع التماثيل الرُّخَامية ما يستوقف الأنظار.
هذا مُجْمَل ما في الضفة اليمنى. وأمَّا الضفة اليسرى من البحيرة فلا بدَّ للذهاب إليها من الرجوع إلى جسر مون بلان واجتيازه؛ حيث يرى المرء عند طرفه قهوة كورون يختلف إليها الناس ألوفًا، وجماعة النزلاء المصريين على نوعٍ أخص. وعلى مَقْرُبَةٍ منها تمثال الاتحاد الوطني، وهو عبارة عن فتاتين ضَمَّت إحداهما الأخرى تمثِّلان ولاية جنيف وبقيَّة الولايات السويسرية حين انضمامها سنة ١٨١٥ بعد سقوط نابوليون الأول الذي استولى على جنيف في جملة أملاكه. وبقرْبِ التمثال حديقة تُعْرَف بالحديقة الإنكليزية، وهي من بدائع الموجودات تَصْدَح الموسيقى فيها عصاري كل يوم، وتُقَام حفلات راقصة في الليالي المقمرة يأتيها أهل الطَّرَبِ من جميع الأنحاء؛ ليمتِّعوا الأنظار بمنظر البحيرة وفسقيات هذه الحديقة، وهي يخرج الماء من نحو ٣٠ حنفية فيها، ويندفع من صخور صناعية إلى علوِّ ٦٠ مترًا، وقد يلوِّنون الماء ليلًا فيكون له منظر يطْرِب النفوس. وفي هذه الحديقة منظر يمثِّل شكل مون بلان (الجبل الأبيض)، يرى الناس فيه هذا الجبل وغرائبه بالمنظار إذا لم يمكنهم المسير إليه. ويمكن المسير من هذه الحديقة إلى متنزَّه أوفيف، وهو مجموع مطاعم وحدائق ومناظر شتَّى، تروق للألوف الذين ينتابونها في الليل والنهار.
وقد انتهينا الآن من وصف المناظر القائمة على ضفَّتَي البحيرة، فعُدْ إلى جسر مون بلان لنَصِفَ ما قام في مدينة جنيف على ضفَّتي نهر الرون، وهي متصلة بهذه القناطر أو الجسور. وأول ما تجد في طريقك ميدان مولار تُباع فيه الأزهار على أنواعها، وفيه المحطة العمومية للترامواي الممتد إلى أطراف المدينة. واستمِرَّ على المسير من هنا تَبْلُغ محلًّا بُنِيَ فيه توربينٌ، وهي آلات ميكانيكية لها قوة ٤٢٠٠ حصان، تدور من جرْيِ الماء عليها وضغطه، فتُوزَّع منها المياه على المدينة، وتُنار بالكهربائية وتُدَار بعض المعامل، وكلُّ هذا بالقوَّة الكهربائية المتولَّدة من الحركة التي يولِّدها دفع الماء على هذه الآلات. ويمكن الوصول من هنا إلى موضع مُلْتَقى النهرين، وهما نهر الرون الذي نحن بشأنه، ونهر آفر يجري معه، ويفرق بين النهرين لونهما؛ لأن الرون ماؤه أزرق كالفيروز الشهي، ونهر آفر أغبر فإنه يخرج من الجبل، ويجرف كثيرًا في سبيله من المواد فيتعكَّر ماؤه. ويمكن المسير من هذا الموضع إلى متنزَّه الباستيون، وهو جميل كثير المراسح والملاعب والمناظر الحسناء، وهو من المواضع التي تُقْضَى فيها الأوقات ولا تملُّ النفوس، والانتقال من طرف في جنيف إلى طرفٍ هيِّن يسير؛ لأن فروع الترامواي كائنة في كلِّ جانب، والعربات كثيرة أينما سِرْتَ.
ركبتُ باخرة كبيرة من الرصيف الذي قُتِلَتْ فيه إليزابيث إمبراطورة النمسا في ١٠ سبتمبر سنة ١٨٩٨، يدلُّونك إلى المحلِّ الذي حصلت الواقعة فيه مؤشَّرًا عليه بعلامة. ولهذه البواخر مقاعد في الطبقة العليا منها، وهي أبدًا ملأى بالمسافرين والمتنزِّهين، هذا يتأمَّل مناظر البلاد، وهذا يحدق بنظره في بعض الأشياء، وهذا يقرأ أو يسمع قول الدليل، والكلُّ في حديث دائم بكثير من ألسن الأمم المتمدِّنة. والناس في البرِّ يتأمَّلون هذه البواخر ومَنْ فيها أيضًا، حتى إن السفر في هذه البحيرة يُعدُّ من ألذِّ النزهات. وقد قامت الباخرة الساعة ٩ صباحًا محاذية للشاطئ السويسري، فوقفت في فيرسوا (١)، وهي قريبة من جنيف تكثر فيها الفنادق الصغيرة الرخيصة للعائلات، وكلها هادئة أمامها الحدائق المنظَّمة، وقامت الباخرة بعد ذلك إلى كيوبيت (٢)، ومنها إلى سيلي (٣)، ثم إلى مينون (٤)، وكلُّ هذه المدن تبدأ من طرف الشاطئ وترتفع ارتفاعًا متدرِّجًا، وفيها كثير من كروم العنب والفواكه، حتى إنه لا يخلو بيت من حديقة له صغيرة، ولمجموعها منظر جميل من البحيرة يأخذ بمجامع القلوب. ودارت الباخرة بعد ذلك فانتقلت إلى الشاطئ الفرنسوي، ووقفتْ في تولون (٥)، ثم سارت إلى إيفيان (٦)، ثم رجعتْ إلى الشاطئ السويسري ورَسَتْ في لوزان (٧)، وكان المسافرون يصعدون وينزلون في كلِّ بلد، ولحركتهم لذَّة يشعر بها الركاب. وتقدَّمت الباخرة بعد لوزان إلى فيفة (٨)، ثم إلى مونترو (٩)، ثم إلى شيلون (١٠)، وهي في طرف البحيرة عند حدود فرنسا وسويسرا. وقد وُضِعَ عَلَمُ كلِّ جمهورية في جهتها، ثم دارت الباخرة على اليمين إلى شاطئ فرنسا فوقفت في بوفرة (١١)، فمدينة سان جنجولف (١٢)، ثم ميلري (١٣)، ثم تورون (١٤)، ثم أمفون (١٥)، ثم دوفين (١٦)، وهي آخر محطة رجعنا منها إلى جنيف فبلغناها الساعة ٩ من المساء، فكأنَّما هذه السياحة استغرقت ١١ ساعة، وكانت نزهة لا تملُّ منها النفوس. وفي البواخر أطعمة ومشروبات من كلِّ الأنواع، وفي البرِّ ما بين ضفة البحيرة والمرتفعات طرق بهيَّة جميلة، زُرِعَتْ فيها صفوف الدلب، والناس يتمشَّون فيها أو يسيرون بالعربات والدرَّاجات بين الأغصان الملتفَّة والمناظر البديعة، ولهم خطوط ترامواي في هذه الطرق أيضًا تسهِّل الانتقال.
ويجدُرُ بكلِّ سائح في هذه المواضع الجميلة أن يقضي يومًا في البحيرة متنقِّلًا على مثل ما قدَّمنا، ثم يزور مدينتَي لوزان وإيفيان، وهما أجمل ما رُصِّعَتْ به ضفاف البحيرة بعد جنيف. وقد فعلت ذلك وذهبتُ إلى لوزان، وهي في الجانب السويسري، سكانها نحو ٤٠ ألفًا، تُعدُّ من أجمل المدن منظرًا وهواءً وموقعًا، وقد بُنِيَتْ على تلال وهضبات شهيَّة، وفيها المستشفيات والمدارس ودور العجزة وغير هذا مما اختاروها بسبب ما اشتهر عن حسن موقعها وطيب الهواء. وزُرْتُ مدينة إيفيان أيضًا، وهي فرنسوية مشهورة بمائها المعدني؛ فلذلك يكثر الذاهبون للاستشفاء بمائها — وقد وصفت غير مرة كيفية المعيشة في هذه المواضع، فلا حاجة إلى التكرار — ولا يقوم قطار من إيفيان إلا وفيه عربات عديدة من مائها يصدرونه إلى جميع الجهات. وأكثر الذين يأتونها من أهل فرنسا، وهي كثيرة القصور والحدائق الغَنَّاء، فيها دوالي العنب معلَّقة ما بين شجرة وشجرة، والعناقيد مدلَّاة ما بين تلك الأشجار، وفيها كثير من شجر التفاح والكمثرى وغيرهما، وفيها الفنادق الكثيرة تُقام فيها المراقص الحافلة، كما يجري في فنادق مصر مدَّة الشتاء. وقد زرتُ أحد ينابيعها المعدنية البهيَّة فألفيتُه مثل ينابيع النمسا وغيرها مما ورد ذكره وتفاصيله في فصولٍ أخرى من هذا الكتاب.
وقد التقينا في جنيف بحضرات سعاد بك وكيل دائرة دولة البرنس جميل باشا طوسن سابقًا، وراشد بك من أعيان مصر، فاتفقنا معهما على زيارة الجبل الأبيض مع ما في ذلك من العناء، فذهبنا في قطار وقف في عدَّة قرى سويسرية، ثم وَصَلَ مدينة لفايه بعد ٣ ساعات، وكان معنا سياح أكثرهم من الإنكليز والأميركان قاصدين رؤية الجبل الأبيض أيضًا، فتناولنا الغداء جميعًا في مطعم المحطة، ثم ركبنا عربة كانت تنتظرنا وتجرُّها ستة جياد قوية بدينة فقامت في طريق خُصَّت بهذه العربات، ولا تسع غير واحدة منها بعد واحدة، وكانت العربة تلفُّ وتتعرَّج وترتدُّ وتدور حسب المعتاد في كلِّ طرق الصعود إلى الجبال، فلمَّا مضى على هذه الحالة خمس ساعات بلغنا بلد شاموني، وهي في أسفل الجبل الأبيض، ولا حاجة إلى القول إن المناظر التي شاهدناها في هذه الساعات الخمس كانت من بدائع الطبيعة بلا مراء. والمسافة بين جنيف وشاموني ٨ ساعات، فهي قريبة من بلد الأُنْسِ، ولكنها كانت إلى عهدٍ قريبٍ — أي من نحو ٥٠ سنة — بلا ساكن فأصبحت الآن مثابة حسناء يقصدُها نحو خمسة آلاف زائر كل عام ليتقدَّموا منها إلى قمَّة الجبل، وقد قامت فيها الفنادق الكبرى، بعضها يلي بعضًا؛ لتفي بحاجات هؤلاء السائحين، وكثير منهم لا يتعدُّون هذه الجهة، بل يكتفون بما يرون أمامهم من القمم والمناظر الفتَّانة، ولكنني كنتُ من الذين عوَّلوا على رؤية هذه المناظر وبلوغ آخرها، فبتُّ مع الذين عزموا عزمي ليلة في شاموني، وقضينا ليلة أخرى للراحة والاستعداد ثم اشترينا الأحزمة وجوارب الصوف تُلْبَس فوق الحذاء منعًا للزلق، وأخذنا لكلٍّ منا عصًا في آخرها حديد كالحربة يُغرز في الثلج؛ حتى يتكئ السائر عليه ولا ينقلب فيحلُّ به العطب. واكترى كلٌّ منا بغلًا وكان معه دليل أيضًا، وفي صباح اليوم التالي تقدَّمْنَا على هذه البغال صعدًا بسير رويد، وكانت الطريق ضيِّقة لا تكفي لأكثر من جسم البغل، وكان مرورنا متعرِّجًا حسب العادة، والمناظر من دوننا في هذه الشِّعَاب والمسالك والأودية مما يخلب الأبصار، ولا سيَّما هذه الصخور الهائلة المقدار، منها حجر من الصوَّان أراه لنا الدليل وطوله ١٥ مترًا. وبَعْدَ أن سِرْنَا أربع ساعات على ظهور البغال بلغنا محطة مونتافير، وهي آخر ما يمكن الوصول إليه على المطايا، علوُّها ٦٤٠ قدمًا، وربما عجِبَ القارئ إذا ذكرنا له أننا وجدنا في هذه الطريق العسيرة المحفوفة بالبرد والأخطار بعضًا من السيدات — يغلب على الظنِّ أنهنَّ أميركيات — كنَّ سائرات في تلك المواقف على الأقدام، وهنَّ يفتخرن بمثل هذه المخاطرات، ويؤثرن المشي على الركوب مغالاةً في الفخر والمباهاة، والبرد هنا شديد والهواء يجلد الأبدان. وقد بنوا في مونتافير فندقًا صغيرًا تُبَاع فيه السلع الصغرى تذكارًا لهذا الموضع، وأكثرها من الخشب كالأفاريز الصغيرة وسكاكين الورق وحجارة الألماس الصخري، وهي باهرة اللمعان كأنها الجوهر الحقيقي وحجارة عين الهر، وفي سويسرا كثير من هذين النوعين يصوغونه بالذهب ويبيعونه في أشْهَرِ المدن. وقد التقينا في هذا الفندق ببعض مندوبي الصحافة قادمين من معرض باريس، وفي جملتهم حضرة الأمير أمين أرسلان مندوبًا من صحف البلاد العثمانية، وكان معه نواب صحف الصين واليابان وغيرهما، وأمَّا مصر فلم تندب صحفها أحدًا في ذلك المؤتمر. وكثير من السائحين يبلغون هذا المكان ولا يمرُّون فوق بحر الجليد.
وأمَّا بحر الجليد هذا، فهو موضع غريب على مَقْرُبَةٍ من مونتافير، وهو عبارة عن وادٍ عظيم ما بين جبلين شاهقين، وقد غطَّى الجليد أرضه فجعلها كالبحر منظرًا؛ ولذلك أطلقوا هذا الاسم عليه، وطول هذا الوادي أربعة أميال ونصف، وعرضه ميل وربع ميل، فلمَّا جاء وقتُ الذهاب إليه قمنا مع القائمين، وسِرْنَا في أول الأمر نحو ربع ساعة حتى إذا بلغنا طَرَفَ هذا البحر المتجمِّد لبسنا جوارب الصوف فوق الأحذية، وأمسكنا بالعصي التي في طرفها حراب يسارنا، وأمسك بنا الأدلَّاء باليمين، فسِرْنَا على هذه الطريقة فوق منبَسَطٍ من الماء المتجمِّد، وقد نقروا فيه مواضع صغيرة هي إشارات إلى حيث يلْزَم أن تُوضع القدم، وتأمَّلنا ساعتئذٍ منظر هذا الموضع، فإذا هو بديع يولِّد مهابة في النفوس، وهو بلا مثيل بين المناظر التي ينتابها السائحون، ولا سيَّما إذا تأمَّله الواقف في وسطه كما فعلنا حين بلغنا موضعًا يُقال له البئر، وهو مكان تشقَّق فيه الجليد وجرى من تحته الماء، والناس يجرون فوق هذا المنظر ويعجبون. وبينا نحن نتأمَّل هذه البئر العجيبة نبَّه السياح والأدلَّاء أذهاننا إلى منظرٍ بعيدٍ، هو جرف من التراب انهال من الجبل الأبيض على مرأى منا، وتطايَرَ غباره فكان كالغيم والضباب في ذلك الجوِّ الرفيع.
وظللنا على المسير حتى بلغنا الطرف الآخر بعد ثلث ساعة بوجه التقريب، وكانت الحجارة الصوانية الكبرى مبَعْثَرَة هناك، وهي متساقطة من جبل شابو القائم أمامنا، فجعلت أنتقل من حجر إلى حجر حتى وصلتُ آخر الجليد، وهو في الأرض بأسفل الجبل المذكور، ولكنني لحظت في تلك الساعة أن كلَّ السائحين عادوا من بئر الجليد السابق ذكرها إلى الفندق في نفس الطريق التي سلكناها ونحن قادمون، وبقيتُ أنا وحدي مع بعض من الرِّفاق فلم أُدْرِك العلَّة في ذلك لأول وهلة، وعُدْتُ مع رفاقي إلى المسير على الأقدام في لحف جبل شابو حتى التقينا بجبل آخر من الحجر الصواني الساطع يلمع كأنه المرآة، وقد قام على شكل عمودي تقريبًا كأنه الجدار أسفله في بحر الجليد وأعلاه في القمة، ولا بدَّ من اجتياز هذا الجبل العسر لإتمام الرحلة، فهم وجدوا طريقًا سمُّوها «موفه با» — أي المسلك الوعِر — وطريقهم هذه عبارة عن نقر في هذا الجبل، غرزوا به قضيبًا من نحاس، فكنتُ أسير على هذه الحفر وأُمْسِكُ بذلك الحديد وأنا على غاية من التأنِّي والحذر، وكان وجهي لا يبعد أكثر من نصف متر عن هذا الجدار، وورائي بحر الجليد، ولكنني لم ألتفت إلى الوراء عملًا بنصيحة الدليل. وقد أدركتُ في هذا الموقف الحَرِج سبب رجوع السياح من بئر الجليد؛ لأنَّ المسير هنا خطر على السائرين، وقد استغرق معنا في هذا المكان نحو خمس دقائق تقريبًا، فلمَّا انتهينا منه فرحنا بالفرج وحمدنا الرحمن الرحيم، ورأينا أمامنا خُصًّا تُباع فيه المشروبات، فاسترحنا قليلًا في هذا الخصِّ، وهو تُرَى منه الجبال المحيطة بهذا الموضع — وقد ذكرنا بعضها — ويُرى أيضًا منتهى بحر الجليد، وهو قائمٌ كالجدار يخرج منه نهر آفر وينحدِرُ بسرعة، وهو الذي يسير مع نهر الرون من جنيف وقد سبق ذكره، وعلوُّ هذا الجدار من ١٠ أمتار إلى ١٥ مترًا، وهو يزْحَفُ في بعض الأحيان ويتقدَّم من ثِقَلِ الجليد وراءه، فهم يضعون علامات من الحجر لمواضع انتقاله، وقد سِرْنَا من هذا المكان على الأقدام في طريق أُنشئ بلحف الجبل، وطوله نحو ثلث ساعة، والتقينا أثناء المسير هنا بجبل آخر صوَّاني، لون حجره أزرق، قام عموديًّا كالجدار أيضًا، وعلوُّه ١٢٠٠ متر، وعرضه ٤٠٠ متر تقريبًا، تنحدر من أعلاه مياه صافية كالزُّلال، وهي تجري على كلِّ عرضه، ولها منظر بديع، شربنا من هذه المياه بأيدينا؛ لأنَّ منظرها شهي، والشرب منها يحلو للنفوس. وما زلنا على المسير حتى انتهينا من المسالك العسيرة، ورأينا البغال واقفة بانتظارنا حسب اتفاق سابق مع الأدلَّاء، فركبنا ظهورها وسِرْنَا في وادٍ من شجر الصنوبر تلتفُّ أغصانُهُ بعضها على بعض حتى إنها تحجب نورَ الشمس في بعض أجزاء هذه الغيضة الحسناء. ولمَّا هبطنا على ظهور المطايا إلى سطح الأرض ظللنا على المسير بين عمائر السويسريين ومزارعهم وبساتينهم ومراعيهم الغضَّة، نمتِّع الطَّرْف بمنظر هذه الأكواخ التي قامت على عُمُدٍ من الخشب، ومن تحتها فراغ حتى إذا جَرَتِ السيول لا تجرف الأكواخ بما فيها، ولها سطوح من القرميد المتدرِّج في الصعود، لا تستقرُّ عليه المياه من الأمطار الكثيرة. وكنا نَعْجَبُ بالمواشي والأبقار الضليعة تتنقَّل بين هذه الأعشاب والمرابع البهيَّة حتى إذا جاءت الساعة ٧ مساءً عُدْنَا إلى شاموني بعد سفر ١٢ ساعة، وقد أعيانا التعب من المسير في أعسر مسالك أوروبا الجبلية، وأغرب مواقع الطبيعة الفخيمة التي تؤثِّر في الصدور.
وبقينا يومًا آخر في شاموني طلبًا للراحة، ثم عُدْنَا إلى جنيف من طريق غير الذي سلكناه في المجيء، فقمنا في حافلة مثل عربات الأمنبوس صعدت الجبل بنا متعرِّجة ملتفَّة حسب العادة، وأكثر مسيرها على ضفَّة نهر آفر الذي يخرج من بحر الجليد وقد مرَّ ذكره. ورأينا أنَّ النهر ضيِّق المَجْرَى، سريع كثير الصخور الزرقاء في مجراه، فهو سلسلة شلَّالات صغيرة لها دويٌّ عظيم. وكانت الحافلة تنساب بين هذه المشاهد الساحرة للعيان، وتدخُلُ من نفق إلى نفق، وكلَّما برزت من أحدها تجلَّتْ لنا المحاسن التي لا يصفها قلم أو لسان، أو تمر فوق جسور من الحديد عُلِّقَتْ من طرف في تلك المرتفعات إلى طرف حتى بلغنا جهة تُعْرَف باسم تريان، وهي في وادٍ شاهق علوُّه ٤٢٥٠ قدمًا، وقنن من الجبال المكسوَّة بالثلج من حولها تُعَدُّ بالعشرات، منها جبل يُدْعَى مسلَّة البرج علوُّه ١١٥٨٥ قدمًا، والثلج في جوانبه إلى أبعاد بعيدة له منظر كاللجين حتى أطلقوا عليه اسم الفضية لهذا السبب، ومن هنا تتصل الطرق بشعاب سان برنار المشهورة بديرها وكلابها التي تُنْقِذُ المسافرين من الموت تحت الجليد، وهي في الطريق الذي سَلَكَهُ نابوليون حين هاجم إيطاليا وَفَتَحَهَا في أوائل عهده بالحروب. وفي تريان هذه فندق أقمنا فيه ريثما استرحنا وتغذَّينا ثم أبدلنا خيل العربة وعُدْنَا في طريق يُعْرَف باسم الرأس الأسود، ومَرَرْنَا في طريقنا بجبل الطير فنبَّه الأدلَّاء نظرَنَا إلى قمَّته التي كنا عازمين على بلوغها، فإذا بالنسور محلِّقة من فوقه، وهو على علوِّ ٨٦٥٥ قدمًا. وكنا في كلِّ هذه الطريق نرى شجر الصنوبر منسَّقًا أحسن تنسيق صفوفًا فوق صفوفٍ، كأنها عُولجت بالمقراض، وبعض هذه الأشجار ينمو فوق الصخور. ولقينا في الطريق صغارًا من الصبية والبنات يبيعون أزهارًا برِّيَّة وفاكهة حتى بلغنا مدينة مارتيني، وهي تتصل بجنيف بسكَّة الحديد وبُعْدُها عن تريان ٤ ساعات وعن شاموني ٨، واجتزنا المسافة بين مارتيني وجنيف بسكَّة الحديد في ٣ ساعات مَرَرْنَا فيها بجبل سان موريس الشهير، وكانت مناظر الجبال والوديان والبلاد كلها بين شاموني وجنيف في طريق الذهاب والإياب معًا مجموع غرائب وبدائع طبيعية تخلب الألباب، وكثير من السياح يكتفون بالمناظر التي يمكن الوصول إليها بالعربة وسكَّة الحديد لحد شاموني فلا يعبئون بزيارة الجبل الأبيض مشيًا وركوبًا على البغال كما فعلنا؛ لأنَّ في ذلك مشقَّة لا تَخْفَى على القارئين.
وكان الغرض من حضوري إلى مرسيليا أنْ أذهبَ منها إلى الجزائر، وهي بلاد عربية قديمة العهد، لها تاريخ ممتزج بتواريخ مصر والشام يهمُّ قُرَّاء اللغة العربية، وعليه عزمتُ على السياحة في بلاد الجزائر ووضعتُ لها خلاصة تاريخية حسب عادتي؛ ليكون المرء على بينةٍ مما يقرأ عنها، وهي خلاصة مفيدة، بدأتُهَا من عهد الفينيقيين فالرومانيين والفندال والروم والعرب والأتراك والفرنسويين، وأسهبتُ في الأسباب التي أدَّت إلى قيام وسقوط كلِّ دولة على حِدَتِهَا.