ألمانيا
خلاصة تاريخية
إن دولة ألمانيا الحالية حديثة العهد، لم تبدأ على شكلها الحالي إلا في عام ١٨٧١، ولكن الممالك التي تتكوَّن منها هذه السلطنة قديمة لكلٍّ منها تاريخ خاص بها، وقد كان أكثرها يُعَدُّ في جملة الممالك الألمانية القديمة التي رَأَسَتْهَا بلاد النمسا إلى أواسط القرن الأخير.
وأَشْهَر ما يُذْكَر عن ألمانيا أنَّ أقوامها عُرِفُوا بالبطش والبسالة في أيام الرومانيين، ولم يأتوا أمرًا يُذْكَر حتى قام شارلمان ونظَّم مملكته وخلفه ابنه لويس دبوناير، وهو الذي قسَّم مملكته الواسعة على أولاده في حياته، فأصاب أحدهم واسمه لويس الجرماني، أكثر الولايات الألمانية، ومن ذلك الحين — أي من سنة ٨٤٣ — صارت ألمانيا دولة مستقلَّة، ينتخب ملوكها الأمراء والأعيان وأساقفة الكنيسة، وأكثر الذين وَقَعَ عليهم الانتخاب من العائلات المالكة، مثل عائلة شارلمان، وقام منهم ملوك اشتُهر ذكرهم في التاريخ، منهم أوتو الكبير ملك من سنة ٩٣٦ إلى ٩٧٣، وهو رجل أكثر من الغزوات وحارب البابوات مرارًا؛ فانتصر عليهم وجعل يعيِّن من شاء منهم، ولكنَّ الأمر انقلب بعد موته إلى ضدِّ ذلك، فعَلَا شأنُ البابوات وصاروا يأمرون ملوك ألمانيا وينهونهم ويعزلون بعضهم ويولُّونهم، ويفرضون عليهم الغرامات وأنواع العقاب. وكان في جملة الذين اشتُهروا من هؤلاء الملوك فريدريك بارباروسا ملك من سنة ١١٥٢ إلى ١١٩٠، واشترك في الحروب الصليبية، وكان له فيها المواقع المشهورة، أهمها واقعة قونية التي فَتَحَها عنوةً بعد قتال شديد.
وظلَّ أمراء ألمانيا ورؤساء الدين فيها ينْتَخبون الملوك واحدًا بعد واحد حتى قام رودولف هابسبرج المشهور في سنة ١٣٧٣، وهو الذي أسَّسَ الدولة الحاكمة إلى الآن في النمسا — وقد مرَّ ذكره — فعظم نفوذه، وحصر المُلْك في عائلته فصار قياصرة ألمانيا كلهم من آل هابسبرج إلى أيام نابوليون، وزاد نفوذ آل هابسبرج زيادةً كبرى في القرن الخامس عشر بسبب اقتران الأمير مكسميليان ابن الملك فريدريك الثالث بالأميرة ماري من آل بورغونيا، وتلا ذلك أنَّ مكسميليان هذا صار إمبراطورًا واقترن ابنه فيليب بالأميرة حنَّة ابنة ملك إسبانيا، فرُزِقَ الاثنان ولدًا هو كارل الخامس ملك إسبانيا وإمبراطور النمسا المشهور الذي حَدَثَ الانقلاب الديني وقامت طائفة البروتستانت في أيامه، وهو الذي قيل إن الشمس لم تغرب عن أملاكه؛ لأنه فوق ما ملك في أوروبا كان معظم القارَّة الأميركية له، وقام بحروب عديدة مع فرانسوا الأول ملك فرنسا — ترى ذكرها في تاريخ الدولة الفرنسية — وتنازَلَ كارل الخامس هذا عن الملك لابنه فيليب سنة ١٥٥٦، فعاد أمراء ألمانيا إلى انتخاب الإمبراطور، واختاروا فردناند الأول من آل هابسبرج ثم تعاقَبَ من بعده الملوك، ولا أهمية لأكثرهم.
وبينا هذه الحوادث تجري قامت قوَّة جديدة في ألمانيا هي أصلُ المملكة الألمانية الحالية، ذلك أنَّ بروسيا كانت إلى ذلك الحين بلادًا غير مشهورة تابعة لمملكة النمسا أو لمملكة بولونيا، ففي سنة ١٤١٥ اشتُهر أمير من أمرائها اسمه فريدريك صاحب مقاطعة هوهنزولرن، وضمَّ إلى أملاكه القليلة ولاية براندنبرج بإذنٍ من ملك بوهيميا؛ فأسَّس بذلك دولة هوهنزولرن براندنبرج، وهي الحاكمة إلى الآن في بروسيا وألمانيا. وفي سنة ١٥٣٥ صار صاحب براندنبرج أميرًا لبروسيا تحت سيادة ملك بولونيا، وفي سنة ١٦٠٨ صار صاحب بروسيا هذه أميرًا من أمراء المملكة الألمانية الذين لهم حق انتخاب الإمبراطور، وهم يومئذٍ سبعة دوكات يُلقَّبون بلقب «المنتخب»؛ تمييزًا لهم عن الأمراء الآخرين الذين لم يحق لهم ذلك، فعَظُمَ من بعد هذا شأن بروسيا حتى إن فريدريك وليم — أحد أمرائها ويُعْرَف باسم المنتخب الكبير — استقلَّ بالأحكام في بلاده استقلالًا تامًّا في سنة ١٦٥٧، وحفيده انتحل لقب ملك سنة ١٧٠١، واشتُهر باسم فريدريك الأول ملك بروسيا، ولمَّا قام فريدريك الكبير في سنة ١٧٤٠ وتولَّى مهام الملك كان لبروسيا شأنٌ عظيمٌ بين دول أوروبا، وعند ملكها خزانة عامرة بالمال والتحف، وجيش قوي منظَّم عدده ستُّون ألفًا، فزادت قوَّة بروسيا وأملاكها في أيامه زيادة تُذْكَر، وحدثت حروب مشهورة بسبب انقطاع الذكور من آل هابسبرج ووصول الملك إلى يد ماريا تريزا ملكة النمسا المشهورة، وكان فريدريك الكبير ملك بروسيا طامعًا بزيادة الملك، فلمَّا رأت ماريا تريزا ذلك منه أرْضَتْهُ بقسمٍ كبير من بلاد سيليسيا في جنوب بروسيا، فامتنع عن محاربتها ورضي ببقاء الملك الألماني في يد آل هابسبرج وعَقَدَ معها ومع غيرها معاهدة أيكس لاشايل المشهورة في سنة ١٧٤٨، فاشتُهر من بعد هذه المعاهدة أنَّ بروسيا من أقوى دول أوروبا، وصارت حليفة للنمسا بدل أن تكون تابعة لها في الاتحاد الألماني.
وفي سنة ١٧٥٦ أحسَّ ملك بروسيا بمؤامرة وتواطؤ ما بين ملوك روسيا والنمسا وساكسونيا على محاربته واغتصاب شيء من أملاكه؛ فجنَّد الجيوش وبدأ يحارب الأعداء في كلِّ جهة، واستعان بمحالفيه فاشتبكت أوروبا كلها بحرب طويلة دامت ٣٠ سنة، وهي تُعْرَف في التاريخ باسم «حرب الثلاثين سنة» عُقِدَ من بعدها صلح، أهم شروطه أنْ تبقى الأمور على مثل ما كانت قبل الحرب. ومات فريدريك الكبير هذا في سنة ١٧٨٦ فورثه ابن أخيه فريدريك ولهلم الثاني، وكانت مملكة بروسيا في أيامه عظيمة الشأن تقدَّمت في العلم والصناعة وقام منها الفطاحل، مثل: لينتز وولف وكانْت وجوبث وشلر، وهم من الفلاسفة الذين شادوا لبلادهم في ساحة العلم والقلم صروح الفخر العظيم، وحَدَثَتْ في تلك الأثناء الثورة الفرنسوية فاهتزَّت لها عروش أوروبا، ومن ثَمَّ تحالفت النمسا وبروسيا وإنكلترا على محاربة فرنسا، فبدأت تلك المعارك الهائلة التي انتهت بموقعة واترلو سنة ١٨١٥ بين نابوليون من جهة وجنود أوروبا من جهة، وترى بيانها في تاريخ فرنسا. وقد كانت بروسيا خاسرة في أكثر المعارك التي حَضَرَهَا نابوليون بنفسه واضطرَّت إلى قبول ما أراد من الشروط، وهو — على ما يظهر للأكثرين — كان يحسب حسابًا كبيرًا لاتحاد الأقوام الألمانية على بلاده، فلمَّا انتصر على إمبراطور النمسا في معركة أوسترلتز وبدَّد جنود بروسيا في المعارك السابقة، ألغى الإمبراطورية الألمانية التي كان مركزها إلى ذلك الحين في فيينَّا، وصار إمبراطور ألمانيا يُعْرَف باسم ملك النمسا فقط، واستقلَّت بروسيا من تلك السيادة الوهمية استقلالًا تامًّا، وأُنشئت ممالك أخرى ألمانية رَأَسَ بعضها إخوة نابوليون بونابارت وبعضها صنائعه، فتمَّ بذلك المراد للفاتح الفرنسوي العظيم من تجزئة السلطنة الألمانية، وظلَّ الحال على مثل هذا إلى يوم خذلانه على يد الإنكليز والبروسيين في معركة واترلو سنة ١٨١٥.
ولمَّا رأت الأقوام الألمانية عند سقوط نابوليون أنَّ مصلحتها تقوم بالانضمام عادتْ إليه في الحال فعُقِدَ في فيينَّا مؤتمر عظيم الشُّهْرَة في شهر نوفمبر من سنة ١٨١٥ حَضَرَه النُّوَّاب من ٣٧ مملكة وإمارة ألمانية، وقرَّروا فيه أنْ تتحد هذه الممالك والإمارات اتحادها الأول، وأن تكون النمسا مركز هذا الاتحاد الألماني في الجنوب وبروسيا مركزه في الشمال، وتظلُّ كل مملكة أو إمارة حرَّة في شئونها الداخلية، وزادوا على هذا في سنة ١٨٣٧ أنهم قرَّروا إبطال الرسوم الجمركية أو تخفيفها فيما بين هذه الممالك الألمانية؛ فتمَّ بذلك الاتحاد الذي كانت فرنسا تخشى شرَّه، ولكنه لم ينتج عنه شر لأوروبا، ولا سيَّما بعد أن تحاربت النمسا وفرنسا في سنة ١٨٥٩، ولم تنتصر الممالك الألمانية للنمسا واضطرَّت هذه المملكة أن تسلِّم بعض أملاكها لإيطاليا عملًا بشروط الطليان والفرنسيس الذين نصروهم في حروب الاستقلال الطلياني. وفي سنة ١٨٦٠ اتحدت النمسا وبروسيا على محاربة الدنمارك فانتصرتا عليها وأخذتا منها ولايات شليسوج وهولشتين ولاونبرج، وكانت النمسا تحكم أولاهما وبروسيا تحكم الثانية والثالثة من بعد ذلك النصر حتى اختلفتا على بعض المسائل، وشُهرت تلك الحرب المشهورة بينهما في سنة ١٨٦٦، وكان البرنس بسمارك المعروف يدير سياسة بروسيا وقتئذٍ، والكونت مولتكي يقود جنودها فأحرز البروسيون نصرًا عظيمًا على النمساويين، وملكوا منهم الأراضي، أخصها التي اغتصبوها من الدنمارك، وعلى إثر ذلك عُقِدَتْ معاهدة في فرانكفورت بألمانيا، من مقتضاها إخراج النمسا من التحالف الألماني الشمالي، والاتفاق على أن تكون بروسيا رئيسة ذلك التحالف بدلها، ثم استولت بروسيا على مملكة هانوفر وغيرها فصارت مملكتها قويَّة واسعة، واشتُهرت بقوة جيشها ومهارة قوادها، حتى إذا كانت سنة ١٨٧٠ وانتصرت في حربها المشهورة على فرنسا لم يبقَ في أوروبا أعظم منها، فأُعيدت الإمبراطورية الألمانية القديمة برئاسة بروسيا، وتُوِّج ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي إمبراطورًا لألمانيا في فرسايل في قصر ملوك فرنسا سنة ١٨٧١، بعد أن تمَّ النصر لبروسيا، وعقدت شروط الصلح مع فرنسا، وبذلك بلغت بروسيا أوج العزِّ وصارت مملكة ألمانيا التي ترأسها من أعظم ممالك الأرض وأقواها فنَمَتْ وتقدَّمت في الصناعة والتجارة تقدُّمًا يذكره الناس في كلِّ حين مع الدهش والاستغراب.
وكان ولهلم الأول مؤسِّس هذه الإمبراطورية من الملوك العِظَام، تعلَّق الألمانيون على حبِّه وإكرامه حتى إذا مات سنة ١٨٨٨ احتفلوا بدفنه احتفالًا عظيمًا، وهم إلى الآن يذكرون أيامه وتقدُّم السلطنة على عهده، وخلفه ابنه فريدريك الثاني وكان يوم وفاة والده في سان ريمو من مدن إيطاليا مريضًا بداء السرطان فجاء برلين وتولَّى مهام الملك بمساعدة البرنس بسمارك ونجله الإمبراطور الحالي، فما طالت أيامه؛ لأنه توفَّاه الله في شهر يونيو من تلك السنة، وحزنت ألمانيا لوفاته كثيرًا؛ لأنه اشتُهر بالفضائل وندبه الإنكليز أيضًا؛ لأنَّ قرينته كانت أكبر بنات الملكة فكتوريا، وقد وُلِدَ له ابنان هما، ولهلم الإمبراطور الحالي، وأخوه البرنس هنري أحد قُوَّاد الأسطول الألماني وعدَّة بنات.
واشتُهر جلالة الإمبراطور الحالي بالحزم وسرعة الخاطر وحبِّ التوسع في المُلْكِ، وهو من أمهر ملوك أوروبا الحاليين وأقدرهم، تقدَّمت ألمانيا في أيامه تقدُّمًا عظيمًا ومَلَكَتْ في الصين وأفريقيا الأراضي الواسعة وامتدَّت متاجرها وكبر نفوذها إلى حدٍّ لم تعرفه من قبل هذا الحين، وعدد سكان هذه السلطنة الآن ٦٢ مليونًا، وهي أشْهَر الدول في قوَّة جيشها البرِّي، وثانية دول أوروبا في القوات البحرية وتجارتها نامية نماءً لا نظير له في التاريخ الحديث.
برلين
هي عاصمة بروسيا وألمانيا معًا، تعدُّ ثالثة مدن أوروبا في العظمة والأهمية، ولكنها حديثة العهد لم يبدأ تاريخ عظمتها إلا من بعد منتصف القرن الماضي ويزيد سكانها عن مليونَي نسمة، وكان في مكانها نهر على ضفَّتيه غياض وسهول خصيبة فلم تُعَمَّر إلا في القرن الثاني عشر حين سَكَنَها بعض فلَّاحي الألمان وجعلوها مدينتين: واحدة إلى الضفَّة اليمنى من النهر، وهي برلين، والأخرى تجاهها وهي كولن، فاتحدت المدينتان سنة ١٣٠٧ ودخلت في حوزة آل هوهنزلورن في القرن الخامس عشر، وصارت قاعدة إمارتهم في أواخره، وكان ذلك بدء تقدُّمها حتى إذا حدثت حرب الثلاثين سنة التي ذكرناها في فصْلِ التاريخ وانتهت على ما يريد ملك بروسيا، زادت برلين أهمية وكثرت فيها الأبنية، وظلَّت على هذا التقدُّم وملوكها يزيدون محاسنها واحدًا بعد واحد، حتى دخل هذا القرن وانتصرت بروسيا انتصاراتها الباهرة على الدنمارك والنمسا وفرنسا؛ فزادت أهمية عاصمتها زيادة كبرى، وأكثر ما فيها الآن من منظر فخيم وأثر عظيم يُعَدُّ حديث العهد، ويدلُّ دلالة قاطعة على نموِّ المدينة في السنوات الأخيرة من تاريخها، ولا سيَّما في الضواحي خارج بوَّابة براندنبرج؛ حيث بُنِيَتْ أحياء جديدة برُمَّتها فبلغت مساحة الشوارع ٢٥٠٠٠٠٠ متر مربَّع، موزَّعة على خطوط لا يقلُّ طولها عن ٤٨٧ كيلومترًا، وعدد العاملين بكنْسِها ورشِّها يزيد عن ١٥٠٠ رجل و٥٠٠ غلام.
والمدينة في منبسط من الأرض يشطرها نهر صغير اسمه سبري شطرين، ولها عدَّة مداخل أو (بوَّابات) قديمة العهد، أشهرها مدخل براندنبرج في القسم الغربي من المدينة، وهو يفصل ما بين برلين القديمة، والقسم الحديث منها علوُّه ٢١ مترًا وعرضه ٦٢، وفيه ثلاثة أبواب أو منافذ تفصل بينها عُمُد من الرخام، تمرُّ في الباب الأوسط منها عربات البلاط الإمبراطوري والعائلة المالكة فقط، وللناس الجانبان الآخران، أحدهما للداخلين وثانيهما للخارجين. وفي أعلى بوابة براندنبرج هذه تمثال الظفر أُقيم سنة ١٨٧١ تذكارًا للنصر العظيم على فرنسا، وهو عبارة عن ثلاث أفراس من النحاس الأصفر صُنِعَتْ كأنها تعدو مسرِعة علامة التقدُّم السريع، ومنظرها بديع يستوقف الأنظار، وإلى كلٍّ من الجانبين بناءٌ صغيرٌ، أحدهما مخفر للجنود والثاني مكتب للتلغراف، ولو وَقَفَ الإنسانُ عند بوَّابة براندنبرج هذه وألقى بنظره إلى الجهات المحيطة بها لرَأَى أفخم مشاهد برلين وأعظمها، فإن أكثر ما سيرد وصفه هنا يحيط بهذه البقعة أو يقرب منها؛ ولذلك اخترنا أن نجعلها بدء وصفنا لعاصمة الألمان العظيمة، وقد زاد هذه البوَّابة أهمية أنها واقعة في رأس شارع عظيم اسمه شارع أونتر لندن، ومعناه شارع الزيزفون طوله ١٥٠٠ متر، وعرضه ٦٠ مترًا، وهو أقسام عدَّة، بعضها للمسير على الأقدام وبعضها للخيل والبعض للعربات على مثل ما تقدَّم من وصْفِ الشوارع التي تضارع شرع الزيزفون هذا، وفيه أربعة صفوف من الشجر تزيِّنه وتزيده رونقًا وجمالًا، وقد أُطلق عليه اسمه المشهور بسبب هذه الأشجار. وفي هذا الشارع كثير من الأبنية الفخيمة ومنازل الكبراء والسفراء، وهو يبتدئ عند بوَّابة براندنبرج التي ذكرناها وينتهي في ميدان قام به تمثال فريدريك الأول.
وفي أول هذا الشارع عند بوَّابة براندنبرج ميدان فسيح عظيم يُعْرَف باسم «ميدان باريز»، وهو حسن الموقع، في وسطه بِرْكَة من الماء عظيمة وتمثال للمريخ إله الحرب عند القدماء، وإلى الجهة الجنوبية منه بناءٌ عظيم هو قصر البرنس بلوخر ووراءه نادٍ كبيرٍ لضباط الجيش الألماني، في داخله القاعات والغرف والملاهي على أشكالها، ويليه قصر البرنس أرشم، وفي الجهة الشمالية من هذا الميدان سفارة فرنسا وغيرها من الأبنية إذا تقدَّمت في تلك الجهة رأيتَ أثناء سيرِكَ شيئًا كثيرًا منها، مثل: وزارة الأديان وسفارة روسيا وهي لها واجهة بديعة الشكل من الرُّخَام الأبيض النقي، ومن ذلك أيضًا وزارة الداخلية وعلى مقربة منها معرض للأسماك والطيور والقِرَدة دخلناه وهو مؤلَّف من طبقتين: في الطبقة العليا منهما بيوت من الزجاج للحيَّات على أشكالها أُرْسِلَت إلى هذا المعرض من الهند وأواسط أفريقيا وأميركا الجنوبية وغيرها من المواضع الحارَّة تراها غادية صادية وليس بينك وبينها إلا جدار من الزجاج المتين، هذا غير ما في البِرَك من أنواع السمك الجميل ما بين أحمر وذهبي وفضي ومرقط وملوَّن بالألوان البديعة، جُلِبَ أكثره من البحار النائية أيضًا إتمامًا لفائدة هذا المعرض، وقد صنعوا في ذلك المعرض مغارة كبيرة وعِرَة المنظر جلبوا إليها الشجر اليابس والحجر الكبير، ووضعوها على نَسَقٍ يحكي نَسَقَ الطبيعة في جماله، وأدخلوا إليها من الطير أنواعًا كثيرة تتنقل في جوانبها كأنَّما هي حرَّة في الخلاء ولها منظر كثير الجمال.
ويلي ذلك إذا استمرَّ المتفرِّج على المسير في الجهة التي ذكرناها «الرواق القيصري»، وهو بناءٌ ضخمٌ شاهقٌ، يخيَّل لك أنه مدينة صغيرة فيه مخازن ومطاعم ومكاتب كثيرة، وفيه أيضًا معرض لتماثيل صُنِعَتْ من الشمع، بينها تماثيل الأسرة الإمبراطورية والرجال العِظَام من أهلِ السياسة والحرب والشعر والعلم والصناعة والكلُّ بهيئاتهم الصحيحة وملابسهم المعتادة، وقد أُتقن الصنع فيها إتقانًا عجيبًا حتى إنه لَيَلْتَبس عليك التمييز بين الأحياء والتماثيل، وأذكر أنِّي رأيتُ هنالك من هذا القبيل مائدة للطعام رُتِّبَتْ على النسق المعروف، وفيها الأطباق والأدوات وبعض الألوان وقد جلس من حولها الناس رجالًا ونساءً، وهم كمن بدأ في الطعام، ولولا جمود منظرها لحكمتُ أنهم يشربون ويأكلون، وفي هذا ما يراه القارئ من إحكام الصُّنع وإتقان العمل.
وفي وسط شارع الزيزفون قهوة بوير، وهي من أحسن حانات برلين يتسابق إليها الألوف لحسن مركزها وإتقان معداتها، ويقعد الناس فيها يتفرَّجون على المارَّة في الشارع الذي لم نَزَلْ في وصفه، وفي آخره ساحة رحيبة أقاموا فيها تمثال فريدريك الأول وحوله القصور والمنازل في جملتها: الأوبرا وقصر ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي، وقصر فريدريك الثاني والده، ودار المحافظة ونادي العسكرية والمكتبة العمومية والمدرسة الجامعة، أمَّا التمثال فقد صُنِعَ من نُحَاسٍ وقام على قاعدة ارتفاعها ١٤ مترًا ولها أربعة جوانب، في الجانب الشرقي تماثيل لبعض أمراء ألمانيا، وفي الجانب الغربي رسم القائدَين زيتن وسيدلتز، وهما أشهر مَنْ حارب مع فريدريك الأول، وفي الجوانب الأخرى رسوم المشاهير أيضًا من الذين شادوا لألمانيا صروح العزِّ والفخار.
وأمَّا المكتبة العمومية التي ذكرناها فبناءٌ عظيمٌ، كُتِبَ على صدره من الخارج باللغة اللاتينية «غذاءٌ للأرواح»، وفيها زهاء مليون مجلَّد من الكتب المطبوعة وعشرين ألفًا من كتب الخط، في جملتها: كتابات وأسفار دينية قديمة العهد؛ ولذلك يؤمُّ هذه المكتبة كلُّ باحث وطالب للفائدة، فإذا دخلتَ قاعة المطالعة فيها رأيتَ هنالك هيئة الوقار والعلم، حيث يجلس الباحثون بعضهم وراء بعض، وليس بين تلك الجموع علاقة غير الشَّغَفِ بالمطالعة والسكوت التامِّ وتقليب الأوراق فيتجلَّى لك الاجتهاد والدرس العميق بكلِّ وجوهه، ولا بدَّ للذي يريد مطالعة كتاب نادر المثال من كتب هذه المكتبة أو مراجعة شيء فيها أن يطلب ذلك على ورق مطبوع في دائرة المكتبة، ويعين الكرسي الذي يريد أن يقرأ الكتاب فيه والزمان، فإذا جاء في اليوم التالي وجد الكتاب حيث يريد وأمامه الحبر والورق والأقلام فيعلِّق ما أراد، وفي ذلك تسهيل على الباحثين لا تَخْفَى فوائده.
وتجاه هذه المكتبة الماهب أو الأوبرا، بُني معظمها من الحديد والحجر حتى يقلَّ خطر الحريق ما أمكن، ويمكن لألف وخمسمائة شخص أن يسمعوا التمثيل في قاعتها الكبرى، وقد أُصيبت هذه الأوبرا كما أُصيب غيرها بالنار، فأعادوا بناءها على مثل ما تقدَّم، وأكثروا من النوافذ والمخارج تسهيلًا للفرار حين اضطرام النار، ولكنَّ ذلك أصبح من الأمور النادرة الآن بعد أن عوَّل مديرو المراسح على إضاءة أماكنهم بالنور الكهربائي ومنعوا التدخين في داخل المراسح إلا في قاعات معلومة أرضها من البلاط، وفيها خَدَمَة يراقبون ما يلقيه الرجال من السجاير وسواها.
والنادي العسكري — الذي مرَّ ذكره أيضًا — من المشاهد المذكورة في برلين، وأنت تَعْلَم أن ألمانيا دولة حربية عسكرية، وأنَّ نظام جيشها نال شهرة فائقة حتى إن بعض الدول الشرقية، كبلاد الصين والدولة العليَّة واليابان، تستخدم الضُّبَّاط الألمانيين لتدريب جنودها وتنظيم جيوشها، وللقيصر الحالي — ولهلم الثاني — شَغَف بالجنود ونظاماتهم وحركاتهم؛ فهو يستعرض الألوف منهم في كلِّ حين، ويزور المخافر والثكنات مرارًا في الشهر؛ فلهذا أصبح مركز العسكرية خطيرًا في البلاد، وزادت أهمية هذا النادي وسواه وأصبح للضباط امتياز على بقية الناس في ألمانيا، والحقُّ يُقال إن دولة الألمان لم تزل على النسقِ القديم الذي كان متَّبعًا في العصور المتوسِّطة فيما يخص الجندية؛ فإن قسوة الأحكام العسكرية واستبداد الكبير بالصغير في جيش ألمانيا جَرَتْ مجرى الأمثال، ولطالما انتحر الجنود، ورحل الأهالي إلى أميركا تخلُّصًا من ظلم جاويش أو جور ضابط أو ثِقَل عمل شاق، هذا غير أنَّ الضُّبَّاط العسكريين لهم حق الدفاع عن شرفهم إلى حدِّ أنه يجوز لهم قتل مَنْ يتعرض لهم بأقلِّ إهانة، ولا يُحاكَمُون على هذا المنكر ولا يُعْدَمون، وقد حدث من هذا القبيل عدَّة حوادث في عهد الإمبراطور الحالي، ونجا الضُّبَّاط القاتلون من طائلة العقاب بعلَّة أنهم قتلوا مَنْ قتلوا في سبيل المحافظة على الشرف العسكري.
وكل مَن يزور برلين يرى أهمية الجيش الألماني فيها وحركات جنوده الكثيرة، فإن الضُّبَّاط والعساكر يخاطرون في كلِّ الشوارع جماعات وأفرادًا، والتمرينات العسكرية في ضواحي المدينة وأطراف المملكة الألمانية شاغلة للأذهان، يقصدها القُوَّاد والأفراد من كلِّ جهة والمسافر في سكَّة الحديد الألمانية يرى فرق الجند منتقلة من موضع إلى موضع، وقد ملأت بعض السهول والبقاع بكثرتها؛ فإن جيش ألمانيا لا يقلُّ عن ستمائة ألف في أيام السلم، ولا يزيده في العدد غير جيش روسيا.
وقد رأيتُ في هذا النادي من الأعلام والرايات شيئًا كثيرًا اكتسبه الألمان من الأعداء في حروبهم القديمة والحديثة كحربهم مع الدنمارك والنمسا وفرنسا، ومدافع غنموها من الفرنسيس في الحرب الأخيرة المشهورة وأسلحة قديمة العهد كالرمح والفأس والسهم وغيرها حديثة من أجمل أنواع المدافع والسيوف الجديدة، وهنالك أيضًا قاعة كبرى فيها رسوم قلاع وطوابي ووقائع حربية تمثِّل الجنود والخيل والأماكن والأسلحة تمثيلًا دقيقًا، وقد صُنِعَتْ كلُّها من الجبس، وفي جملة ذلك: شكل سيدان ومعركتها المشهورة، فإنك ترى تلك المدينة العظيمة بأسوارها وقلاعها ومنازلها وطرقها، وترى الجنود تتهيَّأ وتصطفُّ لقتال الألمان في جانب، والفرنسيس في الجانب الآخر، والكلُّ بملابسهم المعروفة وأسلحتهم الكاملة، والخيل لكلِّ فرقة لها لون معروف، وقد صُفَّت المدافع من أمام الجيش في الناحيتين، وَوَقَفَ الإمبراطور الألماني مع قُوَّاد جنده في ناحية من الموضع وأمامهم فرقة هاجمة على المدينة هجوم الأسود الكواسر، فبعضهم أصابته رصاصة وبعضهم بُتِرَ ذراعه وبعضهم سال الدم من جسمه، ونحو ذلك مما يوهم الرائي أنه في معركة حقيقية لولا السكون السائد على ذلك المشهد الغريب.
وفي الدور الأعلى من هذا النادي قاعات للضباط، وغرف للمطالعة والكتابة، وفي أكثرها رسوم حربية وصور ولهلم الأول وبسمارك ومولتكي، وهم الثلاثة الذين رقَتْ بروسيا بحكمتهم وعلمهم أوجَ العزِّ وصارت رئيسة للسلطنة الألمانية العظيمة، والذين يختلفون إلى هذا البناء من الرجال العسكريين كثار العدد، وقد يتوهَّم الساذج من كثرة المشاهد العسكرية في هذه العاصمة أنها على أُهْبَة الحرب، كما أنَّ الغريب الذي يأتي باريس لأول وهلة يظنها في عيد عظيم لكثرة ما يرى من الهرج والمرج وآيات الحظِّ في تلك المدينة الزاهرة.
ويقرب من هذا النادي قصر الإمبراطور ولهلم على ضفَّة نهر سبري وصلناه من جسر عليه رسوم وتماثيل حربية من كلِّ نوع، من ذلك تمثال رجل يقصُّ حديث الحرب على غلام، وتمثال مارس إله الحرب يعلِّم شابًا استعمال السلاح ويقلد شابًا آخر سلاحه بعد أن أتمَّ دروسه العسكرية، ويتوِّج جنديًّا ظَفَرَ في ساحة القتال وينشط آخر مجروحًا على القيام محرِّضًا له على مداومة القتال وغير هذا، وكان على باب القصر حين وصلتُ جماعة من السائحين في انتظار الإذن بالدخول، فلمَّا فُتِحَ الباب دخله الجميع وراء حارس أخذنا إلى الدور الأول، وأدخلنا غرفة عظيمة قال إنها خاصَّة بالإمبراطور — وكان جلالته يومئذٍ غائبًا عن برلين على عادته في أكثر أشهر الصيف — وهي الغرفة التي اشتُهر عن ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي أنه كان يطلُّ من نافذتها ليرى الجنود حين تروح وتجيء في الشارع أو حين تذهب للمناورات وتعود منها، وفي قاعة أخرى من هذا القصر الفخيم صور أفراد العائلة المالكة من آل هوهنزولرن صُنِعَتْ بالزيت ووُضِعَتْ في براويز مذهبة وكلها آيات في الحسن والإتقان، وقاعة أخرى تُعْرَف باسم القاعة الذهبية فيها عمود من الفضَّة أُنشئ تذكارًا لإيجاد وسام الصليب الأسود، وفيها تمثال ولهلم الأول واقفًا في معركة جرافلوت بفرنسا في الحرب السبعينية المشهورة، وقاعة النسر الأحمر تذكارًا لإنشاء وسام النسر الأحمر الألماني، وفيها ذلك الوسام معلَّق على عمود بديع الشكل، وقاعة النسر الأسود، وهي مثل سابقتها في الغرض والوضع وقاعات أخرى كثيرة كلها ملأى بأفخر أنواع الرياش النفيس، وكان الحارس يقصُّ علينا أقاصيص تلك الغُرَف وحكاية ما فيها من الغرائب والتُّحَف حتى دخلنا قاعة الطعام، وهي فسيحة واسعة الجوانب بهيَّة الشكل تَشْرَح مناظرها الصدور، ويمكن أن يجلس إلى موائدها ٤٥٠ شخصًا لكلٍّ منهم كرسي جميل يمتاز عنه كرسي من الفضة خُصَّ بالإمبراطور الحالي، فهو يجلس إليه كلما تناول الطعام في هذا القصر، وقد أُهْدِي هذا الكرسي إليه من مدينة برلين بعد جلوسه بقليل، وأمَّا عن قاعة الاستقبال أو البهو الكبير فحدِّث ما شئت وتصوَّر من أشكال فخامته ما أردتَّ، إنه يقصر الوصف عن محاسنه. ولقد أذهلني اتساعه ورياشه وزخارفه وأُعجبتُ بفرشه النفيس وسقفه السحيق وما يحدث من صدى الأصوات فيه على اتساعه، وما يضيء فيه من نور المصابيح التي لا تُعَدُّ، وما تنعكس صورته على المرائي من الرسوم البالغة حدَّ الإتقان، وهي — بالإجمال — من أجمل ما رأيتُ بين القاعات العظمى في قصور الأمراء والملوك، وسِرْنَا بعد هذا في القصر إلى القسم المخصَّص لجلالة الإمبراطورة، وفيه قاعة اسمها القاعة البيضاء كل رياشها من الحرير الفاخر الأبيض، وفيها ١٢ تمثالًا جميلًا من المرمر الأبيض أيضًا تمثِّل ولاية براندبرج التي كانت أساس المملكة البروسية على مثل ما رأيت في فصل التاريخ. ويلي هذا القسم جانب من القصر جُعِلَ كنيسة للعائلة الإمبراطورية، وجدرانها من الرُّخَام الأبيض المحلَّى بالذهب، وكذلك المصابيح والأعمدة والمقاعد وبقيَّة ما فيها ولها قُبَّة من الرُّخَام الأبيض أيضًا يزيد ماء الذهب جمالها ظهورًا، والناس يرون هذه القبَّة البديعة من خارج القصر، وفي الهيكل من هذه الكنيسة أعمدة من الرُّخَام أخذوها من مصر، وهي من شكل الرُّخَام الذي صُنِعَتْ منه أعمدة الجامع في قلعة مصر، وبعد ذلك رأينا قاعة الرسوم وفيها من الصور ما لا يُعَدُّ ولا يُعدَّد، أذكر منها: صورة بطرس الأكبر قيصر روسيا والقيصرة كاترينا الثانية والسلطان سليمان الثاني، ونابوليون الأول وولهلم الأول قيصر ألمانيا يتوَّج قيصرًا في قصر فرسايل بفرنسا، وصورته وهو عائد إلى برلين بموكبه الحافل بعد النصر في سنة ١٨٧١، فوقَفَ السياح طويلًا يتحدَّثون عن تلك الرسوم وتركتُهُم حتى أزورَ المتحف.
والمتحف هذا عظيم الشأن لما بذله الألمان في سبيل تحسينه وزيادة نفائسه، وهم أهلُ عزيمة وجدٍّ في المسائل العلمية، بلغوا في العلوم العقلية شأوًا بعيدًا حتى إن بقية الأوروبيين والأميركيين إذا أرادوا التعمُّق في الفنون الرياضية والعقلية والفلسفة على أشكالها قصدوا مدارس الألمان، والقوم يرسلون اللجنات العلمية في كلِّ حين إلى الأقطار البعيدة لجمع الآثار التاريخية والمتحجِّرات والأحافير وغير هذا مما يفيد أهل العلم، وقد اشتُهر من رجالهم عدد كبير بالاكتشاف، مثل شلمين الذي سيمرُّ بك ذكره وغيره ممن جاب الأقطار النائية وراضَ الصعاب في مصر والشام والعراق والأناضول والهند وسواها؛ للبحث عن بقايا السابقين والعلم بما مرَّ من تاريخ الأرض وسكانها، ولطالما دَفَعَتْ إدارة هذا المعرض من المال ألوفًا بثمن بعض معدَّاته، وجادت بالشيء الكثير على الصور المتقنة، وهي لها عندهم وفي كلِّ بلاد متمدنة شأن عظيم؛ لأنها نتائج القرائح المتوقِّدة والأفكار السامية تمثِّل للرائي الأفكار والخواطر الرفيعة والحوادث المؤثِّرة، فهي مثل الشعر الجيِّد وبقية الفنون الجميلة مهذبة للأفكار مرقِّية للعقول، ومع ذلك فإن أهل الشرق — ونحن في جملتهم — لا يهتمون لها، وقد ينفقون الألوف على فرش البيت ولا يشترون صورة ذات قيمة حقيقية بمال يسير خلافًا للذين جروا في مضمار التمدُّن، فإن كبراءهم وأغنياءهم يجمعون في منازلهم من الصور الثمينة ما تبلغ قيمته المقادير الطائلة، والمتاحف — مثل متحف برلين — لا تضنُّ بمال كثير في سبيل الحصول على صورة نادرة المثال أو ممتازة بإتقان الصنع والجمال، وهذا متحف برلين الذي نحن في شأنه دفع مليون مارك أو نحو خمسين ألف جنيه ثمن بعض الصور الزيتية، ولمَّا ضاق نطاق المتحف عن كلِّ ما ابتاعوه من التُّحَفِ والنفائس بنوا متحفًا آخر وصلوه بالأول بدهليز حتى صار طول البنائين معًا ١٩١ مترًا والعرض ٩٣.
ولو شِئْنَا تعداد ما في المتحف من آثار آشور وبابل ومصر وفينيقية والروم والرومان وغيرهم من أهل الممالك الأولى لما أمكن البيان بغير التطويل الكثير، ولكننا نكتفي بهذه الإشارة إليها. ولبعض الآثار قيمة كبرى فإنِّي رأيتُ تمثالًا ليوحنَّا المعمدان يأكل عسل البر اشتروه بمائتي ألف مارك — والمارك قطعة ألمانية من الفضة تعدل الشلن في قيمتها — فيكون ثمن الأثر عشرة آلاف جنيه، هذا فضلًا عما في تلك الخزائن الكثيرة من النقود، ما بين قديم وحديث وعددها لا يقلُّ عن مائتي ألف قطعة، وأمَّا قسم الصور في هذا المعرض، فقد مرَّ بك كلام عن قيمته واعتناء القوم به وهو كبير كثير النفائس والغرائب غالي القيمة، فمن أمثلة سخائهم في إتمام غرائبه أنهم اشتروا له في سنة ١٨٧٠ صورًا كانت في منزل الكونت شويرمن بأربعين ألف جنيه، وأنت لو دخلته ترى في جوانبه من أشكال الصور الدينية ما يستوقفُ الأنظار، ويوهمك بعد طول التأمُّل أنك في أيام الرسل والأنبياء، فقد رأيت في جملة هذه الرسوم صورة موسى وقد عاد من الجبل فرأى قومه يعبدون العجل فألقى باللوحين اللذين كُتِبَتْ عليهما الوصايا العشر إلى الأرض وكسرهما، وصورة مريم العذراء مع خطيبها وابنها هاربين إلى مصر، ثم هي جالسة تحت ظلِّ شجرة تستريح من عناء السفر والطفل بين يديها، فذكَّرني ذلك المنظر بشجرة العذراء في المطريَّة، وهي التي يُرْوَى أنَّ العذراء استراحت تحت ظلالها، ولمَّا أضناها الظمأ تضرَّعت إلى خالقها أن يغيثها فتفجَّرت عينُ ماء مَعِين أمامها وشرِبَتْ منها مع الطفل.
هذا كله في المتحف القديم، وأمَّا القسم الجديد منه ففيه الآثار القديمة وُضِعَتْ في غرف خُصَّ بعضها بكلِّ مملكة قديمة، وهنالك ترى في القسم المصري الأجسام المحنَّطة وأمثال قبور الفراعنة وأنواع البردي (البابيروس) كُتِبَتْ عليها المواد الكثيرة، وأهمها قانون هورس معبود المصريين القدماء، كُتِبَ باللغة الهيروغليفية القديمة، ولهذه الكتابة قيمة عظيمة عند علماء التاريخ، وهنالك أيضًا تماثيل الملوك والكهنة وآثار مصرية أخرى من كلِّ نوع وُضِعَتْ في غرف تمثل هيئة الهياكل والمنازل المصرية القديمة في وضعها وتلوينها، وقِسْ على ذلك آثار بقية الممالك القديمة، وهي كثيرة في هذا المتحف العظيم.
وخرجنا من تلك الدار العظيمة فظللنا على المسير حتى وصلنا بناء المجلس البلدي، وهو ذو ثلاث طبقات بُنِيَتْ من الطوب الأحمر وليس له رونق يزيد عما سواه، بل إنه لا يُقاس بقصر المجلس البلدي في فيينَّا، وإن تكن قاعات فسيحة كثيرة الزخارف أذكر أنِّي رأيتُ في بعضها صورة مؤتمر برلين، وهو أشهر ما عُقِدَ من نوعه في العصور الحديثة، كان السبب في اجتماعه حرب الروس والدولة العليَّة سنة ١٨٧٦، وخوف أوروبا من امتداد المطامع الروسية بعد الانتصار، فقام بسمارك — وهو يومئذٍ وزير الدولة الألمانية — ودعا الدول إلى الاشتراك في عقد مؤتمر ينظر في مسائل الشرق ويقرِّر حالة كلِّ مملكة وإمارة في جنوب أوروبا وشرقيها، ولبَّت أوروبا الدعوة فعيَّنت كلُّ دولة أكبر فطاحلها وكان بسمارك مندوب دولة الألمان مع غيره من الأكفَاء وعُيِّن رئيس المؤتمر؛ لأنه عُقِدَ في عاصمة بلاده وهم يعطون الرئاسة لصاحب البلاد في كلِّ مؤتمر من هذا القبيل، وكان النائبون عن إنكلترا يومئذٍ بيكونسفيلد وسولسبري، وعن روسيا غورتشاكوف وشوفالوف، وعن فرنسا وادنتون وأوليفيه، وعن الدولة العليَّة عمر باشا وسعد الله باشا، وكلهم من أشهر رجال السياسة في هذه الممالك العظيمة.
وتوجَّهت من هنالك إلى موضع مُثِّلَث فيه مشاهد سيدان ومعركتها المشهورة بالبانوراما أو النظارات المجسِّمة والمكبِّرة، وسيدان هذه مدينة في فرنسا انتصر فيها الألمان على ثمانين ألفًا من جنود الفرنسيس كانوا تحت قيادة نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا، فكان فوزهم فيها خاتمة الحرب، ولم يبقَ عليهم غير حصار باريس فساروا إليها وحاصروها وفتحوها؛ ولذلك ترى الألمان يذكرون واقعة سيدان معجبين متباهين وهم يحتفلون بعيد النصر في سيدان كل عام، وما اكتفوا بما أقاموا من معالم النصر وما رسموا من الصور والنقوش في كلِّ موضع للدلالة على ذلك النصر، بل إنهم جعلوا يظهرون أدوار المعركة بهذه الصورة المجسَّمة هنا على هيئة يضطرب لها العقل ويجري الدم في عروق المتأمِّل ويقف الشعر في رأسه؛ لأنه إذا ما وضع عينه على تلك النظَّارات رأى سيدان والجنود الفرنسية والألمانية فيها تتقاتل قتالًا تشيب لهوله النواصي وتندكُّ من شدَّة وَقْعِهِ الرواسي، فإنك ترى الجيشين في بدء الأمر وقفًا يستعدَّان للقتال والنضال، وشجر الحور في طرق سيدان الكثيرة من وراء هذه الجنود الباسلة تبكي أوراقه الحسناء على الذي ترى أنه سيُهرق من دم الإنسان، وأغصانه تتمايل كأنَّما هي سكرت من خمرة الحرب القادمة أو زاد بها الألم واشتدَّت عليها الحسرات من عدوان بني الإنسان؛ فجعلت تميل حُرْقَةً وتوجعًا حتى إذا تمَّ المنظر الأول ورأى المتفرِّج هاتيك الصفوف من الجند تموج وتضطرب فَغَرَتْ مدافع الحرب فاها وتصاعدت كراتها القتَّالة، وثار دخانها من ألف موضع وموضع، ثم بدأ الجنود يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وتصادمت هاتيك الجموع المسلَّحة وتلاطمت بنارها وسيوفها، فما ترى في تلك الساعة الدهياء غير صدر ينهال عليه الرصاص انهيال السيل، وعنق تدقُّه سنابك الخيل، ونار تقذفها المدافع وتتفرقع بين صفوف المقاتلين البواسل، فهنا جسم يتمزَّق ويتقطَّع وهنا فارس قُدَّ حصانه شطرَين فوقع هو إلى الأرض يتألَّم من جراحه ويتوجَّع، وهنا فرقة من الجنود تصطدم بفرقة فتردي الرجالُ الرجالَ، وقد حَجَبَ بعضها قتام البنادق والمدافع، وقامت قائمة البلاد والهول، فما ترى كيفما قلَّبت النظر غير ويل في ويلٍ في ويلٍ، فإذا انتهيت من هذا واتضح لك بعد كلِّ هذا البلاء أنَّ معظم الخسران في جانب الفرنسيس ظهر لك جندي فرنسوي يحمل عَلَمًا أبيض علامة التسليم وطلب الهدنة؛ فيقلُّ الاضطراب وتهدأ الطلائع وترتدُّ المواكب عن المواكب، وبعد قليل من المخابرة ومناظر لا محلَّ لوصفها ترى نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا قادمًا، وقد صغرت نفسه ولم يبقَ له في العزِّ مطمع فيصل إلى حيث يلْقَى ولهلم ملك بروسيا الظافر في دائرة من رجاله العِظَام، وبعد مبادلة الرسوم المقرَّرة يسلِّم نابوليون سيفه لولهلم علامة الخضوع، وينتهي بذلك دور حرب شابت لأخبار هولها الأطفال، ولسوف يذكر الناس أمرها على ممرِّ الأجيال.
هذا جُلُّ ما يستحقُّ الذكر من مناظر برلين التي يراها المرء على خطٍّ مستقيم أثناء سيره من حيث بدأنا ولا يضيع الزمان، وقد تقدَّم بك القول إن شارع الزيزفون الذي يوصل منه إلى كلِّ هذه المشاهد يمتدُّ من الشرق إلى الغرب، ويلي ذلك في كثرة الحركة والزحام شارع فريدريك الممتد من الشمال إلى الجنوب على مسافة ٣٣٠٠ متر، وفي هذا الشارع حانات ومخازن كثيرة ملأى بالأبضعة المختلفة، وأشهر ما يُذْكَر منها مخزن الخواجا فابر صاحب معمل أقلام الرصاص المكتوب عليها اسمه، وهي مشهورة ومعروفة في كلِّ بلاد، وأكثر منه أهمية شارع ولهلم، وهو من أهمِّ شوارع هذه المدينة العظيمة يمتدُّ أيضًا من الشمال إلى الجنوب وفيه من القصور الباذخة والمنازل الفخيمة ما لا يمكن إلا ذكر بعضه هنا، من ذلك وزارة الحقَّانية والخارجية ورئاسة الوزارة وقصر لبسمارك وسفارة إنكلترا وقصور للأمراء ولحاشية الإمبراطور وغير هذا كثير، وفي وسط الشارع حديقة جميلة ينتابها الناس كثار العدد، وفيها غير الأغراس والبِرَك تماثيل القُوَّاد المشهورين ولا سيما الذين أحسنوا البلاء في حرب السبع سنين التي ذكرنا طَرْفًا من حكايتها في الخلاصة التاريخية.
وليس ينحصر جمال برلين في شوارعها وحاناتها ومتاحفها، ولكن الضواحي المحيطة بها وهاتيك المصايف والمنازل لكبراء الناس وأمراء السلطنة الألمانية من أعظم ما يجب ذكره، فإني لمَّا علمتُ ذلك خرجتُ من باب براندبرج المعروف في عربة، فوصلتُ في أول الأمر مجموع غابات وحدائق تُعْرَف باسم تير جارتن أو حديقة تير، وهي — كما قلت — مجموع غياض وحراج وأغراس مساحتها ستمائة فدَّان، وقد أُنشئت فيها الطرق بين صفوف الشجر والزهر والبحيرات البديعة تسبح فيها طيور الماء من كلِّ جانب، وتسير الزوارق الصغرى تحمل أناسًا يسيِّرونها بأيديهم بين هاتيك المناظر الساحرة والميادين الواسعة، قطعوا من موضعها الشجر وجعلوها متَّسعًا للعب والرياضة، فمن لاعب بالاكر، ومن فاعل غير ذلك ترويضًا للجسم، وهم يحفلون بالرياضة والألعاب البدنية علمًا منهم بفائدتها، ولعلَّ الألمان في ذلك بعد الإنكليز شُهْرَة، فإن شُهْرَة الإنكليز بترويض الجسم واللعب على أشكاله واسعة في الخافقين.
وقد أقاموا في قسم من هذه الغابات مسرحًا للحيوان غير الداجن ملأوه بأنواع النمر والسبع والضبع والدب والزرافة، وغير هذا مما نقلوه بالنفقات الطائلة من مواطنه القاصية، ولكل نوع من هذه الوحوش أماكن خاصَّة به، كما أن الطيور لها أقفاص كبرى يعْرِف شكلها كلُّ مَنْ زار حديقة الجيزة في مصر، وهنالك بحيرات للحيوانات والطيور المائية وأبنية كثيرة للزائرين بعضها مطاعم وبعضها حانات قضيتُ فيها زمنًا ثم برحتها إلى الأحياء المستجدَّة في تير جارتن، وهي مزدانة بأجمل المساكن والطرق وألطف البحيرات وأبهى الحدائق والأزهار يسكنها سراة الألمان وأصحاب اليَسَار من أهلِ برلين وهم كثار العدد وتُنَار أكثر جوانبها بالنور الكهربائي الساطع في الليل، فلا تَعْرِف أهي أجمل في الليل أم في النهار.
ويُذْكَر بين ضواحي برلين البهيَّة قصر شارلوتنبرج بُنِيَ سنة ١٧٦١ وكان مصيف آل هوهنزولرن من بَعْدِ أن صاروا ملوك بروسيا، وفيه مدافن لبعض الرجال العظام من هذه العائلة المالكة، أشهرها قبر ولهلم الأول مؤسِّس السلطنة الألمانية الحالية وجد الإمبراطور الحالي، وصلناه بعد سيرٍ طويل في العربة واجْتَزْنَا حدائق تير جارتن، فرأينا جماعة كثيرة في انتظار الإذن بالدخول حتى إذا جاء الموعد نزل الناس ووقف الألمان منهم عند ضريح الإمبراطور الكبير خاشعين متهيِّبين، تبدو عليهم علامات الوقار والاحترام لمؤسِّس مملكتهم ورافع لواء عظمتهم، وأكثرهم يذكرونه ويذكرون له الحسنات، فكان المشهد حول ذلك الضريح مؤثِّرًا في النفس عظيم الدلالة على قدْرِ المدفون ومعرفة الناس لفعاله شأن الكرام الذين يذكرون للمرء فعله ولا ينكرون.
ودعاني للعشاء في ذلك اليوم الموسيو هارتمان، الذي كان وكيلًا لقنصلاتو ألمانيا الجنرالية في بيروت، وعرفْتُهُ يوم زار اللاذقية للبحث عن الآثار القديمة ونزل ضيفًا على المرحوم عمي يعقوب إلياس، وهو يومئذٍ فيس قنصل ألمانيا في اللاذقية، والموسيو هارتمان من علماء اللغات الشرقية توسَّع في درس اللغة العربية مدة وجوده في الشرق، فعُيِّنَ مدرسًا لهذه اللغات في أكبر مدارس برلين الجامعة، وقد أراني نسخة من كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي بن أبي طالب، أهداه إليه المرحوم الشيخ محمد عبده المشهور.
وفي ذلك اليوم قضيتُ السهرة في ملعب للخيل (هيبودروم) ينتابه الألوف وتجري فيه الألعاب المدهشة على نغم الألحان، وأكثر هذه الفِعَال غرابةً تقوم بها فتيات لهنَّ خفَّة في الوثوب والحركات، أذكر أن فتاة منهنَّ كانت تسوق ست أفراس وهي تثب من ظهر واحدة إلى الأخرى ولا تخطئ، وأخرى كانت ترقص على ظهر جواد يسير بها مسرعًا ولا تهتزُّ، وغير هذا كثير من الألعاب التي تحلو مشاهدتها في كلِّ حين.
وزُرْتُ في اليوم التالي رجلًا من مشاهير برلين اسمه الموسيو فون لاشان مدير المتحف التاريخي الثاني، كان معي له كتاب من صديقي المرحوم إسكندر كاتسفيلس فيس قنصل ألمانيا سابقًا في طرابلس، وقد لقيتُ منه ومن حضرة قرينته كلَّ ملاطفة وإكرام، وكانت السيدة تحدِّثني عما رأت من الأطلال والآثار في نواحي الموصل؛ حيث ذهبت مع زوجها حبًّا بالاطلاع والاكتشاف، ودُعِيتُ بعد ذلك منهما لقضية يوم الأحد في «بوتسدام»، وهي مدينة في ضواحي برلين عدد أهلها ٥٠ ألفًا؛ فلبَّيتُ الدعوة وسِرْتُ في القطار مع صحبي زهاء نصف ساعة، ووصلتها فإذا هي مجموع محاسن طبيعية وصناعية نسبتها إلى برلين كنسبة فرسايل إلى باريس، ترى في جميع جوانبها من بديع الزهر والشجر شيئًا كثيرًا، وفي وسطها بحيرات متَّسعة المجال تسير فيها البواخر الصغيرة وهي ملأى بالمتنزِّهين من أهل برلين وسواهم، ولا سيما إذا كان ذلك في يوم أحد أو عيد، وعلى هذا فالقُطُر الحديدية ما بين برلين وبوتسدام لا تقلُّ عن خمسين في كلِّ يوم، وقد كانت بوتسدام مسكنًا لفريدريك الكبير ملك بروسيا الذي مرَّ ذكره، أنشأ فيها الحدائق الغنَّاء واعتنى بتلك المروج الفيحاء وشاد القصور الشمَّاء، وفي جملتها قصر «سان سوسي»، ومعنى الاسم «خلي البال» إشارةً إلى خلوِّ أصحاب القصر من الشواغل، وهم يطلقون هذا الاسم على مثل هذه المصايف؛ حيث يقضي أمراء الزمان وقت الفراغ، وفي حديقة القصر غير غرائب الزهر والشجر بِرَك اشتُهرت بقوَّة ما يندفع من ماء أنابيبها، فإنه يصعد من بعضها إلى علوِّ ٣٩ مترًا كأنَّما هو جبل من الماء صاعد ثم يهوي ويصبُّ في بِرْكَة يحدث فيها لشدَّة وقْعِهِ اضطرابًا وموجًا كبيرًا، وقد جرى الأمراء مجرى فريدريك الكبير الذي شاد القصور في بوتسدام وولع زمانًا بسكناها فبنوا فيها فخيم المنازل هناك، رأينا في جملتها قصر أورانجري أو قصر البرتقال اشتُهر بأغراس البرتقال، وُضِعَتْ في براميل كبرى وقد صُفَّت من حول البناء ولها رونق وبهاء، فإذا اشتدَّ البرد عليها نقلوها إلى مواضع أدفأ في داخل المنزل، ومن ذلك قصر فريدريك الثالث والد الإمبراطور الحالي، مات فيه صاحبه فريدريك وأقامت فيه الإمبراطورة فريدريك والدة الإمبراطور الحالي إلى يوم مماتها، والقصر واسع الأنحاء كثير الجمال فيه مائتا غرفة، ولحديقته منظر تُضْرَب به الأمثال، ومن ذلك قصر بابلسبرج بُنِيَ على عهد فريدريك الكبير وزاده الملوك من بعده تحسينًا، وفي حديقته بقعة تُعْرَف باسم المطحنة سُميت بذلك؛ لأنه لمَّا بنى الملك هذا القصر كان في هذه البقعة مطحنة لفلاح بروسي فقير، فأراد الملك أن يشتريها منه، وامتنع الرجل ثم استدعاه الملك بعد أن فرغت الحِيَل في إقناعه وتهدَّده باغتصاب الأرض وبالعذاب إذا أصرَّ على الإباء فلم يهتز الفلاح لهذا الوعيد، وقال للملك: «إن هذا يمكن إذا لم يبقَ في برلين قضاة»؛ فأُعجب الملك بجرأة الفلَّاح وثقته بقضاة المملكة وتَرَكَ المطحنة له على حالها كما رأيتها في ذلك اليوم، وأنعم عليه بجملة مال شأن الملوك العظام.
وبعد التنزُّه في غياض بوتسدام وهضابها وبحيراتها عُدْنَا إلى منزل الموسيو فون لاشان في برلين، وقضينا السهرة عنده، وكان في جملة المدعوين بعض من أهل الأدب والمقام فأطلعنا صاحب الدار على رسوم عنده لبعض مدائن الشام، مثل: بيروت واللاذقية وجونية وطرابلس وسواها، ثم أرانا أشكالًا من الجلد تمثِّل ألعاب «كراكوز» أو هي خيال الظلِّ، وبينها رسوم عيواظ والمدلل، وقد أُعْجبتُ باعتناء هؤلاء القوم بأمور المشرق حين أراني المضيف رسالة من تصنيفه بالعلامات الموسيقية الإفرنجية في أغاني «الكراكوز»، وأسمعوني بعض هذه الأنغام فكأنني كنتُ في قهوة شرقية، وهنا غاية الاعتناء بالعلم ومثال التدقيق في جمع المعارف.
ودُعينا إلى زيارة المتحف الذي يديره فون لاشان في اليوم التالي فذهبنا إليه ورأيتُ ما فيه من الآثار الألمانية التامَّة في كلِّ فن ومطلب، هنالك مجموعة من الآثار النفيسة كَشَفَهَا الأستاذ شليمان المشهور عند آثار تروادة، وقد ذاع ذكر هذا المكتشف وجاء مصر مرارًا ليبحثَ عن قبر الإسكندر ذي القرنين ظنًّا منه أنَّ الإسكندر دُفِنَ في مصر فلم يتوفَّق إلى اكتشافه. وفي المعرض من غرائب كلِّ البلاد ما يقصر القلم عن وصفه، استوقف نظري منه ملابس كثيرة الحشو والزخارف لهنود أميركا الأصليين، وهي قديمة ضاع شكلها من بين الهنود الحاليين، وبطل استعمالها حتى إن فون لاشان قال لي إنه إذا أراد هنود أميركا الآن أن يعرفوا شكل أجدادهم الأقدمين وجب عليهم أن يأتوا برلين ويزوروا هذا المعرض، حيث حُفِظَت الأشكال الأولى على أصلها وغرابتها، وهنالك أيضًا ملابس لثيودوروس ملك الحبشان الذي قُتِلَ في حربه مع الإنكليز سنة ١٨٦١، وكوبة كان يشرب الماء بها وآثار لا تُحْصَى من أميركا وأفريقيا وآسيا، كلها أدلَّة على الاجتهاد والنشاط الذي امتاز به القوم الألمان، وهم — بلا ريب — من أهل الطبقة الأولى في العلم والصناعة، والتعليم عندهم إجباري حتى إنه يندر وجود واحد يجهل القراءة ومبادئ العلوم بينهم، على أنَّني لم أبرح برلين قبل أن أمتِّعَ النظر بمرآها جملة من مرتفع يُسمَّى كروسبرج يطلُّ عليها فقصدتُّ أكمة مجاورة لها، ومعي الدليل والمنظار حتى إذا ارتقيتُ قمَّتها نظرتُ إلى الجنوب سهولًا خضراء يزرعونها حِنْطَة وغلالًا، وإلى جانبها سهول يستعرض فيها الجيش الألماني وتجري المناورات العظيمة يرأسها الإمبراطور بنفسه، ويُدْعَى إليها أكابر القواد من كلِّ البلاد، وهنالك شجرة دلَّني إليها الدليل يقف تحتها الإمبراطور ساعة الاستعراض.
على مثل هذا قضيتُ أسبوعًا في عاصمة الألمان العظيمة حتى إذا تمَّ لي المراد من الدرس والفُرْجَة برحتها في قطار قام ينهب الأرض نهبًا في وسط حراج غضيضة وسهول أريضة في إقليم مكلنبرج، طورًا يشقُّ الأرض وتارةً يسير على ضفاف البحيرات أو فوق الجسور حتى وصلنا الحدود الفاصلة بين بروسيا والدنمارك عند محطَّة «وارنموندا»، فسافرنا من هنالك في البحر زهاء ساعتين، ووصلنا بعدهما فرضة جدسر وهي مدينة دنماركية ركبنا فيها قطار سكَّة الحديد، ومررنا بعدها على عدَّة محطات آخرها محطَّة «دينجبونج»، وهناك وصلنا خليجًا آخر لم يكن لنا بدٌّ من عبوره فعبرناه على طريقة غريبة لم أرَ مثلها قبل هذه المرَّة، ذلك أن القطار وقف على ضفَّة الخليج واتصل أوله بباخرة بحرية في الماء وفوق سطحها خطوط الحديد ليقف عليها القطار كأنَّما هي أرض مُدَّت عليها الخطوط الحديدية، وسار القطار على مهل حتى صار كله فوق تلك السفينة فوَقَفَ وتحرَّكت هي فسارت في الخليج حاملة للقطار حتى إذا وصلت البر من الناحية الثانية وَقَفَتْ عند نقطة فيها خطوط الحديد للقطار فألقَتْ رَحْلَها ووقفت مكانها، ومن ثَمَّ تحرَّك القطار فسار من ظهر الباخرة إلى الأرض وظلَّ سائرًا في طريقه، فكان ذلك من أجمل ما رأيتُ في طريقي بين برلين وكوبنهاجن، وهي العاصمة التي وصلتها بعد سير ١٢ ساعة من برلين، وأمَّا بقية المدائن الألمانية التي زُرْتُهَا مثل كونستانس وستراسبورج ومايانس ووسبادن وفرانكفورت وكولون فترى الكلام عنها في فصل يجيء من فصول هذا الكتاب.