الجزائر
خلاصة تاريخية
رأيتُ صعوبة في جَمْعِ هذه الخلاصة التاريخية لما أنَّ الكتب العربية، مثل تاريخ ابن خلدون وأبي الفداء مطوَّلة، وكتب الإفرنج تسردُ الأسماء العربية على طريقة بعيدة عن الصواب، ولكنني جمعت هذه المواد الآتية من عدَّة مؤلَّفات للعرب والأوروبيين.
يبدأ تاريخ الجزائر المعروف على عهد أجدادنا الفينيقيين، وقد تلاهم الرومانيون في حكم تلك البلاد ثم الفندال ثم الروم ثم العرب ثم الأتراك، ثم الفرنسويون، وهم أصحاب البلاد الآن. وكانت البلاد تُعْرَفُ باسم ليبيا على عهد الرومانيين، وأهلها الأُوَل من البربر يعيشون عيشة القبائل المنحطَّة، ولكنهم اشتُهروا بالبأس والشدَّة فلم يخضعوا خضوعًا صحيحًا لأمَّة ملكتهم، ولم يأخذوا عنها شيئًا من علومهم وحضارتهم، بل إنهم بقوا على عبادة الوثن ما خلا بعضهم دانوا بالإسلام بعد استيلاء العرب على بلادهم، وحَدَثَ كثيرًا أن البلاد جُزِّئَتْ بين الفاتحين حتى إن هذه التجزئة ظهرت من عهد قريب — أي على عهد الأمير عبد القادر — حين تقرَّر أن يكون بعضُ البلاد له والبعض لفرنسا، ولم تُرْسَم خريطة تامَّة للبلاد إلا من بعد إبعاد الأمير عبد القادر واستيلاء فرنسا عليها برُمَّتها.
وقبل أنْ أذكرَ أمرَ الفينيقيين في هذه البلاد، أقول إن بلاد فينيقيا الأصلية كانت تمتدُّ من وراء صور في شطوط الشام إلى رأس الخنزير على مَقْرُبَةٍ من اللاذقية. وكان في جملة المدائن الفينيقية صور، وهي العاصمة القديمة وصيدا وحيفا ويافا وبيروت وعكَّا وطرابلس واللاذقية، وكلها ثغور بحرية كما لا يخْفَى. وكان لهذه الأمة مراكز في أعالي الجبال، مثل رأس الكرمل فوق حيفا، ورأس النافورة والرأس الأبيض ورأس الدامور فوق صيدا، ورأس نهر الكلب فوق بيروت، ورأس الشقعة فوق طرابلس، والرأس البسيط فوق اللاذقية، حتى إنهم لمَّا كثُرَ عديدهم أوغلوا في داخلية البلاد وآثارهم كثيرة في قرى لبنان وجبال النصيرية فوق اللاذقية، وكانت جزيرة أرواد ما بين طرابلس واللاذقية من مراكزهم المهمَّة، قيل إن اسمها هذا فينيقي بقي على حاله إلى اليوم، وفيها آثار لهم كثيرة إلى الآن.
وأمَّا كيفية استيطان الفينيقيين لأقطار أفريقيا الشمالية، مثل تونس وطرابلس الغرب والجزائر ومراكش، فيُقال فيه أنَّ أميرة اسمها ديدون — وقيل في كتاب سيرة القدِّيسين إن اسمها إليشير — هربت من وجه أخيها بجماليون ملك صور الذي قَتَلَ زوجها طمعًا بثروته حوالي سنة ٨٦٠ قبل المسيح، وأبحرتْ إلى حيث لا تدري، ومعها حاشية وأعوان، حتى ألقتها الأقدار عند موقع مدينة تونس الحالي، فألقتْ عصا الترحال فيها، واشترتْ أرضًا من زعيم قبيلتها، وقيل إنها احتالت على هذا الزعيم وادَّعت أنها لا تريد غير بقعة صغيرة حتى إذا باعها واستقرَّ بها النَّوى جعلت تتوسَّع في امتلاك الأرض مع أعوانها، وبَنَتْ مدينة قرطاجة المشهورة على مَقْرُبَةٍ من تونس، ثم تبعها أقوام من أهلِ وطنها فعَمَرُوا تلك الجهة تعميرًا، وبنوا فيها بعض القلاع وأقاموا يتاجرون في البحار والأقطار، ولكنهم لم يُسْمَع عنهم شيء غير الاشتغال بالتجارة مدَّة ثلاثة قرون بعد إنشاء مدينتهم إلا بعد خراب مدينة صور عاصمة فينيقيا الأصلية، حين فَتَحَها بختنصر ملك بابل حوالي سنة ٥٧٤ قبل المسيح، ودكَّ معالمها وخرَّب ما فيها، فرَحَلَ الناس منها ومن بقيَّة المدن الفينيقية إلى قرطاجة؛ لأنها بلغت في ذلك الزمان منزلة تُذْكَر من التقدُّم والنماء. وكان أهلُ هذه المستعمرة جميعهم يشتغلون بالتجارة حتى عمال الحكومة منهم، وكانوا يعلِّمون الأهالي المجاورين لهم طرق المتاجرة والأرباح، ولم يهملوا الزراعة، بل إنهم أتقنوها وعلَّموا الأهالي طرق الانتفاع منها، وفرضوا على المزروعات مالًا قليلًا لا يمنع الناس من الانقطاع لها، وبذلك خدموا المدينة ورقُّوا حالة الأقوام المجاورة لهم، وبنوا المدائن والطرق، منها ما هو باقٍ إلى اليوم ومطروق، مثل طريق الصحراء إلى السودان؛ فإنها طريق القوافل إلى هذا النهار. كذلك الصناعة حذقوا بعض فروعها، وقد عثروا على آثار كثيرة من الحُلِي الذهبية والفضية صنع الفينيقيين، تشهد لهم بالتفنُّن والذكاء، وهي الآن في متحف قرطاجة، وسنعود إليه. وكان لهذه المستعمَرَة جيش، معظمه من غير العنصر الفينيقي؛ لأنَّ شبانهم كانوا يستأجرون أفرادًا من أهل أفريقيا للقيام بهذه الخدمة عنهم، واشتُهروا بحكومتهم الجمهورية مع أنهم عاشوا في عصور الاستبداد والحكم المطلَق، فكان لهم مجلس (سناتو)، أعضاؤه مائة يُنْتَخبون من الشعب كل سنة، وهم حكام المستعمرة وقضاتها ووزراؤها معًا؛ لأن مجلسهم كان يُشْهِر الحروب، ويَعْقِد المحالفات ويقضي في مسائل الناس. واتسع نطاق تجارتهم في جميع الأنحاء فبنوا المواني الواسعة وأكثروا من السفن ترتاد البحار، حتى إنهم بلغوا شطوط البلطيق في الشمال وشطوط البحر الهندي وخليج فارس في الجنوب، وقيل أكثر من ذلك مما لم تؤيِّده الآثار والأخبار، وكانوا يذهبون بسفنهم إلى مصر؛ ليشتروا منها الحبال والقماش لمراكبهم والورق والقمح وغير ذلك، واختلفوا إلى ثغور البحر الأحمر حيث كانوا يأتون بالتبر والأفاوية والعطور والبخور، وكانوا في كلِّ هذه المواضع يُعْطُون الأهالي بدَلَ هذه الأشياء أقمشة من صُنْعِ بلادهم، ملوَّنة أكثرها باللون الأرجواني، وهم أول من اهتدى إلى صُنْعِهِ وبعض الأدوات المعدنية من الحديد والنحاس، والرصاص كانوا يستخرجونه من إقليم توميد، فاشتُهروا بهذا بين طوائف الأقدمين.
وكان مجلس الشيوخ مشرِفًا على شئون البلاد قرَّر أن تستولي الجمهورية على كلِّ القُرَى والمدن الواقعة على شاطئ البحر الشمالي، وفي جملتها موقع الجزائر الحالي، وكل ما أمكن امتلاكه بين جبل طارق في آخر البحر المتوسط من ناحية الغرب إلى أطراف بلاد طرابلس وما يقابلها، وكذلك بعض أجزاء أوروبا من جنوب إسبانيا إلى حدود مرسيليا، واستولوا أيضًا على جزيرتَي سردينيا وكورسيكا، وجزء في صقلية ومالطة، وكانوا يستولون على كلِّ هذه الأقطار بالتداخل السياسي والتجارة بدل الحرب، وهي طريقة الإنكليز في بعض ما مَلَكوا من الهند وسواها في التاريخ الحديث. ولكن هذا السؤدد لم يدُمْ زمانًا لأهل قرطاجة؛ لأنَّ دولة رومية بدأتْ تحسدهم على هذه النِّعَم وتطمع في اختلاسها منهم، وكان بَدء الخصام بين الدولتين ثورة في مدينة صقلية؛ إذ طَلَبَ فريق من أهلها الانضمام إلى جمهورية رومية، وأراد الآخرون أن يبقوا تحت راية قرطاجة، فقامت الحرب الأولى بين الجمهوريتين، وكان الفوز في أوائلها للقرطاجيين، لما أنَّ سفنهم الحربية كانت أكثر عددًا وإتقانًا، ولكن أهل رومية أسرعوا إلى بناءِ سفن جديدة على شكل السفن القرطاجية، فانتصروا بها واستولوا على جزيرة صقلية وجزيرة سردينيا، ثم توجَّهوا إلى قرطاجة ففتحوها عُنْوة مع أنَّ قائدها أميكلار أبلى بلاءً حسنًا، وقاوَمَ الأعداء زمانًا طويلًا، ولكنه قُتِلَ في إحدى المعارك وخَلَفَه ابن أميكلار، وهو شاب في الثانية والعشرين من عُمُرِهِ، والقائد العظيم المشهور باسم هنبال أو (هنبعل) الذي يعدُّه الناس إلى هذا الزمان من أكبر العارفين بأصول الخدمة الحربية؛ فإن هذا البطل الهُمَام دخل بلاد الرومانيين بجيش أكثر من أهل إسبانيا، وفاز في كلِّ المعارك التي حدثت له مع أعدائه حتى إنه بلغ سور رومية، وأصبحت تلك الدولة العظيمة في خطرٍ كبير، فما عَرَفَتْ كيف تخلص من عدوِّها القاهر حتى فطِنَتْ إلى طريقة كانت هي القاضية؛ ذلك أنَّها جرَّدت جيشًا تحت قيادة رجلٍ من سراتها، وسيَّرَتْه على قرطاجة ليضايقها حتى يضطرَّ هنبال إلى الخروج من بلاد إيطاليا والذهاب إلى وطنه ليدافع عنه، وقد تمَّ ذلك لرومية، وعاد هنبال على كرهٍ منه بعد أن أفْنَى معظم جيشه في المعارك الطليانية التي دامت ١٤ سنة، وأبْقَتْ لهذا البطل الفينيقي أعظم ذكر في تاريخ الحروب، ولا سيَّما أنه كان أول قائد اجتاز جبال الألب بجيش جرَّار، وما فَعَلَ فِعْلَه في الزمان الحديث غير نابوليون الفاتح المشهور، قيل إن هنبال بكى حين جاءه أمر السناتو بالرجوع للدفاع عن وطنه؛ لأنَّه كان قد أقسم أن يدخل رومية ويهدَّ أركانها، فما تمَّ له المراد، ورجع بعد أن أفنى من جيشه ٦٠ ألف بطل وبقي معه ٤٠ ألفًا فقط، وكان غيظه شديدًا حين بلغ الوطن، ووجد أهله في خمول ورخاء لا يهتمُّون للدفاع عن استقلالهم، وقد انغمسوا في تجارتهم وصناعتهم حتى إنهم توسَّلوا إليه أن يعقدَ صلحًا مع الأعداء بَدَلَ من أن يتحمَّسوا معه. وكانت خزانة حكومتهم فارغة من المال وليس لديها رجال يصلحون لإنجاد الجيش المحارب، بينا أنَّ جيش رومية كان يزيد ويشتدُّ من يوم إلى يوم، وقائده شيبيو يعتزُّ ويضمن النصر، فطَلَبَ هنبال مقابلته، وكان الرجل معسكرًا على بُعْدِ أيام عن قرطاجة، فلمَّا تقابَلَ القائدان طَلَبَ شيبيو شروطًا ثقيلة تقضي على حياة قرطاجة، فأبى هنبال قبولها، وتقدَّم الفريقان للحرب القاضية، والتقيا عند قرية اسمها زاما، وهنالك دارت رَحَى القتال الشديد، وبَذَلَ هنبال جهده في إدارة جنوده وهم يومئذٍ ٤٠ ألفًا، ولكنه كثر عليه العدد حتى قُتِلَ من رجاله نصفهم عدا مَنْ أُسِرَ، فأمرهم بالتراجع إلى المدينة، وعاد في اضطراب وأسَف عظيمَين زادهما ما لقي من فُتُور الهمم بين قومه واستسلامهم للأقدار، وكانت هذه الموقعة في سنة ٢٠٣ قبل المسيح.
ورأى هنبال بعد هذه الكسرة أنَّ دولة قومه زالت، وأنه لا بدَّ من قتله إذا بقي في بلاده ففرَّ منها وذهب إلى سورية، حيث أكرمه ملكها أنطيوخوس وأعلى مقامه؛ لأن الملك المذكور كان كارهًا للرومانيين، ولكن هنبال كرِهَ الحياة بعد ذلِّه فتجرَّع سمًّا ومات غريبًا، واستسلم أهل قرطاجة بعد غيابه فسلَّموا كلَّ سفنهم وأسلحتهم للرومانيين، وعدد السفن ٥٠٠ أضرم القائد شيبيو فيها النار فأضاءت الفضاء بنارها أيامًا، ثم عاد بالأسلاب والغنائم إلى رومية حيث قابله قومه بالإكرام العظيم. واشتدَّت وطأة الحكام الرومانيين بعد هذا الانتصار على أهالي قرطاجة، حتى إنهم تآمروا مع الأهالي على خلع نير الطاعة، ومن ثَمَّ شبَّت الحرب القرطاجية الثانية مع رومية، وانتهت بالخضوع التامِّ وضَمِّ قرطاجة وما يتبعها إلى أملاك الرومانيين، وكانت هذه الحرب شديدة الأهوال؛ لأن أهل قرطاجة ذاقوا طعم الاستبداد الروماني فتجنَّد رجالهم ونساؤهم للحرب تحت قيادة أسدروبال، وجدُّوا في بناء السفن حتى إنهم كانوا يهدمون المنازل؛ ليبنوا المراكب بأخشابها ولا تفوتهم فرصة الانتقام والاستقلال، وجعلوا معابدهم معامل لصنْعِ السلاح والتمرين، واستخدموا النساء والأولاد في عمل المهمَّات الحربية، وباعوا حلي نسائهم؛ ليشتروا بها ذخائر للحرب، وقطعت النساء شعورها؛ حتى تجعلها حبالًا للسفن الحربية، وأظهر القوم غاية الأنَفَة والحماسة الوطنية حين أقبل الرومانيون عليهم بالجنود والسفن الحربية، فحصروا مدينة قرطاجة وأقاموا على الحصار سنتين وهم لا يتقدَّمون خطوة، وأهل المدينة ينسلُّون تحت جنح الظلام من حين إلى حين للبطش بجموعهم، ويأتون غرائب الصبر والإقدام في الدفاع عن الوطن العزيز، حتى إذا كانوا في سنتهم الثالثة من سِنِي هذا الحصار قلَّ الزاد داخل المدينة، واشتدَّ الكرب والضيق، فجعل الرومانيون يوالون الهجمات، وهم أبدًا على ازدياد مما يأتيهم من النَّجدات، واستمرُّوا ستة أيام بلياليها يكرُّون ويهجمون، والمحصورون يردُّونهم بعزم الأبطال الأشدَّاء، حتى تيسَّر لهم الدخول من سطح أحد المنازل المتطرِّفة، وجعلوا ينتقلون منه إلى السطوح الأخرى فوق ألواح من الخشب وضعوها لهذا الغرض، وأهل المدينة يضربونهم بقلب شديد، ولكن الدفاع لم يغنِ فتيلًا؛ لأن الرومانيين تكاثروا في السطوح ودخلوا الشوارع ثم أضرموا النار في منازل المدينة، فرأى القائد أسدروبال أنَّ الآخرة دَنَتْ، وأنه لم يبقَ بدٌ من التسليم أو الفناء؛ فذهب إلى جهة القائد الروماني وبيده غصن زيتون علامة التسليم، ولكن زوجته سمعت الناس يقولون إنه خان الوطن بهذا التسليم، فهاج دمُ النخوة في عروقها، وبلغت بها الحماسة الوطنية مبلغ الجنون حتى إنها اقتادت ولديها، أحدهما باليمين والثاني بالشمال، ودخلت بهما الهيكل، ثم نادت بالناس فتبعوها كبارًا وصغارًا، وهنالك قالت لأهل وطنها إن الموت خيرٌ من التسليم للعدو، وأشارت بأن يُحرق الهيكل وهم فيه فرضوا بما قالت، وأضرموا النار في موضعهم فالتهبت النار واحترقت هذه المرأة الشريفة مع ولديها وبقيَّة أولئك الأبطال الكرام.
ولمَّا استولت الجنود الرومانية على المدينة أكملت المُصَاب بالنار أيضًا، عملًا بأمر السناتو، فأُحْرِقَت المدينة العظيمة بكلِّ ما فيها، وبقيت النيران تأكل تلك المنازل والقصور أسبوعًا بأكمله، والناس داخل المدينة يتعذَّبون ويموتون حتى إذا فرَّ أحدُهم تلقَّاه الرومانيون بسلاحهم وقتلوه، وكان منظر ذلك الحريق الهائل وصراخ المحروقين والمعذَّبين يفطر الأكباد، ولكنه لم يؤثِّر في جنود الرومان؛ لأنهم لمَّا انتهوا من أمر النار وخَرَبَتِ المدينة صَدَرَ لهم الأمر بدفْنِ الموتى من أعدائهم فجعلوا يدفنون الحيَّ مع الميت، وبهذا قُضِيَ على أعظم جمهورية شرقية قامت في التاريخ القديم، وكان مصابها الأخير في عام ١٤٦ قبل المسيح.
وقد كانت قرطاجة عروس المدائن في زمانها ودار الأُنْسِ والصفاء والعزِّ واليَسَار، بلغ عدد سكانها ٧٠٠ ألف نفس، كثر فيها الأغنياء وأصحاب الذكاء، وكانت جوانب قرطاجة حافلة بالمعابد الفخيمة والقصور المنيفة والمتنزَّهات الجميلة، وهي مدَّة أجيال مصدر الصناعة والعلم ومرجِع أصحاب المتاجر من جميع الأصقاع، وقد سادت وشادت خمسة قرون، كانت فيها مثال الحكمة والعدل، وبَنَتْ قواعدها على أساس الحكم الجمهوري، ونَبَغَ من أهلها العظماء والكرام ورَتَعَ الأهالي في ظلِّ عدلها، فما شكوا ظلمًا ولا هبُّوا لثورة في كلِّ تلك القرون، وما زالتْ آثار هذه المدينة العظيمة على مَقْرُبَةٍ من ضواحي مدينة تونس الحالية، وقد بُنِيَ فوقها مدن سيدي بومدين ومدينة المرسي؛ حيث قام قصر الباي، وغير هذا مما سنذْكُرُهُ في فصل سياحتنا التونسية.
السلطنة الرومانية
لمَّا استولت رومية على بلاد قرطاجة جعلت ولايتها لرجل من سراتها اسمه ميشبسا، وهو جعل مقر حكومته في مدينة سيرتا (قسنطينة الآن)، وسار على خطَّة القرطاجيين في أنه عمَّر البلاد بالنازحين من أهل بلاده، وساعدهم على الارتحال ألوفًا، وحاول أن يعلِّمهم طرق الإتجار مع الأهالي، ولكن أهل البلاد كانوا يكرهون الرومانيين بسبب أَثَرَتِهم واستبدادهم بعد الذي ذاقوا من حلاوة العدل القرطاجي. وبدأ هذا الوالي يبني القصور والمعابد في عاصمته الجديدة، وجرَّ المياه إليها من المواضع البعيدة وبَنَى لبعضها القناطر على شكل قناطر الملك بيبرس في مصر، وبعضها باقٍ إلى اليوم مع أنه مرَّ ٣٠٠٠ سنة على بنائه. وكانت مدَّة حكم هذا الوالي ٣٠ سنة، تُوفِّي بعدها، وقسَّم الملك قبل وفاته بين ولديه همبسال والدربال وابن أخيه جوجورتا، وكان هذا الأخير ذا شهرة وإقدام وطمع شديد، خَدَمَ الدولة الرومانية في بعض حروبها، ولمَّا صار واليًا طمع بملك ابنَي عمه، فأرسل رجلًا إلى همبسال قَتَلَه واضطرَّ الآخر إلى الفرار من وجهه حتى إنه قصد رومية؛ ليرفع أمره إلى السناتو فيها، ولكن جوجورتا أسرع إلى إرسال الوفود إلى رومية وزوَّدها بالهدايا لبعض أعضاء المجلس، فلم يمكن الحكم لألدربال، بل إن المجلس أرسل وفدًا إلى الولاية الأفريقية ليقسِّمها بين الرجلين، فكان القسم الأهم بحكم هذا الوفد لجوجورتا بسبب هباته ورشاويه. ولكن هذا الطمَّاع لم يكتفِ بكلِّ ذلك بل هو أشهر حربًا على ابن عمه حال رجوع الوفد لسبب صغير، وحاصره في بلده، فرأى الدربال أنْ يعمل بشور البعض ويطلب مقابلة خصمه على شرط ألا يؤذيه، فوعده جوجورتا بذلك، ولكنه غَدَرَ ساعة المقابلة وقَبَضَ على ابن عمه وقَتَلَه أشنع قتلة، ودَخَل مدينة قسنطينة فنكَّل بكبارها وأكْثَرَ من الفظائع، حتى إن أهل رومية لمَّا بلغتهم الأخبار لم يطيقوا صبرًا على أعمال هذا الرجل، ولم يقدر حزبه على إيقاف تيار السَّخَطِ، فأُعْلِنَت الحرب على هذا الطاغية، ودامت ٧ سنين أظهر جوجورتا فيها مقدرة كبرى على الحيلة والتخلُّص، حتى إنهم أطلقوا عليه اسم هنبال الثاني.
ولكن أهل رومية عادوا إلى الشكوى من عجز دولتهم كل هذه المدَّة عن إخضاع أحد الولاة، وكان السبب في ذلك أن اثنين من القُوَّاد الرومانيين أهملا بدواعي الرشوة التي قدَّمها جوجورتا، فعين السناتو قائدًا جديدًا اسمه ماريوس، عُرِفَ بالعفة والإقدام، وكان معه جيش من أبطال الرومانيين، فضيَّق على جوجورتا في الحرب حتى اضطرَّه إلى الفرار والالتجاء إلى حميمه والي مورتانيا (هي الآن إقليم وهران)، ولكن هذا الوالي خاف بطش رومية فسلَّمها صهره وأُخِذَ جوجورتا أسيرًا إلى العاصمة، حيث قضى بقيَّة عمره في العذاب والشقاء جزاء سيئاته الكثار. وكان الرومانيون يهتمُّون كثيرًا لهذه الولاية الأفريقية؛ لأن نصف القمح والزيت الذي يلْزَم لرومية كانوا يشحنونه من أراضي قرطاجة، وكان على هذه الولاية رجل فاضل عادل اسمه جوبا، ألَّف كتبًا مفيدة، وأحسن السياسة في الناس وطالَ حكمه ٥٤ سنة، فخَلَفَه ابنه بطليموس وكان ضعيفًا سيئ التدبير منغمسًا في الملذَّات، فهبَّ الأهالي للثورة عليه تحت قيادة رجل من زعمائهم اسمه تكفارنياس، كان قد انتظم في سلك الجيش الروماني حتى يتعلَّم الفنون الحربية، فكان خصمًا عنيدًا لرومية، أرسلت عليه جيشًا يقوده إيرونيوس ودامت الحرب زمانًا؛ لأن الزعيم الوطني كان يلوذ بالقِفَار كلَّما أصابه انكسار في الحرب، ولكن القائد الروماني جعل مالًا للذي يأتيه بهذا العاصي ميتًا أو حيًّا، ثم عَرَفَ بوجوده في جهة أوزايا فباغَتَهُ فيها، ونكَّل به وبجيشه في ساعة الفجر، وكان في هذه المعارك ما يشبه حوادث الحرب الحديثة التي حَدَثَتْ بين جنود فرنسا والأمير عبد القادر الجزائري، وسيأتي بيانها. ولمَّا استتبَّ الأمن لرومية وخلصت من الثائرين، قسَّمت أفريقيا الشمالية، وعيَّنت لكلِّ ولاية واليًا، وكان ذلك سنة ٣٤٣ بعد المسيح. وقد ذَهَبَ القيصر أوغسطس بنفسه إلى هذه الولاية، ولمَّا رأى موقع قرطاجة أمر بإعادة بنائها مخالفًا أسلافه في ذلك، ولكنه اشترط ألا يزيدَ علوُّ أسوارها عن مترين. ولمَّا كانت قرطاجة بديعة الموقع فإنه لم يمر زمان حتى عمرت وكبرت وصارت ثالثة المدائن في السلطنة الرومية، لا يتقدَّمها في الأهمية غير روميَّة وإسكندرية، وذلك بعد الخراب السابق بنحو مائتي عام.
وتعاقَبَ الولاة الرومانيون على هذه الولاية، فما كان لأحدهم أمرٌ يستحقُّ الذكر على نوعٍ أخص غير القيصر أدريانوس، فإنه ذهب إلى أفريقيا بنفسه، وأنصف وعمَّر وشاد حتى إن الرومانيين بقوا كل مدَّة حكمهم يذكرون أيام هذا القيصر وآثاره، ولكنهم لم يزيدوا على أعماله شيئًا. وكان في هذه البلاد جماعة كبيرة من اليهود نزحوا من فلسطين بعد أن فَتَحَها القيصر نيطس ودمَّر عاصمتها أورشليم، وأمَّا النصرانية، فإنها دخلت البلاد على يدِ قرطاجي اسمه ترتولين وخَلَفَه مار أوغسطينوس المشهور، فنشر مبادئ النصرانية بين الأهالي وبَنَى الكنائس وملجأ للعجزة في مدينة هبون — وسيأتي الكلام عنها وعن الأساقفة — وأَتَى غير ذلك كثيرًا من آيات الحضِّ والإرشاد. وقد كان القياصرة والحكام الرومانيون يضطهدون النصارى هنا على عادتهم في تلك الأزمان، ويعذِّبونهم بالطرق الوحشية المعروفة في تاريخ النصرانية مدَّة القرون الأولى، وقد ظلَّ القياصرة يتعاقبون حتى قام الإمبراطور فلانتين، وأشْرَكَ معه أخاه فالانس سنة ٣٦٥ مسيحية، وكان ذلك العام بَدء انقسام السلطنة الرومانية وتجزئتها؛ لأنَّ الأخوين تقاسماها فخصَّ فلانتين الولايات الغربية، جعل مدينة ميلانو في إيطاليا قاعدتها مؤقَّتًا، وخصَّ فالانس الولايات الشرقية وأقام في القسطنطينية. وحَدَثَ بعد ذلك أنَّ الفندال تقدَّموا على ولايات السلطنة الرومانية في حكم الإمبراطور فلانتين الثالث وهو يومئذٍ قاصر تحت وصايةِ أمه بلاسيد، ودخلوا إسبانيا، فذَهَبَ بونيفاس معتمد السلطنة في الولايات الغربية إلى إسبانيا وقابَلَ ملك الفندال، واتفق معه على احترام الحدود حقنًا للدماء، وحَدَثَ أنه رأى ابنة آريوسيه بارعة الجمال في بلاط الملك فاقترَنَ بها، وكان هذا موافقًا لرغائب الملك؛ لأنه سهَّل عليه دخول أفريقيا.
سلطنة الفندال
هم القوم المعروفون بالبربر، خرجوا جيوشًا جرَّارة طامية من بلاد البلطيك في شمال أوروبا، وجاءوا بلاد جرمانيا العليا حيث تنصَّروا على مذهب آريوس، ثم تقدَّموا للغزْو والفَتْح فشنُّوا الغارة على فرنسا، أو هي بلاد الغول في سنة ٤٠٦، وتقدَّموا منها إلى إسبانيا فمَلَكوها، وكان جندريك أحد ملوكهم فيها هو الذي امتلك ولايات أفريقيا من الرومانيين، وخلفه ابنه جنسريك، وهو ذو شهرة عظيمة بالدهاء وفنون الحرب، أراد أن يستولي على قرطاجة، فسيَّر عليها جيشًا عدده ٨٠ ألف رجل مع نسائهم وأولادهم، كانوا من الهمج الفقراء، فلمَّا بلغوا تلك المدائن الرومانية العامرة ورأَوا ما فيها من العزِّ والنعم تمادوا في السلب والنهب، وقام ملكهم إلى قرطاجة. ومع أنَّ بونيفاس ذكَّره بوعده ألَّا يتعدَّى الحدود، فإن كلامه راح سدًى، واضطرَّ أن يهرب من وجه الملك إلى مدينة هيبون الواقعة على شاطئ البحر، وجاءت في خلال ذلك نجدة من ملك الروم في الآستانة فلم تفِد في ردِّ جموع الفندال، وعلى ذلك نَزَلَ أهل المدينة في مراكب الروم وهَجَرُوها فدخَلَهَا الفندال، ولم يُبْقُوا بها حجرًا على حجر، وكان ذلك سنة ٤٣٢. واستبدَّ جنسريك بعد ذلك بالمُلْكِ، وكان آريوسيًّا شديد الوطأة على المسيحيين، وحاول مرارًا أن يحْمِلَهم على اعتناق المذهب الآريوسي، وفَتَحَ مدينة قرطاجة بلا عناء كبير في سنة ٤٣٩، وابتزَّ مال أهلها، وعذَّب الكثيرين منهم حتى يسلِّموه ما خبئوا من الأموال والكنوز. وكان هذا الملك الفندالي شديد الاهتمام للعفاف والصيانة فشدَّد الوطأة على كلِّ متزوج بغير الطرق الشرعية، ومنع الحفلات الدينية في الشوارع، وكان على الجملة رجلًا عظيمًا قويًّا مخالفًا لأكثر أهل النصرانية فيما يعتقدون.
وظلَّ جنسريك يطمع بتوسيع الملك، حتى إنه قام إلى صقلية واستولى عليها؛ فذُعِرَ أهل رومية والقسطنطينية من انتصاره، وتحالَفَ الإمبراطوران عليه، فأرسل الإمبراطور ثيودوسيوس جيشًا عدده ٣٠ ألفًا من الآستانة في سنة ٤٩١، أخذهم جنسريك بالحيلة، ووهمهم أنه أرسل وفدًا إلى إمبراطورهم بطلب الصلح، وكان في الحقيقة قد أرسل جيشًا للسطوِ على ثغور بلادهم، فلمَّا اتضحت الحقيقة اضطرَّ الجيش الرومي إلى الرجوع؛ ليحافظ على بلاده، فبقيَتْ صقلية لملك الفندال، وهو أعدَّ فيها أسطولًا قويًّا وجيشًا عظيمًا للاستيلاء على رومية، وساعده اختلال أحوالها وسوء تصرُّف الإمبراطور على مراده؛ لأن الإمبراطور فالنتين المذكور كان قد أَتَى أمرًا مَعِيبًا مع زوجةِ واحد من أعضاء السناتو فَقَتَلَه العضو المذكور، وأَكْرَهَ الإمبراطورة على الاقتران به، وأصبح صاحب السلطان، ولكن الإمبراطورة انتقمت منه بمخابرة ملك الفندال سرًّا حتى إذا جاء بجيشه استولى على عاصمة العالم القديم بلا قتال ولا عناد كبير، ثم أَمَرَ بنهبها وإحراقها، وجمع النفائس والغوالي من كنائسها وقصورها ومتاحفها وعاد بها إلى قرطاجة، ومعه الإمبراطورة وبنتاها في جُمْلَةِ الأسرى، فلمَّا بلغ عاصمته عفا عن الإمبراطورة وإحدى البنتين، وأرسلهما إلى الآستانة، وزوَّج الثانية لابنه أوتريك.
وقد كان لاستيلاء الفندال على روميَّة تأثير عظيم أَلْقَى الرعب في القلوب، حتى خَافَ أهل القسطنطينية أن يأتي دورهم، ولا سيَّما بعد أن استولى جنسريك على جزر صقلية وسردينيا وكورسيكا، وسيَّر أسطولًا هاجَمَ بعض مدن آسيا الصغرى، فهبَّ ليون إمبراطور الروم للدفاع، وأرسل أسطولًا فيه مائة ألف محارب تحت قيادة أحد أعوانه يُدْعَى باسيليكوس، وأَمَرَ جيشًا بريًّا أن يقوم من مصر لمعاونة الأسطول على محاربة الفندال، فوَصَلَ الأسطول إلى ثغر بوتا (عنابة)، ورسا فيه، وكاد يقضي على الأعداء، ولكن جنسريك عاد إلى الحيلة ولاطَفَ رجال هذا الأسطول، وأولم الولائم لهم، وقرَّب مراكبه من مراكبهم، وأوْهَمَ القوم أنه ذاهب إلى القسطنطينية بنفسه ليتَّفق مع إمبراطورهم حتى إذا أنِسُوا بلطفه دسَّ بين مراكبهم صنادل مملوءة بالمواد الملتهبة ليلًا، وتنحَّت مراكبه بعد إضرام النار في الصنادل فاحترق معظم الأسطول الرومي، واضطرَّت البقيَّة إلى الفرار، ورَجَعَ القائد باسيليكوس إلى القسطنطينية، وقد خاف من غضب الإمبراطور، فلجأ إلى كنيسة آيا صوفيا. وكان الجيش الرومي يتقدَّم من البرِّ حتى إذا قرب من العدو عَلِمَ بما أصاب الأسطول، وكان فيه معظم القوَّة، فأركن إلى الفرار وعاد إلى مصر سنة ٤٦٧، وخلا الجو لملك الفندال حتى اضطرَّ ملك الروم أن يعترفَ به سلطانًا لرومية والغرب على شرط أن يحترم دين المسيح. وتُوفِّي جنسريك سنة ٤٧٧ في قرطاجة، وهو في أوجِ عزِّه ومجدِهِ، وترك سلطنته لابنه أوتريك.
وقد بدأ الضعف يظهر في سلطنة الفندال حالما تُوفِّي جنسريك الفاتح؛ لأن ابنه أوتريك انغمس في الرذائل، وزاد في الجور والظلم وقَتَلَ ألوفًا من الناس في جملتهم المطران الآريوسي الذي احتجَّ على مظالمه. وظلَّ خلفاء جنسريك في جور وبَطَر وإسراف إلى أنْ كانت أيام الإمبراطور يوستنيانوس في القسطنطينية، واستغاث به بعض المسيحيين من حكومة الفندال، فعَقَدَ مجلسًا من أكابر دولته، كان أكثرهم على ترك الحرب خوفًا من شدَّة الفندال وبأسهم، ولكنَّ قائدًا اسمه بلزاروس خالَفَ الباقين وأثْبَتَ لهم أنَّ القوم الفندال أضاعوا بسالتهم السابقة وانغمسوا في الملذَّات فصار الانتصار عليهم مضمونًا؛ ولذلك أقرُّوا العمل برأي القائد بلزاروس وإشهار الحرب، وأُعدَّ جيش وأسطول عدد سفنه ٥٠٠ ورجاله ٢٠ ألفًا تحت أمر هذا القائد، وسار وراءه أسطول آخر فيه ١٠٠ مركب و٢٠٠٠ شاب من المتطوِّعين في سنة ٥٣٣، وهي السنة السابعة من حكم الإمبراطور يوستنيانوس، ووصلت هذه السفن جزيرة صقلية بعد ثلاثة أشهر، ثم انتقلت إلى شطوط أفريقيا على مَقْرُبَةٍ من ثغر قرطاجة، فهبَّ ملك الفندال للدفاع واسمه يومئذٍ جيلمر.
وكان بلزاروس شديد الوطْأة على المعتدين من جنوده، لا يسْمَح لهم بالاعتداء على الأهالي حتى أمال الأهالي إليه، فلمَّا دارت رَحَى الحرب كُسِرَت فيالق الفندال وهَرَبَ ملكهم إلى هبون فحاصر فيها. وتقدَّم بلزاروس بعد هذا الانتصار على قرطاجة فقابَلَهُ أهلُهَا بسرور عظيم؛ لأنهم كانوا قد ملُّوا جور الفندال، فدخلها بأبَّهة كبرى، وأقام في قصر ملوك الفندال، وذهب إلى كنيستها فصلَّى مع المسيحيين من أهلها وهم في طَرَبٍ عظيم ثم، اهتمَّ لتحصين قرطاجة فأشغل جيشه وجيشًا من الأهالي مدَّة شهر في البناء والحفر والتحصين استعدادًا لهجمات الفندال، وكان ملكهم قد بدأ يستعدُّ الزحف عليه، واستدعى أخًا له من سردينيا؛ ليعاونه على حَشْدِ الجيوش وقيادتها، فلمَّا بلغت جنودهما قرطاجة قام بلزاروس لمقابلة أعدائه ونشِبَت حربٌ عنيفة قُتِلَ فيها أخو ملك الفندال، وظَهَرَ الضعف في جيشه حتى إنه لَزِمَ الفرار وتَرَكَ قناطير مقنطرة من النفائس والتحف والذخائر غنيمة باردة للروم، وكان أكثر هذه الغنائم أصله من روميَّة، فأخذها القائد الرومي وعاد بها إلى الآستانة. فلمَّا سمع به الإمبراطور يوستنيانوس فرِحَ فرحًا عظيمًا واهتزَّت جوانب القسطنطينية طربًا، ولكنَّ الدسائس بدأت على القائد الفاتح حسب العادة، وجعل الخصوم يتهمونه بالعمل على امتلاك أفريقيا، وباختلاس الجواهر والنفائس التي لا تُعَدُّ من غنائم حربه مع الفندال، غير أنَّ بلزاروس لم يحفِلْ بهذه المساعي، بل دَأَبَ على إتمام حربه مع الفندال حتى لا يبقى لسلطانهم أثر، وعَلِمَ أنَّ ملكهم جيلمر فرَّ إلى جبل أدوغ (سنذكره في فصل السياحة)، فأرسل وراءه قائدًا اسمه فاروس حاصَرَه في ذلك الجبل مع أصحابه وهم في فقرٍ وضنكٍ شديدٍ.
وتقدَّم بلزاروس بعد ذلك على بقيَّة الولايات الأفريقية ففتحها بلا مقاومة، وفي جملتها إقليم طرابلس، وهو آخر ملك الروم في شمال أفريقيا، واستَوْلَت مراكبه على جزر البحر أيضًا، فما بقي غير الملك في جبل أدوغ، إلا أنَّ هذا الملك المنكود الحظ اشتدَّ الفقر عليه، وقيل إنه رأى ابن أخيه يومًا يخاصم أحد أولاد القرويين الفقراء على لقمة من خبز الشعير فحزن لهذه الحالة وبكى، ثم أرسل يُعْلِم القائد الرومي بعَزْمِهِ على التسليم لبلزاروس القائد العام على شرط أن يحسن معاملته، وبذلك انتهى أمرُ هذا الملك وأُخِذَ أسيرًا إلى قرطاجة حيث قابله بلزاروس وفرِحَ بتسليمة وأَخَذَه معه إلى الآستانة، فأكرمه الإمبراطور وعيَّن له راتبًا وأسكنه في قصرٍ، وبذلك دالت دولة الفندال بعد كلِّ تلك القوة وحلَّت محلُّها دولة الروم في ولايات أفريقيا. وقد احتفل ملك الروم وشعبه بهذا الانتصار احتفالًا عظيمًا، وأتوا بملك الفندال لابسًا حُلَّته الأرجوانية، فأمروه أن يركَعَ أمام يوستنيانوس وزُيِّنَت المدينة كلُّها في المساء. وفي الغد سار القائد المنصور في الشوارع حسب عادتهم، تحيط به الزينات وآيات النصر والطرب، وكان ملك الفندال سائرًا وراء الفاتح الذي جعل ينثر الذهب والفضة على الجموع، وانْقَضَتْ سلالة جنسريك بموت جيلمر.
سلطنة الروم والبيزانس
لمَّا استتبَّ الأمر لدولة الروم في أفريقيا، تقرَّر في مجلس القسطنطينية أن يعيِّن لها والٍ عام، فوقع الانتخاب على صالومون لهذا المنصب، وهو قائد محنَّك يحبُّه الشعب، وذَهَبَ هذا الوالي الجديد إلى محلِّ عمله فوَجَدَ حال وصوله أنَّ الأسقفيات المسيحية نقصت في الأقاليم السبعة (ما بين طنجة وطرابلس) إلى ٢١٠ بعد أنْ كانت ٦٩٠ أسقفية، وأنَّ الأهالي جعلوا يُظْهِرون العدوان والتمرُّد، وأنهم اعتدوا في كثير من المواضع حتى تقدمَّوا لحد أبواب قرطاجة، فأرسل إلى زعمائهم يذكِّرهم بإنصاف بلزاروس ونعمهِ لهم، ويقول إنهم إذا ظلُّوا على العدوان كانت آخرتهم مثل آخرة الفندال. وكان جوابهم شديدًا، حتى إنه اضطرَّ أن يقوم لمحاربتهم بعد أن خَطَبَ في عساكره وحضَّهم على حُسْنِ البلاء. والتقى صالومون بالأهالي العصاة على مَقْرُبَةٍ من أحد الجبال، ومعهم ألوف من الجمال صفُّوها اثنين اثنين على شكل مربَّع؛ لتكون سورًا يقيهم سلاح الروم، وكان مع العصاة عدَّة من النساء يساعدنَ في العمل ويداوين الجرحى، فلمَّا دار القتال تمكَّن الروم من اختراق مربَّع الثائرين، ودخلوا معسكرهم فقَتَلُوا منهم نحو عشرة آلاف، وقُتل من الروم ألفان. وفي الليل تراجَعَ الفريقان وفرَّ العصاة إلى الجبل، عادة الأهالي في هذا القُطْرِ في كلِّ حروبهم القديمة والحديثة، يعتصمون بالجبال أو يلجئون إلى القِفَار حين يشتدُّ عليهم أمر العدو. فلمَّا كان الغد عاد القتال على غير جدوى، فاهتمَّ صالومون للأمر واختار ألفَين من أشدِّ رجاله؛ ليتسلَّقوا الجبل في الليل ويدخلوا معسكر الأعداء، وأوصاهم بالحَذَرِ حتى إذا كان الليل دخلوا حسب أمره، وانسلُّوا بين العصاة، فلمَّا دَنَتْ ساعة الفجر هبُّوا يقتلون العصاة من كلِّ جانب حتى أهلكوا عشرة آلاف منهم، وأسروا أكثر من هذا العدد، وعادوا إلى قرطاجة بالأسرى فباعوهم بأرخص الأثمان.
على أنَّ هذه الثورة ما كادت تخمَد حتى ظَهَرَ روح الشرِّ من جديد بين الأهالي، وقام صالومون للقتال مرة أخرى، فتمكَّن الآريوسيون في غيابه عن المدينة من إغراء حاميتها الرومية على التمرُّد، فاختلَّ نظام الجنود وقاموا يعيثون فسادًا في أحياء المدينة، وعمَّ السلب والاعتداء حتى اضطرَّ الوالي حين بلغه الخبر أنْ يتركَ الأعداء، ويعود إلى المدينة، ولكنه رأى أنهم ينوون الإيقاع به، فتركَهم وعاد إلى الآستانة سنة ٥٣٧. ولمَّا عَرَفَ الإمبراطور يوستنيانوس بهذه الحالة عيَّن ابن أخيه جرمانوس ليصلح الحال؛ فذهب هذا الأمير بمفرده إلى قرطاجة، ولمَّا بلغها ألقى في الجنود خطابًا بليغًا ردَّهم فيه إلى الطاعة، وأعادهم إلى الأمانة للإمبراطور. وكان الأمير زكيًّا حازمًا فأبطل المظالم والمغارم ودَفَعَ الرواتب المتأخِّرة إلى الجنود، وشدَّد في معاقبة المعتدين وكافأ الأمناء والمجدِّين، فرتَعت البلاد في بحْبوبة الأمن، ولكن الإمبراطورة تيودورة — وهي زوجة يوستنيانوس — كانت تكره جرمانوس، فظلَّت على الوشاية به إلى عمِّه حتى عَزَلَه، وأعاد صالومون للولاية مرة أخرى سنة ٥٨٩، فلمَّا عاد الرجل إلى قرطاجة رأى أنَّ أحوالها متحسِّنة، فأرسل وراء ولدَي أخيه، وهما سيروس وسرجيوس، ولَّى الأول إقليم قسنطينة والثاني إقليم طرابلس، وكان الشابَّان بلا مقدرة ولا ذكاء، أهملا شئون الحكومة ارتكانًا على صولة عمِّهما الوالي العام. وَحَدَثَ أن زعماء القبائل في ولاية سرجيوس جاءوا لمقابلته؛ لينالوا الخُلْعَة، وهم يثمنِّونها كثيرًا، فأكرمهم الشابُّ ودعاهم إلى مائدته، ولكنه غَدَرَ بهم وأَمَرَ بقتلهم بعد الطعام، وهم ٨٠ شيخًا وزعيمًا، فما نجا منهم غير واحد دار في البلاد يحدِّث أهلها بخيانة سرجيوس حتى هيَّج الأهالي كلهم عليه، فقاموا يدًا واحدة لطلب الانتقام من الحاكم الخائن؛ ففرَّ سرجيوس إلى قرطاجة وتبعته جموع الثائرين حتى إذا قربت منها بَعَثَ صالومون يطلب الزعماء ليكلِّمهم في الصلح، فقالوا إنهم لا يثقون بوعد الروم وأيمانهم، وأنهم لا يصدِّقون صالومون إلا إذا عاقب ابن أخيه أولًا على تلك الخيانة الكبرى. وعلى هذا دار القتال بين الفريقين، وكان فيه النصر للأهالي، وقد كَبَا الجواد بصالومون في وسط المعركة، فوَقَعَ بين الأعداء ومات مقتولًا.
والظاهر أنَّ سوء التدبير في القسطنطينية عجَّل بزوال ملك الروم؛ لأنه لمَّا علم الإمبراطور بموت صالومون عيَّن سرجيوس واليًا عامًّا مكانه، مع أنَّ سرجيوس هو أصل هذه الفتنة وسببها، وزاد الرجل عتوًّا وصلفًا حين أتاه الأمر بتعيينه للولاية، فاشتدَّ ظلمُهُ على الأهالي، وقاموا لمحاربته تحت رئاسة زعيم من زعماء قبائلهم اسمه أنتالاس، وكان هذا الزعيم قد كَتَبَ إلى الإمبراطور يرجوه أن يعيِّن غير سرجيوس للولاية إذا شاء أن يُبْقِي بلاد أفريقيا له، فلم يسمع الإمبراطور له قولًا وظلَّ على رأي الملكة تيودورة، فزاد سرجيوس ظلمَّا وبغيًا حتى عمَّ الاضطراب، وعُقِدَ مجلس في القسطنطينية تقرَّر فيه أن يعيَّن مستشار للوالي سرجيوس، فكان ذلك إرضاءً للملكة فعيَّنوا سريًّا من الكبراء اسمه آريونيدس، وهو زوج بنت أخت الإمبراطور، وذَهَبَ هذا المستشار مع بعض القوات والأعوان إلى قرطاجة، فلمَّا بلغها رأى أنَّ الحالة عسيرة، وأنَّ الهياج عام والثورة كبرى، فقام في الحال لردِّ الأعداء الذين كانوا قد قربوا من المدينة، ودعا سرجيوس للذهاب معه، فأبى الوالي أن يذهبَ وبقي مع حظياته في القصر مع دنوِّ الخطر واشتداد الخَطْبِ.
ووَقَعَ القتال بين جيش الحكومة والثائرين، فكان النصر للعُصَاة، وارتدَّت الجنود إلى المدينة، ولجأ المستشار إلى كنيسة عند البحر على أَمَلِ أن ينجو منها بنفسه ويعود إلى القسطنطينية، ولكن هياج البحر أوقفه عن المسير، ولمَّا علم أنتالاس رئيس العصاة أنَّ المستشار الرومي في الكنيسة، سأل الأسقف أن يدعوه لمقابلته، وتعهَّد بألا يؤذيه، فذهب آريونيدس برداءِ الأسير لمقابلة هذا الزعيم، ورَكَعَ أمامه، ولكن الرجل رفعه عن الأرض وأكرمه ودعاه إلى مائدته، ثم بعد الطعام أَمَرَ بقتله، فانتقم بذلك من الروم لإخوانه الذين قَتَلَهم سرجيوس. وكان هذا المُصَاب في سنة ٥٩٢، ولمَّا علم الإمبراطور بهذه الأمور أصدر أمرًا بعزل سرجيوس، وكان هو قد هَرَبَ وذهب إلى القسطنطينية، وبقيت ولايات أفريقيا في اختلال واضطراب حتى قيل في تاريخ بروكوبوس أحد مؤرِّخي الروم، إن عدد الناس في تلك الولايات نَقَصَ ٥ ملايين نفس في عشرين سنة على عهد الدولة الرومية من الحروب المتواصلة التي لم تبطل يومًا واحدًا، ومن المهاجرة الدائمة إلى الجزر وغيرها، وانتشرت الفوضى بعد هذه المدَّة حتى إن الولاة أو بعضهم خرجوا عن طاعة السلطنة، وفي جملتهم قائد اسمه غريغوريوس استقلَّ بولاية طرابلس، وكان طمَّاعًا فَرَضَ الرسوم الرابية على الأشخاص والأراضي حتى إنه جعل رسْمًا على استنشاق الهواء؛ لكي يجمع لنفسه الأموال. وما برِحَتْ حكومة الروم في اختلالٍ وضعفٍ على هذه الحالة حتى ظهر أنه لا بدَّ من تغيير الحالة، وكان زمانهم زمان ظهور الإسلام وانتشاره السريع، فانتقلت أفريقيا من قبضة الروم إلى قبضة العرب، كما ترى في الفصل التالي.
السلطنة العربية
لمَّا نَهَضَ العرب نهضتهم العجيبة في بَدء الإسلام تطلَّعوا إلى كلِّ ما يلي بلادهم من الأقطار، وفي جملتها ولايات أفريقيا الشمالية التابعة لسلطنة الروم، فكان أول عمل لهم في فَتْحِهَا على عهد عمر بن الخطاب وعامله عمرو بن العاص والي مصر، فإنه تقدَّم من هذا القطر إلى برقة سنة ٢٢ هجرية، فصالحه أهلها على الجزية. ثم سار منها إلى طرابلس وحاصرها فَفَتَحَهَا عنوة، وولَّى عليها وعلى برقة حكامًا من العرب ورجع إلى مصر، وعُزِلَ عمرو بن العاص من ولاية مصر على عهد الخليفة عثمان بن عفَّان، فخلفه عبد الله بن سعيد بن أبي سرح العامري الذي زَحَفَ بأمر الخليفة لفتح بقيَّة الأقطار الأفريقية بأربعين ألف محارب سنة ٢٩ هجرية/٦٤٧، وكان صاحب تلك البلاد يومئذٍ غريغوريوس الذي سبق ذكره، واسمه عند العرب جرجير، فاستعدَّ لمقاتلة القادمين بجيش من الروم والرومانيين والبربر وبقيَّة السكان، وبلغ عدد جيشه فيما يُقال مائة ألف مقاتل، وأرسل عبد الله بن سرح قبل القتال وفدًا إلى جرجير يعرض عليه أن يعتنقَ الإسلام أو يدفع الجزية، ولكنَّ الرجل نَفَرَ وأبى وأقسم أن يزوِّج بنته للذي يأتيه برأس القائد العربي. فلمَّا رجع الوفد إلى عبد الله بدأ الهجوم وشُدِّدَ القتال حتى هُزِمَ جرجير وجيشه وشدَّ عبد الله بن الزبير على جرجير فقتله وتزوَّج بنته بعد أن مَلَكَ العرب مدينة سبيطلة عاصمة تلك البلاد، ونهبوها وسبوا ألوفًا من أهلها. وتقدَّم المسلمون بعد ذلك في البسائط والضواحي، ووَقَعَ بينهم وبين البربر والروم عدَّة حروب، ثم رأى القائد عبد الله أنَّ جنوده قلَّتْ، وأنَّ الحروب متواصلة مع أهل البلاد، فرضي بما جمع من الغُنْمِ وعاد إلى مصر.
ولمَّا صارت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان استأنف العرب هجومهم على أفريقيا، وعُيِّن ابن خديج الشكوني من مصر لفتح أفريقيا سنة ٤٥ هجرية/٦٥٣، وكان في جيشه عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان، وكثير غيرهم من سراة العرب وأمرائهم، ففرَّقهم خديج وأرسل مع كلٍّ منهم جيشًا لفتح الجهات، ففتحوا جزيرة صقلية ومدينة جربة وغيرهما، ثم قفل خديج راجعًا إلى مصر، وعُيِّنَ مكانه عقبة بن نافع سنة ٤٧ﻫ، وكان رجلًا باسلًا هُمَامًا، زَحَفَ بجنوده واستولى على قسمٍ كبيرٍ من بلاد المغرب، وهو الذي اختطَّ مدينة القيروان وجعلها مقام جيشه، وبَنَى فيها القصور والثكنات وأحاطها بسورٍ منيعٍ، وبنى الجامع المشهور باسمه، فيه ٥٠٠ عمود من الرُّخَام.
ولمَّا علم إمبراطور القسطنطينية بما أصاب ولاية أفريقيا أرسل إليها أسطولًا، وفيه جيش كبير، وحَدَثَتْ معركة ما بين الروم والعرب عند القيروان، دارت الدائرة فيها على العرب، فقُتِلَ القائد العربي ونحو ٣٠٠ من كبار الصحابة وجمع غفير من التابعين، فيهم أبو المهاجر، وهو من أشهر قُوَّاد العرب يومئذٍ، فتقهقرت بقيَّة العرب إلى برقة، وصَدَرَ أمرُ الخليفة معاوية بتعيين زهير بن قيس بدلَ عقبة، وبقيامه لمحاربة الأعداء والأخذ بثأر عقبة، فَزَحَف بجيش صغير من العرب سنة ٦٧ﻫ، فانتصر في أول الأمر، ولكنه بينا كان راجعًا إلى مصر لقيَه أسطول الروم فقاتله وانتصر عليه وقَتَلَه مع جملة من أكابر جيشه، فسكَتَ العرب بعد هذه الكسرات زمانًا عن فَتْحِ أفريقيا إلى أن كانت خلافة عبد الملك بن مروان في دمشق، فبَعَثَ إلى حسَّان بن النعمان — وهو يومئذٍ والي مصر — أن يخرج إلى أفريقيا، وأرسل إليه المَدَد فزحف إليها سنة ٧٩ﻫ، وتقدَّم منتصرًا حتى بلغ مدينة قرطاجة ففتحها وأَمَرَ بتدميرها فخرِّبت عن آخرها، وكان في ذلك بَدء السلطنة العربية وآخر دولة الروم في أفريقيا.
وقد تعاقب الولاة والقُوَّاد من العرب بعد ذلك على حكومة أفريقيا أو ما ملكوا منها، فلا حاجة إلى ذكرهم، ولكننا نشير إلى أشْهَرِهم، وهو موسى بن نصير، كان والي هذه البلاد من قِبَلِ الخليفة الوليد بن عبد الملك الأموي سنة ٨٨ﻫ، وهو الذي دوَّخ المغرب وأثخن في البربر، وفُتِحَتْ بلاد الأندلس في أيامه، وقد ذكرنا ذلك في فصل إسبانيا، وحَدَثَ كثير من الاضطراب والخَلل فيما تلا أيام موسى بن نصير، وكثُرَ العزل والتنصيب بين الولاة والحكام في عهْدِ الخلفاء الأمويين والعباسيين معًا، فقد تولَّى هذه البلاد زمانًا في أوائل الفتح العربي بنو عبيد، وهم الذين فَتَحُوا صقلية ودام ملكهم ١١٢ سنة هجرية. ثم قام الإمام المهديُّ ودام حكمه إلى سنة ٣٢٢ هجرية. ولمَّا تُوفِّي خَلَفَه ابنه المنصور، وخَلَفَ هذا ابنه المعز لدين الله الذي أَرْسَلَ جوهرًا إلى مصر حين علم بوفاة كافور الشهير فيها، وكان جوهر آمن عماله وقواده، فجاء جوهر سنة ٣٦٠ﻫ، ودعا لمولاه بالخلافة في القُطْرِ المصري، ثم أَرْسَلَ إليه الكتب يحثُّه على المجيء إلى مصر، فجاءها سنة ٣٦٢ﻫ. ويعلم القُرَّاء أن جوهر هذا هو الذي بَنَى مصر الحديثة في موقعها الحالي والأزهر، وبدأ استحكامات القلعة، وكان مركز المدينة قبل ذلك في موقع مصر العتيقة الآن، ولمَّا جاء الخليفة المعز لدين الله من الغرب إلى مصر أسَّس فيها الدولة العُبَيدية، فكان هو أول خلفاء هذه الدولة ولا حاجة إلى الإسهاب عنها هنا؛ لأننا في تاريخ الغرب. وتَرَكَ الرجل في المغرب عند حضوره إلى مصر قائدًا اسمه بلكين الصنهاجي، فانتقلت حكومة المغرب إلى يوسف بلكين بن زيري الصنهاجي السابق الذكر، وهو رأس الدولة الصنهاجية، اشتُهرت بكثير من الحروب الداخلية في بلاد أفريقيا، وَحَدَث لبعض أمرائها حروب مع خلفاء مصر العبيديين؛ لإعراض أمراء المغرب عن الدعوة بالخلافة للعبيديين واعترافهم بها لبني العباس. وربما كان أشْهَر الأمراء الصنهاجيين آخرهم، وهو الأمير حسن الذي طالت مدَّة محاربته لمملكة صقلية على عهد صاحبها روجير، وقد خَلَفَه على إمارة المغرب المولى أبو محمد عبد الواحد مؤسِّس الدولة الحفصية، وآخر رجال هذه الدولة الحسن بن كنوت، مات سنة ٧٤٨، خَلَفَه بعد موته يوسف بن تاشفين، وهو من الذين اشتُهروا في أواسط التاريخ الإسلامي، عُرِفَ بكرم الخلق وعفَّة النفس وبالدراية في الحروب، وقد أبلى بلاءً حسنًا في مقاتلة البلاد التي لم تَخْضَع للوحدة الإسلامية في أفريقيا الشمالية، وردَّها إلى الطاعة، وبنى مدينة مركوك، واسمها بالفرنسوية ماروك، ولعلَّها أصل الاسم مراكش المتداول الآن، وخَلَفَه ابنه علي الذي ظَهَرَ في أيام عدَّة من مدَّعي المهدوية، وبعضهم جمعوا الناس إليهم وحاربوه، فبدأت من ذلك العهد فتن وقلاقل وحروب داخلية بين العرب في بلاد المغرب، يطول شرحها وتقلُّ فائدة سردها، ولكنها لم تنتهِ إلا بنهاية الأحكام العربية في تلك البلاد ودخول البلاد في قبضة الأتراك، كما ترى في الفصل التالي.
السلطنة التركية
في سنة ١٥١٠ مسيحية أَتَتْ سفينة من جزيرة مدلي (مثلين)، ورَسَتْ في ثغر جيجل على مَقْرُبَةٍ من قرية الجزائر، وكان في السفينة أخوان، أحدهما اسمه عروج والثاني خير الدين، وهو قائد البحر المشهور بغزواته والذي اهتزَّت أوروبا لذكره وفعله، واسمه في تاريخها بارباروسا أو ذو اللحية الحمراء. وكان الأخَوَان مدرَّبَين على الملاحة من صِغَر، فأقاما يصنعان السفن في الثغر الذي ذكرناه حتى توفَّر عندهما عدد كبير منها، فجعلا يهاجمان سفن الإفرنج وينهبان ما فيها ويأْسِران رجالها في عَرْضِ البحار، وكان رجال خير الدين يزيدون عددًا من حينٍ إلى حينٍ، حتى إن شيخ الجزائر — وهو يومئذٍ سالم بن تومي — دعا خير الدين لمساعدته على طَرْدِ الإسبانيين الذين كانوا قد استولوا على قسم كبير من الجزائر بعد أن طردوا العرب منها، وبنوا قلعة على شاطئ القرية، فقَبِلَ خير الدين هذه الدعوة، واشترك مع حليفه في محاصرة القلعة ٢٠ يومًا حتى فتحها، وأخرج الإسبانيين منها في سنة ١٥١٦، ولمَّا دخلها رأى أنه لم يبقَ من رجالها غير عشرين، وزعيمهم شاهرٌ سيفه لا يريد التسليم، وهو ذو مهابةٍ وجمالٍ، فَعَرَضَ خير الدين عليه الإسلام وأبى، فأمَرَ بضرْبِهِ وجَلْدِهِ حتى مات معذَّبًا وهو ينادي بالمحافظة على دينه.
وعظُم أمرُ خير الدين في الحال بعد هذه الواقعة، فكبُرَتْ آماله وطمعت نفسه، وأمر رجاله الأتراك بقتْلِ سالم بن تومي حليفه، فَقَتَلُوه وحلَّ هو محله، وقد غَضِبَ العرب لما أصاب شيخهم، فحاولوا الأخذ بثأره، ولكنَّ خناجر الأتراك أرْهَبَتْهم وردَّتهم إلى الطاعة، فاستبدَّ خير الدين بالأمر وجعل عُمَّال حكومته كلهم من الأتراك. ولكنَّ السلام لم يستتب زمانًا؛ لأن إسبانيا عَزَمَتْ على استرجاع قلعتها، فجرَّدت أسطولًا عدد سفنه ٨٠، وفيه ٨٠٠٠ جندي تحت قيادة الجنرال دي فيرو، تقدم على قرية الجزائر، ونزل بجنوده إليها بلا مقاومة من العرب والأتراك، ثم قسَّم جيشه أربعة أقسام، فكان ذلك علة انكساره؛ لأن خير الدين أوجَدَ الحماسة في صدور رجاله، ثم جعل يهاجم العدو فرقةً بعد فرقةٍ وهو يفلُّ مواكبها تباعًا حتى كسرهم شرَّ كسرة، وألجأ بقيتهم إلى الاعتصام بالسفن البحرية حيث دهمتهم العواصف ولانوا، فكادت تُجْهِز على الأسطول ومَنْ فيه، ونجا بقيَّة قليلة عادت إلى وطنها لتخبر بهذا الانكسار.
وزاد خير الدين رفعةً بعد هذا النصر الباهر، فبينا هو يفكِّر في توسيع ملكه علم أن بوحمو صاحب تلمسان (سنذكرها في سياحتنا) اختلف مع أخيه مسعود، فأرسل خير الدين أخاه عروجًا ليستلم المدينة باسم السلطان، وقام عروج بالأمر فطرد بوحمو من المدينة وولى مسعودًا مكانه بلا مقاومة من الأهالي، ففرَّ بوحمو إلى الأملاك الإسبانية وطلب مساعدة أهلها، ووعد حاكمها في وهران بالذهب الوفير، فأنجده الحاكم ببعض رجاله سار بهم وبمن التفَّ حوله من العرب الناصرين له، وحصر تلمسان ٢٦ يومًا، كان عروج في خلالها مقيمًا في القلعة مع كبراء المدينة حتى ضاق صدره من شدَّة الحصار، فخرج يومًا بمَنْ معه من أحدِ الأبواب معوِّلًا على الفرار، وتأثره الأعداء فجعل يلقي لهم المال والتُّحف وهو فارٌّ ليلهيهم عن مطاردته، ولكن هذا لم يجدِه نفعًا؛ لأنهم أدركوه وقتلوه وقطَعُوا رأسه فأرسلوه إلى الحاكم الإسباني في وهران، وبهذا عاد بوحمو إلى تلمسان بعد أن تعهَّد بدفع جِزْيَة سنوية إلى الحاكم الإسباني مقدارها ١٢٠٠٠ دوكًا من الذهب. وقد أثَّر مقتل عروج في أخيه خير الدين، وجعله يخاف على نفسه، فجمع إليه قُوَّاد العرب وحرَّضهم على منازلة النصارى، وأرسل وفدًا إلى الآستانة ليعرض حال المدينة على السلطان ويطلب حمايته ومعونته، فعاد الوفد من الآستانة بأمر من السلطان سليم الأول يقضي بتعيين خير الدين حاكمًا للجزائر وإعطائه لقب بك، وجاءه ٢٠٠٠ جندي من الأتراك الأشدَّاء.
وقد أصاب خير الدين في خوفه من إسبانيا؛ لأنَّ ملكها كارلوس الخامس أرسل جيشًا تحت قيادة الماركيز دي مونكاد لمحاربته، عدده ٧٥٠٠ جندي انتقلوا في ٦٠ سفينة، فلمَّا قربوا من ثغْرِ الجزائر نزل بعضهم إلى برٍّ قريب، وأقام قائدهم ينتظر النجدة من بوحمو حليف الإسبانيين. فبينا هو في الانتظار هبَّتْ عواصف حطَّمت ٢٦ سفينة من أسطوله، وأغْرَقت ٤٠٠٠ من جنوده، ففرَّ ببقيَّة قواته إلى الجزر الإسبانية، وفرِحَ خير الدين فرحًا لا يُوصف بهذا النصر الجديد، حتى إنه همَّ بالانتقام من صاحب تلمسان الذي كان السبب في قتْلِ أخيه، فزَحَفَ عليه بجيش قوي، ولمَّا قرب من تلك المدينة علم أنَّ صاحبها مات وترك ولدين يتنازعان الملك فطَرَدَهُما منها، وضمَّها إلى أملاكه، وعاد إلى الجزائر بعد أنْ تَرَكَ حامية فيها.
ولمَّا ذاع خبر استيلاء خير الدين على تلمسان خاف سلطان تونس — وهو يومئذٍ مولاي محمد الحفصي — أن يتقدَّم هذا القائد عليه ويملك بلاده أيضًا، فتقدَّم لمحاربته بجيش كبير، وكان مولاي محمد واسع الثروة فاستخدم بعض ماله في إغراء بعض من مشايخ الجزائر على موالاته سرًّا ضد خير الدين، ولكنَّ خير الدين أدرك المكيدة فدعا المشايخ المذكورين إلى جامع بدعوى أنه يريد مشاورتهم، ولمَّا صاروا داخله أقْفَلَ الأبواب عليهم، وأَمَرَ رجاله الأتراك فقتلوهم عن آخرهم كما فَعَلَ محمد علي بالمماليك في مصر، وتقدَّم بعد ذلك لمحاربة سلطان تونس فحاربه وظَهَرَ عليه، وألجأه إلى الفرار، فلمَّا استراح خير الدين من هذا العدوِّ تفرَّغ للسطوِ في البحار على عادته السابقة، فغنم كثيرًا من سفن الإفرنج، وهاجَمَ صقلية وسردينيا وإسبانيا، فعاد منها بالغنائم والسبايا. ثم توجَّه بأربعمائة من الحور والولدان إلى الآستانة، وكان سلطانها يومئذٍ سليمان القانوني المشهور، فأَمَرَ بإكرامه وأحْسَنَ وفادته وأعطاه رتبة قبطان باشا. وبعد أن أقام مدَّة في الآستانة على الرَّحْبِ والسعة عاد بجنود تركية وسفن جديدة وعرَّج على تونس في رجوعه؛ لينتقم من صاحبها، فاستولى على تلك المدينة باسم السلطان.
واستمرَّ خير الدين باشا على السطوِ في الثغور والبحار حتى أقلق راحة أهل أوروبا وأرعبهم، ولا سيَّما أهل صقلية وسردينيا وبعض إيطاليا، فعرض الناس أمرهم على البابا، وقداسته أشار على ملك إسبانيا بمقاتلة القرصان، وكان ملك إسبانيا الذي سبق ذكرُهُ أعظم ملوك أوروبا يومئذٍ، فجَمَعَ كارلوس ٤٠٠ سفينة حَشَدَ فيها ٢٥٠٠٠ جندي، وقادهم بنفسه لمحاربة خير الدين باشا، ولمَّا وصل الجيش الإسباني وبَدَأَ القتال حَدَثَ أمرٌ لم يكن في الحساب، هو أن ٢٥٠٠٠ رجل من النصارى كانوا أسرى في قلعة تونس، فلمَّا علموا بقدوم إخوانهم كسروا أبوابها وخرجوا يقاتلون عساكر خير الدين فأوقعوهم بين نارين وجيشَين من الأعداء، فاضطرَّ خير الدين أن يفرَّ إلى مدينة الجزائر بحرًا، وأرسل جيشه إليها برًّا، فوقعت تونس في يد الملك كارلوس ونصب فيها مولاي حسين الحفصي أميرها السابق وحليف الإسبانيين أُعيد إلى الإمارة على أن يدفع جزية سنوية إلى إسبانيا مقدارها ١٢٠٠٠ دوكًا من الذهب، ويكون تحت سيادتها، ويمنع القرصان من السطوِ على مراكب الإفرنج.
ولمَّا رَجَعَ ملك إسبانيا إلى بلاده عادَ خيرُ الدين إلى السطوِ على البحار والثغور من قاعدة الجزائر، فدخل كثيرًا من مُدُنِ إسبانيا ونهبها، وأَسَرَ عددًا من أهلها، وأَسَرَ سفينتين للبورتوغال في عَرْضِ البحر، وذَهَبَ إلى مدينة نابولي المشهورة بثروتها، ثم إلى البندقية فجَمَعَ منهما تحفًا وأموالًا وجيشًا من الأسرى، ثم إلى مدن أخرى بلغت جملتها ٢٥ مدينة، وكانت طريقته واحدة في كلِّ موضع، هي أنَّه يرسو أمام المدينة ليلًا ويدهمها في أول النهار، فالذي لا ينجو بنفسه من أهلها يُقْتَل أو يُؤخَذ أسيرًا. وطال زمان هذه الحالة، وعمَّ القلق بسببها حتى إنهم بنوا أبراجًا في الثغور يقيم فيها الحُرَّاس، إذا بصروا بسفن خير الدين باشا قادمةً أنذروا أهل البلد استعدادًا للفرار. وضاق صدرُ أوروبا من هذا القلق حتى إنها رَجَت السلطان سليمان أن يأمرَ خير الدين باشا بالامتناع عن السطو، وعادت إلى ملك إسبانيا فرَجَتْه أن ينقذها من هذا الرجل القدير، فعاد الملك كارلوس إلى الاستعداد لمحاربة خير الدين باشا والانتقام منه، فجَمَعَ ٥١٦ سفينة في سنة ١٥٤١ وحشد ١٢٠٠٠ من الجنود البحرية و٢٢٠٠٠ من الجنود البرِّيَّة، وكان الأميرال أندريا دوريا قائد الأسطول، والماركيز كورتيز قائد الجيش، وفيهما مئات من سراة الإسبانيين ذهبوا للحرب متطوِّعين، وكان زحْفُ هذه القوات في أول الشتاء، فَجعل الناس ينذرون الملك كارلوس بتأجيله إلى أول الصيف، وفي جملة مَنْ أنذره البابا، ولكن الملك كان عجولًا فقام بنفسه وبَلَغَ شطوط الجزائر في أوائل أكتوبر سنة ١٥٤١، وبدأت جنوده تنزل إلى البرِّ. ولمَّا رأت الحامية التركيَّة أنَّ السفن قادمة من البحر استعدَّت بما في الإمكان، وأرسل قائدها حسن آغا يستنجد مشايخ القبائل، وكان أهل المدينة يومئذٍ قد سمعوا نبوءة منجِّم فحواها أن جيشًا من الإفرنج جرَّارًا يلبس الملابس الخضراء سيقدم على المدينة ويرتدُّ عنها خاسرًا، وأنه لا يملكها من الإفرنج غير أصحاب الملابس الحمراء، وقد صدقت هذه النبوءة بعد ٣٠٠ سنة حين استولى الجيش الفرنسوي على الجزائر وملابسه حمراء حسب المعلوم. ولمَّا نزلت جنودُ إسبانيا كلها إلى البرِّ قسمها الملك أربعة أقسام، فَجعل أحدها في حي مصطفى العالي، والثاني على باب عزون، والثالث على باب الويد، والرابع في جهة الحمَّى (وكلُّها ستُذْكَر في فصل السياحة)، وأراد الملك من هذا التقسيم أن يحيطَ بالمدينة، ويرد النجدات عن بلوغها، ثم أَمَرَ مراكبه أن تقترب من البرِّ ما أمكن؛ حتى تساعدَ في إطلاق النار على المدينة، وكان موقنًا بالظفر؛ لأن الحامية لم تزد عن ٦٠٠٠ ومدافعها يومئذٍ أصغر من مدافع الإسبانيين، وأرسل الملك قبل القتال رسولًا يطلب التسليم، فردَّه حاكم المدينة بالقول إنهم انتصروا مرَّتين على قواعد الملك، فيسرُّهم أن ينتصروا هذه المرة على الملك نفسه، فأمر الملك بعد هذا ببَدء القتال، غير أنَّ الدهر عانده؛ لأن السماء أمْطَرَتْ في ليلة الهجوم سيلًا مدرارًا فأوحلت الطرق وغَرِقَت الخيام وأضرت الذخائر، وجعلت حركات الجنود أمرًا عسيرًا. واشتدَّت الرياح بعد ذلك فأثارت الأمواج في البحر وحطَّمت السفن تحطيمًا، حتى كان جنود إسبانيا في البرِّ يرون سفنهم تغرق، وهم في حالة يُرْثَى لها من المطر والأوحال طول الليل، كلُّ هذا والملك يهدِّئ روعَ أصحابه حتى إذا كان النهار وجدوا أنه غرق من الأسطول ١٥٠ سفينة، وأنَّ الذين نجوا إلى البرِّ من البحرية لقيهم العرب وقطعوا رءوسهم، وزاد الطين بِلَّة أن معظم مئونة الجيش كانت في السفن التي غرقت، فأصبح الجيش الإسباني في موقف حرِجٍ، ولا سيما بعد أن تعطَّلت ذخيرته من المطر، وكانت حامية المدينة توالي ضرْبَ النار، فأدرك الأميرال الإسباني أنَّ الخطر على قومه عظيم، وأشار على الملك بالانسحاب فرضي الملك بذلك لمَّا أيقن بالبلاء، وجعلت جنوده تتقهقر تاركةً مدافعها وخيامها، وهي تسير تحت وابل من رصاص العرب والترك، وفي وسطها جمهور من الجرحى والمرضى حتى بلغت السفن ودخلتها، فعاد الملك إلى إسبانيا على هذه الحالة بعد أن فَقَدَ ربع قواته، ولم يلحق أذًى بالأعداء. ومن ذلك الحين وَقَعَ أهل أوروبا في القنوط، وتركوا الأمور تجري في مجراها، واستمرَّ خير الدين باشا على سيره، فرجع إلى مدائن صقلية وتوسكانا وإيطاليا، وجعل ينهب حسب عادته. ولمَّا كان في مدينة رجبو الطليانية وقعت بِنْت الحاكم في يده، وهي فتاة بارعة الجمال فتزوَّجها بعد أن حَمَلَها على الإسلام، ولمَّا ملأ سفنه من الأسرى ذَهَبَ بهم — وعددهم ٧٠٠٠ — إلى الآستانة، حيث قضى بقيَّة عمره في راحة ونعيم إلى أن تُوفِّي عن ٨٠ عامًا في سنة ١٥٤٧، وقبره في زاوية من حي بشكطاش إلى الآن.
ولمَّا علمت حامية الجزائر بوفاة خير الدين باشا نَصَّبتْ حسن آغا رئيس الوجاق حاكمًا محله، وبعد وفاتهِ عينت حجي آغا بدون مراجعة حكومة الآستانة، ولكن الدولة عيَّنت حسن باشا ابن خير الدين باشا واليًا للجزائر، وكان شابًّا نجيبًا تعلَّم الذوق من الآستانة. فلمَّا جاء الجزائر بَنَى فيها قصرًا جاء برياشه من الآستانة، وبنى ديوانًا لحكومته وحمَّامات ومستشفيات عمومية، وفَتَحَ الشوارع فاقتدى به ضباطه وجعلوا يشيِّدون المنازل الحسناء، أكثرها من الرُّخَام الجميل. ولكن حسن باشا لم يتمتَّع بالولاية طويلًا؛ لأن الحُسَّاد وشوا به للسلطان، وزيَّنوا له أنَّ الرجل عامل على الاستقلال فأمر بعزله، ولمَّا علم حسن باشا بذلك ذهب بنفسه إلى الآستانة ليصلح الحال، فلمَّا بلغها علم أنه معزول، وخَلَفَه صالح باشا، كان رجلًا ذا مهابة ودهاءٍ وسياسة، فجعل يقسِّم القبائل بعضها على بعض ويقلِّل قوة الجنود، حتى إنه أدخل بعض أخصَّائه في مصافِّ الجنود ليستعين بهم على الاستئثار بالقوة، ولكنه تُوفِّي بالطاعون سنة ١٥٥٦. وخَلَفَه القائد حسن آغا برأي الوجاق لا بأمر الآستانة، ولكن الدولة عيَّنت طقلي باشا، فلمَّا وصل الجزائر حاول حسن آغا أن يمنعه من النزول إلى البرِّ، ولكنه نزل بمساعدة القواصة الأتراك الذين خافوا سطوة الدولة، فأنزلوه في منتصف الليل حتى إذا كان الصبح أُعلن أمر حلوله واستلم الأحكام، وزجَّ حسن آغا في السجن فأذاقه العذاب ألوانًا، ثم أقام على الحكم زمانًا حتى قَتَلَه جنود الوجاق، فعيَّنت الدولة مكانه حسن باشا ابن خير الدين باشا مرة أخرى، فلمَّا عاد إلى الجزائر قُوبل فيها بالاحترام الكثير، ورأى بعد مدَّة أنَّ القوة كلها أصبحت في يدِ الجنود، فعَزَمَ على استخلاصها منهم، فجعل يتودَّد لرؤساء القبائل، وتزوَّج واحدة من بناتهم، وألغى الأوامر القديمة القاضية بمنعهم من اقتناء السلاح، فأحسَّ رجال الوجاق بالغاية من فعله، وذهبوا إلى قصره فأوثقوه ونقلوه إلى سفينة ذهبت به إلى الآستانة، ونصَّبوا حسن آغا مكانه ومعه مساعد اسمه كوسى محمد. ولمَّا علم السلطان بما فعل الجنود إهانةً لعامله أظهر الغضب الشديد، ولكنه عَمَدَ إلى حُسْنِ السياسة، فأوفد من قِبَلِهِ حامد باشا من كبار دولته، حتى إذا وصل هذا المندوب إلى الجزائر أقنع الوجاق بأنَّ السلطان يريد أن يعرف حسن آغا وكوسى محمد، ويقف على مقدرتهما بنفسه، فسلَّموهما له وذهب بهما إلى الآستانة حيث شُنِقَا بعد الوصول، وأُعِيدَت الولاية لحسن باشا مرة ثالثة في سنة ١٥٦٣.
فلمَّا بلغ هذا الوالي مقره تناسى جناية الوجاق، وأثار حربًا على الإسبانيين في وهران حتى يجمع كلَّ قوته على العدو الأجنبي، ولكنه كان يريد من هذه الحرب إبادة الوجاق بكل رجاله، فجَمَعَ كل عساكره و٦٠٠٠ آخرين من القبائل ذَهَبَ بهم إلى وهران برًّا وحاصرها، وفيها يومئذٍ ١٢٠٠ جندي إسباني فقط، وشدَّد في مقاتلتها وتحريض جنوده على اقتحام الأهوال حتى إنه كان يتقدَّمهم في الكرات العنيفة، فلا يعود إلا وقد قُتل من الجنود عدد كبير، ثم عاد حسن باشا إلى الجزائر ولم ينَلْ طائلًا من وهران، فلمَّا استقرَّ النَّوى بالجنود تآمروا عليه بدعوى أنه كان ينوي إبادتهم، وعزلوه وأرجعوه إلى الآستانة سنة ١٥٦٧، وعُيِّنَ بعده محمد باشا واليًا على عهد السلطان سليم الثاني، فذهب إليها مزوَّدًا بالأوامر القاضية ألا يدعو الوجاق إلى النفور منه، ولكن الرجل كان كريم الأخلاق لم يطِق أعمال الوجاق، فاستعفى وعاد إلى الآستانة بعد سنة واحدة؛ فخلفه علي باشا، وأصله نصراني من أهل كورسيكا، وكان من كبار قواد الدولة العليَّة، لمَّا وصل الجزائر قُوبل بالإكرام وحيَّتْه المدافع من الطوابي البرية والبحرية ألف مرة ومرة، وأُركب على جواد عُدَّته من الذهب والفضة المرصعة بالفيروز، وسار رئيس الوجاق أمام موكبه بملابس بيضاء علامة الخضوع والمسالمة، فذهب توًّا إلى الديوان بين جماهير الأهالي، وكان بَدء أعماله أنه خَابَرَ الدولة بالاستيلاء على تونس وحاكمها يومئذٍ الأمير محمد الحفصي تحت حماية إسبانيا، وكان يدفع إليها جِزْيَة والقبطان الإسباني يشاركه في الأحكام، فعمل السلطان برأيه وسيَّر أسطولًا من ٥٠٠ سفينة تحت قيادة الأميرال قلج علي باشا، وكان قائد الجنود البرِّيَّة في هذه الحملة سنان باشا، فوصلت المراكب إلى حلق الوادي، وهو ثَغْرٌ يبعد عن تونس ١٦ ميلًا، ووصل أيضًا إلى تونس علي باشا والي الجزائر وحيدر باشا والي قيروان، ومصطفى باشا والي طرابلس الغرب، فذهب الكلُّ لمقابلة سنان باشا وأخذوا منه المدافع، وساروا مع إبراهيم بك من سنجق مصر، ومحمود بك من سنجق قبرص، فأحاطوا بمدينة تونس وكان الإسبانيون قد امتنعوا بحلق الوادي وبالغوا في تحصينها، وأحاطوا المكان بخندق عميق لَزِمَ جنود الدولة أن تعبره، فاشتغلت ليلًا ونهارًا بردْمِهِ وانتشب القتال في تونس وحلق الوادي معًا، وكانت المدافع العثمانية تقصف كالرعد والجنود تكبِّر وتهلِّل بصوت جهير حتى فُتحت تونس بعد حرب ٤٣ يومًا قُتِلَ فيها من كلِّ جانب نحو عشرة آلاف رجل، وكان ذلك سنة ١٥٨٤، ولكن سنان باشا لم يضم تونس إلى ولاية الجزائر، بل جعلها ولاية مستقلَّة وعيَّن لها واليًا ورئيسًا للوجاق أعطاه خمسة آلاف جندي، ثم عاد إلى الآستانة ظافرًا منصورًا، وكان وجاق تونس يسطو على مراكب الإفرنج، مثل وجاق الجزائر حتى إنه أَسَرَ من أهل أوروبا من ٢٥ ألفًا إلى ٣٠ ألف أسير، بُنِيَتْ لهم السجون المخصوصة حُشِرُوا فيها حشرًا، وكانوا يبيعون الأسرى في مدينة الجزائر على ثلاثة أشكال، أولها أنهم كانوا يأخذون الأولاد والنساء والبنات إلى ديوان الوالي ليختار منه من يريد لخدمته وخدمة بيته، وثانيها أنهم كانوا يسخِّرون البحرية الأسرى في الترسانات وأبنية الحكومة، فيُعطَى كلُّ أسير مأكوله من الخبز والبرغل والزيت والبصل، وملبوسه قميصًا ولباسًا أسمر، وثالث الأنواع كان يُقسَّم ما بين القرصان وعساكر الوجاق، ويُباع أفراده ألوفًا في السوق بطريقة المزاد؛ إذ يتقدَّم الدليل ويُقرع الأرض بعصاه ثلاثًا علامة البَدء في البيع، ثم يدور بالأسير على المشترين ويفحصه كلٌّ منهم في جسمه وفمه؛ لئلا يكون ذا عاهة ويسأله عن حِرْفَتِهِ وأصله وبلده، والذي يدفع الثمن الأكبر يأخذ الأسير مِلْكًا له، وكانوا يعيدون المزاد أيامًا متوالية، ولكن الأسرى بلغوا ألوفًا فلم يوجد عددٌ كافٍ من الشارين، فكانوا يسجنون الذين لا يُباعون، ويضيِّقون عليهم الخناق.
ولمَّا رأت دول أوروبا أنها عجزت عن إبطال هذه الحالة وإنقاذ الأسرى، جعل القسِّيسون يطوفون في المدن والقرى لجمع الأموال حتى تُدفع فكاكًا، ودُعِيَتْ هذه الجمعية «جمعية الإحسان لفكاك الأسرى»، ولكنَّ المال الذي كان القسوس يملكونه لم يكفِ لفكاك ألوف من الأسرى، فكانوا يعدُون الباقين منهم بفكاكهم في العام المقبل، وكثيرًا ما كان أهالي الأسرى يدفعون الفكاك فيذهب القسوس إلى الجزائر بالمال ويعودون بالأسرى، وقد حَدَثَ أن قسِّيسًا فرنسويًّا دفع إلى الوالي ٦٠ ألف فرنك فكاك فتاة كانت في قصره عبدة وعُمْرُها ١٢ سنة، وكان الوالي قد عَرَفَ أنها عريقة في المجد، وأنَّ جدَّها الجنرال بيرك الفرنسوي، أُخِذَتْ أسيرة مع عمِّها وخادمتها في أثناء السفر من مرسيليا.
ودامت هذه الحالة سنين طويلة حتى كانت أيام لويس الرابع عشر ملك فرنسا المشهور، وعَزَمَ هذا الملك على سحْقِ قوَّة القرصان، فأعدَّ ٢٩ سفينة حربية ملأَهَا بالمدافع الكبيرة، وسلَّم قيادتها للأميرال ديستره، فذَهَبَ هذا القائد في سنة ١٦٨٨ ورسا أمام عاصمة الجزائر، وجعل يُطْلِق القنابل عليها حتى بلغت جملة قنابله الكبيرة عشرة آلاف، فدمَّر قسمًا كبيرًا منها، وأكْرَهَ الناس على الفرار إلى الصحراء، ولم يكن عند الوالي مراكب مثل المراكب الفرنسوية، ولا مدافع كبرى مثل مدافعها؛ لأن فرنسا كانت قد أخذت في تحسين مراكبها ومدافعها، فحار في أمره وأرسل إلى الأميرال يدعوه للنزول إلى البرِّ والنزال فيه، ويعيِّره بالجُبْنِ إذا بقي في المراكب فلم يعدل الأميرال عن إطلاق الكرات، وانتقم منه الوالي بقتْلِ كل القسوس والأسرى الذين في المدينة، وفَعَلَ الأميرال فِعْلَه فقَتَلَ ١٧ تركيًّا كان قد أتى بهم من طولون وألقى جثثهم في البحر ليوصلوا إلى البر، ثم عاد إلى فرنسا على غير جدوى. ورأتْ أوروبا بعد ذلك أنه لا سبيل إلى إبطال هذه الحالة غير السياسة، فخابرت رئيس الوجاق — وهو الباي — بتعيين قناصل لها في المدينة، فرضي على شرط أن تدْفَع إليه المرتبات، فصارت صقلية تدفع مرتبًا مقداره ٢٤٠٠ قرش، ومملكة البورتوغال ٢٤٠٠٠، ومملكة توسكانا ٢٣٠٠٠، وسردينيا ٢٣٠٠٠، وإسبانيا ٢٤٠٠٠، والنمسا ٢٤٠٠٠، ولم تقبل إنكلترا بدفع هذا الراتب، ولكنها تعهَّدت بتقديم هدايا بمثل هذه القيمة عند تعيين قنصلها، وكذلك أميركا وهولاندا والسويد والدنمارك كلها قبلت بهذه الشروط المهينة، فما أُعفي منها غير البابا. ولكن دفع المرتَّبات لم يرد القرصان عن الاعتداء على مراكب الإفرنج، ولا سيما الإسبانيين، وهم أصحاب وهران في الجزائر من قِدَمٍ، فلم تطِق إسبانيا هذا التخصيص بالأذى؛ ولذلك أعدَّت ٣٠٠ مركب وجرَّدت ٢٢٠٠٠ جندي فيها استلم قيادتها أوريلي الأرلاندي، وهو من كبار أرلاندا وأصحاب الثروة فيها، زَحَفَ بهذه القوة على الجزائر سنة ١٧٧٥، ولكنه لم يُنزل جنوده إلى البرِّ حالًا، بل أضاع أسبوعًا يمخُرُ بمراكبه أمام المدينة، فجعل بكوات الأقاليم في هذه المدَّة يحتشدون برجالهم للدفاع عن المدينة، حتى إذا نزلت الجنود الإسبانية تعاونوا عليها ودحروها، فارتدَّت خائبة وعادت إلى إسبانيا، فرأت حكومة مدريد بعد هذا أن تترك وهران؛ حتى لا يبقى لها ما يدعوها إلى محاربة الترك والعرب بعد ما أصابها من خسارة المال والرجال.
وقد دامت هذه الحالة إلى سنة ١٨١٥ حين عُقِدَ مؤتمر فيينَّا لتسوية أحوال أوروبا بعد إبعاد نابوليون، وقد اتفقوا في ذلك المؤتمر على إبطال سطو القرصان وأَسْرِ الإفرنج، وإبطال المرتَّبات المالية لحكومة الجزائر، وكانت أميركا البادئة في هذه الحرب العوان على القرصان؛ لأن بوارجها أَسَرَتْ ٣ سفن قرصانية، وفي السنة التالية أرسلت إنكلترا أسطولًا بقيادة اللورد أكسموث عدد قطعه الحربية ٢٦، فذهب الرجل إلى ميناء الجزائر وطلب من الوالي عمر بك أن يردَّ الأسرى المسيحيين ويردَّ المبالغ التي قبضها من مملكتَي سردينيا ونابولي من عهدٍ قريب، أو يُطلق المدافع على المدينة، فلمَّا لم يأتِهِ الجواب أطلق مدافعه الضخمة، فاهتزَّت منها المدينة وخافَ رجال الوجاق، فأشاروا على الوالي بقبول طلب الأميرال؛ فقبل وصرف الأشكال وعاد الأسطول الإنكليزي، وكان الجنود قد اتهموا الوالي بالجبن والخيانة؛ لأنه سلَّم للإنكليز فقتلوه في ديوانه. وخَلَفَه خوجه باي، وكان ذا بطشٍ شديدٍ قَتَلَ ٥٠٠ شخص في ثلاثة أشهر من أوائل حكمه، ومات بالطاعون فخَلَفَه علي بك فحسين باشا، وهو آخر بابات الجزائر، سلَّم العاصمة لفرنسا سنة ١٨٣٠، كما ترى في الفصل القادم.
الدولة الفرنسوية
كان علي باي سلف حسين باشا يبيع مقادير كبرى من القمح والشعير لدولة فرنسا منذ سنة ١٧٩٨، حتى بلغ مجموع ما له عليها ١٤ مليون فرنك، وكان وسطاؤه في البيع تُجَّار يهود يُقال إنهم كانوا يشحنون الغلال المباعة لفرنسا في مراكب يوعزون إلى القرصان أن يضبطوها في البحر، فتعود الغلال إليهم ويبيعونها مرة أخرى لدولة فرنسا، وقنصلها يشكو للباي هذه الحالة، فلم يُعِرْهُ الباي التفاتًا، وجعل يطالبه بالمال المتأخِّر على حكومته كلَّما قابله حتى تمَّت تسوية في سنة ١٨١٩، من مقتضاها أنَّ الباقي على فرنسا للباي ٧ ملايين فرنك. وفي سنة ١٨٢٣ تُوفِّي علي باي وخلفه حسين باشا على الجزائر، فبدأ يطلب المال من فرنسا، مُلِحًا على قنصلها في ذلك، وكَتَبَ مرةً إلى وزيرها في باريز رأسًا فلم يأتِهِ ردٌّ. ودامت هذه الحالة إلى شهر أبريل من سنة ١٨٢٧، حين حَدَثَ أمرٌ جلل كان بَدء العدوان والحرب بين فرنسا والجزائر، ذلك أنَّ قنصل فرنسا ذهب لمقابلة الباي بشأن مركب روماني أَسَرَه القرصان، وكان الباي يكره هذا القنصل، فقال له ما الذي يوجب تدخُّلكم والمركب ليس للفرنسويين؟ ثم ذَكَرَ له الدَّين، وقال إن وزير الخارجية لم يجاوبه بشأنه، فأجاب القنصل أنَّ الوزير يرسل الرد عن يده؛ لأنه وكيل دولته في الجزائر فظنَّ حسين باشا أن القنصل يقول له إن الوزير لا يتنازل إلى الردِّ عليه، وغضب غضبًا شديدًا حتى إنه رمى القنصل بمروحة أصابت وجهه، فخَرَجَ القنصل مُهَانًا من ديوان الباي، وأنذر دولته بما حدث، فأَمَرَتْه بالخروج من الجزائر دليل قطع العلاقات. ولم يُحْسِن حسين باشا التدبير بعد هذه الحادثة؛ لأنه تصدَّى للتجار الفرنسويين في ثغور بلاده وطردهم منها مع أنَّهم كانوا يدفعون إليه ٤٠٠ ألف فرنك في السنة قيمة الإذن لهم باستخراج المرجان، وهو يومئذٍ معدود من الجواهر الغالية، وتجارته رائجة، ولا سيما في بلاد الهند.
وهاجت فرنسا لما لحق قنصلها وتجارها في الجزائر، فنَدَبَتْ حكومتها الأميرال لابرونيير ليذهبَ إلى تلك المدينة، ويطلب من الباي الترضيات الآتية، وهي: (١) أن يذهبَ كلُّ رجال الديوان الجزائري إلى سفينة الأميرال ويعتذروا له باسم الباي. (٢) أن يطلق بعد عودتهم مائة مدفع ومدفع من القلعة. (٣) أن يعوض على التجار الفرنسويين ما خسروا. (٤) أن تنفذَ المعاهدة القديمة بين فرنسا والباب العالي. ولمَّا ذَهَبَ الأميرال لمقابلة الباي وطَلَبَ هذه الشروط دخل عليه بسيفه ولم يسلِّمه على الباب حسب العادة، وقابله حسين باشا جالسًا على عرشه، وجعل يطالبه بمتأخِّر المال فرجع الأميرال مغضبًا وهو يقول للباي إنه لا بدَّ لفرنسا من نيل الترضية، وكان الباي يقول له إنه إذا كان عند فرنسا بارود ففي الجزائر منه شيء كثير. ولمَّا أقلعت السفن الفرنسوية من ميناء الجزائر أُطْلِقت عليها المدافع من القلعة، فعطَّلت بعض أجزاء سفينة الأميرال، فلم تجاوب السفن على هذه الإهانة الجديدة، ولكن قناصل الدول أذهلهم فعل حكومة الجزائر فذهبوا لمقابلة الباي وسألوه عما فعل، قال إن رئيس القلعة فَعَلَ ذلك بلا أمرٍ منه، وهو عذرٌ واضح البطلان.
- أولًا: أن تُسلَّم إلى الجيش الفرنسوي عاصمة الجزائر والقصر والقلاع والبنايات العمومية، وذلك من الغد الواقع في ٥ يوليو سنة ١٨٣٠ الساعة العاشرة صباحًا، قال الترجمان: وما انتهيتُ من قراءة هذا الشرط الأول حتى سمعتُ ضجيجًا وتهكُّمًا، وظننتُ أنهم سيضربونني بالسيف على رأسي من الوراء، ولكني وجدتُ رأسي ما زال موجودًا على عنقي، وأسرعت بالقراءة.
- ثانيًا: يجب احترام ديانة الجزائريين، ولا يجوز التداخل في أمورهم الخصوصية، ولا يجوز لأحدٍ من العساكر الدخول في الجوامع. قال الترجمان: إن هذا الشرط أوْقَعَ الهدوء والسكينة ما بين الموجودين، حتى إن الباي نظر إليهم نظرة الاستحسان، وأشار إليَّ أن أستمرَّ في القراءة.
- ثالثًا: يجب على الباي والأتراك أن يتركوا العاصمة بأسرع ما يمكن من الوقت، فما انتهيت من قراءة هذا الشرط حتى سمعت ضجَّة من الموجودين ملأت جوانب الديوان؛ إذ قام الباي من مكانه وهو مصفرُّ اللون ينظر إلى الموجودين أمامه وحوله نظرة الاضطراب والقلق، فما كنت أسمع إلا التهديد وعبارات القتل والموت من أفواه القواصة الذين شهروا سيوفهم فوق رأسي، فقلتُ في نفسي هذا هو القضاء المبرَم، لولا أنَّ الباي صَرَخَ فيهم صرخة شديدة وأشار إليَّ أن أتمِّمَ القراءة.
- رابعًا: يجوز للأتراك أن يأخذوا معهم أموالهم وأمتعتهم الخصوصية، وهم أحرار أن يذهبوا أين شاءوا. قال الترجمان: وبعد قراءة هذا الشرط الأخير اجتمعوا جميعًا في ساحة الديوان للبحث فيما يوافق إجراؤه، فقسمٌ منهم — وهم الفتيان الأتراك — أرادوا مداومة الحرب، ولكن أصحاب الكلمة المسموعة أثبتوا أنه ليس من وراء المقاومة إلا خراب البلد وهلاك أهلها، وبعد ذلك صَدَرَ أمرُ الباي أن يُخْلَى الديوان، وما بقي فيه إلا هو ووزراؤه وأنا وسيدي مصطفى الذي كان يعيد قراءة الشروط لحسين باشا ويترجمها له على حسب هواه؛ لتخفيف ثقلها على الباشا الذي وقَّع عليها وسلَّمها لي، ثم أمر سيدي مصطفى والباش جاويش ومعه بعض العساكر أن يرافقوني إلى الباب الجديد، حتى إذا اقتربتُ من المعسكر الفرنسوي، وكنت في طمأنينة وأمان تركوني، ثم قابلتُ الجنرال وسلَّمْتُهُ الشروط ممضاة، وفي تلك الليلة أصابتني حمَّى شديدة من الخوف كادت تقضي على حياتي.
وفي الغد استلمت العساكر الفرنسوية القصر والقلاع وأبواب المدينة والبنايات العمومية، قال قنصل الإنكليز للجنرال دي بورمون قائد عموم العساكر إنه يقدِّر ما كان من النقود في خزينة السراي بما لا يقلُّ عن مائة وخمسين مليون فرنك، ولكن الإحصاء الرسمي الذي أَمَرَ الجنرال بإجرائه عن يد لجنة مخصوصة دلَّ أن الذي وُجِدَ من المال بَلَغَ خمسين مليون فرنك فقط، وكانت اللجنة قد طَلَبَت الدفاتر قبل هذا الإحصاء من أمينِ خزينة حسين باشا، فقال إنه لم يكن عنده دفاتر منظَّمة، بل إن النقود تدخل وتخرج بأمر الباشا ودلها إلى أكوام العملة الذهبية من فرنسوية وإنكليزية ونمساوية متراكمة بعضها فوق بعض.
واستلم الجيش الفرنسوي مدينة الجزائر بكلِّ ما فيها، فلجأ الباي إلى منزل خارج البلد، وذهب رؤساء القبائل وحسن بك حاكم وهران ومصطفى بك حاكم طيطري كلٌّ إلى محله. أمَّا أحمد بك حاكم قسنطينة فإنه قال لإبراهيم آغا صهر الباي إنه قضى على حميه، والأوفق أن يأخذ أمواله ويتبعه فتبعه ومعه سبعون ألف مجر، ولكنَّ أحمد بك سلب هذا المال منه فاضطرَّ الرجل أن يعود من حيث أتى، وطلب حسين باشا مقابلة الجنرال فقابله في ديوان الحكومة، وكان ساعتئذٍ كالضيف والجنرال صاحب المحل، فبعد الحديث اختار حسين باشا أن يذهب إلى لفورنو من مدن إيطاليا، فأُعدَّت له سفينة حربية نقلته من الجزائر مع عائلته، وهو يبكي على مُلكٍ ضاع ودولة دالت، وعزٍّ قَضَى فيه ١٢ سنة، وكان ذلك آخر عهد الجزائر بحكم البايات الذين استمرَّت دولتهم من سنة ١٥١٧ لغاية سنة ١٨٣٠، وكان حسين باشا ينوي الحج إلى مكة بعد ذلك الانكسار، وقد وردتْ عنه حكاية في بعض الكتب ربما كانت صحيحة، هي أنه جاء الإسكندرية في عهد واليها محمد علي باشا، وكان محمد علي قد أرسل مرة يرجو حسين باشا ألا يؤذي التجار الفرنسويين، وذلك بطلب من حكومة فرنسا، فلمَّا سمِعَ حسين باشا قول المندوب المصري أجابه: قل لسيدك أن يأكلَ فولًا، واستمرَّ على عناده مع الفرنسويين، ثم قُدِّرَ له الانكسار على ما علمت، والرحيل إلى الإسكندرية، فأكرمه محمد علي ودار به على جنوده ومواقعه ليفرِّجه عليها، وهو يبدي العجب من أين جاء كلُّ ذلك؟! حتى إذا سأل هذا السؤال قال له محمد علي: إن هذا كله من أكل الفول.
ولمَّا وصلت أخبار النصر إلى باريس طَرَبَ الناس لها وسُرُّوا، وأنعمت الحكومة برتبة مارشال على الجنرال دي بورمون، وحدثت مناوش صغرى بعد هذا مع بعض أهالي الداخلية لم تُسْفِر عن نتيجة، ولكن الجيش الفرنسوي لم يوغل في البلاد؛ لأن حكومته أرادت الاكتفاء بالمدن البحرية، وربما أرادت أن تترك بقيَّة البلاد يومئذٍ للدولة العليَّة؛ ولذلك أرْسَلَ القائد العام تجريدة صغرى إلى ثغر عنابة تحت قيادة الجنرال دامرمون، وتجريدة أخرى إلى وهران تحت قيادة ابنه الكولونيل دي بورمون (وسيأتي ذكر المدينتين في فصل السياحة)، فسَلَّمت عنابة بلا قتال، ولكن العرب قاتلوا في أطرافها وهُزِموا، وسلَّمت وهران بلا قتال أيضًا. وبينا كان الجيش الفرنسوي في ذلك بلغه أنَّ ثورة سنة ١٨٣٠ حدثت، وأنَّ الملك لويس فيليب نُصِّبَ على العرش بدل الملك شارل العاشر فجَمَعَ القائد العام جنوده في عاصمة الجزائر وسافر إلى باريس، وخلفه الجنرال كلوزيل.
ولمَّا وصل القائد الجديد إلى الجزائر علم أن سلطة فرنسا منحصرة في الثغور، وأنَّ القبائل عاملة على العناد وطلب الاستقلال مع حكام الأقاليم الذين سبق ذكرهم، وكان رؤساء الدين أبدًا يحضُّون الناس على الجهاد، حتى إنهم نبَّهوا حكومة تونس إلى الخطر المحدق بها من فرنسا، وسعوا في إقامتها مع حكومة مراكش لمساعدتهم، فاهتمَّ القائد الفرنسوي، وخطب في جنوده موضِّحًا لهم الحالة، ونظم إدارة المدينة مستعينًا بأفاضل الجزائريين وبعض الفرنسويين، وطلب من وزير الحرب في باريس أن يزيد جيشه إلى ١٨ ألفًا وكان الباقي عنده ١٠ آلاف، فكان جوابُ الوزير أن قوَّته تكفي لإخضاع الجزائر، وعليه قام الرجل لقمع الثورة، فلمَّا بلغ بليدا سلَّم أهلُهَا له ورَجَوه ألا يدخل بلدتهم فأبى إجابة الطلب، وحارب العرب المتجمِّعين في أطرافها فطردهم منها ثم تقدَّم إلى الميدية — وهي في وسط الجبال — فاستولى عليها بعد قتال شديد، ولكنَّ الأهالي استمرُّوا على مضايقته بالمهاوش والمناوش، ولم يكن عدد الجنود الفرنسوية كافيًا لإخضاع البكوات، فعاد القائد إلى عاصمة الجزائر وأَبْرَمَ اتفاقًا مع باي تونس أن يبقى على الحياد، ولكنه تعب من مخالفة وزير الحرب له في كلِّ ما يفعل، فاستقال من القيادة وعاد إلى بلاده.
وعُيِّنَ الجنرال تريزل سنة ١٨٣١ قائدًا عامًّا في الجزائر، فحاول إصلاح الإدارة وإبطال الاختلاس فيها، وقام لمحاربة العصاة، فلم يُفْلِح في أول الأمر، ولكنه عاوَدَ الكرَّة، وجرَّد حملات على عنابة ووهران، وقام هو بنفسه لفتح الميدية فرجع عنها مرة أخرى وأصاب عامله في عنابة فشل أيضًا؛ لأنه أركن إلى تركي خَدَعَه وأوْقَعَ جنده في المهالك، وكذلك حملة وهران عادت إلى الجزائر بالخسران. فلمَّا علمت فرنسا بهذا فَصَلَت الإدارة عن القيادة العسكرية، فجعلت الموسيو بيشون حاكمًا والجنرال روفيكو قائدًا سنة ١٨٣٢، وقد فاز هذا القائد بفتح ثغرَي وهران وعنابة بعد قتالٍ كثيرٍ.
وحَدَثَ في خلال هذه الحوادث أنه ظَهَرَ زعيم في جهة بسكرة على حدود الصحراء، اسمه محيي الدين من قبيلة هاشم، جعل يحضُّ الناس على الجهاد في محاربة الأجانب؛ فأثَّر صوته في القبائل، وعرضت عليه أن يقودها للحرب فآثر الرجل أن يبقى في زاويته، وجعل ابنه عبد القادر أميرًا وقائدًا لتلك القبائل، بدعوى أنه رأى في المنام أن ابنه المذكور سيكون أميرًا للعرب، فنُودي بإمارة عبد القادر يوم ٢ ديسمبر سنة ١٨٣٢ في محفل حفيل، وكان هذا الشاب قد تربَّى في مدرسة القليعة وتضلَّع في العلم والفقه والشعر يجالس العلماء ويباحثهم، وله بينهم منزلة سامية على حداثة سنِّه، وكان طَلْقَ اللسان قويَّ الجنان مشهورًا بين الفرسان، تبعه ١٢٠٠٠ مقاتل من العرب إلى مدينة وهران؛ ليطردوا الفرنسويين منها، فلمَّا بلغوها قاتلوا قتال الأبطال، ولكنهم لم يتمكَّنوا من الاستيلاء على المدينة مع قلَّة حاميتها؛ لأن مدافع الفرنسويين كانت تصبُّ نارًا حامية، ولا أمكن الحامية أن تخرج لمقاتلة العرب بسبب كثرتهم، فانقضى القتال على غير جدوى، ولمَّا وصلت هذه الأخبار إلى باريس صَدرَ أمر حكومتها بعزل قوادها في الجزائر، فعُيِّن الجنرال فوارول قائدًا عامًّا، والجنرال البارون ده ميشيل قائدًا لحامية وهران، ووصل القائدان الجديدان إلى مواضعهما في سنة ١٨٣٤، فتجدَّد القتال في أطراف وهران، ولكن الفرنسويين رأوا أنَّ الأمير عبد القادر غاب عن معسكره في أثناء الحرب لعلة لم يفهموها، فاتضح يومئذٍ أنه عَرَفَ بوفاة والده في بسكرة فذهب إليها لإقامة الفروض المعتادة، وعاد في شهر أوغسطس من تلك السنة وعادت الحرب أيضًا، ولكنها لم تعد بفائدة لأحد الطرفين، فرأى الجنرال ده ميشيل أن يخابر الأمير عبد القادر في المصالحة، ونَدَبَ الأمير كاتب يده المدعو ميلود لمفاوضة الجنرال في ذلك، وكان هذا القائد — أي البارون دي ميشيل — من سراة فرنسا ووزير الحرب يومئذٍ صديقه لا يخالف له رأيًا، فهو وافق على المعاهدة التي أَبْرَمَهَا هذا القائد مع الأمير عبد القادر بدون مراجعة القائد العام في عاصمة الجزائر حسب الأصول. وخلاصة المعاهدة المذكورة: (١) أنَّ الحرب تبطل من يوم التوقيع على المعاهدة. (٢) يتبادل الطرفان ما عندهما من الأسرى. (٣) يكون للأمير عبد القادر مندوب في وهران ولفرنسا مندوب في بسكرة. (٤) لا يجوز للفرنسويين أن يسافروا في داخلية البلاد إلا بتذكرة يُعَلِّم عليها الأمير أو مَنْ يقوم مقامه، ولا يجوز للعرب دخول المدن البحرية التي احتلَّتها فرنسا إلا بتذكرة يُعلِّم عليها الحكام الفرنسويون. (٥) تُعْطَى الحرية المطلقة للأديان والمتاجر، وفي جملتها المتاجرة بالسلاح.
ولمَّا اشتُهر أمر هذه المعاهدة وعلا ذكرُ عبد القادر كثُرَ حُسَّاده ومبغضوه من العرب، وتألَّبت بعض القبائل لمحاربته، وأهمها قبيلة بني عامر، وهي أكثر القبائل عددًا في بلاد الجزائر، فلمَّا التقت جنود القبائل بجنود الأمير عبد القادر هُزمت جنود الأمير واضطرَّ عبد القادر إلى الفرار، فلمَّا علم القائد الفرنسوي بذلك، وكان يدري أن أعداء عبد القادر نقموا عليه؛ لأنه عاهد الفرنسيس وهادَنَهم ولم يعتدُّوا بمعاهدته، مدَّه بالرجال والسلاح حتى إن الأمير رجع إلى محاربة هؤلاء الأعداء المتحدين عليه وكَسَرَهم شرَّ كسرة، وعاد إلى مقامه الرفيع وعلا شأنه بين الجميع، ولكن زمان الراحة لم يطُلْ؛ لأن القائد العام في الجزائر غضب من عقد معاهدة وهران بلا اطِّلاعه ولا أمره؛ فأرسل إلى وزير الحرب يعترض على هذا الصنيع ويقول إن المعاهدة المذكورة جعلتْ عبد القادر أميرًا حاكمًا في الجزائر وهو عدوُّ فرنسا، وكان الواجب على البارون ده ميشل قائد حامية وهران أن يساعدَ أعداء عبد القادر على سحْقِهِ، وأقام ينتظر الرد من حكومته على هذا الاعتراض، وهو في خلال ذلك دائم التنافس والتحالف مع الموسيو بيشون الحاكم الملكي حتى صَدَرَ أمرُ الوزارة بإقالة الاثنين، وتعيين الجنرال ديرلون قائدًا عامًّا في بلاد الجزائر، فلمَّا وصل هذا القائد الجديد أقال الجنرال ده ميشل من القيادة في وهران، وزاد حاميات المدن البحرية، وشكَّل فرقة من الفرسان الوطنيين سمَّاهم جنود الزواف، وهم يُعْرَفون بهذا الاسم إلى اليوم، ودَفَعَ مبالغ طائلة إلى بعض رؤساء القبائل؛ لكي يحملهم على موالاة فرنسا؛ وللبقاء تحت طاعتها. فلمَّا علم الأمير عبد القادر بهذا أرسل إلى رؤساء القبائل يحذِّرهم من الانتماء للأجانب والرضى لسيادتهم، وأَرْسَلَ إلى القائد العام يقول لهم إن المسلمين لا يمكنهم الخضوع لدولته، فاستعدَّ الفريقان لمعاودة الحرب، وأصدر القائد العام أمره إلى الجنرال تريزل قائد وهران الجديد بالقيام لمحاربة عبد القادر، وكان الأمير قد قام لمقابلة الأعداء وفَتَكَ بسَرِيَّة تنقل إليهم العلف، ثم تقدَّم بثمانية آلاف مقاتل، وكان مع القائد الفرنسوي ٢٥٠٠ رجل فقط، فانتشب قتال شديد بين الطرفين، دارت الدائرة فيه على العرب، واضطرَّ عبد القادر إلى الفرار، ولكنه أعاد الكرَّة في أحد الأيام بينا كانت الجنود الفرنسوية تتغدَّى، فهزمها شرَّ هزيمة، وأَسَرَ منها ٢٠ رجلًا، وقَتَلَ عددًا كبيرًا، وحَمَلَهَا على الفرار إلى ثغر أزرو؛ لتكون تحت حماية البواخر الحربية، وكان هذا الانكسار علَّة عزل الجنرال تريزل بأمر القائد العام، وتعيين الجنرال دارلانج مكانه، ولكن هذا العزْل لم يرُقْ لوزير الحرب؛ لأن قائد وهران بَذَلَ غاية ما في الإمكان، فعُزِلَ القائد العام وعُيِّنَ الجنرال كلوزيل قائدًا وحاكمًا عامًّا في بلاد الجزائر.
ولمَّا وصل هذا الحاكم العام الجديد رأى أنَّ الأحوال سيئة، وأنَّ نفوذ فرنسا قلَّ بين الأهالي، وأنَّ الأمير عبد القادر أصبح الحاكم المطلَق في داخلية البلاد إلى حدود مراكش، فجعل همَّه إصلاح الأحوال، وانتقى بعض الأمناء من كبار الأهالي فعيَّنهم حكامًا وعمالًا في المدن الواقعة تحت حكم فرنسا، وأرسل اثنين منهم إلى مواضعهما، فعاد الاثنان منها بداعي كثرة المعادين لحكومة فرنسا في الجبال، وقام القائد العام بنفسه ليفرِّق شَمْلَ هؤلاء الأعداء ومعه ٥٠٠٠ جندي، ولكنه حين بلغ أرضهم رأى أن جيشه لا يكفي لمحاربتهم فصبر ريثما جاءته النجدات من فرنسا، وتقدَّم لفَتْحِ بسكرة وهي مسقط رأس الأمير عبد القادر، فذهب عن طريق وهران بحرًا، وسيَّر جيشه منها ٤ فرق، كان في إحداها الدوك دورليان ابن ملك فرنسا ومجموع قواتها ١١٠٠٠، ورأى الأمير عبد القادر أنَّ القوة كبيرة عليه هذه المرة فأرسل يخابر القائد الفرنسوي بالصلح، ولم يقبل القائد، بل هاجم جيش الأمير وجعل يفوز عليه ويدحره، والأمير يتقهقر من أمامه حتى وصلت جنود فرنسا إلى قرية بسكرة فتقدَّم رؤساء القبائل وعرضوا الطاعة على القائد الفرنسوي فقَبِلَ، وطلب منهم رأس عبد القادر واعدًا بثلاثين ألف فرنك للذي يأتي به، وكان الدوك دورليان من أكثر الجنود بسالة في هذه المواقع، ولكنه عاد إلى فرنسا على عَجَلٍ؛ لأنه أُصيب بالحمَّى فودَّعَه القُوَّاد والجنود بالهتاف والإكرام العظيم. وفي سنة ١٨٣٦ قام القائد العام في أثر عبد القادر فأدركه عند مدينة تلمسان في أطراف الجزائر وحارَبَه، فكَسَرَه كسرةً هائلة وعاد إلى مدينة الجزائر بمائتَي أسير، ومنها أرسل منشورًا إلى القبائل يُعْلِمها بانكسار عبد القادر، فأَسْرَعَ بعضها إلى إعلان الطاعة وبقي البعض الآخر مصرًّا على ولاء الأمير، وبهذا انقسم الجزائريون بعضهم على بعض، وكان فريق منهم يحارب الفريق الآخر مع الفرنسويين، وقد حَدَثَ هذا في معركة الميدية سنة ١٨٣٧، حين سيَّر القائد العام بعض جنوده والقبائل المتحابَّة لمحاربة علي مبارك عامل الأمير عبد القادر فكَسَرَتْه وبدَّدت شمل رجاله، وكذلك حدث وراء وهران في تلك السنة حين قام قائد المدينة مع بعض القبائل لإعادة الكرَّة على الأمير عبد القادر، وفازوا عليه وفرَّقوا مواكبه بعد قتالٍ شديدٍ.
وقد سُرَّ أهل فرنسا سرورًا عظيمًا من هذه الأخبار، ورأت الوزارة أنه لم تَبْقَ حاجةٌ إلى الجيش العديد في الجزائر؛ فأرجعت بعضه رغمًا عن احتجاج القائد العام، وكان في هذا دافع جديد للأمير عبد القادر إلى معاودة القتال؛ لأنه طمع ببقيَّة الجيش الفرنسوي، فتقدَّم بسبعة آلاف مقاتل على وهران، وقابله قائدها بثلاثة آلاف فدارت الدائرة على الحامية الفرنسوية، وجُرِحَ قائدها ورجع الجيش إلى وهران بعد أن قُتِلَ منه خلق كثير، فكان لهذا الانكسار تأثير شديد في فرنسا، وعادت حكومتها إلى تقوية جيشها في الجزائر، فسيَّرت النجدات تحت قيادة الجنرال بوجو، وهو من أشهر قُوَّاد فرنسا، وصل وهران في سنة ١٨٢٧ بستة آلاف مقاتل، واستعد لمحاربة الأمير عبد القادر، وأمَّا الحاكم العام فإنه ذهب إلى باريس في خلال هذه الحوادث، وعَرَضَ الحالة على الوزارة بوجهٍ عام وخيَّرها بين امتلاك الجزائر كلها أو الاكتفاء بالثغور منها، أو الخروج من كلِّ البلاد، فتقرَّر الاستيلاء على البلاد كلها، وعاد الحاكم العام إلى الجزائر يستعدُّ لحربٍ عموميَّة شديدة، وأراد التقدُّم إلى قسنطينة للاستيلاء عليها (وسنذكرها في فصل السياحة)، وكان حاكمها أحمد بك، وقد استبدَّ الرجل بحكم قسنطينة وابتزَّ مال أهلها وشدَّد العقوبات لأقلِّ هَفْوَة، وبنى له قصرًا جميلًا في المدينة وجامعًا على مَقْرُبَةٍ من القصر، وكانت جنود فرنسا تتقدَّم من ثغر عنابة لفتح قسنطينة ومعها الدوك دورليان السابق ذكره، وعددها ٧٠٠٠ من الفرنسويين و١٥٠٠ من العرب والأتراك الموالين تحت قيادة يوسف بك التونسي، فسارَ الكلُّ في أيَّام الأمطار الغزيرة والأوحال وطغيان الأنهر، وكان السير من أعْسَرِ الأمور، زاده خيانة بعض المكَّارين الوطنيين ووقوع الجيش في المتاعب، حتى إن القائد قال في تقريره للوزارة يومئذٍ إن حملة موسكو المشهورة لم تكن أكثر عذابًا من سير جيشه من عنابة إلى قسنطينة، على أنَّهم بلغوا المدينة بعد أن فَقَدُوا ضابطًا و١٠ صف ضباط و١١٦ جنديًّا، وأقام القائد حولها يعاين مواقعها وأبوابها وأسوارها وكان يؤمِّل دخول المدينة من أحد أبوابها القديمة، ولكنه لم يرَ حركة دفاع أو مقاومة من حاميتها في أول الأمر، فحسب أنه يستولي عليها بلا قتال. وبينا هو ينتظر قدوم المندوب ليخابره بالتسليم رأى راية الحرب، وسمِعَ نداء القوم بالجهاد وتقدَّم قائد اسمه ابن عيسى لمقاتلة الفرنسويين في أكمة احتلَّها القوم واسمها تل علي. وأمَّا أحمد بك حاكم المدينة فبقي فيها مع فريق من الجنود التركية. وبعد أنْ قاتَلَ ابن عيسى قتالًا شديدًا هُزِمَ وارتدَّ إلى المدينة وأوصد الأبواب، وعاد ابن عيسى فخرج مرةً أخرى إلى ساحة القتال وهُزِمَ أيضًا، فرجع إلى المدينة وصَدَرَ أمر القائد العام الفرنسوي إلى الجنرال تريزل بإطلاق القنابل على أحد الأبواب، واسمه باب القنطرة، كان يؤمِّل الدخول منه، وبينا هو يتفرَّج على فعل مدافعه أطلق العرب رصاص بنادقهم دفعة واحدة على الهاجمين؛ فأصابت الجنرال تريزل رصاصة قتلته، ولكن هذا لم يثنِ عزم القائد العام فوجَّه مدافعه إلى باب آخر، وقُتِلَ أمام ذلك الباب ضابطان و١٥ جنديًّا وجُرِحَ ٧٩ من الفرنسويين، ودام إطلاق المدافع أربعة أيام على أسوار قسنطينة حتى نفد ما كان منها مع الجيش الفرنسوي، ورأى قائدها أنَّ الاستمرار على الحرب لا يفيده، فأَمَرَ جنوده بالتقهقر والرجوع، وتبعها أحمد بك وابن عيسى يضربان في ظهورها ويزيدان متاعب السير في تلك الأوحال، وكان جملة مَنْ قُتِلَ في هذه الحملة المشئومة ١١ ضابطًا و٤٤٣ جنديًّا وجُرِحَ ١٦ ضابطًا و٣٠٤ جنود، هذا غير ما أصاب القوم من الأمراض وأهوال الطريق في الذهاب والإياب، فلم يقلُّ عدد الموتى عن ٢٠٠٠ محارب، وكانت نتيجة هذا الانكسار أنَّ الحاكم العام استعفى؛ لأن حكومة فرنسا لم تُمِدَّه بكل ما أراد من القوات، وسافر إلى باريس مع الجنرال بوجو، فلمَّا وصلاها عيَّنت الحكومة الجنرال دامرمون حاكمًا عامًّا، وأعادت بوجو إلى قيادة موقع وهران.
- (١)
يعترف الأمير عبد القادر بسلطة فرنسا في الجزائر.
- (٢)
يحدَّد إقليم وهران ما بين البحر وجبل الأطلس في داخلية البلاد.
- (٣)
لا يجوز للأمير أن يعتدي على الحدود الفرنسوية.
- (٤)
لا يجوز لأحد الطرفين أن يتداخل في شئون الخاضعين للطرف الآخر في دائرة نفوذه.
- (٥)
لا يُعارَض المسلمون في منطقة فرنسا في بناء الجوامع أو حرية دينهم.
- (٦)
يتعهَّد الأمير عبد القادر بتوريد ٣٠٠٠٠ كيلة جزائرية من القمح كل سنة و٢٠٠٠٠ كيلة من الشعير و٥٠٠٠ بقرة للجيش الفرنسوي.
- (٧)
يجوز للأمير أن يشتري ما يلزمه من السلاح، ولكن من معامل فرنسا فقط.
- (٨)
تُعْطَى مدينة تلمسان بقلعتها ومدافعها للأمير عبد القادر.
- (٩)
يجوز لرعايا الطرفين أن يقيموا أينما شاءوا في الجزائر بلا معارضة.
- (١٠)
يجوز لرعايا الطرفين أن يشتروا الأراضي في المنطقتين.
- (١١)
لا يجوز للأمير أن يتنازلَ عن شيء من أرضه لدولة غير فرنسا.
- (١٢)
يجوز لكلِّ فريق أن يعيِّن له وكيلًا سياسيًّا في منطقة الفريق الآخر.
هذه خلاصة المعاهدة، اهتمَّ الأمير عبد القادر على أثرها بإنشاء معامل السلاح والبارود، وضَرَبَ نقودًا على أحد وجهيها «هذه مشيئة الله عليه توكَّلت» وعلى الوجه الآخر «السلطان عبد القادر ضُرِبَ في تكرمة»، وتكرمة بلدة أنشأها عبد القادر بهذا الاسم. وأرسل الجنرال بوجو صورة هذه المعاهدة إلى وزير الحرب فأبى رئيس الوزارة — وهو يومئذٍ الكونت موله — أن يقرَّها، ولكن وزير الحرب أرسل مندوبًا من قِبَلِه إلى وهران بلَّغ الجنرال أن الملك راضٍ عن المعاهدة، وأنه سيرسل صورتها إلى الحاكم العام في الجزائر ليقرَّها بإمضائه، وكان الجنرال بوجو قد طَلَبَ مواجهة الأمير عبد القادر على مسافة بضع ساعات من وهران، وذهب إلى المكان المعيَّن ببعض جنوده فبلغه والأمير لم يأته بعد، فما وصله إلا بعد ٣ ساعات ومعه نحو ٢٠٠ من رؤساء القبائل على فاخر الجياد بكامل سلاحهم وزُخْرُف ملابسهم، فكان منظرهم جميلًا جدًّا فتقدَّم الجنرال ومدَّ يده للسلام على الأمير، ولكن الأمير أسرع وترجَّل وجلس إلى الأرض، ففعل القائد فِعْلَه ثم دار بينهما الحديث الآتي:
– اعْلَمْ يا عبد القادر أنِّي ضمنتك أمام ملك فرنسا بحسن السلوك.
– لا تخفْ، إن ديننا يأمرنا بالصدق فيما نقول.
– هل أمرتم بإرجاع العلاقات التجارية مع عاصمة الجزائر والمدن البحرية؟
– لا، ولكنني أفعل حين أستلم تلمسان وقلعتها حسب الشروط.
– لا يمكن تسليمها إلا بعد مصادَقَة الملك على المعاهدة.
– أفلستَ إذًا مفوَّضًا بعقدها؟
– نعم، إنِّي مفوَّض، ولكنه لا بدَّ من تصديق الملك والتصديق خيرٌ لك؛ لأنه ربما أتى بعدي قائد عَبَثَ بها إذا لم يصدِّق الملك، وأمَّا بعد تصديقه فالعبث بها أمر مستحيل.
– إذا لم تسلِّمني تلمسان فلا تُعِدَّ هذا معاهدة منا، بل اعتبر أننا في هدنة.
– صحيح، ولكنك أنت الرابح من إطالة زمان الهدنة؛ لأنِّي لا أحرق الزرع في خلالها.
– مهما تحرق فإنه يبقى عندنا مقادير من الحبوب تكفينا في كلِّ حين.
– لستُ أظنُّ هذا صحيحًا؛ فإن قبائل كثيرة رَجَتْنِي ألا أحرقَ زرعها وحاصلاتها.
فتبسَّم عبد القادر من هذا القول، ولمَّا عَلِمَ من الجنرال أنه يلْزَم ثلاثة أسابيع على الأقل لورود المصادقة من الملك أبدى إشارة الملل، وقال إنه لا يعيد العلاقات التجارية إلا عند المصادقة النهائية على المعاهدة، ورأى الجنرال بوجو أنَّ استطراد الحديث ربما أدَّى إلى ما لا يُحْمَد، فقام يريد الانصراف، وبقي الأمير جالسًا يكلِّم الجنرال بصوتٍ خافت، والجنرال واقف وكان يريد من هذا ما أراد من إبطائه في الحضور للمقابلة، وهو التظاهر بعلوِّ المقام وعدم الاعتداد بالقائد الفرنسوي؛ فلحظ القائد مراده، وقال له بلسان الترجمان إنه إذا قام القائد الفرنسوي وَجَبَ عليه أن يقومَ هو أيضًا، فوَقَفَ عبد القادر في الحال، وانصرف الرجلان على غير نتيجة من المقابلة.
ولمَّا عَلِمَ الحاكم العام دامرمون بمعاهدة بوجو وعبد القادر زاد به الغيظ، وكَتَبَ إلى وزير الحرب ينذر فرنسا بالذلِّ من الموافقة عليها، ويجعل القبائل الموالية لها تحت إرهاب عبد القادر، ويجعل لهذا الأمير دولة مستقلَّة مثل فرنسا، وكان في الصحف والنواب فريق عظيم على رأي الحاكم العام قاموا يندِّدون بهذه المعاهدة، ويقولون إن فرنسا أزالت السلطنة التركية من الجزائر لتخلقَ فيها سلطنة عربيَّة قويَّة تعضدها مراكش وغيرها، وهوَّلوا في الأمر حتى اضطرَّت الوزارة أن تجيب طلب الحاكم العام وتعضده بكلِّ ما يريد، وقرَّرت الاستيلاء على بلاد الجزائر كلها بصورة نهائية، وأرسلت تجريدة جديدة كان في جملة قوادها الدرك دي نمور من أمراء البيت المالك في فرنسا، وسارت هذه الحملة الجديدة إلى عنابة، حيث عُقِدَ مجلس الحاكم العام دامرمون والدوك دي نمور والقوَّاد ومشايخ القبائل الموالية لفرنسا، فقرروا أن يُؤجَّل الزحف على الأعداء إلى أول الصيف حتى لا يصيبَ الجنود ما أصابهم في الحملة السابقة، ولكنهم عادوا وقرَّروا الزحف في أول أكتوبر — سنة ١٨٣٧ — فقامت الحملة من نفس الطريق الذي اتبعته الحملة السابقة، ووصلت أمام قسنطينة في اليوم السادس من الشهر المذكور، فصَدَرَ أمرُ القائد العام إلى قِسْمٍ من جيشه باحتلال جهة المنصورة، وهي من ضواحي المدينة، والقسم الآخر بأن يحتلَّ تلال علي، وعند ذلك رأوا الراية الحمراء فوق القلعة والنساء على سطوح المنازل تحضُّ الرجال على الدفاع والاستقتال، وكان ابن عيسى قائد العرب خارج المدينة، وأحمد بك قائدهم داخلها.
وبينا كانت العساكر تستعدُّ لدخول المدينة من ناحية تلال علي أَطْلَقَ العرب رصاصهم فقتلوا ضابطًا وبعض الجنود، وهَجَمَ ابن عيسى من جانب آخر على الفرنسويين فقاتلهم قتالًا شديدًا، ولكنه تقهقر وعاد إلى المدينة بعد عدَّة ساعات، فقرَّب الفرنسويون مدافعهم إلى مسافة ٣٠٠ متر من باب القنطرة، ودام القتال من تلك الجهة طول النهار، ونزل المطر مدرارًا حتى إذا عادت الجنود الفرنسوية للمبيت وجدت المضارب بِرَكًا وأوحالًا، وعاود الفرنسويون إطلاق القنابل على المدينة في ٩ من الشهر المذكور، وضمُّوا مدافعهم كلها إلى جهة واحدة، هي جهة تلال علي بعد عناء شديد من نقلها في الوحل، وظلُّوا على هذا الحال إلى يوم ١٢ من الشهر المذكور حين جمع القائد العام كلَّ قواته في التلال المذكورة، وأراد التعجيل في فتح هذه المدينة فخَطَرَ له أن يخابر أهلها وأرسل إليهم جنديًّا تركيًّا بكتاب عربي، فذهب الجندي، وفوق رأسه العلم الأبيض حتى إذا بلغ سور المدينة ألقوا إليه حبلًا وبلغ الكتاب، ثم عاد في اليوم التالي بجواب شفاهي معناه أنَّ الأهالي عندهم ما يكفيهم من القوت والذخيرة، وأنهم عوَّلوا على الدفاع إلى الفناء، فأُعْجِبَ القائد العام ببسالتهم، ولكنه عوَّل على مقاتلتهم إلى الختام، ثم خَطَرَ له أن يمعنَ في الأمور، ويعيد معاينة المواقع قبل إعادة الهجوم العام، فتقدَّم بمفرده وفي يده منظار يعاين به تلك المواقع، وحذَّره الجنرال روليه من هذه المخاطرة، فلم يرتد حتى أطلقوا عليه قنبلة من السور أصابتْهُ في تلك الحالة، فخرَّ قتيلًا، وتولَّى القيادة مكانه الجنرال بيريجو رئيس أركان الحرب، فما عتَّم أنْ بدأ القيادة حتى أصابته رصاصة أوْدَتْ بحياته أيضًا، فوَقَعَ إلى جنب رئيسه ميتًا، فأصاب الجيش الفرنسوي من فَقْدِ القائدَين بلاءٌ عظيمٌ، وأُسْقِطَ في يد الجنود، وكادت أحوالهم تتضعضع لولا وجود الدوك دي نمور معهم، وهو أمير عاقل هدَّأ رَوْعَ الجنود في الحال، وسلَّم القيادة للجنرال فاله، فقام هذا القائد الجديد بمداومة الحرب وصوَّب كلَّ مدافعه على الباب الذي ذكرناه، وكان أحمد بك قد وَضَعَ وراءه أكياس الرمل فلم يُفِدْه ذلك، لأن مدافع الفرنسويين ظلَّت تنسف السور وما وراءه حتى اخترقته، وفتحت بابًا رأى الفرنسويون داخل المدينة منه، وعند ذلك صدر أمر القائد إلى جنوده بدخول المدينة، فدخلوها بعد أن قُتِلَ منهم عدد كبير على الباب، وفي الطرق التي ساروا منها إلى القلعة؛ لأن الطرق كانت ضيِّقة وقد تجمَّعت نساء العرب على سطوحها ترمي الفاتحين بالحجارة واللعنات، واختبأ الرجال في الحوانيت ووراء الجدران، وكان العرب يتصيَّدون الفرنسويين برصاصهم من شُرُفَاتِ المنازل وأسطحة الجوامع والمآذن أثناء ذهابهم إلى القلعة حتى إذا بلغ الفرنسويون القلعة التحموا وأعداءهم بقتال شديد يهول وصفه، فكان الفرنسويون يقاتلون بحرابهم والعرب بسيوفهم ونساء العرب بالخناجر والطبنجات، فكان يومًا عصيبًا وقتالًا شديدًا عجيبًا، فيه تفانى الفريقان وعَلَتْ الصيحات، ولا سيما من نساء العرب، واشتدَّ الهول، فما حُقِنَت الدماء وبَطَلَ البلاء إلا حين دخل الفرنسويون قلعة المدينة واستولوا عليها، ثم أداروا مدافعها على المدينة فجعلوا يطلقونها على الأحياء، ويفتكون بأهلها الفتك الذريع. وكان القائد العام والدوك دي نمور قد دخلا قصر أحمد بك بعد أن فرَّ الرجل منه. فلمَّا هدأت الحال وبَطَلَ القتال طلبا قاضي المدينة وأمراه أن ينشر في المدينة وجوامعها أن الفرنسويين لا يتعرَّضون للدين ولا لعوائد البلاد، وأنَّ احتلالهم عائد على البلاد بالخير، ففعل وكان هذا آخر حرب الفرنسيس لامتلاك مدينة قسنطينة.
وبرِحَ الجنرال فاله قسنطينة بعد أن تَرَكَ فيها حامية، ونَظَّم إدارتها الملكية والعسكرية، وعاد إلى عاصمة الجزائر في أواخر سنة ١٨٣٧، فلمَّا بلغها علم أنَّ عبد القادر اتحد مع أحمد بك، وأنَّ الاثنين هيَّجا القبائل لمعاودة العدوان، وأن القبائل المذكورة تقدَّمت على بلدة بليدا، وهي تبعد ساعات قليلة عن العاصمة — وستُذْكَر في باب السياحة — وبعضها زحف على الثغور الكائنة في قبضة فرنسا، وأرسل القائد جنودًا على الهاجمين، فدارت رَحَى الحربُ في إقليمَي قسنطينة ووهران مدَّة عامي ١٨٣٨ و١٨٣٩ على غير جَدْوَى حتى ثبت للقائد العام أنه لا يمكن احتلال الجزائر نهائيًّا إلا إذا قُضِيَ على الأمير عبد القادر؛ فأَرْسَلَ يقول ذلك لحكومته وطَلَبَ منها ٧٠٠٠٠ جندي لهذا الغرض. وبينا هو يعلِّل نفسه بنيل الحكومة العامَّة جزاء فتح قسنطينة وإجابة سؤاله، جاءه من وزير الحرب أنَّ الجنرال بوجو — الذي سبق ذكره — عُيِّنَ حاكمًا وقائدًا عامًّا للجزائر، وأنه وُضِعَ تحت أمره ٧٥ ألفًا من المشاة و١٣٥٠٠ من الفرسان، وأنه كُلِّفَ سحق عبد القادر مهما كلَّف ذلك من العناء.
وصل الحاكم العام بوجو عاصمة الجزائر في أوائل سنة ١٨٤٠، فبادر حال وصوله إلى إنذار القبائل بسوء العُقْبَى من البقاء على العناد، ودعاها إلى تسليم سلاحها للدولة الفرنسوية، وأتبع ذلك بالزحف من وهران وقسنطينة والعاصمة معًا، وكان الفريق الكبير تحت قيادته، والكل مجِدُّون في أثر عبد القادر حتى إذا بلغوا الميدية علموا أنه في الجبل ومعه ١٥ ألفًا من الجنود المشاة وعشرة آلاف من الفرسان، فتأثَّروه وأدركوه، ودارت الحرب معه سجالًا، فكسروه شرَّ كسرة، وحملوه على الفرار إلى الصحراء، وكان الجنرال لامورسيير في أثناء ذلك قد قام بجيشه من وهران والتقى بمبارك البلقاني — وهو مستشار عبد القادر ونصيره — معه ٤٠٠ مقاتل فكسره أيضًا، واستولى على ماله وأمتعة جيشه، وأكرهه على الفرار ووزَّع المال والأمتعة على القبائل الموالية. ثم إن الجنرال بيريجو قائد إقليم قسنطينة التقى بأحمد بك فقاتله وهَزَمَهُ شرَّ هزيمة، وكان ذلك آخر العهد بهذا الحاكم التركي؛ فإنه لم يُسْمَع عنه شيء بعد هذه المعركة، وفوق هذا فإن القبائل الموالية لفرنسا قاتلت القبائل المعادية لها وظهرت عليها، فكان النصر عامًّا شاملًا ولكنه لم يعد بالمطلوب؛ لأن عبد القادر فرَّ بمعظم رجاله، وعاد الجنرال بوجو إلى عاصمة الجزائر؛ ليستعدَّ لحملة جديدة تقضي على خَصْمِهِ، حتى إذا كان عام ١٨٤٣ قام بقوة كبرى ومعه رؤساء القبائل الموالية يرشدونه إلى محلِّ العدو، وَحَدَث أنَّ بعض العرب كمنوا له في الطريق وأطلقوا عليه عدَّة رصاصات على حين غرَّة فقتلوا الجواد من تحته، وأمَّا هو فنجا، وجدَّ رجال القبائل وراء هؤلاء الفاعلين فأدركوهم وقتلوهم عن آخرهم. وأرسل القائد العام طليعة يقودها الدوك دومال ابن الملك لويس فيليب رجالها ٦٠٠ فارس و١٣٠٠ رجل، ومعها المدافع الخفيفة ومئونة ٢٠ يومًا تحملها ٨٠٠ جمل، فالتقت هذه الطليعة بعبد القادر في أطراف الصحراء وقاتَلَتْهُ قتالًا شديدًا، كثُرَ فيها صراخ النساء وعوليهنَّ، وعَظُمَ البلاء حتى فاز الفرنسيس، وكانوا يظنُّون أنَّ عبد القادر وَقَعَ في يدهم، فإذا هو قد فرَّ مرة أخرى من وسطهم، وقد رأيت صورة هذه المعركة في قصر فرسايل المشهور، وكان لها تأثير عظيم في فرنسا، وكان من نتائجها أنَّ القبائل المتذبذبة أذعنت لفرنسا، ولا سيَّما أن عدد الأسرى فيها من المغاربة بلغ ٣٠٠٠، تسعة أعشارهم نساء. ولمَّا كان الدوك دومال قد أسرع في الهجوم، فهو لم يترك وقتًا لعبد القادر حتى يفرَّ بما معه، ولكنه تَرَكَ أوراقه وخزينته وأمتعته الثمينة، والعَلَم الذي كان يُرفع أمامه وكثيرًا من عدده وبغاله، فكان كلُّ هذا غنيمة عادت على الدوك دومال بالفخر العظيم، وقد قابله القائد العام حين رجوعه ظافرًا وحيَّاه معانقًا له، وهنَّأه برتبة مارشال، وهنَّأ الزعيم العربي مصطفى بن إسماعيل برتبة جنرال أنْعَمَ بها ملك فرنسا عليه، ولكنَّ هذا الزعيم لم يهْنَأ بهذه الرتبة زمانًا؛ لأنه قَتَلَه العرب في كمين حين كان راجعًا بالغنائم إلى وهران، وعمره يومئذٍ ٨٠ سنة.
وعاد القائد العام والدوك دومال إلى العاصمة فطَلَبَ نجدة جاءته حتى صار عدد جيوشه أكثر من مائة ألف جندي، وكان عبد القادر قد ضاقت به المسالك بعد هذه الكسرات، حتى إنه دخل بلاد مراكش؛ ليطلب المعونة من أهلها ويحضَّهم على المجاهدة مع قومه، فدخل مدينة وجدة — وستُذْكَر في باب السياحة — وأرسل إلى السلطان سيدي عبد الرحمن يعرض عليه أن يضمَّ الجزائر إلى أملاكه، ويجعله عاملًا له عليها، فأرسل السلطان في ٢٠ مايو من سنة ١٨٤٤ قائدًا اسمه ابن الكناوي معه ٧٠٠٠ جندي انضمُّوا إلى عبد القادر ورجاله وهم ٥٠٠، فأسرع القائد العام من الجزائر لمقابلة هذه القوة، ولكنه تحاشَى الدخول في حربٍ مع سلطان مراكش؛ حتى لا يتسع خرْقُ القتال، فأرسل ياورًا لمقابلة القائد المراكشي ومخابرته بالصلح، وبهذا عُيِّنَ يوم ١٥ يونيو موعدًا للمقابلة على ضفَّة جدول صغير اسمه أسلي، فلمَّا جاء الموعد ذَهَبَ الرجل ومعه حاكم تلمسان والقاضي والمفتي وبعض العلماء، فما بدأ الحديث بين بوجو وابن الكناوي حتى تداخَلَ الضباط المراكشيون وعَلَتْ أصواتهم وكثرت الجَلَبة حتى تعذَّر سماع الحديث بين القائدين، ولكنهم سمعوا صوت البنادق، ورأى القائد الفرنسوي أنَّ العرب تحمَّسوا يريدون القتال، ولم يقدر ابن الكناوي على ردِّهم، فأمر جنوده بالقتال، وبهذا عادت الحرب وانْجَلَتْ تلك المعركة عن فوزٍ تامٍّ للفرنسويين، وفرَّ المراكشيون إلى بلادهم والفرنسويون وراءهم يضربون في ظهورهم حتى غابوا عن الأنظار، ولكنَّ هذا الانتصار لم يُرْجِع المراكشيين عن الشر؛ لأنهم عادوا في أواخر السنة المذكورة تحت قيادة ولي عهد مراكش، واسمه سيدي محمد عبد المؤمن، وهم عشرة آلاف راجل وخمسة عشر ألف فارس ومعهم ١١ مدفعًا، وعسكروا على ضفَّة نهر أسلي، وكانت فرنسا قد أرسلت بوارجها إلى طنجة تحت قيادة البرنس دي جوانفيل، فلمَّا بَلَغَ ذلك الثغر أرْسَلَ إلى سلطان مراكش يلومه على محاربة فرنسا بدون علَّة أو إنذار سابق، وطَلَبَ منه عزل حاكم وجدة وطَرْد الأمير عبد القادر من مراكش، وأعطاه مهلة ١٥ يومًا إذا انقضت ولم يُجِبْ سؤاله أطلق المدافع على الثَّغْرِ، فورد عليه الردُّ من السلطان بأن الاعتداء كان من القائد الفرنسوي ولم يُشِرْ إلى بقيَّة المطالب؛ ولذلك أُطلقت المدافع على ثغرَي طنجة ومداغور، فأحدثت فيهما ضررًا كبيرًا.
قلنا إن جيش مراكش تحت قيادة ولي العهد عسكر على نهر أسلي، وكان الجنرال بوجو يتقدَّم على هذه الجهة ومعه ٨٥٠٠ من المشاة و١٤٠٠ من الفرسان، فلمَّا بلغها نَصَحَ للقائد المراكشي أن يعود إلى بلاده بلا قتال، فلمَّا أبى الرجل أمر القائد بوجو جيشه بالهجوم ففعلوا وفتكوا بالمراكشيين وبدَّدوا شملهم وجعلوهم يهربون طلبًا للسلامة، فكان هذا خاتمة القتال بين فرنسا ومراكش وعَدَلَ، المراكشيون عن الانتصار للأمير عبد القادر، وعَظُمَ قدر الجنرال بوجو بعد هذه المعركة، فأُعْطِيَ لقب دوك أسلي، وعاد إلى عاصمة الجزائر قرير العين كثير الافتخار.
وتفرَّغ الجنرال بعد هذا لإخضاع القبائل المتمرِّدة من أهل الجزائر، مثل قبيلة أولاد رباع، سيَّر عليها الكولونيل بلبسيه، فلمَّا دخل أرضها فرَّت القبيلة من وجهه إلى كهوف قديمة العهد من أيام الرومانيين واعتصموا بها، فَحَاوَلَ الكولونيل أن يخرجهم منها بالنُّصح فأبوا وآثروا الموت في تلك الكهوف على التسليم، حتى إذا نفدت حيلة الكولونيل أَمَرَ رجاله أن يحيطوا المغائر بأعشاب ويُضْرِموا النار فيها على أمل أن يخرج القوم متى أحسُّوا بالنار، ولكنهم أصرُّوا على البقاء حتى هلكوا عن آخرهم هلاكًا شنيعًا، وكان عدد الموتى لا يقلُّ عن ٦٠٠، وكان ذلك في منتصف شهر يونيو من سنة ١٨٤٥، وكان لهذه الحادثة أسوأ وقْع في فرنسا؛ لأن نفوس أهلها نَفَرَتْ من هذه القسوة الوحشية، وأنكرت هذا الصنيع، وهبَّ النواب والكُتَّاب للتقريع والتنديد بكلِّ لسان، فقابلوا ما بين الأتراك الذين حكموا الجزائر بنفرٍ من المتطوِّعين ولم ينفقوا عليها شيئًا، وبين فرنسا التي جرَّدت عليها أكثر من مائة ألف جندي منظَّم، وبلغت نفقات حكومتها فيها مائة مليون فرنك كل سنة، وما زال تيَّار التنديد مندفعًا حتى استقال الجنرال بوجو من منصبه إرضاءً للجمهور، وذَهَبَ إلى باريس ليدافع عن نفسه، فبقي الجنرال لامورسيير حاكمًا عامًّا مكانه في ٢٤ أوغسطس من السنة المذكورة، وكان عزل بوجو من أحبِّ الأمور إلى الأمير عبد القادر؛ لأن الأمير كان يخاف شرَّ هذا القائد، ويحسب أكبر حساب لتدبيره في الحروب.
ودخلت سنة ١٨٤٦ والجنود مشتبكة بالحرب مع أهل الجزائر في كلِّ مكان، والنصر غير معروف لأحد الجانبين، وحدث في هذه السنة أنَّ شيخ قبيلة السواحلية أخبر القائد الفرنسوي في جهته أنَّ الأمير عبد القادر دخل أرضه، وكان الشيخ يُضْمِرُ الشر للفرنسويين، فلمَّا سمع القائد الفرنسوي بالخبر أرسل في الحال ٢٥٠ جنديًّا وكلَّفهم القبض على الأمير، وكان معهم ٦٠ فارسًا، فلمَّا بلغت هذه القوة موضعًا اسمه سيدي إبراهيم وجَدَتْ عبد القادر كامنًا لها بقوة كبيرة، ورَأَتْ أنَّ العرب أحاطوا بها، فصاح القائد برجاله أن دافِعوا عن أنفسكم حتى الممات، فقاتلت قتال الأبطال وأَبَتِ التسليم حتى هلكت عن آخرها تقريبًا، ولكنها استمرَّت على الجهاد أيامًا، وما نجا منها غير ١٤ رجلًا بلغوا المعسكر الفرنسوي بعد البلاء الشديد، وقصُّوا قصة هذه المجزرة الشنعاء، وبلغت أخبار هذه الحادثة فرنسا فكثر تضجُّر الناس من استمرار البلاء والشقاء في الجزائر ومن كثرة أهوالها الشنيعة، ووقعت الحكومة في حيص بيص لا تدري ماذا تفعل، حتى إنها أرسلت وراء الجنرال بوجو واسترضتْهُ وعرضت عليه القيادة العامَّة من جديد، فأفرغ الجنرال جُعْبَة حقده على الوزراء الذين عزلوه، وأفاض في سوءِ حالة الجزائر من بَعْدِ عزله مؤيدًا قوله بكتاب ورد إليه من صديقه الجنرال لامورسيير الذي حلَّ محلَّه، ونُشِرَ هذا الكتاب في الصحف بلا إذن الوزارة، فعدَّ فعله خرْقًا لقانون المخابرات الرسمية، وجعل الناس يتحدَّثون بمحاكمة بوجو على هذه الفِرْية، فإذا بالحكومة قد أعادت تعيينه ووضعت بارجة حربية في خدمته تنقله إلى الجزائر، فاطمأنَّت القلوب وعادت الآمال بالنصر؛ لما كان لذلك القائد من الاحترام في نفوس الفرنسويين.
وَصَلَ بوجو في أواخر سنة ١٨٤٦ فنشر إعلانات الشكر على جنوده، وإعلانات التحذير والإرهاب على القبائل المعادية لفرنسا، ثم قام في أثر عبد القادر بقوَّة كبرى فدخل إقليم وهران، وجعل الأمير يتقهقر أمامه من موضع إلى موضع، وهو لا يلْقَى من أكثر القبائل إلا صدودًا وإعراضًا، وجاء الدوك دومال من فرنسا في أوائل السنة التالية مصمِّمًا على أَسْرِ عبد القادر أو قَتْلِه، وإنجاز هذه الحرب التي طال عهدها، فهمَّ في اقتفاء آثاره. وكان عبد القادر يلْقَى الملل من القبائل وخور العزائم، فثبتَ له أن البقاء على هذه الحالة مُحَال، ورأى بعد التفكير الطويل أن يسلِّم لفرنسا مختارًا، ويخلص من العناء الذي قضى فيه كلَّ تلك السنين، وهي لا تقلُّ عن عشرين، ثم أنه قَطَعَ الأمل من مساعدة إنكلترا ومراكش وقبائل العرب، فأرسل يطلب مقابلة الجنرال لامورسيير، وهو أقرب قُوَّاد فرنسا إليه ويخبره بعزمه على التسليم، فلمَّا قابله بادَرَ بتسليم سيفه وختمه في الحال علامة الخضوع وزوال السلطة، وطلب من القائد أن تعامله فرنسا بالحُسْنَى، وأن ترسله إلى الإسكندرية ليموتَ في أرض إسلامه، وكان ذلك في أواخر سنة ١٨٤٧.
وأُخِذَ الأمير عبد القادر أسيرًا إلى طولون في بارجة حربية، فبقي فيها مدَّة مع حاشيته في إحدى القلاع، وكان عدد مَنْ معه ٨٨ شخصًا، ثم أَمَرَتْ حكومة فرنسا بتحسين حاله فنقلته إلى مدينة إمبواز، وأعطته قصرًا له حديقة كبرى، وجعلت ضابطًا برتبة ميرالاي، اسمه دوماس حارسًا عليه، فلَزِمَ غرفته ولم يفارقها، حتى إن حارسه قال له مرارًا أن يتمشَّى في الحديقة لاستنشاق الهواء مراعاةً لصحته، ولكن عبد القادر كان يجيبه أنَّ هذا الهواء ليس هواء الحرية. يُرْوَى أن وزير الحرب سأل الميرالاي دوماس ذات يوم ماذا يفعل عبد القادر كلَّ يوم؟ فأجاب: إنه يستيقظ الفجر من النوم فيصلِّي صلاة الفجر ثم الظهر ثم العصر والمغرب والعشاء، وما بين أوقات الصلاة يقرأ القرآن، وحَدَثَ أنَّ حكومة لويس فيليب انقلبت على عهد الثورة الفرنسوية الثانية سنة ١٨٤٨ في باريس، وعبد القادر يومئذٍ في إمبواز فأحزنه هذا الانقلاب؛ لأن الدوك دومال ابن أخي الملك كان قد وَعَدَه بالنقل إلى بلاد إسلامية، وَحَدَث في السنة التالية أنَّ رجاله اشتجروا مع الحرس؛ إذ صمَّموا أن يخرجوا من أَسْرِهِم بالقوة، وهم يقولون للحُرَّاس إن سيدهم لم يُؤخذ أسيرًا بل سلَّم تسليمًا، وعليه طُلِبَ الأمير عبد القادر إلى باريس ليقابل رئيس الجمهورية — وهو لويس نابوليون الذي صار امبراطورًا بعد ذلك — فذهب ولقي لطفًا وإكرامًا زائدَين من ذلك الرئيس الذي عَرَضَ عليه قصر التريانون في فرسايل أو الإقامة في بلاد شرقية، فآثر الشرق، ونال وعد الرئيس بإجابة طلبه، ثم خابَرَ الدولة العليَّة في الأمر فتمنَّعت في البداية، وقَبِلَتْ بعد مخابرة دامت سنتين أن يقيم الأمير ومَنْ معه في مدينة بورصة، ولمَّا جاء هذا الرد أراد البرنس نابوليون أن يزفَّ هذه البشرى للأمير عبد القادر بنفسه فذهب إلى قصره والأمير غير عالم بما تمَّ، ولمَّا أخبروه أنَّ البرنس ينتظره في قاعة الاستقبال خفَّ إليه حالًا فوقف البرنس له وعانقه ثم أعلنه بالخبر، ففرح الأمير كثيرًا وشَكَرَ رئيس الجمهورية، وودَّعه مرارًا مردِّدًا آيات الشكر، ثم دخل إلى حريمه ليبشِّر مَنْ معه بهذا الخبر المليح.
وبعد هذا بأيام قليلة تقابل الأمير عبد القادر والبرنس نابوليون في الأوبرا الباريسية، وكانوا قد أعدُّوا له لوجًا، واكتظَّ المكان بالكبراء والغادات ليروا هذا الأمير العربي ويراهم، فكانت الأنظار كلها متَّجهة إليه مدَّة التمثيل، ولمَّا خرج بين الفصول ليقابلَ رئيس الجمهورية اصطفَّ له الناس على الجانبين وحياه الرجال برفع القبعات والسيدات بإحناء الرأس، فسرَّه هذا الإكرام؛ لأنه كان يخشى أن يعاملوه بغير ذلك بداعي أنَّ أكثر العائلات فُقِدَ منها أفراد في حرب الجزائر، وقابله الرئيس هذه المرة أيضًا بالإكرام العظيم مصافحًا له على الطريقة العربية بتقبيل العارِضَين، ثم وَعَدَه بمقابلة رسمية بعد رجوعه من صيدٍ كان قد استعدَّ له، فلمَّا رجع ذهب عبد القادر إلى قصره في سان كلو فقُوبل بالحفاوة الكبرى، وحَدَثَ أنه رأى في القصر ساعة كبيرة تدلُّ على الوقت في كثير من المدن المشهورة وفي جملتها مكَّة، فلمَّا علم منها أن الساعة توافق ساعة العصر في مكة طَلَبَ أن يصلِّي، ثم جعل ساعته على حساب ساعة مكة، ولمَّا انتهى من ذلك قابل رئيس الجمهورية، وقدَّم له قصيدة من نَظْمِهِ بالعربية — لم أقف على نصِّها — وأهداه البرنس سيفًا مرصَّعة قبضته بالجواهر قيمته ١٥٠٠٠ فرنك، راجيًا منه ألا يستعمله في محاربة فرنسا، ثم رَجَعَ عبد القادر إلى إمبواز واجتمع بوالدته فبشَّرها بالانتقال إلى بلاد إسلامية، وكان الفرح عامًّا في بيته ذلك النهار، وَحَدَثَ قبل مبارحة الأمير إلى بورصة أنَّ لويس نابوليون أصبح إمبراطورًا، فحضر الأمير عبد القادر الاحتفال بتتويجه في قصر التويلري يوم ٢ ديسمبر سنة ١٨٥٢، ومن غرائب الدهر أنه في مثل هذا اليوم — أعني في ٢ ديسمبر سنة ١٨٣٢ — نُودي بالأمير عبد القادر أميرًا للعرب، وذلك منذ ٢٠ سنة.
وسافَرَ الأمير في أواخر سنة ١٨٥٢ إلى الآستانة في باخرة حربية فرنسوية، فلمَّا بَلَغَها ذهب للصلاة في أحدِ الجوامع، ثم قَصَدَ سفارة فرنسا وسأل السفير أن يبلِّغَ شكره لدولته على ما أتت معه من الجميل، ثم تشرَّف بمقابلة السلطان عبد المجيد، وتوجَّه إلى بورصة مع جماعة كثيرة من المغاربة تبعوه إليها، حتى إن مرتَّبه أصبح قليلًا لا يكفيه، ولم يهْنَأ هذا الأمير بعيشة بورصة؛ لأن أهلها يجهلون العربية، ولم يحفلوا به حتى قيل إن واليها لمَّا سُئِلَ أن يرسل إليه عربة، قال: ما بال هذا العربي لا يركب جملًا! فطلب أن ينتقل إلى دمشق الشام، وأُذِنَ له بذلك بعد مخابرات بين فرنسا والباب العالي.
وتاريخ عبد القادر في الشام معروف، فإنه طابت له الإقامة فيها، وأحبَّ أهلها وعاشَرَ أكابرها، وأتى حسنة في سنة ١٨٦٠ يخلِّدها التاريخ له إلى آخر الدهر؛ لأنه حَمَى ألوفًا من الذَّبح حين ثار الأهالي على المسيحيين، وعَرَفَت الدول بمروءته فأغدقت عليه نياشينها، وما زال يتقلَّب في نِعَمِ الشام وفضله يتدفَّق على ألوف من اللاجئين إلى ساحته حتى توفَّاه الله فيها في سنة ١٨٨٨، وكان له يوم وفاته عشرة بنين وست بنات وخمس زوجات، فأمَّا البنون فهم الأمير محمد باشا، ومحيي الدين باشا وكلاهما في الآستانة الآن، والأمير هاشم تُوفِّي في الجزائر، والأمير أحمد وهو في دمشق مع أخيه الأمير عبد الله، والأمير إبراهيم تُوفِّي في دمشق، وعلي باشا وهو الآن عضو مجلس الإدارة في ولاية سورية وصهر دولة عزَّت باشا العابد، والأمير عمر وهو أيضًا في دمشق، والأمير عبد الملك في الآستانة، والأمير عبد الرازق في دمشق.
من مرسيليا إلى جزاير الغرب
إن السفر إلى الجزائر ممكنٌ من مرسيليا إلى عاصمة ذلك القُطْر على أقرب الطرق، ولكنني اخترت الذهاب منها إلى وهران أولًا لما أنَّ وهران هذه واقعة على مَقْرُبَةٍ من مدينة تلمسان عند حدود مراكش؛ لكي أدخل مراكش منها، وعليه ركبتُ باخرة من سفن شركة ترانس أتلانتيك الفرنسوية، وكان في جملة رُكَّابها عدد يُذْكَر من الإسبانيين ذاهبين إلى وهران؛ ليسافروا منها إلى قرطاجنة، وهي مدينة إسبانية على شطوط إسبانيا الجنوبية تبعد عن وهران نحو ٤ ساعات، ومنها يتقدَّم المسافرون إلى داخلية إسبانيا، وكان سير الباخرة إلى الغرب، وقد قام على يمين وجهتها قلعة ديف، وإلى اليسار صخور رملية كأنها الرابيات، وبعد أن غابت مرسيليا عن الأنظار وسارت الباخرة في عرض البحر بقينا يومًا على هذه الحالة حتى ظهرت لنا في الغد جزائر باليار، فجعلت الباخرة تسير أمامها، وهي من أملاك إسبانيا، مساحتها ٥٠١٤ ميلًا مربَّعًا، وقاعدتها ماجوركا، وعدد أهلها ٣١٢٦٥٥ نفسًا. وحَدَثَ أن بعض آلات الباخرة تعطَّل عند هذه الجزر، فتعطَّل سيرها نحو ساعة ريثما أُصلحت، واضطرب الركاب ولا سيما النساء منهم، فما هدأ الروع إلا بعد أن علموا حقيقة الحال، ولكن القوم عادوا إلى الاضطراب في الليل بسبب هياج البحر وتعالي أمواجه.
ولمَّا كان صباح اليوم الثالث أطلَّت الباخرة على شطوط وهران، فرأينا جبل موجاجو وعلى قمَّته قلعة سانتا كروز بناها ماركيز إسباني بهذا الاسم سنة ١٧٠٨، ولمَّا بطلت أهميتها بنى الفرنسويون قلعة جديدة على الجبل المذكور. وقد أَخْبَرني أحدُ ضُبَّاط الباخرة أنه يمكن للمرء أن يرى بعض ثغور إسبانيا، مثل قرطاجنة والميرية من هذا الجبل حين يكون الجو صافيًا. ولمَّا ألقت الباخرة مَرْسَاها في مرسى وهران كان قد مرَّ علينا ٤٠ ساعة في السفر من مرسيليا، وتأمَّلنا المدينة عند ذلك، فإذا نصفها مبنيٌّ على الجبل المذكور، وهو أجرد أقرع لا خضرة فيه ولا نَبْت، والنصف الآخر في لحْفِ ذلك الجبل، فلا بدَّ من السير صعدًا، والدوران المألوف للذي يريد الذهاب من المينا إلى البلد؛ ولهذا ركبنا عربة من الفندق تجرُّها أربعة أفراس وجعلت تسير بنا الهوينا، وهي تتقدَّم صعدًا بسير رويدة مرَّة تنثني إلى الشمال، ومرَّة إلى اليمين، ولحظتُ أنَّ عربات العفش تجرُّها ٦ أفراس، ولو قلَّت أحمالها بالنظر إلى صعوبة السير في هذه الطرق. ولمَّا بلغتُ الفندق أرسلتُ نظري إلى البحر فإذا الباخرة التي جئتُ بها راسية في منخفض كأنه وادٍ عميق.
وهران
في هذه المدينة حوالي ٧٢٧٣٨ نفسًا من السكَّان، منهم نحو ٣٦ ألفًا من المسلمين، و٢٤ ألفًا من الفرنسويين، و٨ آلاف من اليهود، والبقيَّة خليط من الأجانب الشرقيين والغربيين، وهي قاعدة إقليم وهران، فيها الدوائر الإدارية والعسكرية، وتُعْرَف عند الفرنسويين باسم أوران، ولعلَّ اسمها محرَّف عن «خوران»؛ لأنها كانت في الأصل مبنيَّة بين خورين تجري المياه فيهما مدَّة الشتاء.
ولا بدَّ من القول هنا أنَّ وصف مدائن الجزائر لا يتضمَّن ذكر العمائر الفخيمة والمشاهد العظيمة والمتنزَّهات البديعة كالتي ورد ذكرها في مدن أوروبا وأميركا، ولكن المزيَّة هنا في اختلاف العناصر وأجناس البشر، مما يقلُّ نظيره، وفي قيام المدن الداخلية على قمم الجبال يختلف علوُّها ما بين ٦٠٠ متر و٧٠٠، ومن حولها الأودية المتَّسعة كثيرة الزرع والغرس. ولكلٍّ من هذه المدن أسوار عالية يُرَاد منها الدفاع ساعة اللزوم، مثل وهران هذه، لها سور يحيط بها وارتفاعه ٥ أمتار، وقد جعلوا له ٤ أبواب في جهات الأرض الأربع، فلا بدَّ من المرور في أحدِ هذه الأبواب لداخل البلدة، والناس هنا تعرف أجناسهم من اختلاف ملابسهم، فالمسلم يلبس الطربوش المغربي الكبير وله زر (شرابة) طويل يبلغ الأكتاف تقريبًا، فإذا لم يكن لطربوشه زر لفَّ عليه عمامة بسيطة أو مجدولة كالحبل من شعر الجمال، وله صديري صدري بأزرار وحزام أحمر عريض، وسراويل فوق سراويل قصيرة إلى عند الركبة، ومن تحتها جوارب بيضاء صنع اليد، وحذاء أصفر مكشوف. ونساء المسلمين يبالغنَ في التحجُّب والتستُّر تلتفُّ الواحدة منهنَّ بحرام من الصوف فلا يظهر منها غير إحدى العينين، ولم ألتقِ مدَّة وجودي إلا بامرأة واحدة؛ لأن المرأة المسلمة لا تخرج من منزلها، وإذا ما دخلت بيت زوجها بقيَتْ فيه إلى يوم الممات، ولم تتعرَّف بجاراتها من النساء، وفي ذلك مبالغة في الحجاب قليل مثلها في بقيَّة الأقطار. وأمَّا اليهود من أهل هذه المدينة فلبسهم يُعْرَف بالعمامة البيضاء أو السوداء، والسراويل فوقها القفطان، وبعضهم يلبس الطربوش المغربي فوق الملابس الإفرنجية، ونساء اليهود يلبسنَ الفساطين البسيطة، ومن فوقها شال، وعلى الرأس منديل. ولليهود قوة سائدة هنا حتى إن يوم السبت يُعَدُّ بمثابة العيد في المدينة، يُقْفَلُ فيه قسم كبير من المخازن والحوانيت، وتجلس نساء اليهود أمام البيوت بالملابس المقصَّبة والحريرية وبأنواع الحلي.
ويكثر العنصر الإسباني في وهران وإقليمها؛ لأن إسبانيا استولت عليها نحو ٢٥٠ سنة، وأمَّا الآن فإن المنظر الأهمَّ فيها لجنود فرنسا؛ لأنها الدولة المالكة ولجيشها شهرة في نظامه وهندامه، والفيلق الفرنسوي المعسكِر في الجزائر يُعَدُّ طليعة الجيش في كلِّ حرب تقع لدولته في الشرق، مثل مدغسكر أو الصين؛ ذلك لأنَّ هذه الجنود لها قدرة على احتمال الحرِّ ومتاعب السفر، ولها شُهْرَة بالبسالة تُضْرَبُ بها الأمثال.
وتُقَسَّم وهران أحياء عديدة، يربط بعضها ببعض خطوط ترامواي متصلة إلى جميع الأطراف، ومركزها العمومي موضع يُعْرَفُ باسم ميدان السلاح هو أحسن نقطة في المدينة، وقد جعلوه في وسطها مستديرًا متوسِّط الاتساع، وفيه أشجار من العناب والنخل والخرُّوب تنمو مع المعالجة الدائمة؛ لأن الأرض صخرية والماء قليل. وفي طَرَفِ هذا الميدان بناء الحكومة فيه المصالح الأميرية وقلم الجوازات وقلم المواليد والوفيات، وقد وضعوا عند مدخل هذا البناء أسدَين كبيرَين من الرُّخَام الأبيض. ارتقيتُ الدور الأعلى من هذا البناء على سُلَّمٍ من الرُّخَام الأبيض والأصفر كالموجود في جامع قلعة مصر، وأصله من مديرية بني سويف، كما أنَّ أصل هذا السلم في بناء وهران من مقلع إلى جانبها. وفي الطرف الآخر من هذا الميدان نادٍ للضباط لا يدخله سواهم، وقد بُنِيَ داخل حديقة صغيرة تَصْدَح الموسيقى العسكرية فيها كل يوم بعد الظهر، وقد تُقام فيه حفلات يُدْعَى إليها الأعيان والوجوه. وفي وسط الميدان تمثال سيدي إبراهيم يمثِّل حادثة تاريخية، هي أنه لمَّا كانت الحرب سجالًا بين الفرنسويين والأمير عبد القادر صاحب الجزائر في سنة ١٨٤٥، أحاطت جنود الأمير على كثرتها بشرذمةٍ من رجال الفرنسيس، فصاح القائد الفرنسوي برجاله ألا يسلِّموا وأن يدافعوا حتى الممات، فقُتِلُوا عن آخرهم أبطالًا مجاهدين، ونُصِبَ هذا التمثال في سنة ١٨٩٨؛ لإحياء ذكرهم، كما ذكرت في فصل التاريخ. والأثر عمود من الرُّخَام، في أعلاه تمثال غادة حسناء تمثِّل فرنسا، وفي يدها قلم كتَبَ على العمود بحروف الذهب هذه العبارة: «دافعوا حتى الممات.»
وفي هذا الميدان محطَّة الترامواي العمومية، ومنه تتفرَّع أحسن شوارع المدينة، بدأتُ الفرجة بأحسنها، وهو شارع سيجين، على اسم أحد القُوَّاد الفرنسويين، يشبه شارع الموسكي في مصر بحركته التجارية المهمة وكثرة المختلفين إليه من وكلاء المعامل الأوروبية، ولا سيَّما معامل ألمانيا، يعرضون مصنوعاتها على التجار الأجانب والوطنيين، ويشترون منهم أنواع الجِلْدِ والصوف والشمع. ولمَّا انتهيتُ إلى آخر هذا الشارع سلكتُ شارعًا آخر ينتهي إلى ضاحية باسم غامبتا، وفيه تمثال السياسي الشهير المعروف بهذا الاسم، كُتِبَ على قاعدته أنه تذكار من أهل وطنه العارفين فضله، وهنالك حانات يختلف إليها جماهير الناس، وهي تُشْرِفُ على الوادي الكائن تحت المدينة، وسِرْتُ أيضًا ذلك النهار في شارع سفاستوبول، فانتهيت منه إلى قرية المغاربة، واسمها عند الفرنسويين قرية العرب، رأيتُ الأولاد يلعبون في طُرُقَاتها، والرجال جالسين أمام الأبواب، والقرية واطئة الموقع، ولكنها نظيفة قد لا يخلو منزل فيها من شجرة تين أو عناب أمامه؛ طلبًا للظل وفرارًا من أشعَّة الشمس الكاوية. وأمامها قرية العبيد إذا دخلهَا المرء حسب نفسه في داخلية السودان. وعلى مَقْرُبَةٍ من ميدان السلاح جامع الباشا، بناه محمد باشا حاكم وهران سنة ١٧٩١، وتهدَّم على ممرِّ الأيام، فَذَهَب وفدٌ من أهالي المدينة إلى باريس يرجو الإمبراطور نابوليون الثالث بترميمه على نفقته؛ فأذِنَ وكتبوا على بابه هذه العبارة: «إن نابوليون الثالث أمر بترميم هذا الجامع سنة ١٨٥٧.» قرأتُهَا ودخلتُ الجامع، فوجدتُ فيه أروقة ملبسة بالقيشاني الأزرق، وفيها مدرسة للصبيان، وفي داخل الجامع مغاربة التفُّوا بالأحرمة بعضهم في صلاتهم والبعض نائم، وقد دعاني شيخ هذا الجامع للصعود معه إلى الصومعة، أو هي المئذنة، ففعلتُ ورأيت البلدة بكلِّ ضواحيها من ذلك المكان.
وزُرْتُ بعد ذلك الأحياء السفلى من المدينة، يسمُّونها بذلك تمييزًا لها عن الأحياء العليا. وهذه الأحياء مثل بلد قائم بنفسه، سِرْتُ في شارع كليبر، منها وشارع ملاكوف وشارع الجمهورية، وكلها أسماء فرنسوية حلَّت محلَّ الأسماء العربية القديمة، حسب عادة الفرنسويين في أملاكهم، وقد زرعوا بعض الشجر في هذه الأحياء السفلى، فَنَمَتْ فيها خلافًا للأحياء العليا. ويتصل بها متنزَّه يبتدئ من رأس المدينة، اسمه لتانج على اسم قائد فرنسوي تفرَّد في حرب الجزائر، ثم صار حاكمًا لإقليم وهران. ويمتدُّ هذا المتنزَّه إلى الأحياء السفلى متعوِّجًا ملتفًّا، فيرى السائر فيه البحر ونهر الرحى — سُمِّي بهذا؛ لأنَّ الرَّحَى أو المطاحن أُقيمت عليه في أيام العرب وكانوا يديرونه بضغط الماء — وقد غرسوا في الصفِّ الأيسر من هذا المتنزَّه أشجارًا من الرمان والتين والزيتون.
ويُقال على الجملة إن هواء وهران على غاية الجودة، وهو ناشف خالٍ من الرطوبة، وقد زُرْتُ مدَّة إقامتي فيها عدَّة أماكن غير التي ذكرتها، ولكنها لا تهمُّ القُرَّاء، وتركتُهَا بعد ذلك قاصدًا تلمسان، وهي على بُعْدِ ١٦٥ كيلومترًا، يجتازها القطار في ٥ ساعات، وكان أول هذه المسافة سهلًا فسيحًا لا ترى العين آخره، زُرِعَتْ فيه الحبوب والكروم وأشجار التين والزيتون، وكثرت فيه القناطر الحديدية فوق جداول الأنهر، وفيه عدَّة ينابيع يتفجَّر الماء من أرضها، وتُرْوَى بمائها المزارع والأغراس. وظللنا على هذه الحالة حتى بلغنا بلدة أبي العباس، وهي في منتصف الطريق، اسمها بلسان المغاربة بلعباس، وتُعَدُّ مركز قبيلة بني عامر التي اشتُهرت بالحرب تحت قيادة الأمير عبد القادر؛ ولذلك رأت حكومة فرنسا في سنة ١٨٥٠ أنْ تجعلها من مراكز الجيش الفرنسوي، فهي اليوم مدينة فرنسوية محضة، فيها مياه كثيرة من نهر مخارة، وأرضها خصبة طيبة فلا يقلُّ سكانها الآن عن ٢٧٠٠٠ نفس. ووَقَفَ القطار في هذه المحطة نصف ساعة انتهزت فرصتها وركبتُ عربة دارتْ بي في الطرق والشوارع، فألفيتُهَا نظيفة زُرِعَتْ أشجار الدلب إلى جانبيها مثل شوارع مرسيليا، ولها تياترو يأتون له بجوق فرنسوي كل سنة، وفيها سوق على شاكلة أسواق المدن الأوروبية. وعُدْتُ إلى القطار في موعد قيامه، فعاد بنا إلى المسير في وادٍ بين جبلين، وفيه نهر تليتات، مثل كلِّ أنهر هذه البلاد، أو بلاد الشام، وهي جداول قليلة المقدار.
تلمسان
وأمَّا تلمسان فإنها من أجمل مدن الجزائر الداخلية، وُجِدَت في بقعة من الأرض تكثر فيها ينابيع الماء، فهي ملأى بالحدائق والبساتين، تُزْرَعُ فيها كلُّ أشجار فرنسا وأثمارها، ولمنظرها عامَّة رونق وبهاء، يبلغ عدد سكانها الآن حوالي ٣٥٠٠٠، منهم ٣٥٠٠ فرنسويون، و٤٥٠٠ يهود، والبقيَّة من الأهالي. وقد بُنِيَتْ على جبل ارتفاعه ألف متر، ومن حوله الأودية مرصَّعة بالقرى تحكي مناظر جبل لبنان. وفي المدينة وضواحيها مواضع ومتنزَّهات كثيرة تستحقُّ الذكر، مثل غاب بولونيا والشلَّال وبلدة سيدي أبي مدوين وجامعها المشهور، ومدينة المنصورة بُنِيَتْ سنة ٥٣٠ هجرية/١١٤٥ مسيحية. وبداخلها قلعة يسمُّونها قصر المشورة؛ لأن العرب كانوا يعقدون المجالس فيها للمشاورة، وقد دخلناها من باب عالٍ متسع فوقه ساعة فلكية من الساعات العربية القديمة، كان لها شهرة مثل ساعة ستراسبرج في هذه الأيام، ولكنها تخرَّبت من طول الزمان، وقد جعلوا هذا الموضع الآن مركزًا للإدارة العسكرية الفرنسوية، وبنوا فيه أبنية كثيرة على النسقِ الأوروبي. ولهذه القلعة ساحة داخلية طولها ٥٠٠ متر، وعرضها ٣٠٠، ولها سور سمكه ٣ أمتار تقريبًا. ومما يُرْوَى عن محاسن هذا القصر في أيام العرب، أنَّ يوسف بن تاشفين أَمَرَ بأن تُوضَعَ في ساحته شجرة من الفضة، وفيها الطيور على أشكالها من الفضة أيضًا، وأنها تتحرَّك وتخرج أصواتًا كلَّما هبَّ عليها الهواء.
وسِرْتُ في شارع فرنسا من شوارع هذه المدينة، ما بين أبنية ذات دور واحد وصفوف من الحوانيت تُباع بها السلع الإفرنجية والعربية. وفيها القهاوي، بعضها للفرنسويين، والبعض للعرب، وهم يجلسون فيها على مقاعد من الجريد، ويشربون القهوة من فناجين كبيرة من غير ظرف، والأولاد أمامهم يلعبون أو يمرنون الكلاب على النُّبَاح، وبعض الأولاد يلبس العباءة البيضاء أو اللبدة أو المركوب الأصفر، وبعضهم حفاة أو عراة، وقد لحظت أنهم ذوو شدَّة وعناد لا يسمعون كلام الرجال الذين ينتهرونهم ويردُّونهم عن الصياح، ورأيت بعض المراكشيين الذين يأتون هذه المدينة يستغربون نور الغاز وأعمدته، فيتسلَّقها بعضهم ويضعون يدهم على النور؛ ليروا إذا كان من نار تحرق أو لا. وفي طرف هذا الشارع ميدان الجمهورية، أذِنَت الحكومة للأهالي أن يبيعوا فيه السلع والخضر والفواكه، فهم يبسطونها في أرضه مدَّة النهار ويغسلون الأرض عند الغروب، ثم ينصرفون. وعلى مَقْرُبَةٍ من هذا الميدان متحف دخلتُهُ فرأيتُ فيه كثيرًا من الآثار العربية، وُجِدَ أكثرها في جوار هذه المدينة. وفي جملة ذلك الذراع الذي قرَّر طوله يوسف بن تاشفين، ما زال يُعْرَف باسم ذراع الملك، وهو قياس الناس في أعمالهم يرجعون إليه منعًا للغَبْن، والذراع المذكور من زجاج فُرض عليه النصف والثلث والربع وبقيَّة الأجزاء، وجده ضابط فرنسوي في قيصرية «سوق» تلمسان، فَنُقِلَ إلى هذا المتحف، وعُلِّقَ فيه داخل غطاء من البلور فيراه الراءون ولا يمسُّونه، وهو من الآثار النفيسة، حتى إن فرنسا فكرت حينًا في نقله إلى اللوفر في باريس، ولكنها عادت وأبقته في موضعه الحالي.
وفي المتحف المذكور حجارة على شكل القنابل صُنِعَتْ من الرُّخَام الأبيض والأزرق، طول الواحد منها متر، وعرضه نصف متر، ووزنه من ١٠٠ كيلو إلى ١٣٠، ومنظرها يقرب من منظر قوالب السكر، أو قنابل المدافع في المدرعات الحربية، وبعضها كرات مستديرة وكلها من الرُّخَام، كانت تُلْقَى على الأعداء في زمان الحصار، وهناك كثير من حجارة القبور أو هي التي تُكْتَب عليها أسماء المتوفِّين وتاريخ وفاتهم، منها حجر كُتِبَ عليه اسم أبي عبد الله سنة ٧٦٠. ورأيت هنا مدفعًا من الرُّخَام الأبيض يُحْشَى بالبارود فيه من ثُقْبٍ في طرفه، وأظنُّه نادر المثال؛ لأن المدافع لا تُصْنَع من الرُّخَام، وتجاه هذا المتحف الجامع الكبير، وهو بقيَّة ما بقي من ٦١ جامعًا كانت في تلمسان دليل ما كان لها من الأهمية السابقة. وبناء هذا الجامع متين كغيره من جوامع هذه البلاد، فربَّما بقي قرونًا أخرى بعد الآن، وسقْفُهُ واطئ كغيره في بلاد المغاربة، وهم لا يبنون الجوامع الشاهقة كالتي نعرفها في مصر وبلاد الدولة العليَّة، وقلَّ أن يزيد ارتفاع جوامعهم عن ٢٥ مترًا أو ٣٠. والجامع الذي نحن بصدده قائم على ١٣ قنطرة، وهي قائمة على ٧٢ عمودًا مستدقًّا من الرُّخَام، وله ثمانية أبواب وسقفه من خشب السنديان طُلِيَ باللون الأسود، وقناطره كلها مطليَّة بالجير الأبيض الناصع، وليس يخلو الجامع من بعض المصلِّين في كلِّ حين، ولكنه يكثر اجتماع الناس فيه للتحدُّث بشئونهم العمومية، وهم يقعدون على شكل دائرة ويتكلَّمون بصوتٍ خافت، وعليهم أدلَّة الوقار والخشوع، وهم لا يأنَفُون من دخول الزائرين جامعهم، إذ كانوا من غير المسلمين. وأمَّا مآذن هذه البلاد فإنها تختلف عن المآذن العالية المستدقَّة التي نعهدها هنا، بل إن أكثرها واسع قليل الارتفاع يستريح المرء في صعوده. وقد صعدتُ مئذنة هذا الجامع فأشرفتُ منها على المدينة كلها، وهي عادة لي أينما كنتُ أرتقي هذه المرتفعات؛ حتى أرى المدن بشكلها التامِّ، وأنصح لكلِّ سائح أن يتبع هذه الخطة؛ لأنها تفيده في رؤية المناظر أينما كان.
ولمَّا قام السلطان محمد الناصر خليفة المنصور بَنَى له جامعًا عظيمًا حَوَى شيئًا كثيرًا من دقائق الصناعة العربية، وهو الآن من مشاهد الشرق المعدودة يأذنون بالدخول إليه مرتين في الأسبوع لغير المسلمين، ولا بدَّ من أمر خصوصي في بقيَّة الأيام من ضابط فرنسوي قابلتُهُ حين كنت هنالك واستأذنتُهُ في دخول الجامع، فأمر كاتبه أن يحرِّرَ لي الإذن، والكاتب مغربي متعمِّم يلبس المركوب الأحمر والجُبَّة، ويَعْرِف لغة الفرنسيس، فكتب لي الأمر بالعربية، وسِرْتُ به حتى إذا ناولتُهُ لشيخ الجامع وعَرَفَ أنِّي قادم من مصر، وهي طريق الحجاز تنهَّد وقال لي إن أمنيته الكبرى أن يتمكَّن من أداء فريضة الحج قبل وفاته. وحدقتُ بباب هذا الجامع قبل أن أدخلَهُ فإذا هو من الأبنوس مصفَّح بصفائح من النُّحاس المذهب، وعليها كتابات دينية، وله حلقات ومطرقة من هذا النحاس المذهب أيضًا، فذكَّرني ذلك بكنيسة مار مرقص في فنسيا وبابها.
وقد قام هذا الجامع على أربعة قناطر في طوله، وأربعة في العَرْضِ، وللقناطر عُمُد مستدقَّة من الرُّخَام مُلِئَتْ بالنقوش الدقيقة البديعة كأنها شغل الإبرة أو حَفْر أهل الصين على العاج، وكلُّ عمود تختلف نقوشه عما في العمود الآخر، وجدران الجامع منقوشة على هذا الشكل أيضًا، ذكَّرتني بنقوش السراي الحمراء في غرناطة وذكرها مشهور. والسقف عروق من خشب الأبنوس ممتدَّة من قنطرة إلى قنطرة تحكي سقف ديوان الأوقاف في مصر، والمحراب قائم على عمودين مستدقين من الرُّخَام، وقد نال هذا الجامع شهرة عظيمة في أوروبا حتى إنهم يرسلون إليه الوفود حينًا بعد حين لتنقل رسومه العربية دليل اعتبارهم لصناعة العرب، وقد رأيت فيه أميركيًّا يفعل ذلك، وعلمتُ أنه جاء من قبل متحف نيويورك لينقلَ رسوم هذا الجامع إلى ذلك المتحف النفيس.
وأمَّا ضريح سيدي أبي مدوين فإنه إلى جانب الجامع، نَزَلْتُ إليه بعض درجات فإذا الأرض مبلَّطة بالرُّخَام الأبيض، والقبر مغطَّى بالحرير الأحمر المزركش بالذهب، وحوله حاجز من نوع المشربية، وفوقه سراج لا يُطْفَأ نوره في الليل أو في النهار، وأعلام مختلفة الألوان، كُتِبَتْ عليها الآيات الدينية. ولا يخلو هذا الضريح من الزائرين والذين يقدِّمون النذور من رجال هذه الجهة ونسائها، وبعضهم يعود ومعه شيءٌ من ماء البئر المجاورة للضريح على زَعْمِ أنها تشفي من السقام. ورأيتُ هنالك نساء تصلِّي وقد التفَّت كلٌّ منهنَّ بحرام ومنظرهنَّ غريب، فما هنَّ إلا أحرمة تتحرَّك، وعلمتُ من شيخ الجامع أن الصلاة فيه جائزة للعجائز، وأمَّا الفتيات فإنهن يصلين في البيوت. وللجامع أوقاف كثيرة كانت مُهْمَلة قليلة الريع، فلمَّا جاء الفرنسويون تولَّوا إدارة هذه الأوقاف وأجروها للأهالي، وجعلوا ينفقون على خدمة الجامع ومدرسته من إيراد المجلس البلدي.
مراكش
لا بدَّ لي من الإشارة في خلال هذا الفصل إلى سلطنة مراكش أو المغرب الأقصى، وقد تقدَّم لي القول إن مدينة تلمسان التي كنتُ في شأنها واقعة على الحدود بين الجزائر ومراكش، وليس بين القطرين اتصال بسكك الحديد ولكنهم عندهم عربات ثقيلة تجرُّها الخيل والسفر فيها عسير، هذا غير أنَّ المواضع التي يمكن الوصول إليها من الجزائر قليلة، وهي خالية من الفنادق للمسافرين، والأمن فيها غير مضمون حتى إن القوم يسلبون القادمين إلى بلادهم من الجزائر في كثير من الأحيان، فتتأثَّرهم الجنود الفرنسوية إلى ما وراء الحدود، وتَقْبِض عليهم في أرض مراكش وتعيدهم بما سلبوا إلى تلمسان للمحاكمة فيها. وقد ذهبتُ إلى مدينة وجدة من مدن مراكش، وهي التي حَدَثَتْ فيها معركة مدَّة حرب الفرنسويين مع الأمير عبد القادر الجزائري، فإن أهل مراكش قصدوا نجدة الجزائريين فلاقاهم الجنرال بوجو وحاربهم عند وجدة فكسرهم شرَّ كسرة. وقد سارت بنا العَرَبَة إلى وجدة في سهل كثر عثيره واتسع نطاقه، يلزم لاجتيازه أيام وأسابيع، وأرضه حمراء تُزْرَعُ قمحًا وشعيرًا وتُرْوَى من الأمطار، وبصرت من بعيد بمرتفعات لم أعلم ما هي، فقيل لي إنها سربٌ من الجمال تُعَدُّ بالألوف، وقد عوَّدوها أن تَرْعَى في تلك المرابع بلا راعٍ، ثمَّ تعود إلى القرى من نفسها في آخر النهار. وغاية ما يُقال في وجدة إنها صغيرة حقيرة، وإن حالتها مثل حالة كلِّ المدن المراكشية، فمنازلها واطئة ليس لها إلا دور واحد، وطرقها ضيِّقة قذرة، ولسان أهلها عربي مراكشي لا يفهمه العربي من الأقطار الأخرى، وهم يلتفُّون بجلابيب الصوف فوق قمصان وملابس من القطن، وحالتهم العمومية تدلُّ على الانحطاط. ولمَّا رأيت أنَّ التوغُّل في مراكش أكثر مما فعلت غير ممكن، عُدْتُ إلى مدينة تلمسان عملًا بنصيحة صاحب الفندق.
وعلمتُ بعرسٍ في تلمسان عند رجوعي، فذهبتُ إليه مع ترجمان الفندق؛ لأرى عوائد القوم في الأفراح، فرأيتُ أن العريس ذهب إلى الحمَّام واستأجره في ذلك اليوم له ولأصحابه، لا يدخله سواهم، ثمَّ سار من الحمَّام إلى الجامع، حيث كان المدعوون — واسمهم في الجزائر المعرِّسين — فسِرْتُ في الموكب، وكان في أولها المشاعل، ومن ورائها ستة يزمِّرون بالمزمار ورجل ينقُرُ على الطبل، وأنغامهم شجية تروق للآذان. ويلي الموسيقى الشمعدان، وهو عصا ثخينة يحملها اثنان من طرفيها، ولها ثقوب تقرب من الأربعين عدًّا، وفي كلٍّ منها شمعة، ووراء الشمعدان العريس على فرسٍ مسرج بسرج مقصَّب، وله شراريب من القصب، ولجامه من حرير مقصَّب أيضًا، ويحيط بالعريس أقاربه وأصحابه، وراءهم جوقة موسيقى فيها قانون وعودان وكمنجة وقيثار، وهم يضربون عليها بلا غناء، وكانوا كلَّما بلغوا بيت أحدِ الوجهاء يعزفون نغمًا للرقص، فيبدأ حصان العريس بالرقص؛ أي إنه يرفع يديه ويقف على رجليه ويشير برأسه ذات اليمين وذات اليسار علامة السلام، ثمَّ طأطأ رأسه إلى الأرض وقبَّلها علامة السلام. واستمرَّ الموكب على هذه الحالة حتى بلغ بيت العريس، فترجَّل الرجل وسار إلى غرفته والأصحاب من حوله يلقون الهدايا بين يديه من نقودٍ وأسلحة وأقمشة، وكنتُ أنا في جملتهم، وكانت الموسيقى في أثناء ذلك تَصْدَح في صحن الدار أدوارًا وموشَّحات يلذُّ سمعها، وكان مقدِّم الموسيقيين يهوديًّا يضرب على الكمنجة والبقية من المسلمين، وكانوا يقدِّمون الشاي والدخان والقهوة للحاضرين، وقد سرَّني أمر لحَظْتُهُ في أثناء الغناء، وتمنَّيت لو يقتدي المصريون بأهل الجزائر في هذا الأمر، هو أنَّ القوم لا يضجُّون ولا يصيحون في ساعة الغناء، بل هم يسمعون منصتين متلذِّذين، وقد يقول أحدهم: «طيَّب الله عليكم» حين ينتهي الدور، وأحسن من ذلك أن الأولاد وصغار البنات كانوا في جملة السامعين، وهم يتحدَّثون بصوت خافت؛ حتى لا تعلو ضجَّتهم على السامعين، وهم يحلقون للأولاد شعر رأسهم، أو يتركون لهم خصلة في القمَّة يلبسون فوقها الطربوش المغربي، ومن دونه سترة قصيرة من نوع «الكبران»، وسراويل وحذاء أصفر. ولصغار القوم هنا نجابة وحسن وسيماء الوقار والإقدام، ولبعضهم عيون زرقاء، وليس في خِلْقَتِهم تشويه كالذي يكثُرُ بين صغار المصريين. وأمَّا البنات فإن محاسنهنَّ تستلفت الأنظار، فلا تتعب العين من النظر إليهنَّ، ولأجسامهنَّ قوَّة واعتدال، ولا سيَّما في الأذرع والصدور، وهنَّ يظهرن مكشوفات إلى سنِّ السابعة في هذا السن، ويلبسن عزيزية على الرأس تختلف عن المستعمل من نوعها في تونس والجزائر، وتشبه الهرم في شكلها؛ لأنها واسعة من أسفلها، وعلوُّها نحو ربع متر، وهم يزركشونها بالقصب والبرق الصغير لتلمع وتبرق. وجلباب النساء هنا أحمر في أكثر الأحيان من الشيت أو الحرير، والحذاء أحمر مزركش، أمَّا النساء فكنَّ مصطفَّات فوق السطح، واحدة لصق الأخرى، وهنَّ ملتفَّات بالبرانس من الرأس إلى القدم، فلا تظهر إلا عينٌ واحدةٌ لكلٍّ منهنَّ حتى ترى بها ما يرى الآخرون.
الجير أو عاصمة الجزاير
فيها الآن من السكان حوالي ١١٠ آلاف، منهم ٤٤ ألفًا من الفرنسويين، و٣٦ ألفًا من المسلمين، و٩٢ ألفًا من اليهود، و١٠ آلاف من أجناس أخرى يغلب بينها العنصر الطلياني، بُنِيَ قسمٌ منها على شاطئ البحر، وقسم على هضبة تعلو ٤٠٠ متر تقريبًا عن سطح الماء. وأبنيتها قائمة من ضفَّة الماء إلى قمَّة تلك الهضبة صفوفًا متوالية في الارتفاع، فهم يبلغون الأحياء العليا منها على دَرَجٍ أو بطرق ملتفَّة طويلة، والقادم إلى المدينة من البحر يراها بأكملها أمامه بكنائسها وجوامعها وحدائقها وطرقها ومنازلها واحدًا واحدًا، فمنظرها جميل في النهار وفي الليل حين تسطع الأنوار من هذه المباني المتدرِّجة على أبهى الأشكال. وأول الشوارع المهمَّة شارع الجمهورية، يبدأ عند ضفَّة البحر وتجري فيه العربات والترامواي من جميع الأنواع. والقادم إلى هذه المدينة ينزل في الجمرك الكائن على الشاطئ، ويسير في شارع فسيح فوق الضفَّة حوالي ١٠ دقائق، ثمَّ يدور في الطرق الملتفَّة حتى يبلغ مركز العاصمة هذا إذا كان راكبًا. وأمَّا المشاة فإنهم يرتقون سُلَّمًا درجاته نحو مائة، فإذا هم في قلب المدينة على أهون سبيل.
أمَّا وصف هذه المدينة فسأتبع فيه الطريقة التي جريتُ عليها في وصْفِ مدينة باريس؛ أي إنِّي أبدأ بالطرق المهمَّة واحدًا واحدًا، فأصف كلًّا منها إلى آخره بدل أن أتنقَّل تنقُّل الدليل الفرنسوي لهذه العاصمة وغيرها من موضع إلى موضع، ومن حي إلى حي حتى يحار القارئ في معرفة موضعه وكيفية الانتقال. وقد بدأتُ هنا بشارع الجمهورية، وهو الشارع الأول الممتدُّ من البحر إلى آخر المدينة، كان اسمه شارع الإمبراطورة؛ لأن الإمبراطورة أوجيني وَضَعَت أساسه على نَسَق شارع ريفولي في باريس سنة ١٨٦٠، في رأسه ميدان يُدْعَى ميدان الحكومة، وهو مستدير الشكل قامت فيه أحسن الفنادق والحوانيت، وفي وسطه تمثال الدوك دورليان نُقِشَ على قاعدته أنه تذكار من الجزائر والجيش سنة ١٨٤٢. والشارع يمتدُّ على طول المدينة فوق البحر، وقد تركوا جانب البحر منه بلا بناء حتى لا يحجبَ منظره وجعلوا الجانب الآخر صفًّا من الأبنية القائمة على قناطر تحتها أحسن الحوانيت والمطاعم والحانات، وفوقها منازل الأكابر والقناصل والشركات وبنك الجزائر. ويمرُّ في وسط هذا الشارع خط للترامواي إلى أطراف المدينة، وهو متنزَّه العامة في ساعات العصر والغروب يتمشَّون فيه فوق ضفَّة الماء إلى موضع يُقال له السكوير — وهو لفظ إنكليزي معناه الميدان — غُرِسَتْ فيه أشجار الزيتون والنخل، وعلى مَقْرُبَةٍ منه التياترو الكبير.
ويلي هذا الشارع لجهة الجبل شارع باب الويد، وهو ينتهي إلى شارع باب عزون، وكلاهما يخترقان قلب البلد، بُنِيَ من القناطر إلى الجانبين، وقد رُصَّت أرصفة الشارعَين تحت القناطر بالسمنت الناعم، مثل أرصفة الإسكندرية. ودارت في الحوانيت حركة تجارية مهمة، حيث تُباع الأبضعة الباريزية من جميع الأشكال. ويلي ذلك الشارعُ الثالث، يمتدُّ إلى جهة الجبل واسمه لالير، فيه تجار البضائع الوطنية، وقد بُنِيَت القناطر إلى جانبيه للوقاية من الحرِّ والمطر، وهو يبتدئ من ميدان ملاكوف حيث قام قصر الحاكم العام الشتوي، وأصله دار حسن باشا، والأسقفية، وأصلها دار بنت الباشا، والمكتبة العمومية وأصلها دار مصطفى باشا. وقد بنوا في هذا الميدان كنيسة سنة ١٨٩٠، جعلوها على الطراز المغربي، لها قُبَّتان للأجراس كأنهما المآذن، والجدران لها خط أحمر وخط أبيض. ويليه شارع أسلي دُعِيَ بهذا الاسم تخليدًا لذكر انتصار الجنرال بوجو على المغاربة في جهة نهر أسلي على مَقْرُبَةٍ من مدينة وجدة، وسُمِّي القائد بعد ذلك الدرك أسلي. ويلي هذا الشارع لجهة الجبل أيضًا حي اسمه مصطفى العالي، بُنِيَ على سطح الجبل، وفيه منازل الأغنياء تُشْرِفُ على المدينة والبحر، وهو أحسن أحياء هذه المدينة، وقد جعلوا شوارعه ملتفَّة متعوِّجة، مثل كلِّ المواضع المرتفعة، وفيها قسم للترامواي وقسم للمشاة وقسم للعربات.
وقد ركبت عربة من ميدان الحكومة الذي سبق ذكره وجئتُ هذا الحي العالي حتى بلغتُ قصر الباردو، وهو القصر الصيفي السابق لولاة الجزائر، ويقيم الآن فيه الحاكم العام الفرنسوي رأيت عند بابه تماثيل الحكام الفرنسويين، ودخلتُ مع خادم عادته أن يدور القصر مع المتفرِّجين الغرباء ليرشدهم، وسِرْتُ في حديقة واسعة أكثر شجرها مما ينمو في البلاد الحارة، كالنخل وقصب الغاب والنارنج والبهار البري، ورأيت أنَّ الدور الأول كله على النسق الشرقي، فيه الأروقة القائمة على عُمُد مستدقة، وأرضه مبلَّطة بالرُّخام الأبيض، والغرف تحت هذه القناطر متلاصقة صفوفًا صفوفًا، لا مدخل من إحداها إلى الأخرى، مثل بناء قصر شبرا، وتحت الأروقة أرائك من الحجر كانوا يضعون عليها المراتب والمخدَّات ليجلس الباي عليها أمام بِرَكِ الماء.
وقد ارتقيتُ سُلَّم الرُّخام إلى الدور الأعلى، فإذا بالجدران ملبسة بالقيشاني الأزرق، وعليها آيات دينية مكتوبة بالقيشاني الأبيض، فتأمَّلتُ تلك الصناعة الدقيقة زمانًا. وفي آخر السُّلَّمِ قاعة رحبة سقفها من عروق الأبنوس ممتدَّة وبارزة، وقد رُصِّعَت بالصدف والعاج على نَسَق قاعة ديوان الأوقاف في مصر، كما تقدَّم القول. ولهذه القاعة شبابيك كثيرة، إذا فُتِحَتْ كلُّها غطَّتْ جميع الجدران، وكان لها مقعد عريض في دائرها يجلس فوقه البايات مربعين، فأُبْدِلَ الآن بالكراسي والمقاعد الحديثة. وتلي هذه القاعة غرف أخرى تقيم فيها عائلة الحاكم العام في الصيف.
وخرجتُ إلى الحديقة فرأيتُ في طَرَفِهَا من ناحية البحر كشكًا قام على عشرة عُمُد من الرُّخام الأبيض، وهو مطلٌّ على البحر، وكلُّ أجزاء المدينة، وقد كان هذا الكشك مثابة الباي في الزمان السابق، وعلى مَقْرُبَةٍ من القصر متحف جمعوا فيه آثارًا قرطاجية ورومانية ورومية وإسبانية وعربية، أهمها الأسلحة ومعدَّات القتال القديمة وقِطَع رخاميَّة من مدافن الرومان والعرب القديمة، منها مشهد كُتِبَ عليه باسم الله الرحمن الرحيم، وبأعلاه صورة عمامة، ومشهد آخر عليه عمامة مجدولة ولكنه طُمِسَت الكتابة التي كانت عليه.
وحي مصطفى العالي هذا مجموع دور فخيمة ومنازل للأغنياء، تحيط بها الحدائق الغنَّاء وكلها تُشْرِفُ على البحر والمدينة، وفيه فنادق عظيمة ينتابها كثير من السُّيَّاح لقضاء فصل الشتاء، وأكثرهم من الإنكليز يفضِّلها بعضهم على مصر؛ لما أنَّها قريبة من أوروبا، فبُعْدُها عن مرسيليا ٢٦ ساعة فقط، وهواؤها يشبه هواء القُطْرِ المصري. وقد حَدَثَ أنِّي حانت مني التفاتة بينا كنت في هذا الحيِّ، فرأيتُ ملكة مدغسكر في عربة مع تابعاتها من النساء، وهي حبشية اللون — يعلم القُرَّاء أنَّ فرنسا استولت على جزيرتها بعد حرب شديدة ونَفَتْهَا إلى هذه العاصمة من الأملاك الفرنسوية، وقد أجروا عليها رزقًا وعيَّنوا لها قصرًا تقيم فيه إلى آخر الأيام — ورجعتُ عن طريق غاب فيه أشجار الصنوبر، وقد أطلقوا عليه اسم غاب بولون كالذي في ضواحي باريس.
وذهبتُ يوم الأحد بعد الظهر إلى حديقة عمومية في أطراف المدينة أصل اسمها الحمَّا، ولكن الفرنسويين يسمُّونها حديقة ديسيه (أي التجربة والاختبار في غرس الأشجار)، وهي تبعد نصف ساعة بالعربة، وشكلها غريب؛ فإني سِرْتُ في أول الأمر مع السائرين في طريق مستطيل زُرِعَ إلى جانبيه قصب الغاب الفارسي، وطريق آخر مستطيل فيه شجر النخل المعروف في مصر باسم الدوم، يتفرَّع من ساق النخلة نحو خمس نخلات، وآخر فيه شجر النارنج والبرتقال، ثمَّ طريق الجوز واللوز والدفل والمانيلا تتضوَّع منها رائحة تملأ الحديقة، وقد نَمَتْ شجيرات الورد الأبيض، حتى إن بعضها بلغ قمَّة أشجار الحور متعرشًا عليها، ورأيتُ دالية تعرَّشت أيضًا حتى بلغت أعلى شجرة حور وتدلَّتْ عناقيد العنب منها، وفيها أيضًا شجرة من التين الهندي كالتي في حديقة الأزبكية بمصر، وهي تتدلَّى أغصانها، فإذا اتصلت بالأرض تمَّت أشجارًا جديدة متَّصلة بالشجرة الأصلية، ولو تركوها على حالها لغطَّت كلَّ أرض الحديقة.
وتجاه هذه الحديقة حمَّامات بحرية يؤمُّها خلقٌ كثيرٌ، فلا أُسْهِبُ في وصفها هنا؛ لأنِّي ذكرتُ أمثالها مرارًا في فصول هذا الكتاب، ومن مشاهد الضواحي كنيسة نوتردام الأفريقية، بُنِيَتْ على قمَّة جبل في شمال المدينة، ذهبتُ إليها بالعربة مسيرة نصف ساعة تقريبًا، فمررتُ بحي سان أوجين أمام البحر، حيث أُقيمت المنازل البهيَّة، وكانوا يومئذٍ يبنون كثيرًا منها؛ ليجعلوا هذا الشارع على مثال شارع الكورنيش بمرسيليا، ولمَّا بلغنا أسفل الجبل تسلَّقناه إلى الجهة العليا، فإذا بمدينة الجزائر ظاهرة أمامنا بجميع الأجزاء ومنظرها من هنا جميل، ولمَّا دخلتُ الكنيسة رأيت جدرانها مغطَّاة بأسماء أصحاب النذور، وهم يدفعون رسمًا على كتابة الأسماء، وقد مُلِئَتْ بها الجدران، فكتبوا بقية الأسماء في أرض الكنيسة، وقد علَّقوا في تلك الجدران أدوات مصنوعة على شكل القلب أو العين أو اليد إشارةً إلى الأمراض التي اعْتَرَتْ تلك الأعضاء، ونذروا النذور لشفائها. والكنيسة جميلة بُنِيَتْ سنة ١٨٧٢، وفي هيكلها صورة العذراء من الجبس الأسود؛ إشارةً إلى سواد الإفريقيين، وعلى رأسها تاج مذهب فوقه صليب ويداها مبسوطتان إلى الأمام؛ لنجدة المستغيثين فهم يسمُّونها المنجدة. وفي الهيكل أيضًا سيوف الأمير عبد القادر والجنرال بوجو أُغْمِدت في القبض دليل السلام. والشموع أبدًا موقَدَة هنا من المصلِّين وأكثرهم نساء فرنسويات، وخارج الكنيسة قبور الأساقفة أكثرها من الرُّخام.
وعُدْتُ إلى ميدان الحكومة فدخلتُ جامعًا بالقرب منه، بناه الأتراك للمذهب الحنفي سنة ١٠٧٠ هجرية/١٦٦٠، وله قُبَّة كبرى تحيط بها أربع قبات صغيرة على شكل جوامع الآستانة. والجامع كبير دُهِنَ بالجير الأبيض من داخله وخارجه، ما خلا المنبر فإنه من الرُّخام الأبيض، وقد رأيت لُطْفًا من خَدَمة هذا الجامع وقابلتُ فيه السيد محمد بو غندورة مفتي الجزائر، فذكر لي المرحوم الشيخ محمد عبده وأثنى عليه، وأراني المصحف القديم المكتوب بخطِّ اليد، وهو وقفُ هذا الجامع من حسن باشا، كُتب سطر منه بالحبر الأسود وسُطِّرَ بماء الذهب، ولولا أنَّ الواقف اشترط ألا يخرج هذا المصحف من الجامع لأرسله سيادة المفتي إلى باريس ليُرسم وتُطبع نسخ كثيرة مثله. ولهم هنا طريقة الكنائس في جميع الصدقات من الزائرين والمصلين؛ لأنهم وضعوا صندوقًا صغيرًا على مَقْرُبَةٍ من الباب يضع فيه الناس ما شاءوا من النقود.
وعلى مَقْرُبَةٍ من الجامع الذي تَقَدَّمَ ذكره جامع آخر اسمه الجامع الكبير للمذهب المالكي، هو أقدم جوامع الجزائر، وقد بُنِيَ قسمٌ منه على ١٤ قنطرة قائمة على عُمُد من الرُّخام. ثمَّ تركتُ الجوامع وتوجهت إلى حي المغاربة، وهو قديم الشكل لم يتغيَّر بمرور السنين، يشبه بعض أحياء مصر الوطنية التي لم يطرأ عليها تغيير، وبعض شوارعه ضيقة حتى إن ترجمان الفندق كان يسير أمامي وأنا من ورائه، وأكثر بيوته من دور واحد لها من نوع المشربية والطرق، مبلَّطة بالحصى المتناثرة يعسر المسير عليها، وبعضها بُنيت فوق أقبية فظلامها دامس وهواؤها غير طلق؛ ولهذا خرج أصحاب اليسار من المغاربة إلى الأحياء الأخرى، وبقيت الألوف الكثيرة على هذه الحالة، وعلى مَقْرُبَةٍ من هذا الحي أثر القلعة القديمة، واسمها عندهم القصبة، لم يُبْقِ الفرنسويون منها غير الغرفة التي حدثت فيها حادثة حسين باشا مع قنصل فرنسا، وقد تقدَّم ذكرها في مقدمة هذا الفصل.
علمت بعد وصولي في المساء أن الموسيو ماكس رجي رئيس المجلس البلدي المشهور بعدائه لليهود، سيلقي خطابًا في التياترو الكبير؛ ليعلن للناس نتائج سفره الأخير إلى باريس. ولهذا الزعيم أنصار من النصارى والمسلمين يكرهون اليهود مثله، ويزعمون أنَّ ثروة البلاد أصبحت في أيديهم بالطرق المالية التي ألِفُوها، فذهبتُ إلى هذا التياترو ووجدتُ الناس حوله مئاتٍ وألوفًا، غير الذين تحصَّلوا على التذاكر ودخلوا قاعة الخطابة، فلمَّا انتهى الرجل من خطابه داخلًا جعل الواقفون خارج الباب يصيحون لتعش فرنسا وليسقط اليهود. والظاهر أن كره البعض لليهود بالغ هنا، حتى إني رأيت حانوتًا في شارع باب عزون كُتِبَ على لوحه من الخارج أنه لا يخص اليهود ولا يعاملهم، وهو للمجوهرات وأدوات الذهب والفضة. ويُقال على الجملة إن اليهود في قُطْرِ الجزائر يمتازون عن بني ملَّتهم في أوروبا، فهم أشدَّاء، ولهم جمال عظيم، وقد عُرِفُوا بالصلف والخيلاء، فلا يخالطون النصارى والمسلمين إلا قليلًا، ويوم السبت في هذه المدينة مثل الأحد في غيرها، تُقْفَل فيه الحوانيت والمحلات التجارية، وتظهر عليها هيئة البطالة. وقد زُرْتُ حيَّ اليهود في اليوم التالي، وكان يوم عيد، فوجدتُ بعضًا منهم يصلُّون في العيد، ورأيتُ أنه يختلف عن بقية معابد اليهود؛ لأنه رُسِمَ على جدرانه موسى الكليم وبيده لوح الشريعة، كُتب عليه وصايا الله العشر الواردة في التوراة.
ولمَّا عُدْتُ إلى ميدان الحكومة كان البريد قد وصل ووُزِّعَ، فرأيت الناس يُقْبِلون على مواضع بيع الصحف الباريزية ويتخاطفونها متلهِّفين لقراءة الأخبار، ويندُرُ بين الأهالي مَنْ له عمل أو تجارة ولا يعرف الفرنسوية، وبعضهم يتكلَّمها بطلاقة توجب الإعجاب. وأمَّا لغتهم العربية فالبُعْدُ بينها وبين عربية مصر والشام باعد، يدلُّ على ذلك أنِّي تعرَّفت بتاجر هنا أعطاني كتاب توصية بي إلى صديق له في قسنطينة، فلمَّا تلاه عليَّ لم أفهم منه شيئًا، وحاولتُ قراءته فما قدرت؛ لأن حروفهم من النوع الكوفي المعلَّق وهو غير مألوف في هذه الديار. وملابس المغاربة هنا متنوِّعَة، فأهل الطبقة الأولى يرتدون الملابس الإفرنجية والطربوش المغربي المعروف بزرِّه الطويل يبلغ الكتفين، وبعضهم يلبس السراويل والدامر أو القفطان والعمامة، وأصحاب اليَسَار منهم يلبسون البُرنس الأزرق من الحرير، وأمَّا بقيتهم فالبرنس الأبيض، وهم يتأثَّرون من كلِّ شيء لا يوافق مشربهم وذوقهم. أمَّا النساء فلباسهنَّ مُسْتَغْرَب يرتدين سراويلات بعضها فوق بعض من القماش الأبيض، ومن فوقها ملاية أو حرام تلتفُّ المرأة به لفًّا، فكأنما هي برميل لا قوام لها ولا هندام، وهنَّ يضعن البراقع البيضاء على الوجوه، ويندُرُ أن تخرجَ إحداهنَّ إلى الطريق، وكانت مدَّة إقامتي في هذه العاصمة عشرة أيام، يكفي نصفها للذي يطالع الكتب عنها قبل وصوله، ثمَّ يدور للفرجة كما فعلت، وبرحتها بعد هذه المدَّة إلى مدينة في داخلية البلاد، اسمها قسنطينة، تبعد ١٥ ساعة بسكَّة الحديد.
قسنطينة
اختلف كُتَّاب العرب وأهل الجزائر في تسمية هذه المدينة، وذَكَرَهَا ابن خلدون على مثل ما كتبناها هنا، وخالفه بعض الفرنجة وياقوت الشهير، فقالوا قسطنطينة، وهي مدينة جميلة أَطْلَقَ الروم عليها هذا الاسم؛ لأنهم مَلَكُوها في أيام إمبراطورهم قسطنطين، وقد بُنِيَتْ على جبل صخري يطلُّ على ما دونه من السهول المزروعة ومنظرها بديع. ولأهل هذه المدينة شُهْرَة عظيمة في بلاد الجزائر؛ لأن أهلها دافعوا دفاع الأبطال عن مدينتهم حين حصرها الفرنسويون، وقد ذكرت ذلك في الخلاصة التاريخية، وعدد أهلها نحو ٥٣ ألفًا، منهم حوالي ٢٨ ألفًا من المسلمين، ونحو ١٨ ألفًا من الفرنسويين، و٥٠٠٠ من اليهود والبقية من أجناس أخرى. وهي قاعدة إقليم يُعْرَف باسمها، فيها جنرال فرنسوي وإدارات أميرية. وقد سِرْتُ في المدينة مع دليل الفندق، فرأيتُ أن المدينة لم تضع تقاليدها القديمة، ولم تنتقل تجارتها من يد الأهالي إلى يد الأجانب، وعندهم مناسج كثيرة للأقمشة الوطنية يعوِّل أكثرهم عليها في اللباس، وقد حذقوا فنَّ الدباغة واتسعت تجارة الجلود عندهم، وعندهم معاصر للزيت جاءوا بآلاتها من فرنسا، ولهم عملاء من أبناء أمَّتهم في مرسيليا ومنشستر؛ لبيع الصُّوف وإرسال الأبضعة المنسوجة. قصدتُ في أول الأمر قصر أحمد بك — وهو الحاكم الوطني الذي فرَّ من وجه الفرنسويين كما ورد في المقدِّمة — فدخلتُهُ من زُقَاقٍ ضيِّقٍ وباب صغير، فإذا أنا في رَحْبَة واسعة وحديقة كبيرة في وسطها، فيها الأشجار والأزهار كالورد والفل والياسمين، تتضوَّع منها الروائح الطيبة، وفيها بِرْكَة حولها الأغراس والأزهار، ويحيط بالحديقة رواق قام على عُمُدٍ من الرُّخام، وتحت هذا الرُّواق قاعات وغرف، وفوقه الدور الثاني من البناء، وللقصر على الجملة منظر يشرح الصدر؛ لأن مساحته مع الحديقة ٥٦٠٠ متر مربع، وفي جدران القصر نقوش ليست بذات أهمية، قيل إن أسيرًا نَقَشَها على عهد البكوات فكوفئ بإخلاء سبيله، وهنالك المصطبة التي كان أحمد بك يجلس فوقها بعد أن تُفرش بالبُسُطِ والمراتب، وأمامه الراقصات والمغنيات والعازفات بآلات الطرب على عادة أمراء العرب.
وعلى مَقْرُبَةٍ من القصر كنيسة كبرى أصلها جامع بناه أحمد بك المذكور بناءً فخيمًا وله نقوش فخيمة، وقد قام هذا البناء على أربعة صفوف من الأعمدة الضخمة العظيمة، ربَّما كان أصلها من الهياكل الرومانية، ومثلها غير قليل في هياكل المصريين. وهنا المنبر والمحراب كلاهما من الرُّخام الأبيض، وفي الجدران آيات عربية، مثل «بسم الله الرحمن الرحيم. وبسم الله الحي»، فهم لم يغيِّروا شكل الجامع إلا قليلًا حتى صيَّروه كنيسة وأضافوا الهيكل في الجهة الغربية، وأنَّ الجوامع التي صارت كنائس في إسبانيا وغيرها، والكنائس التي صارت جوامع في الشرق كلِّه كثيرةٌ معروفة في كلِّ مكان. وفي هذه المدينة عدَّة جوامع عظيمة، منها جامع صالح بك، بُنِيَ سنة ١١٩٠ هجرية/١٧٧٦، دخلتُهُ مع أحد المعارف المسلمين ورأيت جدرانه بعضها رخام أبيض، والبعض رخام أسود، ومنها أحمر سماقي وأبيض، والمحراب قطع من الرخام متعددة الألوان. ومنها الجامع الأخضر بناه حسن بك للمذهب الحنفي. والجامع الكبير وهو قديم جدًّا، يظهر أنه كان هيكلًا للرومانيين؛ لأن فيه كتابات لاتينية إلى الآن، والجامع المذكور في دور أعلى صعدنا إليه فوق سلم، وهو نادر في شكل الجوامع، وقد كتبوا على أبوابه نقشًا في الحجر عبارات، مثل: لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ و«علو الهمة من الإيمان»، وقد التقيت بجنازة للمسلمين ساعة خروجي من هذا الجامع، فإذا بالمغاربة ينادون بالشهادة بصوت عالٍ، ويركضون ركضًا وراء الميت بدل أن يسيروا الهوينا. ورأيت عرس القوم يسير أمامهم الطبل والمزمار، وعرسًا لليهود ظهرت فيه النساء بكل وسائل الزخرف والبهرجة، مثل الطرطير والقصب والعزيزية الطويلة المقصبة على الرأس، وهنَّ يكشفن السواعد والأذرع إلى حد الكتف حسب عادة هذه البلاد، وكانت العروس تحت ظلة مبرقعة الوجه.
وذهبت عند الغروب إلى حي المغاربة، فكنت أصعد وأنزل في أنحائه حسب شكل الأرض، ورأيت أن شوارعه ضيقة، ومنازله دور واحد تخطر فيها الجنود الوطنية لحفظ النظام، وتُباع في دكاكينها المغربية «كوسكسو»، وهو الطعام الوطني عندهم.
ولهذه المدينة ضواحٍ جميلة، منها الكرنويل (الضفادع) واقعة على شاطئ البحر، وتتصل بها ضاحية أخرى اسمها الكورنيش على اسم متنزَّه في مرسيليا، وقد قمتُ في الأمنبوس وهو يذهب إلى هذه الضواحي من الميدان الأهلي كل نصف ساعة، ويسير إلى يمين البحر، وإلى الشمال المزارع والحدائق والهضبات البهيَّة حتى يبلغَ محلَّ الضفادع، وفيه الحمَّامات للرجال والنساء والقهاوي والمطاعم، وكنت كثير التردُّدِ على هذا المتنزَّه أتفرَّج على البحر، وهو هنا على شكل جون، وفيه جزر من الصخور وجداول من الماء تصبُّ في البحر بعد أن تمرَّ في تلك الحدائق الحسناء.
ورافقني في هذا اليوم الموسيو ميرسينيه — وهو صاحب الفندق الذي كنت فيه وشقيق الموسير ميرسينيه التاجر في دمنهور، ووكيل قنصلاتو فرنسا فيها — فذهبنا إلى الضواحي الشرقية، وفي جملتها هيبو، وهي من المدن الرومانية القديمة، وقد ذكرتُهَا في المقدِّمة. فحالما خرجنا من المدينة رأينا نهر بوجيمة، وهو يخرج من جبل أدوغ ويصبُّ في البحر، وعليه قنطرة تمرُّ فوقها العربات والناس، وله خزانات وأقنية من أعمال الرومانيين، والأرض هنا شديدة الخصب، ولكنَّ الحر شديد مثله في كلِّ ثغور أفريقيا الشمالية، فجميع العربات في هذا البلد من نوع اللاندو، لها نافذتان بقصد الوقاية من الحر. ووقفت بنا العربة عند بيت جميل لأحد الفرنسويين، له حديقة غناء، فاستقبلنا الرجل بالترحاب، وأرانا بعض الآثار الرومانية في حديقة كائنة في الحفر، فهو يقول إن مكانه كان معبدًا قديمًا للرومانيين، وقد عَرَضَتْ عليه إدارات المتاحف أن تشتري منه البيت والحديقة بأضعاف ثمنهما، والظاهر من التاريخ أنَّ القدِّيس أوغسطينوس كان مطران هذه المدينة، وهو تُوفِّي سنة ٤٣١، وأن الفندال هجموا في تلك السنة على دير للراهبات فأحرقته القدِّيسة بارب بمن فيه تخلصًا منهم. وقد بُنِيَتْ كنيسة في هذه الجهة على أكمة بناها الكردينال لافجري المشهور (تُوفِّي سنة ١٨٩٢) وجعلها لاسم القديس أوغسطينوس، فهي أجمل من كلِّ كنائس اللاتين في القُطْرِ المصري، وبنى أيضًا ديرًا للراهبات باسم القدِّيسة بارب ودارًا للعجزة. وكلُّ هذه الأبنية تحيط بها الحدائق الحسناء، وقد أنفق الكردينال عليها أموالًا طائلة جمعها من الفرنسويين.
ويُرى من الميدان الأهلي جبل أدوغ السابق ذكره، وقد ذكرتُ في المقدِّمة التاريخية أنَّ ملك الفندال جلمر هرب من وجه القائد البيزانتي بلزاروس إلى هذا الجبل، وهو قائمٌ إلى جهة الشرق علوُّه نحو ٦٠٠ متر، وفيه حراج الصنوبر، فهو مصيف الأوروبيين من أهل المدينة، قصدتُّه بالعربة فإذا هو مثل برمانا من قرى جبل لبنان، ويمكن الذهاب إليه من عنَّابة والرجوع إليها في نهار واحد.
السفر من تونس إلى طرابلس
لمَّا بلغتُ هذا الفندق تعرَّفت بألماني من وكلاء البيوت التجارية كان ينوي الذهاب إلى طرابلس، فلمَّا علم أنِّي ذاهب إلى طرابلس ومنها إلى مالطة بعد أن أقيم في تونس زمانًا، قال لي إن السفر من طرابلس إلى مالطة غير مضمون، وأمَّا من تونس إلى مالطة فإن سير البواخر منتظم والمسافة قريبة، فعملتُ برأيه وذهبتُ معه في الغد إلى طرابلس على أن أعودَ منها إلى تونس، والمسافة بين الموضعين ٥٤٣ ميلًا أو ٤٥ ساعة أو أقل حسب سير البواخر؛ لأنَّ بعضها يقف في الجهات الواقعة بين المدينتين والبعض لا يقف، وقد وقفت باخرتنا في سوسة، وهي مدينة عدد سكانها ٢٠ ألفًا منهم ٤٠٠٠ أوروبي في جملتهم ١٣٠٠ يهودي، هم أصحاب التجارة والصرافة. ولهذه المدينة تجارة غير قليلة، أهمها تجارة الزيت والزيتون والجلد، وفيها حصون قديمة وقلعة أقامت فيها الحامية الفرنسوية.
قامت الباخرة بنا من سوسة إلى صفاقس، وهي بلد مهم عند الفرنسويين بعد بيزرت، عدد سكانها ٣٤٠٠٠ منهم ٥٠٠٠ أوروبيون، وقد قُسِّمَتْ قسمين، حي الإفرنج وحي العرب، وهو القسم الذي أُطلقت عليه المدافع من بوارج فرنسا سنة ١٨٨١ واحتلته جنودها قبل غيره من بلاد تونس. وسارت الباخرة بعد ذلك إلى مدينة قابس في آخر حدود الولاية التونسية، بلغناها في الليل، وفي الصباح ظهرت لنا مدينة طرابلس والأهالي، يسمُّونها طارابلس، والكلمة يونانية (تريبولس)، ومعناها المدن الثلاث، مثل طرابلس الشام المدن الثلاث؛ أي أنفة وطرابلس والبترون، كلها كائنة إلى اليوم شمالي بيروت، وجاء في قاموس لاروس الفرنسوي أنَّ المدن الثلاث المكوَّنة لطرابلس الغرب في الزمان القديم كانت أيتا وسابراتا ولبتس. وقد دخلتُ هذه المدينة في حيازة الدولة العليَّة سنة ١٧١٤، وعدد سكانها نحو ٤٠٠٠٠ منهم حوالي ٨٠٠٠ يهود و٤٥٠٠ من أهل مالطة وإيطاليا. ولهذه المدينة تجارة مهمَّة؛ فإن القوافل تقوم فيها إلى داخلية السودان، وقد بَنَتِ الدولة فيها حصونًا وُضِعَتْ فيها حامية قوية ومدافع جديدة الطراز. وما كادت الباخرة ترسو حتى ازدحم فيها التراجمة وباعة الآثار القديمة، وهي كثيرة فيها؛ نظرًا إلى ما تغلب عليها من الدول، وفيها إلى اليوم قوس نصر من الرُّخام بُنِيَتْ على عهد القيصر ماركوس أوريليوس الروماني سنة ١٦٤ بعد المسيح. وقد سِرْتُ مع الدليل في أسواق المدينة، وهي لكلِّ حرفة أو بضاعة سوق، ورأيتُ دار الوالي فيها مهيبة، ودور القناصل عظيمة أيضًا. وأقمتُ يومين في طرابلس ثمَّ عُدْتُ منها في هذا الطريق إلى تونس، وهو الطريق الذي جاء منه العرب وفتحوا الجزائر، كما فصَّلنا في فصل مر من فصول هذا الكتاب.