سورية ولبنان

في السفر من مصر إلى بيروت ولبنان

إن المسافة بين مصر وبيروت يمكن اجتيازها في نحو ٢٤ ساعة؛ إذ يقوم القطار من محطَّة مصر عند الساعة السابعة صباحًا، فيبلغ بورسعيد بعد الظهر بقليل، ومنها يبحر في الساعة الثانية فيصل بيروت صباح الغد، والذاهب إلى بيروت يتجلَّى له منظر لبنان عن بعدٍ، وقد امتدَّ هذا المنظر من ضفَّة البحر وظهرت صخوره بألوانها الطبيعية ما بين أحمر وأزرق ورمادي؛ لأن الأشجار في هذا الجبل لا تكسو كل جوانبه، ولا تحجب منظر أرضه وصخره عن الناظرين، مثل أشجار الجبال الأوروبية، وكذلك القرى تظهر للمرء من عرض البحر وقد سَطَعَ نور الشمس عليها، مثل عين سعادة والزوق وجوبية وغيرها. وأمَّا بيروت فهي عند سفْحِ هذا الجبل، وقد قامت فوق البحر على شكل هضبة متدرِّجة الارتفاع من الشاطئ فما فوق، كأنما هي مرسح متدرِّج الطبقات صعدًا (أنفتياتر)، وكل منازلها مشرِفَة على الماء ومطلَّة على منظر لبنان، وأحسن ما يكون لرؤية بيروت أن يتأمَّلها المرء من البحر، ولا سيَّما في الليل حين تسطع أنوار الغاز من منازلها بعضها فوق بعض، ومنازل بيروت جميلة الظاهر فسيحة الغرف كثيرة الطاقات، وكلها بالحجر الرملي الأصفر أو البرتقالي، ومعظم سقوفها بالآجر الأحمر، وكذلك معظم المنازل المستجدَّة في جبل لبنان. ومن أهمِّ بناياتها المدرسة الكلية لمرسلي الأميركان، وهي مجموع أبنية ضخمة جميلة الشكل في الطرف الغربي من المدينة، ويُعْرَف باسم رأس بيروت، ومنها بناء البنك العثماني الجديد عند شاطئ البحر والثكنة العسكرية بعده بقليل، ومدرسة اليسوعيين ومدرسة الناصرة ومنازل بعض الأكابر من آل سرسق وبسترس وتويني وفريج وغيرهم في الأحياء الشرقية من المدينة، وهي يسكنُهَا معظم الأهالي من المسيحيين وسراي الحكومة في أواسط البلد وغير هذا، مما جعل إمبراطور ألمانيا يقول حين زار بيروت سنة ١٨٩٨ إن تلك المدينة جوهرة في تاج آل عثمان. وطول مدينة بيروت كيلومتر ونصف، وعرضها ثلاثة كيلومترات ونصف، ومساحتها ٤٥٣٠ كيلومترًا، بُنِيَتْ محل بيريت القديمة، واسمها الحالي محرَّف من هذا الاسم القديم، وقد تقلَّبت عليها الأدوار والدول كما تقلَّبت على بقية مدن سورية وأكثر جهات الشرق القريب، فنكتفي هنا بالقول إن بدوين الأول فَتَحَها سنة ١١١٠ أيام الحروب الصليبية، واسترجعها السلطان صلاح الدين الأيوبي من الإفرنج سنة ١١٨٧، ثمَّ وقعت في حوزة آل عثمان على عهد السلطان سليم الأول سنة ١٥١٧، وما زالت عاصمة إحدى الولايات العثمانية الكبرى إلى الآن. وتُقسَّم ولايتها إلى أربع متصرفيات، هي عكا ونابلس وطرابلس واللاذقية، ولها أقضية تتبعها رأسًا، هي صيدا وصور ومرجعيون، ولكلٍّ من المتصرفيات السابق ذكرها أقضية تابعة لها، ففي متصرفية عكا أقضية حيفا والناصرة وصفد وطبرية. وفي متصرفية نابلس، جنين وبني صعب، وفي متصرفية طرابلس، عكاز والحصن وصافيتا، وفي متصرفية اللاذقية، جبلة والمرقب وصهيون، وقد بقيت بيروت ثغرًا غير كثير السكان بسبب الحروب والمخاصمات إلى عهد قريب؛ فإن سكانها في سنة ١٨٤٨ لم يزيدوا عن ٢٥ ألفًا، ولم يكن بها منزل خارج سور المدينة، فكانت مثل مصر قبل إنشاء التوفيقية والإسماعيلية وغيرهما من الأحياء المستجدَّة. ولكن بيروت زادت أهميةً وسكانًا في النصف الثاني من القرن الأخير حتى إن أهلها الآن لا يقلُّون عن ١٢٠ ألفًا، منهم ٣٧٥٠٠ من المسلمين و٣٦٥٠٠ من الأرثوذكس، و٢٩٠٠٠ من الموارنة، و٩٠٠٠ من الروم الكاثوليك، و٣٠٠٠ من اليهود و٢٠٠٠ بروتستانت، و١٨٠٠ لاتين، و٥٠٠ سريان كاثوليك، و٥٠٠ دروز و٤٠٠ أرمن كاثوليك، و٣٠٠ أرمن أرثوذكس و٢٠٠ متاولة، وهو إحصاءٌ تقريبيٌّ لم أقِفْ على ما هو أقرب منه إلى الصواب.

ولا بدَّ للذي يريد الذهاب إلى لبنان أن يقيم يومًا أو أيامًا في بيروت؛ ليرى ضواحيها ومتنزَّهاتها، مثل الفنار وهو على الطرف الغربي الأقصى من المدينة فوق شاطئ البحر، والحرش وهو غابة من شجر الصنوبر عند حدود جبل لبنان، يمكن الوصول إليها بالعربة في مسافة ثُلُثَي الساعة، ولها ضواحٍ أخرى تقوم إليها قُطُر الحديد خمس مرات كل يوم، وتقف في ١٣ مثابة منها قريب بعضها من بعض، مثل محطَّات خطِّ المطرية أو خط حلوان في ضواحي مصر. وأسماء المحطَّات في بيروت وضواحيها كما يأتي: المدور وبيروت والدورة ونهر الموت والفوار وأنطلياس وضبية ونهر الكلب وعنطورة وصربا وجولية وموقف البيطار والمعاملتين، وأحسن هذه المواضع الضبية ونهر الكلب، يمكن رؤيتهما في يوم واحد، وهما في منتصف الطريق، وقد قمنا إليهما في القطار من محطَّة المدور، فسار بنا من عند الجمرك يخترق شوارع المدينة حتى إذا بلغ أطرافها جعل يدخل في نفق ويخرج من نفق، وهو جارٍ إلى يمينه بساتين الزرع الشهيَّة وإلى يساره البحر. ولمَّا وصلنا نهر الكلب استرحنا في قهوة وكان من ورائنا جبال صخرية وأمامنا بساتين وأغراس ومن ورائها الرَّمل والبحر بعده، والمنظر من تلك البقعة له جمال فتَّان. ومشينا نحو ربع ساعة من ذلك المكان فوصلنا شلَّال نهر الكلب والحجر المحفور عليه كتابات باللغات المصرية القديمة والآشورية واليونانية والرومانية، وسنعود إلى ذكرها عند الكلام عن أنهر جبل لبنان. وعُدْنَا بعد ذلك في القطار إلى محطَّة ضبية، وهي أجمل متنزَّهات الضواحي البيروتية والناس ينتابونها أكثر من كلِّ ناحية أخرى؛ لأنها مجموع غياض حسناء من أشجار الصنوبر والزنزلخت والدلب، تحجب نور الشمس، ويقْعُدُ الناس تحت ظلِّها إلى مقاعد ومناضد كثيرة نُثِرَتْ في جوانبها. ويتقاطر البيروتيون بعيالهم إلى هذا المكان في أيام الأحد فتزدحم القطرات بهم، وأكثرهم يقضون النهار بطوله هنا، فيأكلون مما تزودوا، أو يطبخون مأكولهم في تلك المثابات، حيث تكثر اللحوم، والسمك يصيدونه ويقلونه في الحال. وقد قُسم المكان أرصفة ومراتب صغرى، تختار كلُّ فئة أو عائلة من المتنزِّهين ما تشاء منها، وتقضي الساعات في قصْفٍ وراحة وسماع أصوات المغنِّين أو أنغام الفونوغراف. قلنا إن هذا المكان فيه شلَّال وهو يزيد محاسنه الكثيرة وعرض هذا الشلَّال نحو ١٢ مترًا، يتدفَّق منه الماء كاللجين، وهو يهبط من علوِّ خمسة أمتار بوجه التقريب، ثمَّ ينساب بين تلك الأغراس والأشجار، ويتفرَّع في جوانب المكان فيحلو للناس أن يجلسوا فوق المجاري الكثيرة يشنِّفون السمع بخرير الماء، ويمتِّعون الطَّرْف بمنظره ويقضون يومهم في هناءٍ حتى يجيء موعد الرجوع إلى بيروت.

جبل لبنان

كان جبل لبنان في سِنِي تاريخه الحديث تابعًا لإيالة صيدا حتى سنة ١٨٦٠ حين حدثت فيه الحرب الأهلية بين المسيحيين والدروز، وتداخلت دول أوروبا الخمس لفضِّ مشاكله، وهي فرنسا وإنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا؛ فاتفقت مع الدولة العليَّة على أن يُمْنَحَ لبنان استقلالًا إداريًّا، ويُعيَّن له متصرف مسيحي من رعايا الدولة العليَّة ترشِّحه الدولة العليَّة، وتوافق دول أوروبا على تعيينه، واتفقت هذه الدول أيضًا على نظام جبل لبنان. ولمَّا تذاكر السفراء عند وضع القانون الأساسي عن تعيين متصرِّف مسيحي رأت روسيا جواز تعيين متصرِّف أرثوذكسي، ومن بعد مفاوضات ودِّية مع فرنسا تمَّ الاتفاق على أن يكون المتصرف كاثوليكيًّا من غير الطوائف المنتشرة بالجبل، وكان ذلك مراعاةً لطائفة الموارنة؛ لأنها الفئة الغالبة من اللبنانيين.

وقد شُكِّلَ بناءً على هذا النظام مجلس الإدارة من سراة الجبل ونواب طوائفه، رئيسه المتصرِّف، وعدد أعضائه ١٢، منهم ٤ عن الموارنة و٣ عن الدروز و٢ عن الروم الأرثوذكس، وواحد عن الروم الكاثوليك وواحد عن المسلمين وواحد عن المتاولة. ولهذا المجلس أن يقرِّر جباية الأموال ويراقب طرق إنفاقها بحيث لا تتجاوز مصروفاته القدر المعيَّن في الميزانية، وهو ٧٠٠٠ كيس أي ٣٥٠٠٠ ليرا مجيدية، وقد عُين حسب هذا النظام إلى الآن سبعة من المتصرفين هم:
  • (١)

    داود باشا، أرمني كاثوليكي، أصله من الآستانة، عُين في شهر يوليو سنة ١٨٦١.

  • (٢)

    فرانكو باشا، أرمني لاتيني، أصله من حلب، عُين في ٢٧ يوليو سنة ١٨٦٨.

  • (٣)

    رستم باشا، لاتيني المذهب، أصله من إيطاليا، عُين في ٢٢ يوليو سنة ١٨٧٣.

  • (٤)

    واصا باشا، لاتيني أرناءوطي، عُين في ٨ مايو سنة ١٨٨٣.

  • (٥)

    نعوم باشا، أرمني لاتيني، أصله من حلب، عُين في ١٧ أوغسطس سنة ١٨٩٢.

  • (٦)

    مظفر باشا، لاتيني بولوني الأصل، عُين في ٢١ أوغسطس ١٩٠٥.

  • (٧)

    يوسف باشا، ابن فرانكو باشا المتصرف الثاني، وهو لاتيني أرمني، أصله من حلب، وقد عُين في ١٠ يوليو سنة ١٩٠٧.

هؤلاء هم ولاة لبنان من عهد نظامه الحالي، يُعيَّن كلٌّ منهم حسب النظام المذكور لمدَّة ٥ سنين، ويجوز أن تُجدَّد هذه المدَّة بفرمان سلطاني يصدر بعد موافقة الدول الخمس. وكيفية تعيين المتصرِّف أنَّ الباب العالي يُعِدُّ كشفًا بأسماء البعض من رعاياه المسيحيين، ويعرضه على جلالة السلطان، ثمَّ ينتقي أحد المكتوبين في هذا الكشف، ويطلب من سفراء الدول تعيينه، فإذا اختلف السفراء ولم يوافقوا بالإجماع عَرَضَ الباب العالي اسمًا آخر عليهم من الأسماء المُدْرَجَة في الكشف المذكور، ومتى انتُخب أحدهم لهذه الولاية يُنْعِم السلطان عليه برتبة الوزارة، ويرسله بفرمان منه إلى لبنان، فتقابله حكومة بيروت والجبل عند وصوله بالاحتفاء الكبير، وتُقام في إحدى قرى لبنان حفلة حافلة لتلاوة الفرمان القاضي بتعيين المتصرِّف الجديد، يحضرها المتصرِّف الذي انتهت مدته ووالي بيروت أو مَنْ يقوم مقامه، وقناصل الدول الجنرالية في ولاية بيروت، وجميع سراة لبنان وأمرائه وأكابره، ومعظم أفراد الفرقة اللبنانية وجمع غفير من المتفرِّجين، وتُطْلَق المدافع وتَصْدَح الموسيقى، ويُعدُّ ذلك النهار عيدًا في لبنان تتلوه حفلات التهاني، ويعقب ذلك ما يرى المتصرِّف الجديد إجراءه من التغيير والتبديل في حكومة لبنان وموظفيها.

ويقيم متصرِّف لبنان مدَّة الصيف في قرية بتدين (بيت الدين) في سراي الأمير بشير الشهابي، وهو أشهر حكام لبنان قبل تقرير نظامه الحالي، بُنِيَت سنة ١٨٢٨، واشترتها الحكومة من ورثته في أوائل حكم داود باشا، فجعلتها مقرَّ الحاكم وديوانه في الصيف. وأمَّا فصل الشتاء فإن المتصرفين يقضونه في بيروت أو في بعض قرى السواحل، والغالب أنهم يقيمون في قرية بعيدًا، حيث لهم منزل وديوان مشهور.

موقع الجبل: تمتدُّ سلسلة جبل لبنان من الشمال الشرقي في أواسط سورية إلى الجنوب الغربي، وطولها ١٤٥ كيلومترًا، وعرضها ٤٥، ومساحة الجبل كله ٦٥٠٠ كيلومتر مربع. وأمَّا حدوده فمن الشمال متصرفية طرابلس، ومن الشرق أقضية بعلبك وراشيا وحاصبيا، ومن الجنوب قضاء صيدا، ومن الغرب بيروت وشاطئ البحر. ويُقال على الجملة إن لبنان مجموع سلاسل من الجبال البهيَّة والأودية، معظمها مشرِف على البحر ومدنه، وارتفاع أجزائه يختلف، فمنه ما لا يزيد عن سطح البحر إلا قليلًا، ومنه ما هو متوسط الارتفاع أو بالغه، أذكر من ذلك: سلسلة جبال الباروك، ارتفاعها ١٦٠٠ متر، وجبال نيحا ١٨٥٠ مترًا، وجبل الكنيسة ٢٠٣٠ مترًا، وجبل ظهر القضيب ٢٤٩٠ مترًا، وجبل صنين ٢٦١٠ أمتار.

ولكنَّ المشهور أنَّ لبنان قسمان، هما الجبل الغربي والجبل الشرقي، فأمَّا الجبل الغربي فيبتدئ من قلعة الحصن عند جبال النصيرية شمالًا، وينتهي في وادي الليطاني عند حدود بلاد حاصبيا ومرجعيون جنوبًا، وأمَّا الجبل الشرقي فأول سلسلته على مَقْرُبَةٍ من حمص، وتمتدُّ من هنالك في جهة الجنوب الغربي، ويفصل بين الجبلين سهول بعلبك والبقاع المشهورة.

تعداد الجبل: يقرب عدد السكان في متصرِّفية لبنان من أربعمائة ألف نفس، منهم حوالي ٢٣٠ ألفًا من الموارنة، و٥٥ من الروم الأرثوذكس، و٤٥ ألفًا من الدروز و٣٥ ألفًا من الروم الكاثوليك، و١٧ ألفًا من المتاولة، و١٤ ألفًا من المسلمين و٨٠٠ من البروتستانت، و١٥٠ من اللاتين، وقليل من الطوائف الأخرى. وفيه حسب الإحصاء الأخير ٧٨٢ كنيسة و١٤٠ ديرًا و١٥٠ خلوة للدروز، و٥٠ زاوية وضريحًا للمسلمين، وعدد قرى لبنان ٩٨٠ قرية داخلة في سبعة أقضية ومديرية واحدة هي أقضية الشوف والمتن وكسروان والبترون وجزين والكورة وزحلة، ومديرية دير القمر، وهي تُعَدُّ قضاءً ممتازًا مستقلًّا.
الأنهر: في لبنان أنهار وجداول كثيرة، أشهرها عشرة هي هذه:
  • نهر قديشا: والاسم لفظ سرياني معناه المقدَّس، وهو نهر كبير نبعه تحت قرية بشري، وهو يمرُّ على مَقْرُبَةٍ من أهدن وزغرتة في قضاء البترون، ويدخل مدينة طرابلس حيث يسمُّونه بأبي علي، ويروون من مائه البساتين، وهو يصبُّ في البحر عند طرابلس، وطوله ٣٨ كيلومترًا.
  • نهر الجوز: أصله من جبل تنورين، ينبع من مغارة فوق كفر صلدا، ويجري في وادي الجوز إلى الجنوب الشرقي ثمَّ إلى الشمال الغربي، وبعد أن يمرَّ في أقضية الكورة والبترون يصبُّ في البحر عند رأس الشقعة ما بين بيروت وطرابلس.
  • نهر إبراهيم: واسمه عند القدماء أدوني، يخرج من مغارة أفقًا على مَقْرُبَةٍ من العاقورة، ويجري من الشرق إلى الغرب مارًّا بقضاء كسروان، ثمَّ يصبُّ بين جونية وجبيل في البحر وطوله ١٨ ميلًا، وقد سُمِّي بهذا الاسم؛ لأنَّ الأمير إبراهيم أحد أمراء المردة بنى عليه قنطرة.
  • نهر الكلب: واسمه عند قدماء اليونان ليقوس — أي الذئب — يخرج من مغارة جعيتا ويختلط في واديها بماء نبع العسل ونبع اللبن، ويصبُّ في البحر بين غزير وبيروت، وقد جرَّت إحدى الشركات الإنكليزية ماء هذا النهر إلى بيروت، فكلُّها تستقي من مائه الآن، قيل إن رعمسيس الثاني ملك مصر لمَّا فتح فينيقية نقش تاريخ فتحه على صخرٍ بالقرب من هذا النهر، وكذلك فعل الملك سنحاريب الآشوري، وفي سنة ٥٢٠ قبل المسيح بنى له أنطيوخوس ملك سوريَّة جسرًا عظيمًا تهدَّم، وأعاد بناءه الإمبراطور أنطونينوس الروماني سنة ١٤٠ بعد المسيح، وقد أقام القدماء فيه نُصُبًا من الحجر على هيئة كلب رُبِطَ إلى سلسلة من الحديد، وزعموا أنه إذا فاجأهم العدو نبح هذا الكلب ونبَّههم، فسُمِّي لذلك نهر الكلب، وهو يصبُّ عند بيروت وطوله ٣٠ كيلومترًا.
  • نهر أنطلياس: يبعد ٣ أميال عن نهر الكلب، ومخرجه من ينابيع الصفصافات والتنُّور والحاووز.
  • نهر بيروت: أصله نهران، أحدهما يخرج من بين قريتي ترشيش وكفر سلوان، والآخر من عند قريتي فالوغا وحمانا، ويجري في حدود قضائي المتن وأنشوف، ويصبُّ عند بيروت بعد أن تستقي مزارعها المشهورة منه.
  • نهر الدامور: معناه بالسريانية العجب، وهو نهر كبير يجتمع ماؤه من نهر الغابون الخارج من عين الدلم، ومن نهر الصفا ونبع القاع الذي جرَّ الأمير بشير الشهابي بعض مائِهِ إلى قصره في بيت الدين بقناة اشتغل الأهالي بها ٢٢ شهرًا. ونهر الدامور يجري من الغرب منحرفًا إلى الجنوب ويصبُّ عند معلقة الدامور بعد أن يسقي السهل والمزارع، وطوله ٢٥ كيلومترًا.
  • نهر الأولى: سُمِّي بهذا الاسم من يوم صارت صيدا قاعدة الشطر الجنوبي من لبنان أو المدينة الأولى، وكان العرب يسمونه نهر فردوس بسبب ما حول مجراه في صيدا من الحدائق والبساتين، أصله من الباروك، وهو يسقي سهول صيدا وبساتينها المشهورة، وطوله ٤٥ كيلومترًا.
  • نهر الليطاني: واسمه أيضًا نهر القاسمية، عند مصبِّه يخرج من نبع العليق وتنضمُّ إليه عدة جداول، مثل البرذوني وغيره، وهو يخترق سهل البقاع من أطرافه الشرقية ويمرُّ في بلاد مرجعيون والشقيف، ويصب على مَقْرُبَةٍ من صور.
  • نهر البرذوني: وقد تقدَّم ذكره — وهو يسقي بساتين زحلة، وطوله ٢٤ كيلومترًا.
السكك: لم يكن في لبنان قبل عهد نظامه الحالي سكك منظمة، فكلُّ ما فيه منها الآن حديث، بدأ بعضه داود باشا وتمَّ البعض في أيام المتصرفين السابقين، ولا سيَّما أيام نعوم باشا ومظفر باشا، حتى إن طول سكك العربات في الجبل الآن يزيد عن ٧٥٠ كيلومترًا. وأشهر هذه السكك ما بين بيروت والمصايف الكبيرة — التي سنأتي على ذكرها — مثل سكَّة عالية وبحمدون وصوفر إلى زحلة، وسكَّة بيت مري وبرمانا، وهي تنتهي في ظهور الشوير، وسكَّة دير القمر وهي تمتدُّ إلى ما وراء جزين، وغيرها كثير من السكك تمرُّ بها العربات وسط حرجات بهية من الصنوبر، ومزارع وكروم وتلفُّ من وراء الجبال وتخترق الأودية والسهول. فالسفر داخل لبنان نُزْهة جميلة بعد أن أُصلحت هذه الدروب وصارت أحسن من دروب كثيرة في مدن الشام، وقد أدَّى إصلاح هذه الطرق وتنظيمها إلى تحسين حالة الأراضي وارتفاع أثمانها في كثير من القرى، ولعل ذلك هو الذي دَفَعَ أهل الجبل إلى تحسين حالة منازلهم، فإنه يندُرُ فيه الآن ما كان قديمًا من المنازل، بل إن معظم بيوته جديد جميل الخارج، بُني بالحجر الصلد، وسُقِفَ بالقرميد أو الآجر الأحمر، وهو شيء كان نادرًا من نحو عشرين سنة، هذا غير أن الفنادق والحانات والحوانيت كثرت في القرى التي تخترقها هذه الطرق، والمواصلات سهلت، فكثر عدد الذين يقضون أشهر الصيف في لبنان من أهل المدن السورية والمصرية، وتبارى الأهالي في بناء المنازل الحسنة، ولا سيَّما الذين نزحوا إلى أميركا والمستعمرات الإنكليزية، وعادوا إلى وطنهم بعد أن قضوا في الغربة أعوامًا وجمعوا أموالًا وفيرة، فإن كلَّ راجعٍ من هاتيك الأقطار ينفق معظم ثروته في إصلاح منزله أو بناء منزل جديد، حتى عمر لبنان وتقدَّم في ظاهره وأبنيته تقدُّمًا كبيرًا، وكان الفضل في كلِّ هذه الهمَّة لتحسين الدروب.
الحاصلات: يُقال على الجملة إن الحاصلات قليلة؛ لما أنَّ البلاد صخرية وقد ضاقت بسكانها في بعض الجوانب وتعذَّرت الزراعة، فجعل الأهالي يقطعون الصخور في بعض المواضع ويزرعون مكانها أو يغرسون، حتى إنهم حاولوا غرس الصنوبر فوق الصخور في عدة مواضع. وفي الجبل مواسم للغلال والحبوب، أهمها القمح والحمص والشعير والعدس، ولكن الموسم الأكبر هو موسم الحرير، يشتغل به كلُّ الأهالي تقريبًا بعض أشهر السنة، وقلَّ أن يخلو منه بيت، فهم يكثرون من أغراس التوت؛ لأن دودَ القزِّ يغتذي بورقها، فإذا انتهوا من تربية الدود ونَمَت الشرانق باعوها لسماسرة وتجار يدورون في القرى ويجمعونها من البيوت فيستفيد منها كلُّ الناس، ولا يقل موسم الشرانق في السنة عن ثلاثمائة ألف أقة، ولعله يزيد عن هذا المقدار. ويلي التوت عندهم في الأهمية شجر الزيتون؛ ففي نواحي لبنان أكثر من ٣١١٨١ دنمًا زُرِعَتْ زيتونًا، أو نحو ٧٧٩ فدانًا من الأرض يستغلُّ الناس غلَّته، ويصنعون منه الزيت، والزيتون المحفوظ على أنواعه والوقود من بذوره. ومعظم القرى كانت تعوِّل على الزيت في إنارة منازلها إلى عهدٍ قريب، ولكن البترول حلَّ محله الآن في كثير من الجهات، وفي لبنان غابات زيتون كثيرة، أشهرها وأكبرها صحراء الشويفات، وهي أكبر غابات الزيتون في كلِّ بلاد سورية، والشويفات قرية في قضاء الشوف عند سواحل بيروت، وفي قرية المختارة من قضاء الشوف أيضًا غابة أخرى للزيتون مساحتها ١٦ كيلومترًا مربعًا، وفي المعصرة من قضاء الكورة غابة مساحتها نحو ٧ كيلومترات مربَّعة، ويُقال إن جملة موسم الزيتون في لبنان كله نحو ١٤ مليون أقة، وجملة الزيت الذي يُسْتَخْرج منه نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون أقة.

والعنب والتين من الحاصلات المشهورة في لبنان أيضًا، لا تخلو قرية من كروم هذين النوعين، والتين اللبناني لذيذ الطعم لعلَّه أحسن أنواع التين في الوجود. وأمَّا العنب فأشكاله كثيرة وكرومه واسعة لا تخلو منها بقعة، حتى إن جملة هذه الكروم لا تقلُّ مساحتها عن ٢١٥٢٠ دنمًا أو نحو ٥٣٨٠ فدَّانًا، ومقدار العنب الذي يخرج منه كل سنة لا يقلُّ عن ثلاثة ملايين أقة، ومقدار الخمور التي تُسْتَخرج في لبنان من العنب يزيد عن ١٦٠ ألف أقة.

الهواء: اشتُهر لبنان من قِدَمٍ بجودة هوائه وطِيب مائه، وشهِدَ له الأطبَّاء الحديثون من أهل الشرق والغرب بذلك، حتى إن كثيرًا من السائحين يفضِّلونه على أقطار أوروبا؛ بسبب اعتداله وقلة أمطاره في الصيف، وظهور الفصول الأربعة فيه ظهورًا واضحًا، وفيه ما بين السهول البحرية وقنن الجبال العليا كلُّ درجة من الحرِّ تطلبها النفس، فسواحله تصلح للشتاء، وأعاليه للصيف، وأواسطه في الربيع والخريف من أجل مثابات الوجود، ولا حاجة إلى القول بأن لبنان أصلح من غيره للشرقي؛ لما أن حالته ومأكولاته أقرب إلى الذوق الشرقي، وله مزيَّة على مصايف أوروبا في أنه ليس فيه دواعي الانهماك والإتلاف الكثيرين، بل إن المصطاف يستعيض عن حانات أوروبا وكازيناتها بهذه العيون والجداول والينابيع والأحراش التي تشرح الصدور بمنظرها ويشفي ماؤها من السقام، هذا غير أنَّ الغشَّ في مأكولات لبنان وخضرها وفاكهتها غير معروف على طريقة بعض المصايف الأوروبية. وفي كلِّ قرية من قرى لبنان الآن بيوت حسنة نظيفة يمكن استئجارها، وفي المصايف المشهورة، منها بيوت مفروشة وفنادق حسنة، مثل فنادق أوروبا في إتقانها، وأجرة المنازل في بعض القرى رخيصة جدًّا، ولكنها معتدلة في المصايف المشهورة، وهي:
  • عالية: قرية جميلة في قضاء الشوف، بُنِيَتْ على قمَّة جبل مثل أكثر القرى المشهورة في لبنان، وعلوها ٨٢٠ مترًا عن سطح البحر، يمكن الوصول إليها بسكَّة الحديد من بيروت أو بالعربات، وقد أصبحت مدينة صغرى جميلة الطرق والمساكن بعد أن تهافَتَ الأكابر وبعض النزلاء الأجانب على بناء البيوت فيها، من نحو ٢٥ سنة، وكثرت حوانيتها وحاناتها وفنادقها، منها فندق بحار اشتُهر بحسن الخدمة وإتقان الطبخ، وأكثر أغنياء بيروت الذين ليس لهم بيوت في عالية يقضون بعض الصيف فيه، وقد أُضيف إليه نادٍ مشهور يقصده الرجال والسيدات من بيروت والقرى المجاورة في كثير من ليالي الصيف، وأجرة الإقامة في هذا الفندق ٨ فرنكات في اليوم، وقد تكون أقل إذا طال زمان الإقامة، وأجمل منه في الموقع والبناء فندق القصر (بالس هوتل) أصله قصر لسري من آل بسترس، وقد بُني على رأس القمَّة فوق عالية، وأُحيط بحديقة حسناء، فهو يُشْرِف على البحر وجزءٍ كبير من لبنان، ومنظره في غاية الجمال، وقد جَرَوا في بعض السنين الأخيرة على إقامة حفلات الرقص في هذا الفندق الجميل، وأجرة السكن فيه من ٨ فرنكات إلى ١٠ في اليوم. ويحيط بعالية قرى مثلها في الجمال وجودة الهواء ولو أنها أقل منها شهرة، مثل عين الرمانة يتفجَّر الماء الزلال من صخورها فيجري بين أشجار الصفصاف، ومن حوله الناس يتفرَّجون ويعجبون، وعند نبعه قهوة يأتي الناس منها بالأراكيل (الشيشة) ويضعونها في مجرى الماء، ويزينها لهم صاحب القهوة ببعض الأغصان والأزهار، وتبعد هذه المثابة ثلث ساعة عن عالية. ومثلها عين الجوزة وهي على مسيرة ساعة من عالية، وماؤها يجري تحت شجر الجوز الباسق الكبير، وهو من الأشجار التي تعمر كثيرًا، والذي يُجنى من ثمرها غير قليل.
  • مكين: تبعد نصف ساعة عن عالية، وفيها فندق حجار يُشْرِف على الطريق والوادي من أمامه والجبل الشاهق من ورائه، كُسي بشجر الصنوبر، والمصطافون هنا يقصدون عين السيدة في أواخر النهار، حيث يجدون قهوة ومعدات الخدمة، وهذه العين واقعة في بقعة شهية بين عالية ومكين، ومركز هذه القرية متوسِّط بين كثير من المصايف المشهورة، وهواؤها غاية في الاعتدال.
  • سوق الغرب: قرية تكاد تكون ملتصقة بمكين، والذي يقصدها من جهة عالية يظنها جزءًا من القرية المذكورة؛ لأنَّ البناء متواصل ما بين الجهتين وتخترقهما طريق واسعة للعربات أُقيم على طولها حاجز من الحجارة المتينة إلى ناحية الوادي؛ حتى لا تتدهور فيه بعض العربات وهي مسرعة في النزول. وفي سوق الغرب مدارس للأميركان داخلية وخارجية، وسوق صغيرة وكنيسة جديدة باسم مار جرجس للروم الأرثوذكس، جميلة الوضع، وقد عُني ببنائها نيافة المطران جراسيموس مسرة مطران بيروت، وفيها متنزَّهات طبيعية من كلِّ جانب، وقد بُنِيَتْ قهوة شملان في ضواحيها فوق صخر يظنُّهُ الرائي على وشك أن يهوي إلى الوادي الكائن تحته. وقد بُني في سوق الغرب فندق جديد اسمه نزهة لبنان، أُتْقِنَت معداته وامتاز بجمال موقعه واهتمام صاحبه لراحة المسافرين، وإلى جانبه غابة من شجر الصنوبر العطر يجلس الناس تحت غصونها ويتناولون القهوة على مهلٍ. ومن أجمل المتنزَّهات التي يقصدها أهل سوق الغرب عين حمانا، يرغب الناس في انتيابها والتلذُّذ بمنظرها، فطريقها لا تخلو من الذاهبين إليها والآيبين، ويمكن الوصول من هذه القرية إلى عبية بالعربة؛ فإنها تبعد عنها ساعة واحدة، وهي من القرى المعروفة اشتُهرت بمدرسة للأميركان عالية، هذَّبت عددًا كبيرًا من رجال سورية في أواسط القرن الماضي وأواخره، ثمَّ استعاض الأميركان عنها بالمدرسة الكلية الشهيرة في بيروت. وهواء عبية وما حولها قليل الرطوبة يشبه هواء بحمدون، فهو مفيد لصحة الأبدان.
  • صوفر: كانت عين صوفر قرية صغرى، لا يعرفها من الناس إلا فئة قليلة إلى عهدٍ قريب، فلمَّا مرَّ منها خط الحديد ما بين بيروت ودمشق وبُني الفندق الكبير، صارت هذه القرية مثابة الكبراء ومصيف السراة الأغنياء، وشُيِّدَت فيها فنادق أخرى غير الكازينو الكبير وعدة منازل وقصور لأهل الترف واليسار من السوريين المقيمين في بيروت أو في مصر. وصوفر موضع عالٍ لا يقلُّ ارتفاعه فوق سطح البحر عن ١٢٨٠ مترًا، ولكنَّ الماء فيه قليل، فهو في ذلك يشبه كثيرًا من أهم القرى اللبنانية؛ لأن القرى المذكورة بُنِيَت على رءوس الجبال، والماء لا ينبع من رأس الجبال، بل من سفحه والأودية المتصلة به؛ فلذلك ترى الماء قليلًا في أكثر هذه المثابات الجميلة. ويحدث في صوفر وعالية كثيرًا أمرٌ يميِّز لبنان عن غيره، هو أن الضباب يتكاثف فوق بعض جهاته، ويخيِّم حتى يصبح مثل بحرٍ من السحاب تحت تلك الشعاب والقنن، وهو يُعْرَف عند اللبنانيين باسم «الغطيطة»، ومنظره غريب ولكنه لا يدوم كثيرًا؛ لأنَّ الرياح تتلاعب به وتبدِّده بعد انعقاده بقليل. وفي ضواحي صوفر نزهة الشاغور، ويُقال له متنزَّه حمانا أيضًا يرغب الناس في انتيابه كثيرًا؛ لأنَّ ماءه ينحدر من شلَّال علوه نحو ٢٠ مترًا، ويهبط على صخور ثمَّ يجري بينها، ومن حوله المقاعد والكراسي العريضة يجلس الناس إليها ويتفرَّجون، وصاحب القهوة يقدِّم للطالبين ما عنده من طعام وشراب. وقد بُنِيَتْ هذه القهوة على رأس وادي حمانا الذي يستقي من ماء هذا الشلال، ومسافة هذا الموضوع عن صوفر نحو ساعة بالعربة.
  • بحمدون: هي قرية مشهورة بجفاف هوائها، وليس فيها شجر، بل كلُّ ما حولها كروم عنب لذيذ، فالأطبَّاء يصفونها للمرضى، وقد جعلوها مستشفى بديعًا، وهي لا تبعد أكثر من نصف ساعة بالعربة عن صوفر. وبحمدون على كتف وادٍ غير عميق، فلا يتصاعد الضباب منه كما يتصاعد في الجهة الأخرى، وأرضها صخرية.
  • نهر الصفا: يبعد هذا النهر نحو ساعة بالعربة عن صوفر، وطريقه بين جبلين من الصخر الأزرق القاتم، يكاد التراب لا يتخلَّل الصخور، فلا نبت فيها ولا غرس، وقد ذهبنا إليها في عربة، ومررنا في الطريق بخلوة للدروز أو هي معبدهم، ونادي العقال منهم دُهِنَت بالجير الأبيض من الخارج، والدخول إليها محظور على كل فردٍ من الناس ما خلا عقال الدروز. وما زالت العربة تهبط بنا تلك الأودية حتى بلغنا نهر الصفا البديع مجراه، وقد قامت من حوله منازل وفنادق ومضارب يُقْضَى فصل الصيف فيها، وقد بنوا عند هذا المجرى قهوة ووضعوا فيها مطحنة تدور آلاتها من ضغط الماء، ويتكوَّن من دورانها شلَّال من الماء يتطاير ويتناثر على الصخور، ثمَّ يجري من عدة مواضع في خور نَمَتْ فيه أشجار من الدلب والحور والصفصاف. ويمرُّ الماء بعد ذلك تحت جسر فيسقط في خور آخر، ويُسمع لسقوطه دوي، ويُرى إلى جانبيه صفوف أخرى من الأشجار التي تنمو إلى جانب الماء كالتي ذكرناها، حتى إن ذلك المكان أضحى بهجة للناظرين ومجموع بدائع للمتأمِّلين، وقد تمشَّينا فوق صخور نهر الصفا نحو ربع ساعة حتى بلغنا نبع القاع، وهو مصدر هذا النهر يتفجَّر ماؤه من قاعة أو مغارة عالية في وسط الصخور، إذا تسلَّق المرء قليلًا بلغ تلك القاعة، ووجد أنه في شبه كهف عالٍ كأنما هو منحوت في قلب الجبل، والماء يجري من ذلك الكهف إلى ما دونه تحت أشجار غضيضة ملتفَّة تحجب نور الشمس، وقد جعلت منظر ذلك المكان من المشاهد المعدودة في جبل لبنان.
  • عين زحلتة: من القرى المشهورة بجمال موقعها، ولكنها لا تطلُّ على البحر مثل أكثر مصايف لبنان، وقد أُهلت بالسكان وكثرت عمائرها، ولكن المصطافين يؤثِرون السكن في حدودها. والجبل القائم فوقها لا يقلُّ ارتفاعه عن ١٣٠٠ متر فوق سطح البحر، وعند سفح هذا الجبل غابة من الصنوبر، فيها فندق صغير وبعض المنازل والمضارب والأكواخ يصنعونها من أغصان الصنوبر، وتُقْضَى فيها أشهر الصيف.
  • الباروك: قرية قريبة من عين زحلتة، والمسافة بينهما نحو نصف ساعة، وجملة المسافة من صوفر إلى الباروك بالعربة نحو ساعتين ونصف ساعة، فالذين يقصدون هذه الجهة من النازلين في فندق صوفر عدد كبير، أكثرهم يعودون في نفس النهار بعد أن يتناولوا الطعام مما تزوَّدوا على نهر الصفا ونهر الباروك، ويضعوا سلال الفاكهة في هاتيك المجاري الشهيَّة لتبرد ثمَّ يرجعون إلى صوفر في آخر النهار كما فعلنا. وهي نزهة يقلُّ نظيرها في سائر الأقطار، وأشهر ما في الباروك نبعها البديع، ونهرها الذي يشبه ماؤه الزلال، وهو يجري في أرض منبسطة خلافًا لبقية ينابيع لبنان، ويسقي عدَّة مزارع في قرية الباروك وسواها، وقد اشتُهر هذا النهر بنقاء مائه وبرودته في أيام الحرِّ، حتى إن المرء لا يطيق بقاء يده في المجرى أكثر من دقيقة، وإذا وضع نصف ريال في قاع المجرى بين الصخور أمكن للرائي أن يقرأ حروفه؛ لأن الماء بالغ النقاء، وعلى مَقْرُبَةٍ من الباروك غابة من شجر الأرز يقصدها المتفرِّجون، وهي كائنة عند قاعدة جبل اسمه صات الجبل، يبلغ علوه ١٥٤٥ مترًا، فهو من أعلى مواضع لبنان.
  • زحلة: هي أكبر مدن لبنان طرًّا، ومن أكثرها جمالًا وثروة، وأحسنها موقعًا وهواءً. ذهبت إليها من صوفر، فلمَّا بلغتُ محطَّة المعلقة ركبتُ عربة قامت تجري في وسط طرق منظَّمة إلى جانبيها مجاري الماء وشهي الأغراس والأشجار، وقد بُنيت مدينة زحلة إلى جانبَي وادٍ كبير، ونهر البردوني يجري بين الشطرين، وإلى ضفَّتي هذا النهر من هنا ومن هنا أشجار الدلب والصفصاف والحور والصنوبر والزنزلخت، وقد بنوا من فوقه جسرًا ليعبرَ الناس عليه من جانب إلى جانب. ولمَّا كانت زحلة مدينة عامرة، فقهاويها وفنادقها كثيرة، ومروجها الخضراء عند مجرى الماء من أشهى ما وقعت عليه العين. وأهل زحلة ميَّالون إلى الطَّرَب، فيكثُرُ أن تسمعَ في هاتيك المروج أصوات المغنِّين أو آلات الطرب، ثمَّ إن لوازم المعيشة فيها كثيرة ورخيصة ولا سيَّما الفواكه وأخصها العنب، فإن في كروم زحلة المشهورة نحو عشرين نوعًا من العنب الشهي، حتى إن بعضهم يقصد هذه المدينة للاستشفاء بهوائها ومائها وعنبها. وأحسن موضع ترى منه مناظر زحلة هو بناء الحكومة الجديد في ساعات النهار، وأمَّا في الليل فإن منظر هذه المدينة يحلو من الوادي أو ضفاف البردوني؛ لأنَّ الواقف هنالك يرى الأنوار ساطعة من جانبَي الوادي متَّصلة من مجرى الماء إلى أعلى الجبل في الجانبين.

    وقد اكتريتُ عربة من زحلة، وذهبتُ بها إلى حدائق تعنايل للآباء اليسوعيين، وهي — أي تعنايل — واقعة في سهل البقاع الذي يتَّصل بزحلة، وله بها علاقات زراعية وتجارية كثيرة، فلمَّا بلغت ذلك المكان بعد ساعة رأيتُ العجب من إتقان العمل على الطريقة الفرنسوية؛ فإن القوم قاموا بعمل لم يجارِهم في مضماره غير الخواجات بولاد المشهورين ببيع نبيذ لبنان. وقد غَرَسوا كروم العنب على الأسلوب الفرنسوي وزَرَعوا ألوفًا من أشجار الفاكهة الأخرى جاءوا ببعض بذورها من أوروبا، وأنموها في ذلك المكان المعتدل الهواء، فهم يستخرجون الخمور أنواعًا، ويصنعون مربيات الأثمار أشكالًا من التفاح، والخوخ والسفرجل والبرقوق وغير ذلك، ويرسلون هذا كله إلى أوروبا. وقد قابلنا مدير هذه الحدائق، ودار معنا بنفسه يفرِّجنا متلاطفًا، وكان معنا في أثناء هذه الزيارة بعض المعارف من القُطْرِ المصري، وعندهم هنالك مدرسة زراعية صغيرة لتعليم أولاد الجبل، وفي هذه القرية أيضًا حديقة غنَّاء للوجيه الخواجا نخلة تويني تكثر فيها أشجار التوت لتربية دود الحرير وأنواع شتى من أشجار الفاكهة.

  • ظهور الشوير: هي قمَّة عالية فوق قرية الشوير المشهورة التي أُنشئت فيها المطابع العربية من أكثر من مائة عام، أي قبل دخول المرسلين الأجانب الذين أنشئوا مطابعهم الكبرى، وطُبِعَتْ هنالك عدة مؤلَّفات عربية وكتب مقدَّسة من زمان بعيد.

    بَلَغَنَا يوم وجودنا في صوفر أنه سيُقام في الشوير معرض صناعي في ١٠ أوغسطس يحضره المتصرِّف، فعزمنا على الذهاب إليه مع حضرة الوجيه الخواجا جورج قرداحي، والمسافة بالعربة من صوفر إلى ظهور الشوير نحو ٥ ساعات في جبال حمانا وأرصون وصليما وبعبدات وظهور الشوير، والعربة تدور من حول هذه الجبال كلًّا في دوره، فهي تارةً في صعود وطورًا في هبوط، ولكن المسافر لا يملُّ من طول الطريق وتكرار النزول والصعود؛ لما أن المناظر جميلة متنوِّعَة وأشجار الصنوبر وغيرها إلى جانبَي الطريق، وفيها عدة حانات إلى جانب عيون الماء تُبَاع فيها المأكولات والمشروبات، ويستريح فيها المسافرون بين شهيِّ المناظر الطبيعية، وقد يمرُّ المرء بأبعاد ليس فيها زرع، بل إن صخورها ظاهرة وبعض هذه الصخور ضخم، رأيتُ واحدًا عند دير مرحاتا يشبه في شكله تمثال أبي الهول الكائن عند أهرام الجيزة.

    سِرْنَا بالعربة من صوفر وارتقينا جبل حمانا ثمَّ هبطنا وادي حمانا، وهو من أخصب أودية الجبل تكثر فيه أشجار التوت، وقد تسلَّقت غصون اللوبياء على أصوله وجذوعه حتى أصبحت الأرض كلها خضراء كالزمرد، وعُدْنا إلى الصعود حين بلغنا جبل أرصون، وتكثر فيه غابات الصنوبر، وقد استرحنا عند عين أرصون قليلًا، حيث تُباع المأكولات والفواكه، وسرنا بعد هذا بجسر أرصون وقرية العربانية، وجسر الجعماني حتى إذا انتهينا من ذلك دخلنا الجبل الثالث، وفيه قرية صليما، فالجبل الرابع وفيه قرية بعبدات، وهي مشهورة تتفرَّع منها الطرق أحدها إلى برمانا وبيت مري، وآخر إلى ظهور الشوير، سِرْنَا به إلى جبل الشوير، وهو الخامس من حلقات هذه السلسلة التي اخترقناها، وقد استرحنا مدَّة عند عين عرعار، وهو نبع يتدفَّق ماؤه بين الصخور، وله منظر في غاية الجمال، ومررنا بقرية مرحاتا ودير مار موسى حتى بلغنا ظهور الشوير، ونزلنا في فندق كيرلس، وهو على أكمة قائمة بنفسها في ذلك الجبل الشاهق، يعلو عن سطح البحر نحو ١١٩٠ مترًا، وهو يُعَدُّ من أجمل المصايف وأحسنها؛ لأن هواءه جيد جدًّا، وأرضه مع ارتفاعها كثيرة الكروم والبساتين والغابات، وقد كثرت فيه العمائر والفنادق الآن بعد أن تهافت المصطافون عليه في الزمن الأخير، والمرء يرى من هنا الجبال العديدة متَّصل بعضها ببعض إلى بُعْدٍ باعدٍ، وقد زاد حسن الشوير عام زيارتنا لها بوجود المعرض الذي أشرنا إليه، وهو من عمل أحدِ أدباء الشوير اسمه فارس أفندي مشرق أقام زمانًا في أميركا، وتعلَّم من أهلها طرق العمل والنهضة، فأنشأ هذا المعرض بعد رجوعه إلى وطنه، وهو أول معرض لبناني من نوعه، وقد أَمَّ هذا المعرض نحو خمسة آلاف نفس من المدعوين وغيرهم، ولمَّا جاءه المتصرِّف قابلته اللجنة بالإكرام وصدحت الموسيقى بالنشيد اللبناني، ثمَّ ارتقى منصَّة، فتُليت بين يديه الخطب والقصائد بالعربية والتركية والفرنسوية، ثمَّ دار مع المتفرِّجين في أجزاء المعرض، وكان فيه أوانٍ فضية، ودخان كوراني لُف على طريقة السيجار الإفرنجي، وأجراس وطنافس وصور مناظر لبنان مطرَّزة باليد على القماش ومنسوجات حريرية وقطنية ورياش وأسلحة، وكلها مما صُنِعَ في قرى لبنان.

  • بكفيا: قرية جميلة كثيرة العمائر الجديدة، ولأهلها شهرة بالجدِّ والإقدام، وهي تبعد أقل من ساعة عن ظهور الشوير.
  • برمانا: من القرى الجميلة، اشتُهرت بمدارسها وفنادقها ومستشفياتها، ففيها مدارس داخلية للبنات والصبيان، بعضها للإنكليز والبعض للفرنسويين، وفيها فندقان عظيمان وفنادق أخرى، وهي تبعد ساعتين ونصف ساعة عن بيروت بالعربة، والناس يرغبون في قضاء الصيف فيها. وقد أقمنا في فندق بونفيس، وهو بناءٌ جميلٌ يفضل فندق صوفر في حسن موقعه؛ لأنه بُنِيَ على هضبة قائمة بنفسها يرى المرء منها البحر، وكل ما تقدَّم ذكره من مصايف لبنان.
  • بيت مري: وهي قرية جميلة جدًّا، تكاد تكون ملاصقة لبرمانا، وقد بُنِيَتْ على رأس جبل مثلها، وكثرت فيها المنازل والفنادق، وأهل بيروت يؤثِرون الاصطياف في هاتين القريتين على بقية قرى لبنان.

بعلبك

ذهبتُ لزيارة مدائن بعلبك وحمص وحماة من صوفر في قطار سكَّة الحديد مع حضرة الوجيه الخواجا جرجي كرم، ومررنا بمحطَّة رياق، حيث انتقلنا إلى قطار يذهب في جهة بعلبك، وأمَّا القطار الآخر الذي تركناه فيسير إلى دمشق، وقد مرَّ وصفُ الطريق بين بيروت ودمشق فلا حاجة إلى التكرار. والمسافة بين رياق وبعلبك بالقطار ساعة وربع، أكثرها أرض منبسطة حمراء تقرب من أرض مصر، وتُعْرَف باسم بقاع بعلبك، وهي أعرض من البقاع الأخرى الكائنة بين دمشق وبيروت. ولمَّا قربنا من بعلبك ظهرت بساتينها وجنَّاتها الفيحاء، بما فيها من أشجار التفاح والمشمش وغير ذلك، والقطار يسير بينها زمانًا. وقد ذكَّرني هذا الطريق الجميل بطريق آخر لبعلبك؛ إذ قصدتُّها مرة من طرابلس، وأهدن والأرز راكبًا جوادًا. وأهدن قرية جميلة في كسروان، ارتفاعها نحو ١٤٤٥ مترًا، اشتُهرت بجودة هوائها وعذب مائها المتدفِّق، وهو أنقى من الزُّلال وأشهى من السحر الحلال، يتفجَّر من الصخر مثلَّجًا، فلا تطيق أن تضع أصابعك فيه أكثر من دقيقة، وهي عند الطرابلسيين بمثابة صوفر عند البيروتيين. وقد ذهبنا إلى حرجة أرز لبنان المشهور من أهدن؛ لأنه على مَقْرُبَةٍ منها، ولهذا الأرز شهرة قديمة يأتيه السياح من أبعد الأقطار لرؤية شجره القديم، وقد يبلغ طول ساقها أحيانًا ١٠٠ قدم، ودائرها من ٢٤ قدمًا إلى ٣٠، وتمتدُّ فروعها المنبسطة إلى مسافة ٢٠ قدمًا و٣٠ و٤٠، وهي طبقات بعضها فوق بعض، خضراء في جميع الأوقات، ولخشبها مزية الصلابة وجمال المنظر والرائحة الزكية، لا يأكله سوس ولا تضرُّه رطوبة. والظاهر أنَّ الأرز كان كثيرًا في معظم أنحاء لبنان في الزمان السابق؛ فقد ورد عن سليمان الحكيم أنه بنى هيكل أورشليم العظيم من هذا الخشب، واستعان بملك صور على نقله من لبنان، فاستخدم هذا الملك ٣٠ ألف عامل في هذا العمل، ولكنَّ الأهالي دأبوا على قطع الأشجار حتى لم يبقَ من أرز لبنان إلا غابات قليلة، أهمها التي نحن الآن في ذكرها، فيها نحو ٤٠٠ شجرة، وموضعها عالٍ تحيط به الجبال لا يقلُّ ارتفاعه عن ٦٠٠٠ قدم، وأقدم هذه الأشجار ١٢ شجرة، محيط بعضها نحو ٤٠ قدمًا والبعض ٢٠ أو ٣٠. وفي لبنان غابات أخرى، منها واحدة قرب الباروك وواحدة فوق عين زحلتا، وقد مرَّ ذكرهما، وغابات أخرى ما زالوا يقطعون أشجارها؛ ليبنوا به بعض منابر الكنائس في أوروبا أو ليبقوه تذكارًا في البيوت.

وقد بِتْنَا ليلة في الأرز الكبير، وصعدتُ منه قمَّة برأس القضيب، هي أعلى ما في لبنان، علوها ٢٤٩٥ مترًا، وتأمَّلت منها المناظر الشهيَّة في كلِّ جانب، فإنك ترى البحر وطرابلس كأنها تحت يدك مع أن المسافة بينهما ١٠ ساعات، وترى في الجانب الآخر قلعة بعلبك مع أنها تبعد ١٢ ساعة. وكان بعض الثلج باقيًا في هذه القمَّة مع أننا زُرْنَاها في أواسط شهر أوغسطس. ثمَّ انحدرنا من هنا حتى بلغنا قرية عيناتا، وهي من القرى البديعة وماؤها غزير بارد عذب زُلال، لا يقلُّ علوها عن ١٥٩٠ مترًا. وقد بِتْنَا هنا ليلة ثمَّ استأنفنا المسير في اليوم التالي، ومَرَرْنَا بقرية الدير الأحمر تحيط بها غابات من شجر السنديان، وهي في أول بقاع بعلبك، وقد ظللنا ٤ ساعات نسير في هذا السهل حتى وصلنا بعلبك، وهي موضوع حديثنا الآن.

كان أول ما خَطَرَ لي في بعلبك أنْ أرى قلعتها المشهورة، واسمها هنا الخربة، وهي معبد قديم فيه آثار العصور الفينيقية واليونانية والرومانية، حوَّله العرب إلى قلعة وزادوا فيه الحصون والأبراج باقية إلى هذا النهار، وقد زادني رغبةً في زيارة هذا الأثر العظيم أنَّ إمبراطور ألمانيا كان أتاهُ عام ١٨٩٨، فلمَّا رجع إلى بلاده سأل الدولة العليَّة أن تأْذَنَ لبعثة علمية ألمانية أنْ تبحث وتنقِّب في جوانب هذه القلعة، وقد أذنت الدولة وعادت أبحاث البعثة الألمانية بنفع كثير وأظهرت عدة مخبآت. وقد اشتريت دليلًا لهذه القلعة وتاريخًا بالعربية ألَّفه مخايل أفندي موسى ألوف البعلبكي، وهو يستحقُّ على تأليفه الثناء. دخلتُ في بادئ بدء من قبو مظلم طولهُ من الشرق إلى الغرب ١٢٠ مترًا وعرضهُ ٥ أمتار وربع المتر، وعلوُّه ٦ أمتار. وعلى مسافة ٢٠ مترًا من داخله قبو آخر يعارضه من الشمال إلى الجنوب طوله ٩٣ مترًا، يؤدي إلى قبو ثالث موازٍ للأول، وكل هذه الأقبية متناسبة الوضع، لما انتهيت منها صعدتُ ذُرَى قليلة فأشرفتُ على البناء الضخم الأنيق، له منظر يؤثِّر في النفس؛ نظرًا إلى ضخامة أجزائه واتساعه وكِبَر أعمدته بعضها ثابت في مكانه والبعض تساقَطَ بفعل الزمان، طول العمود منها ٢٠ مترًا، ومحيطه أكثر من ٣ أمتار ونصف متر، وفي أعلاه أفريز جميل بديع النقوش، وقد كان في هذا المعبد ٦٢ عمودًا كالتي ذكرناها، فتهدَّم أكثرها والباقي منها على وضعه الأصلي ٦ فقط، يراها القادم إلى بعلبك من مكان بعيد. وفي وسط البناء معبد جوبتر، وهو كبير الآلهة في معتقد اليونان القدماء، طوله ١١٧ مترًا، وعرضه ١٠١٢، وزخارف هذا المعبد منقوشة على الحجر بالغة حدَّ الإتقان، يحار المرء من دقَّة نقش الورد والأزهار فيها إذا ذكر أنها صُنِعَتْ في زمان الأقدمين. وتقدَّمنا بعد هذا إلى معبد باخوس، وهو إله الخمر عند الرومانيين، وهو — أي هذا القسم — يفوق كل الأقسام الأخرى ببدائع نقشه، ولم يتخرب منهُ على قدر ما تخرَّب من سواه، طوله ٦٨ مترًا والعرض ٣٤، وقد بقي من عُمُدِهِ الأصلية ٩ ملاصقة للجدار، وكان عددها فيما مرَّ ٥٠ عمودًا، طول الواحد منها ١٨ مترًا، ودائرة محيطه من الأسفل ٥ أمتار ونحو ثلاثة أرباع المتر، ومن الأعلى أقل من ذلك بقليل.

وأمَّا باب المعبد الرُّخامي — وهو الباب الرسمي لهذه الآثار — فإنه أجمل ما تَرَكَ الأولون للآخرين، لم أرَ له نظيرًا في آثار رومية وأثينا وصعيد مصر، طوله ١٣ مترًا وعرضه نصف الطول، وقد مُلِئ دائره بأبهى أنواع النقش على الرُّخام، وظهرت فيه صورة الكوبيدون إله الجمال، ومن حوله القينات يحملنَ عناقيد العنب من كروم نُقِشَتْ نقشًا يشرح الصدور ويبهر الأبصار، حتى إن الضلوع المعروفة في ورق العنب من ظهرها بَدَتْ في تلك النقوش، وقد تعرَّشت أغصان منها على أغصان بشكل بديع. وهنالك كنيسة بناها الإمبراطور ثيودوسيوس مُلِئَتْ برسم الصليب اليوناني جدرانها، وعلى مَقْرُبَةٍ منها أعمدة من حجر الغرانيت الأحمر المصقول مبعثرة في الأرض، وهي مثل عُمُد الهياكل المصرية المشهورة أصلها من مقالع أصوان، ولا بدَّ أنْ يعجب القارئ لمقدرة الذين نقلوها إلى بعلبك من ذلك المكان السحيق.

وأمَّا منظر هذه القلعة من الخارج فإنه مهيب أيضًا، ولو أنَّ النقوش ليست متوفِّرة مثل الأجزاء الداخلية، فقد بُني الصف الأول كله مع طوله من ستة حجارة فقط، طول الحجر منها ١٠ أمتار وعلوه ٤، والصف الثاني كله ثلاثة حجارة فقط، طول الواحد منها ١٩ مترًا ونصف متر، والعلو ٤ أمتار وبعض الشيء، ووزن الحجر من هذا الصنف ٧٢٠ طونلاتة، فلو أنَّهم وضعوا ٥٠ حجرًا من هذا النوع في صفٍّ واحد بَلَغَ طول الصف ألف متر، كلُّ هذا والحجارة الكبرى المذكورة محكَمَة البناء إحكامًا لا مثيل له، حتى إن إدخال الإبرة في شقٍّ بين الحجرين ليعدُّ بمثابة المستحيل. وقد استخرجوا هذه الحجارة من مقلع عند باب البلد لم يزل في أرضه بعض منها، وأهمها حجر كبير اسمه عند الأهالي حجر الحبلى، طوله ٢١ مترًا وعرضه ٥ أمتار وثلث المتر من أحد الطرفين، وأقل قليلًا من الطرف الآخر، وهم يقدِّرون وزن هذا الحجر بألف طن، وإذا شاءوا رفعه مقدار قدم عن الأرض فقط لَزِمَ للرفع آلة بخارية قوتها ٢٠ ألف حصان. وقد اشتغلت البعثة الألمانية بوضع كتاب فيه بيان هذه الآثار ورسومها وغرائبها، وأعلنت أن ثمن الجزء من كتابها ألف قرش، فقابل هذا بما ترى من إعراض الشرقيين عن مشترى الكتب. ومن هذا القبيل فقد رأيتُ جمعًا غفيرًا من أهل الشام ومصر في بعلبك يأبون شراء الكتاب الصغير الذي ذكرتُهُ من قبل مع أنَّه يفيدهم في فهم أعظم آثار الأقدمين وأجملها بإجماع جميع العارفين، والحقُّ يُقال إن علماء ألمانيا أكثر الناس اهتمامًا بآثار الشرق في هذه الأيام، وأبحاثهم في الأناضول وما بين النهرين وتدمر وأثينا وبعلبك وقبرص ومصر تشهد لهم بالدأب والاجهاد، وقد رأيت عند قلعة بعلبك نحو ٤٠ صندوقًا مُلِئَتْ بما تناثر من آثار القلعة؛ لتُرسَلَ إلى برلين.

والقادم إلى بعلبك إذا رآها في سهل من الأرض منبسط كما هي حالتها توهَّم أنها في مكان منخفض، ولكنها عالية يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر ١١٧٠ مترًا، وفيها متنزَّه جميل من أشهر مثابات الأُنْس في سورية عند نبعها يُعْرَف باسم رأس العين، تجمَّع فيها بهاء الماء النقي الجاري والعشب السندسي والأشجار الغضَّة المزروعة إلى جانبَي الطريق الممتد من البلد إلى هذا المكان البديع.

حمص

ذهبتُ إلى حمص من بعلبك والمسافة بينهما نحو ساعتين في القطار، يرى المسافر في خلالها سهل البقاع المشهور، وهو معروف بترابه الأحمر وخصبه الكثير وغلاله الوافرة، وقد مررنا بضياع بهيَّة في هذا الطريق، وكان منظر جبل لبنان مرافقًا لنا في أكثرها حتى بحيرة نهر العاصي التي يخرج منها النهر المعروف بهذا الاسم وغيره، طولها ١٤ كيلومترًا، ويمرُّ هذا النهر — وهو المعروف عند القدماء باسم أورونتس — في حمص وحماة والجسر وأنطاكية ويصبُّ في البحر عند السويدية. وأمام البحيرة سد قديم العهد كان يُراد منه حفظ الماء فيها إلى حين اللزوم. وأمَّا مدينة حمص فتبعد نحو ثلث ساعة بالعربة عن محطَّتها، ذَهَبت منها إلى فندق خارج نطاق المدينة، وقد كثرت من حوله المزارع والأشجار. بلغ سكان حمص نحو ٥٠ ألف نفس.

والداخل إليها يرى إلى اليمين قلعة قديمة متردِّمة، قيل إنها من أيام الصليبيين، ويليها بيت لسعادة عبد الحميد باشا الدروبي فسراي الحكومة، وإلى الجهة الأخرى منها حديقة اسمها المنشية، وثكنة متخرِّبة من أيام إبراهيم باشا المصري، ويلي ذلك إلى جهة اليمين الثكنة الحالية بما فيها من الجنود، ثمَّ سوق كبيرة تُعْرَف هنا باسم سوق الحسبي، وهي مثابة العُرْبان الذين يأتونها من الضواحي والقرى؛ لبيع الصوف والسمن ولمشترى بعض اللوازم. وقد اشتُهرت حمص بمنسوجاتها الحريرية والقطنية، فيها عشرة آلاف نول أو نحو عشرين ألف عامل على الأقل، ومصنوعاتها رخيصة ومتينة، ولكن الأجانب أضرُّوا بها كما أضرُّوا بصناعة الشرق في كلِّ مكان، وفي حمص مدرسة للصبيان أسَّستها الجمعية الفلسطينية الروسيَّة عدد طلابها نحو ٧٠٠ وينفق عليها من الجمعية المذكورة ومن طائفة الأرثوذكس في البلد، ومدرسة للبنات فيها نحو ٤٠٠ طالبة. وقد زرتُ الكنيسة فرأيتُ في صدرها الأيقونسطاس من الرُّخام الأبيض كُتِبَ عليه «من إحسانات الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية»، وكان نيافة المطران أثناسيوس غائبًا، ولكني سمعتُ ثناءً عاطرًا على أعماله، وهي في حي النصارى، وهو قديم مزدحم البناء، بُنِيَتْ منازله بالحجر الأسود، وليس لها شُرُفَات، فالسائر في شوارع حمص الضيقة لا يرى غير الجدران السوداء في وجهه، ولكن الطرق نظيفة والبيوت من الداخل جميلة في بعضها البِرَك والحدائق تُسْقَى من ماء نهر العاصي. وأمَّا البيوت الصغيرة فيُجلب الماء إليها بالقرب على طريقة المدن المصرية في أحيائها الوطنية، وهي شائعة إلى الآن.

وأشهر متنزَّهات حمص موضع اسمه ميماس على ضفَّة النهر، قامت إلى جانبيه الأشجار والأغراس، ولا سيَّما الأشجار المثمرة، وأهمها هنا الرمان ينمو نموًا عجيبًا. وميماس تبعد نحو ثلث ساعة عن حمص، وهي كثيرة الجمال بمروجها الخضراء وحدائقها الغضيضة، وفيها مثابات للناس يأتونها بالعربات أو على الخيل والحمير أو مشيًا على الأقدام. ونهر العاصي يجري في هذه الجهة بقوَّة كبرى، ويجتمع حول ضفافه عشرات ومئات من المتنزِّهين كل يوم.

حماة

ذهبنا إليها من حمص، والمسافة بينهما نحو ساعتين بالقطار، يُرى في خلالها جبال النصيرية، وبينهما محطتان صغيرتان. وحماة مدينة جميلة، عدد سكانها نحو ٦٠ ألفًا، ونهر العاصي يخترقها ويشطرها شطرين، وهي كثيرة البساتين والحدائق، حتى إن مجموعها ليعدُّ متنزَّهًا يسرُّ الناظرين، في طرفها آثار القلعة القديمة، وقد أصبحت تلًّا من التراب ارتفاعه ٣٠٠ متر، والناظر منه يرى جبل زين العابدين وسهولًا تمتدُّ إلى حلب. ومدينة حماة من هذا المكان تظهر بكلِّ أحيائها وأجزائها المتعرِّجة التي ترويها السواقي المعروفة عندهم باسم ناعورة (ساقية) يأنَسُ الناس إلى صوتها في الليل والنهار، وهي تدفع إليهم الماء فتروي الحدائق والمنازل، وعندهم منها عدد كبير. وقد دُرْتُ في المدينة فكنتُ أرى من حدائقها الشجر الباسق فقط؛ لأنَّ أسوار المنازل هنا عالية بداعي الحجاب الشرقي، وفي وسط المدينة مواضع خالية لا غَرْسَ بها ولا بناء، هي مرابض للجمال التي يكثُرُ ورودها مع العربان والفلاحين ينتابون أسواقها الكثيرة، وأهمها السوق الطويلة، وهي طويلة بالفعل ولها سقف يقي الناس حرَّ الشمس وماء المطر، وفي حوانيتها كثير من الأقمشة الإفرنجية والسلع المختلفة.

وفي كلِّ أسواق حماة وكالات واسعة تضمُّ تجار العرب، ومعهم جمالهم والغلال التي أتوا لمبيعها. وفي هذه المدينة جامع السلطان، وهو كبير واسع وكرسي مطران الروم الأرثوذكس وكنيستهم. وفي حوش الكنيسة مقام المطران وقبور الموتى، وهي طريقة قديمة في الدفن جَرَوا عليها هنا إلى الآن. وفي هذه المدينة ديوان (سراي) للحكومة جميل، بُنِيَ في شارع واسع نظيف يُنَار بمصابيح الغاز، وإلى جانبيه صفوف من شجر الزنزلخت. وقد قصدتُ في آخر النهار قهوة السعدية على ضفَّة النهر، فألفيتُ الناس فيها يجلسون إلى كراسيَّ واطئة أو يفترشون الحصر ويقعدون إليها، ولا يشربون إلا القهوة أو عِرْق السوس، وأمَّا المسكرات فلا. والنهر عريض عند هذه المثابة، تكثر على ضفافه أشجار الحور والصفصاف والدلب والزنزلخت والقصب، ويُسْمَع صوت هاتيك النواعير أو السواقي من كلِّ جهة، وتجري في النهر هنا زوارق صغيرة يستأجرها بعض المتنزِّهين. وقد متَّعنا الأنظار بكلِّ هذه المشاهد في وادي نهر العاصي، وعُدْنَا من حماة إلى مصيف صوفر الذي كان مقرًّا لنا مدَّة هذه الرحلة.

دمشق

إن الطريق ما بين بيروت ودمشق من أجمل الطرق وأكثرها لذَّة؛ لأن المسافر بها يرى البحر والأنهار والجبال والأودية والغور والنجد والسهل والقمَّة، والشجر والخضر من كلِّ الأشكال. والقطار ينساب ما بين هاتيك القرى والعمائر متخلِّلًا كروم العنب وغياض الزيتون والصنوبر والتين والتوت، وغير هذا مما ذكرناه في وصف المشاهد السابقة. والمسافة بينهما في القطار ١٠ ساعات لا يملُّها المرء، ولا يميل إلى انقضاء زمان المرور في وسطها. والمحطَّات كثيرة قريب بعضها من بعض، وعددها ٢٥ محطَّة، هي بيروت وَبَعْدَها بخمس دقائق الكرنتينا، وبعد ذلك بربع ساعة الحدث، يُرى منها مطرانخانة الروم الأرثوذكس التي بناها السيد بولس مطران جبل لبنان. والطريق إلى هذه المحطَّة كلها بساتين ومزارع تكثر فيها أنواع الفاكهة والخضر، ثمَّ محطَّة بعبدا، وهي مقام متصرِّف لبنان في الشتاء. وعلى مَقْرُبَةٍ منها قبر فرانكو باشا المتصرِّف السابق، ويبدأ القطار بعد بعبدا بالصعود في الجبل فيبلغ محطَّة الجمهور، تُباع فيها الفواكه والخبز المرقق يكاد يكون قطر الرغيف ذراعًا، وهو مستدير رقيق كالورق الخفيف يصنعونه في قرى سورية، ولا خبز سواه في كثير منها. ويلي ذلك عاريا ثمَّ عالية فبحمدون فصوفر، وكلها من المصايف التي سبق ذكرها.

وبعد صوفر يدخل القطار في نَفَقٍ، ويخرج منه إلى ظهر البيدر، وهو يصعد صعدًا إلى جبلين. وهذا المكان مرتفع ١٤٨٧ مترًا عن سطح البحر، وهو أعلى نقطة في هذا الطريق، ينحدِرُ القطار بعده إلى محطَّة المريجات، حيث يرى المرء سهل البقاع المشهور — وقد تقدَّم الكلام عنه — وهو من السهول الأريضة التي لا يخلو قيد شبر فيها من الزرع، وعرضه يختلف من ٧ كيلومترات إلى ١٠، وبساتينه تحكي غوطة دمشق. ويلي ذلك محطَّات جديدة وسيدنابل وبعد معلقة زحلة — التي سبق وصفها — يقوم إلى رياق، وهي مُلْتَقى الأرتال، يتفرَّغ منها خط حمص وحماة وحلب الذي ذكرناه. ولا يزال القطر مُجِدًّا من هنالك في وسط السهول المرتفعة حتى يبلغ محطَّة يحفوفة، تظهر في الطريق جبال تناطح السماء، ثمَّ محطَّة سرغايا، وهي واقعة في منفسح من الأرض، مع أنَّ العلوَّ هنا يبلغ ١٣٧١ مترًا، ثمَّ يدخل في سهل الزبداني، وفيه مدينة بهذا الاسم، عدد سكانها نحو ٢٠ ألفًا، ولها شهرة ذائعة بأثمارها وفاكهتها لا تفوقها شهرة موضع في بلاد الشام. وتليها قرية بلودان، وهي مكان جميل كثير الأشجار، رقيق الهواء غزير الماء، وقد ارتفعت كلُّ هذه الأماكن عن البحر ارتفاعًا كبيرًا. وبعد محطَّات أخرى صغيرة يدخل القطار وادي بردي، ثمَّ يبلغ محطَّة عين الفيجة، حيث يتفجَّر الماء من نبعَين شهيين عذْبَين، ويتكوَّن منهما الماء الذي يجري في وسط مدينة دمشق، ويسقي منازلها وحدائقها المشهورة. وتلي ذلك محطَّات أخرى، هي الهامة ودمر والبرامكة، وهذه منتهى الطريق، كلها بساتين وحدائق ومزارع تَسْحَر الأنظار، وقد اشتُهر جمالها من قِدَمٍ حتى عُرِفَتْ مدينة دمشق بها من عدة قرون، وربَّما لم يكن في أوروبا متنزَّه أجمل من الأمكنة الواقعة ما بين عين الزبداني ودمشق، وهو يجتازه القطار في أكثر من ساعة، ولا تشبع العين والنفس معًا من النظر إليه.

هذا موجَز مما يُقال في طريق قليل مثله بين طرق الأرتال في سائر الأقطار. وأمَّا مدينة دمشق الفيحاء، واسمها بين العامة الشام، فمن أقدم المدن الوارد ذكرها في التاريخ، والبعض يذهب أنها أقدم مدينة باقية على عظمتها إلى الآن، قامت فيها دول سورية وآشورية وكلدانية كثيرة، وتغلَّب عليها الفاتحون الأجانب مرارًا حتى ملكها الفرس زمانًا، ثمَّ انتقلت من حَوْزَتهم إلى قبضة اليونان حين استولى إسكندر المكدوني على كلِّ مملكة إيران القديمة، وانتقلت إلى الرومان على عهد القيصر تراجانوس في سنة ١٠٥ بعد المسيح، فظلَّت من أشهر أجزاء ملكهم إلى أيام الفتح العربي، حين سيَّر الخليفة أبو بكر الصديق جيشًا من العرب تحت قيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، وقد دخلها هذان القائدان من بابين، وأحدهما جاهل بما فَعَلَ الآخر، غير أنَّ أبا عبيدة دخل مهادنًا مصالحًا وخالد دخل قاتلًا ضاربًا، فلمَّا التقى الرجلان في أسواق دمشق، وكلٌّ منهما على حالة، تخالَفَا وتعاتَبَا، ثمَّ تشاوَرَ الزعماء واتفقوا على اتباع رأي أبي عبيدة ومصالحة أهل الشام، وقد ولِّي معاوية بن أبي سفيان ولاية الشام بعد الفتح المذكور، وهو الذي استبدَّ بملك العرب بعد ذلك، وأسَّس الدولة الأموية، وجعل دمشق قاعدة أحسن السلطنات العربية من سنة ٦٦٠ إلى ٧٣٥ مسيحية. وقد ظلَّت البلاد من أملاك العرب على عهد الدولة العباسية وملوك الطوائف والمماليك والشركس والأكراد. وحَدَثَتْ في أيام دولتهم على عهد صلاح الدين الأيوبي حروب لهم مع الصليبيين، فحاصرها من ملوكهم لويس السابع ملك فرنسا مع كونراد أمير جرمانيا سنة ١١٤٨، ولكنهما لم يتمكَّنا من فتحها، وسنة ١٤٠١ دخلها تيمورلنك التتري كما دخل غيرها في غزوته الكبرى، وقد فَتَكَ بأهلها ونَقَلَ الصناع منهم إلى بلاده، ثمَّ أضرم النار في مبانيها. وسنة ١٥٦١ دخلت في حوزة الأتراك فَتَحَها السلطان سليم الأول، فهي تابعة لدولتهم إلى الآن، وحكمها إبراهيم باشا المصري من سنة ١٨٣٢ إلى ١٨٤٠، ثمَّ عادت إلى قبضة آل عثمان.

وقد امتازت دمشق بصنائعها القديمة، من ذلك الصيني، وقد زالت صناعته من نحو ٢٠٠ سنة، والقطع الباقية منه في المتاحف أو دور الأكابر تُعَدُّ من نفيس الآثار. ومنها الحرائر المعرقة والمقلمة والمخططة، نقلها الإفرنج عن دمشق، فهي تُعْرَف عندهم باسمها (داماس) إلى الآن. ومنها السيوف الدمشقية المشهورة، لم يُدْرِك الإفرنج سرَّها إلا من نحو ١٠٠ سنة، وصناعة الخشب المرصَّع بالعاج أو بصدف اللؤلؤ، وأشكال النجارة والصياغة بعضها زال وبعضها باقٍ إلى الآن. وأمَّا غوطة دمشق وبساتينها وحدائقها فإنها تُعَدُّ جنة الله في أرضه، وشهرتها قديمة عمَّت جميع الأقطار، وأحسن ما فيها الفواكه الكثيرة، وهي على لذَّتها رخيصة الأثمان، وبعضها مثل أنواع من المشمش والتوت والآس والخوخ والعنب الزيني لا نظير له في سائر الأنحاء.

ومنظر دمشق من الظاهر غير جميل؛ لأن الشوارع ضيِّقة عوجاء، والأرض غير مرصوصة والأنوار في الليل قليلة. وأمَّا منازل المدينة من داخلها فكثيرة الجمال، ومعظمها على النسق الشرقي؛ أي إن فيه ساحة من حولها الغرف، وفي الساحة أشجار وأغراس وبِرَك ماء، وقد تكون البرك في داخل بعض الغرف أيضًا، والأرض كلها مبلَّطة بالرُّخام الجميل، وبعض السقوف والجدران مذهبة أو مزخرفة بفاخر الفسيفساء، حتى إن الإفرنج إذا رأوا بيوت سراة دمشق أذهلهم ما فيها من دقيق الصناعة وبديع الزخارف، مثل منازل سعيد باشا وهولو باشا والبارودي والقوتلي، وفي أكثرها من الصيني النفيس والطنافس الفاخرة، وغير ذلك ما يبهر الأبصار. ولمَّا كان هذا حال دمشق، وهذه آيات جمالها المتوفِّرة داخل البيوت، فقد اعتاد أهلها قضاء أوقات الفراغ في البيوت أو في الغوطة والمتنزَّهات الطبيعية المحيطة بالمدينة. وطول هذه المدينة نحو خمسة كيلومترات، وعرضها نحو ثلاثة، وسكانها لا يقلُّون في هذه الأيام عن ثلاثمائة ألف نفس بوجه التقريب.

وتُقَسَّم دمشق إلى عدَّة أحياء، منها الصالحية والميدان وسوق ساروجة والقميرية وباب توما وهو حي النصارى. وفي هذه المدينة ١٧٣ جامعًا، أهمها الجامع الأموي المشهور، بناهُ الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقبل أن يبدأ البناء في سنة ٨٨ هجرية جَمَعَ إليه النصارى وطَلَبَ منهم كنيسة مار يوحنا حتى يضيف أرضها إلى أرض الجامع الجديد، فأبوا واستعانوا بالعهد المعطى لهم من خالد بن الوليد وأبي عبيدة، فلم يعبأ به وأَمَرَ بهدم الكنيسة ثمَّ بُني هذا الجامع موضعها، وأشغل عشرة آلاف بنَّاء ونقَّاش وعامل آخر مدَّة تسع سنين حتى إذا انتهت الزخارف الكثيرة وتمَّت الفسيفساء المذهبة والقُبَّة الكبرى المعروفة بقُبَّة النسر، كان الجامع آية في حسنه وبهائه، وله منارتان، إحداهما منارة العروسة والثانية منارة مريم، هما من أعجب المنائر زخرفًا وشكلًا، وقد احترق معظم هذا الجامع سنة ١٨٩٣، فجُمع ٨٠ ألف جنيه أكثرها تبرعات من الناس والبعض من ضرائب فُرِضَت على اللحم، أعادوا البناء بها، وطوله ٢٥٠ مترًا، وعرضه ١٨٢.

وأسواق دمشق شرقيَّة الشكل، أكثرها مسقوف وضيِّق، ولكن فيها سوق الحميدية الجديدة وسوق الخوجة وسوق محمد علي، تعدُّ كلها من الأسواق الحسنة الجديدة. والحمَّامات في دمشق كثيرة ومشهورة يؤمُّها خلق كثير، وفيها من الخانات أو الوكالات عددٌ كبير، أقدمها خان أسعد باشا وخان سليمان باشا. وجوامعها كثيرة أيضًا، أهمها بعد الجامع الأموي جامع السنانية وجامع المعلق وجامع درويشية. وأحسن أبنيتها العمومية ديوان الحكومة ودائرة الأراضي السنية وسراي السر عسكرية. وأشْهَر بناء فيها تاريخي كنيسة مار حنانيا في الباب الشرقي، ومكتبة الظاهر وضريح صلاح الدين الأيوبي، والمدينة تُنَار الآن بالأنوار الكهربائية، وفيها ترامواي كهربائي، وإليك وصفها على وجه الإجمال:

إن الداخل إلى دمشق من المحطَّة يمرُّ في المرجة، وهي بقعة شهية سندسية يكسوها العشب الطبيعي، وتأتيها ألوف الناس لقضاء أوقات الفراغ والنُّزْهَة على ضفَّتَي نهر بردي الذي يشطرها شطرين، ومن فوقه في هذا المكان عدة جسور، وإلى كلٍّ من جانبيه طُرُق حسناء ومسالك للمارَّة والخيل والعربات. والنهر هنا يقرُبُ من ترعة الإبراهيمية في مصر بعرضه، تحد مرجته من اليمين والشمال غابات كثيفة من أشجار الحور والدلب والصفصاف. ويليها جامع السلطان سليم المشهور بقُبَّاته الكثيرة، ثمَّ ديوان الولاية وسراي الدائرة السنية، فالميدان فبعض الفنادق، وهي أحسن ما في دمشق من نوعها في هذا الميدان، وفيه عمود تذكار سكَّة الحجاز الحديدية نُقِشَ على قاعدته رسوم التلغراف وسكَّة الحديد وجامع المدينة وبعض الأشعار التركية مذهبة، وقد كُتِبَتْ بخطٍّ جميل. وتبدأ من هذا الميدان السوق الحميدية — التي مرَّ ذكرها — وفي آخرها الجامع الأموي — وقد مرَّ ذكره أيضًا — دخلناه وتأمَّلنا رحْبَته الواسعة الكبرى، ورأينا بناءه قائمًا على ٤٠ عمودًا ضخمًا وُضِعَتْ صفوفًا، ويمكن لأكثر من ١٥ ألف رجل أن يصلِّي في صحن هذا الجامع الكبير، ومحرابه جميل من المرمر الملون لا تشبع العين من النظر إليه. وفي هذا الجامع قبر النبي يحيى (يوحنَّا)، وله قُبَّة عظيمة عالية على جوانبها أسماء رجال الصحابة، وفي بعض جوانبه آثار الكنيسة السابقة، وكتابات يونانية لم تزل واضحة معنى إحداها «نحمدك اللهم في سائر الأجيال.» وقد ارتقيتُ المئذنة على ١٨٧ درجة، ورأيتُ الغوطة والمدينة من داخلها كأنها قطعة من الصخر الرمادي في إطار من الزمرد الأخضر الشهي، وذهبتُ لزيارة قبر السلطان صلاح الدين الأيوبي، ونظرتُ في الطريق قبر الملك الظاهر بيبرس مغطَّى بشال من الكشمير، وقد جمعتُ عنده مكتبة من المؤلَّفات العربية القديمة على عهد مدحت باشا، وهو أبو الدستور العثماني وأحد ولاة سورية السابقين. أمَّا قبر صلاح الدين فداخل حديقة صغيرة فيها بِرْكَة ماء وفوق القبر إكليل وضعه إمبراطور ألمانيا، وقد عُقد فيه العلم الألماني والعلم العثماني. ومن هناك سِرْنَا إلى سوق باب البريد، ويليه سوق الدراع وسوق ساروجة وسوق البزورية، حيث تُباع الحلويات اللذيذة. وفي أسواق دمشق حركة تجارية كبرى؛ لأنَّ أهل المدينة نحو ٣٠٠ ألف، ولا يقلُّ أهل الضواحي والنواحي المحدقة بها عن ذلك، وكلهم يشترون حوائجهم من هذه الأسواق. وقد دخلنا بيت أسعد باشا العظم، وهو من المنازل الفخيمة المشهورة في دمشق، فدار حضرة صالح بك، أحد الورثة معنا يشرح لنا مناظره، وما فيه من النفائس المذهبة والزجاج القديم والفسيفساء الجميلة. وقد بُني هذا البيت من ١٨٠ سنة، ودخلنا أيضًا بيت القوتلي، له ردْهة فسيحة واسعة مبلَّطة كلها بالرُّخام الأبيض النقي، ومنظرها يشرح الصدور وفي وسطها بِرْكَة ماء معين، تحيط بها الأغراس وأشكال الزهر وبعض الأشجار، والغرف في دائرة هذه الرحبة، أهمها قاعة الاستقبال بما فيها من فاخر الفسيفساء، وهي تصلح لدور الملوك.

ثم قصدتُ ضواحي دمشق التي قيل في وصفها نثرًا وشعرًا ما لم يُقَلْ في وصف مكانٍ آخر، فالحق يُقال إن غوطة دمشق وضواحيها من أجمل مناظر الأرض. وأشهى متنزَّهاتها على الإطلاق متنزَّه الربوة، حيث تمرُّ أنهر خمسة إلى دمشق، وقد ذكرناها قبل الآن. ومنها موضع اسمه الشادروان، ومنها متنزَّه دمر — وقد مرَّ ذكره أيضًا — وكلها متناسقة متشابهة الجمال؛ لأنها مجموع حدائق وبساتين وغياض وجنات تجري من تحتها الأنهار. وزُرْتُ الصالحية أيضًا، وهي قرية متصلة بدمشق، وقد بُنيت على هضبة حسناء، وفيها مصطبة عالية تُعْرَف بمصطبة الإمبراطور؛ لأن إمبراطور ألمانيا وَقَفَ عليها حين أتى هذه المدينة ورأى المحاسن منها. وعند رجوعنا من الصالحية مررنا بجنينة الدفتردار، حيث تَصْدَح الموسيقى بالأنغام العربية والتركية ويختلف الناس في الليل والنهار. وقد تجوَّلت في باب توما، وهو حي النصارى، ورأيت ما يليه من البساتين الكثيرة، معظمها داخل أسوار عالية من اللبن أو التراب الممزوج بالتبن. ورأيتُ هنالك شجرة دلب على مَقْرُبَةٍ من خان الباشا يُقال إن عمرها ٣٠٠ سنة، فرغ قلبها من إحدى جهاتها، فعُمل فيه دكان، وهي نامية بعروقها إلى الآن.

وقد زُرْتُ بطركخانة الروم الأرثوذكس في دمشق، وهي بناءٌ واسع داخل حديقة غنَّاء وتشرَّفتُ بمقابلة غبطة البطريرك غريغوريوس المشهور بالصلاح والتقوى، ولمَّا انتهيت من مشاهدة ما في دمشق برحتُهَا قاصدًا حلب الشهباء.

بين دمشق وحلب

إن المسافة بين المدينتين بسكَّة الحديد ١٨ ساعة، فإنِّي قمتُ في الصباح من دمشق، ولمَّا بلغت محطَّة رياق انتقلت إلى قطار آخر بلغت به بعلبك بعد ٦ ساعات، وبتُ ليلتي هنالك. وفي الصباح التالي قمتُ من بعلبك عن طريق حمص وحماة — وقد مرَّ ذكرهما — وكان القطار يسير من حماة إلى محطَّة قمحانة على ضفاف نهر العاصي، تارةً إلى يمينه وطورًا إلى يساره. وبعد أن وَقَفَ في محطَّات أم كوكب وأم الرحيم وتل الجن والضويحي تظهر منها جبال أنطاكية وإسكندرونة عن كثب، اقترب من مدينة حلب وجعل يخترق بساتينها المشهورة، وكان أول ما رأينا من مناظرها القلعة القديمة، ومعظم المسافة بين حماة وحلب سهل واسع، أحمر ترابه، كثير خصبه، تُزْرَع فيه الحبوب والخضر على أشكالها، وفيه كثير من الأنعام ترعى وبعض مضارب لقبائل العرب.

وحال وصولنا حلب ركبنا عربة وسِرْنا في طريق تُعْرَف باسم السكَّة الجديدة، وهي حديثة ومستقيمة الشكل، إلى جانبيها صفوف الشجر، وفي طرفها نهر قويق، مررنا فوق جسره إلى فندق العزيزية في ضواحي حلب، وهو أحسن ما في هذه المدينة. وحي العزيزية هذا أجمل الأحياء في حلب، فيه منازل بديعة بُنِيَتْ بالحجر المنحوت، وفُرِشَتْ بفاخر الرياش لأكابر الحلبيين، وقد زُرْتُ بعضهم، فلقيت ما اشتُهر من لطفهم ومؤانستهم للغريب.

وقد دُرْنَا مع دليل الفندق في حي العزيزية، فوصلنا باب الفرج وفيه برج بأعلاه ساعة، ثمَّ دخلنا البلد من باب أنطاكية، وهو عالٍ وواسع وقديم عهده، صُنِعَ من الخشب ولُبس بالحديد والمسامير، مثل باب قلعة مصر، دخلنا منه على سوق الزرب، وهي سوق طويلة يؤمُّها الأهالي، ويتفرَّع منها عدة أسواق، حيث يأتي العرب والفلَّاحون؛ لبيع الحاصلات ومشترى اللوازم. وفي هذه الأسواق الوكالات أو الخانات المشهورة، مثل خان النحاسين وخان الجمرك وخان العلبية وخان الوزير، وهو ذو بوَّابة شاهقة من الرُّخام الأزرق قديمة العهد يتفرَّج عليها سياح الإفرنج كثيرًا، وخان الصابون وفيه البنك العثماني. وقد مررنا بجامع زخريا، وهو أكبر جوامع حلب، وخرجنا من باب النصر فعُدْنَا إلى الفندق.

وفي هذا النهار ذهبنا إلى حارة الصليبة، ورأينا كنيسة الموارنة وهي أكبر كنائس حلب، فكنيسة الروم الكاثوليك، فكنيسة الروم الأرثوذكس، وهي قائمة على أربعة أعمدة من الرُّخام الأصفر، كلُّ عمود منها حجر واحد. وزُرْنا سراي الحكومة حيث قابلنا دولة ناظم باشا الوالي صاحب الأيادي البيضاء. والسراي قديمة مثل كثير في حلب، ولكن التحسن منتظر بعد أن اتصلت حلب بغيرها من المدن بواسطة سكَّة الحديد، والبناء الآن قائم فيها على قدم وساق. وقضيتُ السهرة في موضع طرب (أو نوبة) كما يقول الحلبيون، وهم يقعدون حول المغني يدخِّنون الشيشة أو يشربون القهوة والسوس، ولا يضجُّون ولا يقطعون الغناء على المغنِّي في أثناء تلحينه كما يفعل عامة المصريين، ولكنهم يبدون آيات الاستحسان بعد كل دور.

وقد ذهبنا إلى كروم الفستق المشهورة، وهي التي تميِّز حلب عن غيرها؛ لأن الفستق لا ينمو إلا فيها، وهي — أي الكروم — في خارج البلد مسيرة ساعة بالعربات عنها في طريق يمكن الوصول منها إلى بغداد. وهذه الكروم من مثابات الأهالي في أيام موسمها، وهي جميلة المنظر تتدلَّى عناقيد الفستق الحمراء من أشجارها الكبيرة كأنما هي العنب، وموسم الفستق هنا كبير يستحقُّ الاعتبار. ثمَّ عدنا إلى الفندق بطريق جنينة الجانكية، وهي من مثابات المتنزِّهين في هذا البلد الجميل.

ولا بدَّ لي قبل نهاية الكلام عن حلب أنْ أذكر شيئًا عن قلعتها القديمة بناها سلوقس الذي بنى هذه المدينة فوق تل يُشْرِف على المدينة، وزاد كسرى في منعتها وبنائها، ويظهر من تاريخ حلب أنَّ قلعتها كانت عقدة الفاتحين وشاغل القواد الهاجمين فيما مرَّ من العصور، وقد اشتغل بها كثير من أمراء العرب وسلاطينهم، مثل سيف الدولة وصلاح الدين وغيرهما، ومع كلِّ ما مرَّ عليها، فإن أسوارها باقية على أصلها تقريبًا إلى الآن.

هذا وإنِّي رجعتُ من حلب بسكَّة الحديد التي ذكرتُها إلى مصيف صوفر في جبل لبنان، وذهبت منها يومًا إلى بيت الدين عاصمة الجبل، ونزلنا فيها ضيوفًا على سيادة المفضال المطران بولس بصبوص رئيس أساقفة صور وصيدا للطائفة المارونية، ومنزله من القصور التي بناها الأمير بشير المشهور، وذهبنا في الغد إلى ديوان الحكومة اللبنانية، حيث قابلنا دولة المتصرِّف، ورأينا منه لُطْفًا وإكرامًا، ودُرْنَا مع أحد حُجَّابه نتفرَّج على السراي وما فيها من الفسيفساء القديمة. ثمَّ ذهبنا إلى دير القمر، وهي على مسيرة نصف ساعة، ودخلنا السراي القديمة فيها حيث حصلت مجزرة سنة ١٨٦٠ وغيرها من الحوادث المشهورة في تاريخ هذه البلاد، ثمَّ رجعنا إلى صوفر حيث قضينا بقية الصيف، وعُدْنَا إلى مصر، والحمد لله في كلِّ حال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤