بلاد اليونان

خلاصة تاريخية

إن تاريخ الروم هو بدء تاريخ أوروبا القديم، وتقدُّم هذه الأمة وعزها الغابر مما تُضْرَب به الأمثال بين الناس، ونوابغ اليونان القدماء وعظماؤهم معروفة أسماؤهم في كلِّ مكان، فليس يمكن التوسُّع في ذكر تاريخهم القديم هنا؛ لأنه يمتدُّ إلى أكثر من ١٨٠٠ سنة قبل المسيح، وغاية ما يمكن أن يُقال في هذه الخلاصة الموجَزَة أنَّ مملكة الفُرْس لمَّا أغارت على سوريا ومصر وآسيا الصغرى استولت أيضًا على جزء من هذه البلاد، ولكن الأروام قاوموا جيوش فارس، فسيَّر عليهم ملكها داريوس جيشًا، وأرسل أسطولًا ينقل الجنود عن طريق خليج ماراثون، حيث نزلت العساكر وتقدَّمت على السهل المعروف بهذا الاسم، وهو قريب من مدينة أثينا التي كانت يومئذٍ مثل بقية مدن اليونان دولة مستقلَّة بنفسها منافسة لإسبرطة وكورنثوس وغيرهما من المدن اليونانية، فأرسلت أثينا عشرة آلاف مقاتل لمحاربة جيش داريوس تحت قيادة ملتيادس، فظنَّ الفُرْسُ حين رأوا هذا الجيش الصغير أنَّ الروم قوم مجانين، ولكنهم حاربوا متفانين دفاعًا عن وطنهم، فكانت النتيجة أنَّ الفُرْس هُزِمُوا بعد أن قُتِلَ خلق كثير منهم، وهربوا إلى سفنهم فعادت السفن بهم إلى آسيا الصغرى. واستمرَّت الحروب متواصلة تقريبًا بعد هذه الحادثة إلى ما بعد وفاة داريوس حتى إن خلفه زركسيس استعدَّ لحرب هائلة، وجنَّد لها أكبر جيش سُمع به في تاريخ الأقدمين. وقد بالغ مؤرِّخو اليونان في وصفه، حتى قالوا إنه بلغ الملايين، جُمِعُوا من كلِّ أقطار آسيا التي استولت عليها دولة الفرس في ذلك الزمان، وقد ركب هذا الجيش العرمرم في ٤٢٠٠ مركب وتقدَّم على بلاد الروم، وكانت البلاد قد استعدَّت للدفاع، ولكن دفاعها لم ينفع فتيلًا؛ لأنَّ الفُرْسَ دخلوا أثينا وأحرقوها وهدموا تماثيلها ومعابدها، ولكن الأروام انتصروا في عدَّة جهات أخرى برًّا وبحرًا حتى اضطرَّ زركسيس أن يعود إلى بلاده بعد أن ترك قائدًا ومعه ٣٠٠٠٠٠ محارب لإنجاز الحرب، ثمَّ تواردت نجدات الروم من سبارتا وغيرها حتى بلغت ١١٠٠٠٠ مقاتل، وذلك في سنة ٤٨٠ قبل المسيح، وظهر القوم على الفُرْسِ وطردوهم من بلادهم، ومن ذلك الحين بدأ تقدُّم اليونان وبلغوا أوج مجدهم القديم.

وفي سنة ٣٣٦ قبل المسيح قام إسكندر ذو القرنين ملك مكدونيا، وورث عن أبيه فيليب رئاسة دول اليونان كلها، وحارب بعض الخصوم في جوار مملكته، ففاز عليهم ثمَّ تقدَّم بجيش أكثره من الروم وعدده ٤٠ ألف مقاتل لمحاربة دولة الفرس، وهي يومئذٍ مملكة ضخمة وغنية، ولكنها كانت على غاية الضعف وسوء التدبير. وكان الإسكندر أقدر أهل زمانه على القيادة، ففاز على الفُرْسِ، وضمَّ كلَّ الأقطار الخاضعة لهم إلى مملكته، وملك بلاد اليونان بعد الإسكندر أحد قُوَّاده فبقيت البلاد له ولنسله حتى أغار عليها الرومانيون وضمُّوها إلى سلطنتهم، ثمَّ صارت جزءًا من مملكة القسطنطينية وبقيت كذلك فلم يقوَ العرب على فتحها حتى قامت دولة آل عثمان، وتقدَّم السلطان عثمان ابن السلطان أورخان على تلك البلاد من تساليا وعيَّن فيها حكامًا من القواصة استبدُّوا بالناس وجاروا جورًا لا مثيل له في التاريخ، كانوا يأخذون أولاد الروم وبناتهم أرقَّاء للخدمة في منازل الحاكمين، وقد عَزَمَ أحدهم مرة على إبادة الأروام جميعًا حتى لا يبقى مسيحي في الديار، ولكنه ذكره بعضهم أنه إذا فعل ذلك لم يبقَ النجار والفرَّان والخادم والخادمة وصانع الأحذية، ولا مَن يحرث الأراضي ويقدِّم خيراتها للحاكمين فعَدَلَ عن رأيه. وقد دامت هذه الحالة إلى سنة ١٨٢١ حين وقف جرمانوس مطران بتراس في الكنيسة من بعد القداس في يوم عيد البشارة، وفاه بخطبة مؤثِّرة محزنة، ختمها بالقول إنه لا بدَّ للخلاص من الذلِّ إما بالموت أو بالاستقلال. وقد جعل الأروام عيد البشارة عيد الاستقلال والحرية، يقيمون فيه الصلاة ويفرحون في كلِّ سنة كالفرنسويين في يوم عيد حريتهم ١٤ يوليو. ولمَّا علم بالثورة إسكندر أبسلانتي — وهو ضابط روسي، أصله من بلاد الأروام — دخل بلاد الدولة يحرِّض الأروام فيها على العصيان، ولكنه ضُبِطَ ووُضِعَ بالسجن فمات فيه. ثمَّ ذهب أخوه دمتريوس أبسلانتي إلى بلاد اليونان يحارب معهم مدَّة الحرب كلها، فلمَّا دخلت سنة ١٨٢٣ كانت الحرب سجالًا والمعارك بين الأروام والأتراك دائمة برًّا وبحرًا، فإن الروم بنوا سفنًا، واستلم قيادتها رجل جَسُور اسمه كنارس، وآخر اسمه مايوليس كان لهما اليد الطولي في الانتصار على المراكب العثمانية، حتى إن السلطان العثماني دعا محمد علي والي مصر؛ ليساعده على إخماد ثورة الروم، فقام إبراهيم باشا من مصر في سنة ١٨٢٥ ومعه العساكر والمدافع أنزلها في السفن، وكان يفتح البلاد ويُصْلَي العصاة نارًا حامية، ولكنه لم يقدر على فتح بلدة ميسولوغي؛ فإنها حاصرت من شهر أبريل سنة ١٨٢٥ إلى شهر أبريل سنة ١٨٢٦، وقد اكتسبت هذه البلدة شُهْرَة ما زالت ترنُّ في آذان الأروام إلى هذا اليوم؛ لأنها وقفت في وجه إبراهيم باشا عامًا كاملًا، ومما زادها شهرة أنَّ النساء والبنات كانت تحارب مع الرجال، فشبان اليوم يفخرون إذا اقترنوا بابنة ميسولوغية كأنها من بنات الملوك، وكان المحرِّك للأروام على استقلالهم اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي المشهور؛ لأنه تطوَّع لمساعدتهم في استقلالهم، مثل اللورد كوكران الذي استلم قيادة السفن، والسير شرش استلم قيادة الجنود البرية، وتطوَّع غير هؤلاء رجال من روسيا وجرمانيا وفرنسا، ولكنَّ مساعدتهم لم تثمر؛ لأن عساكر الدولة دخلت أثينا في اليوم الثاني من شهر جونيو سنة ١٨٢٧. وفي هذه السنة حصل حادث كان من حظِّ الأروام، هو أن السفن الإنكليزية والفرنسوية والروسية كانت تروح وتغدو في المواني منعًا للتعدِّي والقسوة على أهالي البلاد، فلمَّا أتى فصل الشتاء رأت أن تلتجئ من العواصف وتقيم في خليج نافارين، حيث اجتمعت المراكب العثمانية والمصرية، فلمَّا رأى العثمانيون هذه السفن الأجنبية توهَّموا أنها تريد لهم شرًّا، فرموها بمدافعهم وانتشب القتال بين الطرفين، وكانت النتيجة أنَّ المراكب العثمانية، وخصوصًا المصرية وعدد هذه ٦٣ قطعة حربية دُمِّرَتْ عن آخرها. وفي سنة ١٨٢٨ عُين كابوديستريا من عمال سياسة روسيا الكبار وأصله رومي، رئيسًا لهيئة الحكومة اليونانية الجديدة لمدَّة سبع سنين، وكان الرجل ميَّالًا إلى الحكم المطلق المألوف في روسيا، فلم ترُق للأروام أساليبه في الحكم بعد استقلالهم؛ ولذلك قام بعضهم عليه وقتلوه رميًا بالرصاص في سنة ١٨٣١، وانتخب الشعب بعد هذا البرنس أوتو البافاري ملكًا، وذلك في سنة ١٨٣٢، فاعترفت دول أوروبا بانتخابه، وبدأت المملكة اليونانية الجديدة بشكلها الحالي من ذلك العام.

figure
جورج ملك اليونان.

وصل الملك الجديد إلى أثينا ومعه العدد العديد من أبناء جِلْدَته الألمانيين، قلَّدهم أهمَّ الوظائف في المملكة فأسخط عليه الأروام حتى إنهم قاموا وطلبوا منه أن يعزل جميع النُّظَّار والحكام ويعيِّن خلافهم من الوطنيين، وأن يشكِّل مجلس نواب، فعمل الملك برأي الشعب وشكَّل مجلس نواب في سنة ١٨٤٣، ولكن هذا الملك ظلَّ مترفِّعًا على الأروام غير ميَّال إلى مخالطتهم أو عامل على تعمير بلادهم، فكثر نفورهم منه، ودامت هذه الحالة إلى سنة ١٨٦٢ حين قام القوم وطلبوا من أوتو أن يترك بلادهم ويعود إلى وطنه، وقد زاد في نفورهم من الملك أوتو أنه لم يُرْزَق أولادًا، وهم كانوا يريدون أن يقوم له وارث يعيد مجد بلادهم فاضطرَّ أوتو أن يترك ملك اليونان، وعاد بأهله وصحبه على وطنه الألماني. وعلى ذلك انتخب القوم في سنة ١٨٦٣ البرنس وليم الدنماركي، وهو الملك جورج الحالي، وقد تنازلت له إنكلترا في أول حكمه عن جزر الأرخبيل الرومي، وضمَّت إلى بلاده أيضًا أجزاء من بلاد تساليا، ونُظمت قوَّات اليونان الحربية وماليتها وتحسَّنت مدائنها ونَمَتْ متاجرها وكثر المتعلِّمون فيها على أيام هذا الملك، ولم تحدث لبلاد اليونان حروب كبيرة كل هذه المدَّة ما خلا حربها الأخيرة مع الدولة العليَّة، وأمرها معروف.

والملك جورج وُلِدَ في عاصمة الدنمارك سنة ١٨٤٥، واقترن بالأميرة أولغا الروسية ورُزِقَ منها خمسة أولاد، منهم قسطنطين، وهو ولي العهد، وجورج ونقولا وأندراوس وخريستو فوروس. والملك جورج مرتبط بصلات القرابة مع إمبراطور ألمانيا؛ لأنَّ ولده ولي العهد متزوِّج بشقيقته، وصهره ملك الإنكليز وزوجته أقرب أقارب إمبراطور روسيا، فهو مسموع الكلمة في أوروبا يسعى في تقدُّم مملكته ونجاح بلاده.

أثينا

سبق لي أن أتيتُ بيرية، وهي ثغر أثينا، قادمًا من الآستانة حتى أكتبَ عن هذه البلاد بعض الشيء، ولكن حكومتها منعت الرُّكَّاب من النزول إلى البرِّ بالنظر إلى وجود بعض إصابات بالكوليرا في الآستانة، وعليه أتيت الإسكندرية وفي عزمي أن أعودَ إلى أثينا يومًا، وقد سهَّل المولى ذلك، فذهبتُ إليها في صيف سنة ١٩٠٦ حتى أضمِّنَ هذا الكتاب وصف عاصمة اليونان أسوةً لها بعواصم أوروبا وأميركا، فأقول:

قمنا من إسكندرية بالوابور الخديوي، وأول ما رأينا من الأرض جزيرة كريت إلى شمال الباخرة، وقد سارت تجاهها ثلاث ساعات تقريبًا، واقتربت منها حتى إن القرى كانت تظهر للمسافرين. وقبل أن تصل الباخرة ثغر بيرية بخمس ساعات تقريبًا مررنا بكثير من الجزر ذات اليمين وذات اليسار، بعضها عامر والبعض صخري لا ينبت فيه شيء، وقد أخبرنا ربَّان السفينة أنَّ هذه الجزيرة تُدْعَى سنبوس، وتلك سرموس وقِسْ على ذلك. وقال أيضًا إن البحر محصور ما بين هذه الجزر، ففي أيام العواصف يهيج هنا هياجًا شديدًا، مثل هياجه في بوغاز مسينا عند نابولي. ولمَّا بلغنا بيرية ظهرت المدرسة البحرية، وهي جميلة مبنيَّة على تلٍّ قائم بنفسه، ثمَّ البواخر الراسية في الثَّغْرِ المذكور أكثرها عدًّا السفن الصغيرة التي تسافر إلى الجزائر اليونانية وهي كثيرة، فنزلنا للكمرك، ومنه ذهبنا إلى مصيف فاليرا أو فاليرون الواقع على البحر، وموقعه يظهر من ظهر الباخرة، وهو يبعد عشر دقائق عن بيرية وخمس عشرة دقيقة عن أثينا. وهذه المدن الثلاث مرتبطة بخطِّ سكَّة حديد كهربائية يقوم منها وإليها القطار كل ربع ساعة.

بعد استقلال بلاد اليونان — كما هو معلوم ومشهور — حصلت مداولات دامت السنين الطوال لانتقاء مركز يكون هو العاصمة، فقرَّ الرأي في سنة ١٨٣٤ أن تكون أثينا العاصمة، وما هي يومئذٍ إلا قرية تُعَدُّ بثلاثمائة بيت، ذات شوارع قذرة وضيِّقة، وهم يدلُّونك لحد الآن إلى المنزل الذي أقام فيه الملك أوتو لمَّا نُصِّبَ ملكًا وهو منزل صغير حقير، ومع أنه كان في البلاد مدن أعظم من أثينا فقد أقرُّوا انتقاءها لما فيها من الآثار القديمة تذكِّر الأروام بمجد أجددهم، وهم قوم اشتُهروا بحب وطنهم.

على أنَّ هذه القرية أصبحت بعد زمن مدينة جميلة، فيها البنايات العمومية وجميعها من الرُّخام الأبيض الناصع، وهو كثير في ضواحي البلد حتى إن ثمنه لا يزيد كثيرًا عن ثمن الحجر، فالمرء يرى واجهات بعض المنازل والفنادق من الرُّخام، حتى إن مماشي شارع المدارس رُصَّ بالرُّخام الأبيض الناصع مثل قاعات المنازل، ولا مثيل لذلك في أوروبا. وسكان أثينا الآن مائة وأربعون ألفًا وثغرها — أي بيرية — يُعد بخمسين ألفًا، وقد اشتريت كتاب دليل أثينا وأخذتُ معي ترجمانًا من الفندق، وهاك وصف أثينا، وهو معروف لكثيرين من المصريين الذين يذهبون إلى الآستانة فيكون عندهم وقت أن يذهبوا من الثغر في سكَّة الحديد الكهربائية مسافة ربع ساعة يتفرَّجون على أثينا، وهم يرون عند المحطَّة ميدان أمونيا — أي الاتحاد — يتفرَّع منه عدَّة شوارع، أهمها شارع ستاديون، وهو في قلب العاصمة، يسير المرء فيه كما سِرْنَا، فيرى الحوانيت والقهاوي ومجلس النُّوَّاب ونِظَارات المالية والداخلية، وحركة ذهاب وإياب، وفيه خط للترامواي، وفي آخره قهوة زخرانوس، يُرى فيها ما بين القوم ضباط الجيش والبحرية بملابسهم الرسمية. وقد جرت العادة أن يختلف الغرباء إلى هذه القهوة، وأمامها ميدان فسيح يُدْعَى ميدان الكونستيتوسيون أو ميدان الدستور، وهو مثابة الناس عند زوال الشمس يخطرون به أو يجلسون في القهاوي.

ومن حول الميدان أحسن الفنادق، وهي كثيرة العدد، منها فندق بريطانيا العظمى، واجهته من الرُّخام الأبيض، ويلي من هذا الميدان لجهة الشمال حديقة فيها أشجار البردقان أو الفلفل البري، وهو كثير في الشوارع الأخرى؛ لأنه يفيد في تحسين الهواء. ومن هذه الحديقة يمكن الوصول إلى قصر الملك، بُني سنة ١٨٣٤ على تلٍّ منفرد، والبناء بسيط داخلًا وخارجًا، يجوز الدخول إليه كما دخلنا. وكان دخولنا من سُلَّم رخام درجاته عشر، إلى رواق قائم أمام القصر على عشرة أعمدة ضخمة من الرُّخام. وكان دليل القصر واقفًا هناك رافقنا إلى الدور الأعلى من سُلَّم رخام، درجاته أربعون، فرأينا عند باب الدخول صورة الملكة بنيلوب والدة تيلماك، ثمَّ دخلنا الردْهَة الخارجية، فيها أعلام رومية وتركية باقية إلى الآن من أيام حرب الاستقلال في سنة ١٨٢١. وفي دائرة الردْهة من الجهات الأربع صور بالزيت تمثِّل الوقائع الحربية فيها الأتراك بالعمائم يطلقون البنادق والأروام بلباسهم الأرناءودي وغيرهم بالسراويل الطويلة. وفي بعض المواقع كان القتال بالسيف الأبيض، وهناك صورة الموقعة البحرية المعروفة بموقعة نافارين السابق ذكرها في المقدِّمة.

ثمَّ دخلنا قاعة العرش، وفيها عرش من قطيفة حمراء وكرسي آخر يجلس إليه الملك عند مقابلته الزائرين، ثمَّ قاعدة الاستقبال وهي رحْبَة يُقام فيها حفلة رقص في رأس كل سنة، يؤمُّها ألف مدعو تقريبًا من أعيان البلد، وليس فيها مفروشات فاخرة عدا عدَّة ثريات من النحاس الأصفر المذهَّب تُنَار بالكهرباء. وبعد ذلك وَقَفْنَا في شرفة القصر، وهي تطلُّ على الميدان السالف الذكر وقسم كبير من البلد. ولهذا القصر حديقة كبرى يمكن الدخول إليها، ولكن لا يجوز شُرْب الدخان فيها بأمر الملكة. خرجنا من القصر إلى الميدان السالف الذكر، ومنه سِرْنَا في شارع هرمس لجهة الغرب، في أوله قهوة تُبَاع فيها حلويات شرقية، كالبقلاوة والكنافة، وهي مثابة العائلات. والشارع المذكور طويل وعريض جميل المنظر، فيه منازل جميلة وحوانيت كبيرة تُبَاع فيها البضائع الأوروبية النفيسة.

وفي الغدِ ذهبنا إلى شارع المدرسة، وهو أجمل الشوارع وأعرضها، مماشيه مبلَّطة بالرُّخام الأبيض الناصع، وفيه ثلاثة مبانٍ فخيمة، واجهاتها وعُمُدها وأروقتها الضخمة خارجًا وداخلًا من الرُّخام، أولها دار الأكادمي أو مجمع العلماء، بُنِيَتْ كلها من الرُّخام، وقد بناها البارون سينا على طرز دور العلوم في باريس وبرلين، وهو يونانيُّ الأصل، اكتسب ثروة من إقامته في عاصمة النمسا، وتجنَّس بالجنسية النمساوية، ولكنه لم ينسَ وطنه. وداخل هذا البناء قاعدة فيها المقاعد للمباحث العلمية، وصور بعض العلماء، وصور بالزيت ذات قيمة عظيمة، ويمكن الوصول من هذه الدار إلى متحف النقود، فيه شيء كثير من النقود الذهبية القديمة مرتَّبة حسب تاريخ ضربها، من ذلك نقود من أيام إسكندر المكدوني لا نظير لها في متاحف أوروبا، وقد أُقيم خارجًا تمثال البارون سينا؛ ليخلد ذكر اسمه.

وعلى بضع خطوات البناء الثاني، وهو المدرسة الكلية، بُنِيَتْ في سنة ١٨٣٧، ومدخلها من رواق بُني على جملة أعمدة رخامية ضخمة، وعلى يمين الباب تمثال البطريرك غريغوريوس الذي قَتَلَه القواصة في الآستانة لما ثار الأروام بطلب الاستقلال في سنة ١٨٢١. وعلى شماله الخطيب والشاعر ريجاس الذي كان يلقي الخطب ويقول الأشعار الحماسية في الحرب، وهناك أيضًا تمثال غلادستون السياسي الإنكليزي الشهير، الذي كان له فضلٌ كبيرٌ على مملكة اليونان. وأمَّا البناء الثالث فهو المكتبة العمومية، بناها الخواجة فاليانوس، فيها مائتان وخمسون ألف مجلد، وقد نُصِبَ له تمثال يخلِّد ذكر اسمه. وليس بعيدًا من هذا الشارع مدرسة عظيمة للبنات معروفة بمدرسة أرساكيون على اسم الخواجا أرساكس الذي بناها بماله.

ذكرتُ أن ميدان الاتحاد يتفرَّع منه جملة شوارع، منها شارع يُدْعَى باتيسا، وهو أطول شارع في أثينا، غُرِسَ الشجر إلى جانبيه، وفيه المتحف والدخول إليه من حديقة، وقد قُسِّم عدة أقسام، منها القسم المصري فيه موميات وتماثيل مصرية من البرونز والحجر وفُخَّار وجعلان، وهنالك تمثال امرأة من خشب راكعة وهي تعجنُ، والتمثال الآن ذو قيمة عظيمة، مثل تمثال شيخ البلد الخشبي في متحف مصر، له سمعة في كلِّ أوروبا. وقد جَمَعَ هذه الآثار رومي اسمه دمتريو يوانيو من مصر منذ ١٨٧١ وأرسلها إلى هذا المتحف.

وفي المتحف المصري المذكور غرفة خصوصية على اسم روستوفتش بك المقيم بمصر الآن، جُمع فيها شيء كثير من الآثار والعاديات المصرية هدية للمتحف المذكور. فالرومي ولو تغرَّب عن وطنه يذكره في كلِّ حالة، حتى إن أولاده الذين يولَدُون في بلاد غريبة لا ينسون وطنهم كما هو معلوم ومشهور. وفي هذا المعرض أيضًا القسم اليوناني، وضعوا فيه تمثالًا وجدوه في البحر، أعني أن الغوَّاصة وجدوا في قاع البحر قطعًا صغيرة مجموعة بعضها يلي بعضًا فأخرجوها، ورَكَّب أجزاءها بعد ذلك عالم طلياني حسب الوضع الأصلي، فكان منها هذا التمثال. وهناك تماثيل الآلهة أو المعبودات اليونانية القديمة، مثل نبتون إله البحر، وأثينا معبودة الصحة، وسيأتي ذكرها. وهناك أيضًا قبور من الرُّخام نُقِشَ عليها رسوم حوادث التاريخ اليوناني القديم، من ذلك رسم معركة مراثون التي حَدَثَتْ للقوم مع جيش داريوس ملك الفرس بالقرب من أثينا، وتمثال عسكري مات في الحرب وهو ما زال راكبًا على الحصان ووالده ووالدته على يمينه وشماله يندبانه، كل ذلك من الرُّخام. أمَّا المصوغات الذهبية التي وُجِدَتْ في الكهوف كالأساور والحلق والخلاخل؛ فإنها تُعَدُّ بالألوف، وهي أكثر هنا من نظائرها في متحف مصر، وهناك أيضًا دهليز طويل فيه قسم الفُخَّار كالآنية والأباريق وُجِدَتْ تحت الردم في سهل طروادة وأتيكا، يدلُّ تاريخها أنها صُنِعَتْ من ٢٥٠٠ سنة قبل المسيح، وقد دُهِنَتْ بألوان باقية على حالها إلى الآن.

ويُقال بالاختصار إن متحف أثينا هذا فيه ٢٥ غرفة عدا الدهاليز والفسحات حَوَتْ ألوفًا كثيرة من القطع الأثرية، وقد طُبع عنها مجلد يُباع للراغبين في المتحف، فيه النِّمَر الموضوعة على القطع لمعرفة أصلها. وفي الشارع المذكور دار الفنون الجميلة — أعني الصور — والداخل إليه يعْجَب من فخامة البناء العظيم، وهو طبقتان جميعه من الرُّخام الأبيض الناصع، وفيه خارجًا وداخلًا ١٥ من الأعمدة الرُّخامية الضخمة الناصعة البياض تسطع وتلمع. وقد صعدنا سُلَّمًا له إطار من نوعه كله رُخَام فدخلنا قاعات الصور، أكثرها تمثِّل وقائع حرب الاستقلال والذين اشتُهروا بها.

الستاديون: ممكن الذهاب إلى الستاديون من ميدان الدستور السابق ذكره، وهو يعدُّ من أغرب الأماكن، كان يُقام فيه الألعاب الأولمبية، بُنِيَ في سنة ٣٣٠ قبل المسيح، وكان الخطيب اليوناني والوطني الشهير ليكورغوس يُلْقِي فيه خطبًا حماسية على القوم أثناء الحروب، ولا سيَّما في حربهم مع إسكندر المقدوني، بُنِيَ على شكل أمفيتياتر «مدرج» مثل ملعب الخيل، وكله من الرُّخام، ومقاعده حجارة مستديرة من الرُّخام أيضًا بدون مَسْنَد للظَّهْر، بلغ عددها خمسين ألف قطعة، وكانوا يقيمون فيه الألعاب الرياضية لأشدَّاء الرجال، وأهمها المصارعة، وكانوا يكلِّلون الظافر بإكليل من شجر الغار، حتى إن بطليموس ملك مصر الذي حَكَمَ فيها من سنة ٢٤٦ إلى سنة ٢٨٤ قبل المسيح ذهب من مصر ليرى هذه الألعاب، وكذلك ملك سوريا أنطيوخوس الذي حَكَمَ سوريا من سنة ١٦٤ إلى سنة ١٧٥ قَصَدَ هذا المكان أيضًا، وأجرى فيه بعض الترميمات، ولكنَّ هذا الملعب تخرَّب على ممرِّ الدهور، وأُخذت مقاعده الرُّخامية، حتى حركت الحميَّة الوطنية المرحوم أفيروف المثري الإسكندري المعروف، فأخذ في إعادة هذا البناء الفخيم إلى حالته الأصلية بثمانين ألف جنيه تعهَّد بدفعها عن طيبة خاطر، واستحضر مهرة المهندسين من إيطاليا وألمانيا اشتغلوا السنين العديدة في قطع الرُّخام من الجبل على شكل المقاعد الرُّخامية الأصلية، وأحضروها إلى هذا المكان، ووضعوا المقعد الرُّخامي لصق الآخر من أول دائرة الملعب صفوفًا صفوفًا، وأبقوا طريقًا ضيِّقًا للمرور بين كلِّ اثني عشر صفًّا، وكان طول المقاعد في دائرة الملعب إلى أعلاه ٦٠٠ قدم وعرضها ٤٠٠.

وللملعب المذكور أفريز من الرُّخام أيضًا، وهو الحائل ما بين المتفرِّجين واللاعبين، مثل ملعب الخيل، وأفريز آخر في أعلاه كذلك من الرُّخام. ومما يزيد البناء حُسْنًا أنه لا يُرى فيه حجر ولا حديد ولا آجر (طوب) ولا خشب، بل إن جميعه رُخَام في رخام، وكانوا قد جعلوا شهر أبريل من سياحتنا موعدًا لهذه الألعاب حسب العادة القديمة، واشترك فيها الرجال الأشدَّاء من أروام وغير أروام أتوا من أوروبا. ولكي أمثِّل للقاري هذه الألعاب وهذا المكان بنوع خصوصي، أقول إن ملك إنكلترا إدورد السابع حَضَرَ خِصِّيصًا من لندن ليرى الألعاب والمكان في ربيع هذه السنة، وأعطوا خمسين ألف تذكرة دخول لخمسين ألف مقعد، ثمَّ صرفوا ١٥ ألف تذكرة أيضًا للطالبين وقفوا حول الدائرة. فلمَّا وصلنا اندهشنا من رؤية هذا المكان وتأمَّلنا دائرته، ثمَّ تقدَّمنا صعودًا في إحدى هذه الطرق إلى أعلى صفٍّ فيه، وجلسنا إلى أحد هذه المقاعد فعددناها من الأسفل إلى الأعلى فكانت في صفٍّ واحد ١٠٥ مقاعد. فالستاديون أو الملعب هذا أعجوبة من عجائب العالم بين الآثار الباقية إلى هذا اليوم، وقد أُقيم تمثال المرحوم أفيروف بانيه عند باب الدخول وهو واقف يشير بيده إلى جهة الملعب ولسان حاله يقول: انظروا هذا، فهو من أعمالي.

الأكروبول: ومن أهمِّ ما يُرَى في أثينا أيضًا الأكروبول، ممكن الذهاب إليه من الستاديون، وهو معبد فيه جملة معابد بُني على مرتفع صخري في طرف البلد، علوه ٥٠٠ قدم، وهو يشبه آثار بعلبك، ولكنه حُفِظَ من العوامل الطبيعية والزلازل؛ لأن فيه للآن ٢٦ عمودًا طول كل منها ٢٨ قدمًا وسمكه ٥ أقدام، ولكن إذا أُضيف إليها القاعدة والتاج فيكون الطول ٣٣ قدمًا. وأمَّا بعلبك فلم يبقَ فيها إلا ٦ أعمدة فقط، ويوجد مثل هذه الأعمدة في الكرنك عند القصر في صعيد مصر، ولولا أنَّ الفرس خرَّبوا هذا المعبد عند استيلائهم عليه سنة ٤٨٠ قبل المسيح لبقي أقرب إلى الأصل مما هو الآن. ولكنَّ إسكندر المقدوني أعاد الأعمدة بعد انتصاره الباهر، قيل إن قيمة الذهب والعاج التي أُدْخِلَتْ في معبد أثينا بلغت «٦١٧» تالان أو نحو ١٥٠ ألف جنيه في ذاك الزمان. ولمَّا وصلنا صعدنا من سلَّم درجاته واطئة جدًّا، ولكنها متخربة نوعًا، ولا يبعد أنَّهم تركوها متخرِّبة على حالتها الأصلية؛ ليظهر قِدَمها، ودخلنا من باب سُمي باب بيلة؛ لأنَّ الموسيو بيلة الفرنسوي هو الذي اكتشفه في سنة ١٨٥٢ من تحت الحصون العثمانية التي كانت بُنيت فوقه. وأول معبد أشار إليه الترجمان وكتاب الدليل الذي كان في يدِنا معبد أثينا وقد تخرَّب، ولكن الأثريين الفرنسويين والألمانيين رمَّموه من أنقاضه المُلْقَاة في الأرض في سنة ١٨٣٦، وكانت أثينا إلهة الصحة؛ لأنه حدث في أثناء البناء أنَّ عاملًا سقط على الأرض وجُرح، وكان بيريكلس قد حلم في الليل أن أثينا أهدتْهُ إلى حشيشة تنبت قرب المعبد، يُقْطَف منها ويُدْهَن بها المجروح فيطيب، ففعلوا بالحلم وشُفي المجروح. وهناك معبد بروبيليا بُني في سنة ٤٣٧ قبل المسيح، وفيه رواق جميل قائم على تماثيل في غاية الدقة، أَخَذَ منها اللورد ألجين تمثالًا ونقله إلى متحف لندن. وقد قرأت في الكتب الإنكليزية تنديدًا على اللورد؛ لأنه خرَّب آثارًا كثيرة من المعابد اليونانية ونقلها إلى وطنه، وإنِّي أنصح القارئ قبل نزوله أن يقفَ في مكان في طرف الأكروبول لجهة البلد يُدْعَى منظر آمليا على اسم ملكة الأروام الأولى، فإنه يرى منه كل مدينة أثينا بميادينها وشوارعها وبناياتها، فلا يغيب شيء عنه. ويُرى أيضًا من الأكروبول عند أسفله تياترو ديونسيوس، بُني في سنة ٣٤٠ قبل المسيح، يضمُّ ١٤٠٠٠ شخص، وهو محلٌّ للخطابة تجتمع فيه الجمعيات للمداولة في شئون البلاد، وكان قد بقي فيه تمثال واحد، ولكنَّ قنابل الأتراك خرَّبته أثناء الحرب، وهم يومئذٍ ملكوا الأكروبول وأقاموا فيه وجعلوه حصنًا لهم. وفي الأكروبول نفسه متحف جُمع فيه آثار لا يُحْصى عددها كانت ملقاة على الأرض، وفيه جملة غرف ودهاليز فيها القطع الرُّخامية جميعها من بقايا المعابد. وقد رأينا من جملتها حجارة المعابد كانت مُلْقاة على الأرض، مدهونة باللون الأزرق والأحمر، وهذه الألوان باقية على أصلها لحد الآن مع أنه مضى عليها أكثر من ألفي سنة، وهي مثل التي في بعلبك. ومن المعلوم أنَّ عاصمة بلاد الأروام اشتُهرت في أوروبا وأميركا، ويقصدها السياح، ليس حبًّا في رؤية البلد، بل لرؤية الآثار القديمة فيها، فلا يخلو أحد أحيائها من آثار كثيرة يقصدها السياح، من ذلك قوس أدريين أحد قياصرة الرومانيين، ارتفاعها ٥٩ قدمًا واتساعها ٤٤، وهي قائمة على ١٣ عمودًا من الشرق و٩٣ من الغرب، و٦ من الجنوب و٦ من الشمال، طولها ٥١ قدمًا وقطرها ٥ أقدام ونصف. وبينما كنت سائرًا مع الترجمان دعانا لرؤية برج الهوا، وهو يدلُّ على المطر وحالة الهواء بواسطة علامات تخرَّبت، وقد بنى الأتراك فيه جامعًا صغيرًا، وهذا تخرَّب أيضًا، قرأتُ على جدرانه كلمة الجلالة حُفرت حفرًا على الجدار. ومن هذا المكان ذهبتُ إلى الكنيسة الكبرى وهي جميلة جدًّا، دَهَنوا جوانبها بالذهب، وليس فيها مقاعد مطلقًا، بل إن المصلِّين يقفون على أقدامهم، ما خلا الملك والملكة، فقد أعدُّوا لهما كرسيَّين.

ضواحي أثينا

سبق القول أنِّي أقمت في فالير من ضواحي أثينا، والذين يهجرون العاصمة من شدَّة الحر في زمن الصيف ويقيمون في الضواحي عدد كبير. وفالير هذه على شاطئ البحر مثل سان ستيفانو في رمل الإسكندرية، بُني فيها فنادق، ولكنَّ الوطنية حرَّكت همة المرحوم بستمازوغلو المثري ومدير بنك أثينا، فبنى فندق أكتيون الفخيم، وفيه العشرات من الأعمدة الرُّخامية الضخمة في الدور الأسفل ذات بياض ناصع، وفيه القاعات على الطرز الصيني والمصري بمفروشاتها. ولفالير رصيف ممتدٌّ على البحر مسافة ٣٠٠٠ متر تقريبًا، يُكْنَس ويرش بالمياه، وتَصْدَح به الموسيقى العسكرية في كلِّ يوم من بعد الظهر، فيتقاطر الناس أفواجًا لهذا المكان من العاصمة، والمسافة بينهما عشر دقائق، فبعضهم يجلسون في القهاوي الكثيرة العدد في الرصيف المذكور، أو يخطرون فيه ذهابًا وإيابًا، وفيهم الضُّبَّاط من عسكرية وبحرية بملابسهم الرسمية، وبعضهم يتناولون طعامهم على المنضدات المنتشرة على شاطئ البحر، وآخرون يولمون الولائم في الليالي المقمرة. والفنادق في هذا المكان رخيصة، ومأكولاتها بعيدة عن الغشِّ، فإن اللحوم والخضر والفواكه وغير ذلك جيدة. وهناك تياترو مكشوف؛ لأن الهواء جاف، وقد بنوا رصيفًا من الخشب أيضًا يُقام أحيانًا فيها حفلات رقص، ومنها تُرى المراكب الحربية الراسية في ميناء فالير، وهناك قوارب بخارية أو شراعية للنُّزْهة في البحر، وحمَّامات للاستحمام بماء البحر، بعضًا للرجال والبعض للحريم، يؤمُّها خلقٌ كثير في كلِّ يوم من بعد الظهر. ويحدُّ فالير من الشرق والغرب سهل فيه الزرع والضرع ومعامل للصناعة، ويحدُّ هذا السهل جبال قاحلة، مثل بعض أجزاء جبل لبنان.

كيفيسيا: هي ثانية الضواحي، ذهبنا إليها من العاصمة بالسكَّة الحديدية في ساعة في وسط أراضٍ ضعيفة التربة، وبعض أشجار الزيتون والتين هنا وهناك، ولكننا دُهشنا حين وصلنا من رؤية روضة غنَّاء، فيها الأشجار الباسقة وبِرَك المياه العديدة والزهور المتنوِّعَة، والناس في ذهاب وإياب في هذه الروضة حتى خُيِّلَ لنا أننا في حديقة فرسايل. ويتفرَّع من هذه الروضة عدَّة شوارع بُني فيها قصور جميلة داخل حدائق لطيفة، بناها الموسرون الأروام بعد أن حصلوا على ثروة من متاجرهم في بلاد الغربة وعادوا إلى وطنهم المحبوب؛ ليستريحوا من عناء الأعمال ويذوقوا ثمر أتعابهم، ومنهم من قضى السنين الطوال في القُطْرِ المصري، وهم الآن في أرغد عيش في هذه الجهة. وهناك فندق عظيم يؤمُّه خلق كثير خصوصًا في أيام الأحد من بعد الظهر.
طاطوي: أو هي ضاحية الملك؛ لأنَّ الملك بنى فيها قصرًا له ولأنجاله، ذهبنا إليها بالعربة من كيفيسيا مسافة ساعة، يريد المرء لو أنها تطول؛ لأنَّ الطريق في حرجة تمتدُّ مسافة ساعات في الطول والعرض من أشجار الصنوبر الأخضر والسنديان والبلُّوط والصفصاف، وأشجار برِّيَّة غضَّة ملتفٌّ بعضها حول بعض، حتى إنها غطَّت وجه الأرض. وقد خطَّطت الحكومة في وسطها شارعًا تمرُّ فيه عربتان فقط للذهاب والإياب. ولهذه الغابة رائحة عطرية، وتغرِّد فيها الطيور، وهي كثيرة ومتنوِّعَة في هذه الجهة، حتى إذا وصلنا المحل المقصود ذهبنا إلى الفندق الذي بُنِيَ فيه لراحة المسافرين، ثمَّ سِرْنَا إلى قصر الملك، وهو مبنيٌّ في الحرجة المذكورة، لم يقطعوا منها الأشجار والأعشاب إلا موضع بناء القصر فقط. وكان على باب الحرجة الخارجي الحُرَّاس، وهم يطلبون فقط أن يُكْتَبَ أسماء الزائرين في دفتر أعدُّوه لهذا الغرض. فسِرْنَا في الحرجة في الطريق الموصل للقصر، والقصر صغير وبناؤه بسيط ملتصق بقصور الأمراء أولاد الملك، ومن حوله حديقة رأيتُ فيها تمثالًا يمثِّل النسر يصيد غزالًا، وقد كان البرنس حليم باشا المصري مغرَمًا بهذا، فكان يركب جوادًا، ويأخذ النسر على كتفه الشمال، ولمَّا يرى الغزال من بعيد يدل النسرَ عليه فيطير النسر ويفقأ عينَي الغزال بجناحيه، والغزال يعدو ليتخلَّص منه، ولكن النسر يتبعه أينما سار، وهو مستمرٌّ على العمل المذكور حتى يصل الصيَّاد ومعه الكلاب، ويكون الغزال قد ضعف وتعذَّر عليه الفرار فيمسكه بيده. ويُرى من طاطوي سهل ماراثون حيث حصلت الموقعة الحربية في سنة ٤٩٠ قبل المسيح ما بين الفُرْسِ واليونان، كان الأروام فيها عشرة آلاف فقط تحت قيادة ملتيادس، وكان الفرس نحو ١٥٠ ألفًا، ولكنهم هُزِمُوا بعد قتالٍ شديدٍ وفرُّوا من وجه الأروام.

وكثيرًا ما يذهب السياح الإنكليز والأميركان إلى هذا السهل، ومعهم الخيام ينصبونها فيه، ويقيمون الأيام، وهم يُعِدُّون ذلك من دواعي الفخر والتباهي. وفي آخر النهار عُدْنَا من نفس الطريق.

قبل مبارحتي أثينا لا بدَّ لي أن أذكرَ الحماسة الوطنية المشهورة عن الأروام، وسعيهم وراء ترقية وطنهم وحبهم الشديد له، يشهد بذلك تعلُّقهم على ذكره، واستمرارهم على تحسين عاصمتهم مع قَطْعِ النظر عن الحكومة؛ لأنَّ كلَّ الأبنية العمومية التي شُيِّدَتْ في العاصمة من أموال الأهالي، وهذه أسماء الذين تبرَّعوا بالمال الوفير لهذا الغرض.

الخواجة أفيروف: بَنَى المدرسة الحربية، وصَرَفَ عليها مبلغ عشرين ألف جنيه، وبنى الستاديون أو هو ملعب الألعاب الأولمبية الذي سبق ذكره، وصَرَفَ عليه ثمانين ألف جنيه، وبنى سجونًا بعضها للأحداث الذكور والبعض للإناث بمبلغ أربعة آلاف جنيه، ولا يخفى ما في هذه السجون من النفع، ويُقال لها الإصلاحية، لا يختلط فيها الصغار بكبار المجرمين اجتنابًا لفساد الأخلاق، فضلًا عن أن الصغار يُعلَّمون صناعات شتَّى أثناء سجنهم، والغرض من ذلك منعهم عن الشرِّ وتقويم النفوس. ولمَّا فُتحت وصية الخواجة المشار إليه وُجِدَ أنه تَرَكَ فيها مائة وخمسين ألف جنيه لبناء مدرسة حربية تُعَلَّم فيها الفنون البحرية.
البارون سينا: سبق أنِّي ذكرتُ اسمه، بنى دار مجمع العلماء، وهو بناءٌ فخيمٌ عظيمٌ، صرف عليه مائتين وخمسين ألف جنيه.
الخواجة سنكرو: بنى دارًا للعجزة صَرَفَ عليها أربعة آلاف جنيه، وبنى دارًا أخرى للفقراء بمبلغ أربعة آلاف جنيه، ولمَّا نظر أنَّ حالة السجون العمومية رديئة — مثل ما كانت عليه سجون مصر في الماضي — بنى سجونًا على القواعد الصحيحة بمبلغ خمسة آلاف جنيه، ثمَّ بنى دارًا للبنات الفقيرات بمبلغ عشرة آلاف جنيه يتعلَّمن فيها الخياطة والتطريز وغير ذلك من الصنائع اليدوية، ومن هذه الدار تخرَّج معلمات ماهرات بفنِّ الخياطة، ولمَّا فُتِحت وصيته وُجِدَ فيها أنه ترك مائة ألف جنيه تُصْرَف في المبرات والخيرات والمنافع العمومية في العاصمة، وقد فتحوا بماله بعض الشوارع، وسُمِّي أحد هذه الشوارع باسمه.
الخواجة فاساني: بنى المدرسة البحرية وصَرَفَ عليها مبلغ عشرين ألف جنيه، وهي التي تُرى عند قدوم المسافرين إلى ثغر بيرية، بُنِيَتْ على تل قائم بنفسه، ولمَّا فُتِحَت وصيته وجدوا أنه وقف مبلغ عشرين ألف جنيه لهذه المدرسة.
الخواجة باغي: افتُكر بأمر آخر، وهو أنه بنى فندقَين وفرشهما بمبلغ أربعين ألف جنيه في أحسن مواقع المدينة، وقد خصَّص إيرادهما للأرامل والأيتام.
كوستا: بنى مدرسة داخلية للصنائع يُعلَّم فيها أولاد الفقراء، ويُصرف لهم المأكول والملبوس مجانًا بمبلغ عشرين ألف جنيه، وكان يريد من ذلك منع التسوُّل.
الخواجا أرساكي: بنى بناءً فخيمًا جدًّا، صَرَفَ عليه مبلغ أربعين ألف جنيه، أعدَّه للبنات الفقيرات يقمن فيه ويتعلَّمن الصنائع من كلِّ الأنواع، من ذلك كيفية تربية الأولاد، وإدارة المنازل والطبخ ومعالجة المرضى، والبناء المذكور في أهمِّ مواقع العاصمة، لا تقلُّ قيمته عن مائة ألف جنيه الآن.
الخواجة فاليانوس: بنى المكتبة العمومية صَرَفَ عليها وعلى الكتب مبلغ أربعين ألف جنيه.
الخواجات زبَّا وهم أشقاء: بنوا دارًا للعلوم والعمليات أو هي المهندسخانة بجميع فروعها، صرفوا عليها مبلغ أربعين ألف جنيه، ثمَّ تركوا مبلغ مائة ألف جنيه لتُصْرَف في الأعمال الخيرية والمنافع العمومية.

فهذه الأرقام إذا جُمِعَتْ زادت عن مليون جنيه، وهي أرقام رسمية مأخوذة من سجلَّات الحكومة، تبرَّع بها الكرام من تلقاء أنفسهم حبًّا بوطنهم وإخوانهم في الجنسية، مع أنهم كانوا فقراء الأصل لا يملكون شيئًا على ما علمت، ولكن لمَّا وفقهم الله تعالى في جدِّهم واجتهادهم لإحراز ثروة عملوا الخيرات والمبرَّات تُخلِّد ذكر اسمهم في التاريخ.

ولطالما قرأنا في الجرائد اليومية بمصر أنَّ فلانًا وفلانًا من الأروام بالقُطْرِ المصري — حتى وفي السودان — تبرَّعوا بالمال الكثير لوطنهم، فما تركتُ أثينا لأعود على مصر إلا وأنا أفكِّر بما جادت به نفوس هؤلاء المحسنين.

البلقان

في سنة ١٩٠٨ عزمتُ على السياحة في ممالك رومانيا والسرب والبلغار؛ لأن هذه البلاد غير مطروقة كثيرًا منا — نحن الشرقيين — بل اعتدْنَا أن نذهبَ إلى أوروبا، مع أنَّ هذه البلاد أوروبية من كلِّ الوجوه في علومها ومتاحفها ومعالمها ومتنزَّهاتها، ولها تاريخ جليل مفيد مشحون بكثير من عِبَرِ الدهر وحوادثه يرتقي إلى عدة قرون. وبناءً عليه ركبتُ الباخرة من الإسكندرية، وهي باخرة رومانية استعارت اسمها (داسيا) من اسم رومانيا القديم، فقامت بنا يوم الجمعة الموافق ٣ يوليو سنة ١٩٠٨ عند الساعة الرابعة بعد الظهر، وكان الهواء جميلًا. وفي الغد ظهرت لنا جزائر كارباتوس وكاسوس على شمال الباخرة، ثمَّ جزيرة رودس على اليمين، وقد بقيَتْ خمس ساعات أو أكثر ظاهرة للعيان والباخرة تسير، ثمَّ ظهرت بعدها جزائر أخرى صخرية راسخة هنا وهناك كالجبال في وسط البحر، بعضها معمور بالسكان وبعضها لا يفيد بشيء. وعلى هذه الصورة لم يكن البر يتوارى عن عيان المسافرين مدَّة السفر، بل ظلَّ يؤنسهم ويمتِّع ببهجته النواظر والخواطر.

وفي اليوم الثالث من السفر — وهو الخامس من الشهر المذكور — لاحت لنا أزمير، ولكننا قبلما نبلغها صدرت الأوامر لباخرتنا بقضاء مدَّة الحَجْرِ الصحي القانونية في جزيرة كلاموزين (فورلا) المُعَدَّة لهذه الغاية، فكان الحجر مضروبًا بسبب بعض وفيات طاعونية حدثت في الإسكندرية قبل قيامنا منها بيومين، فتوجَّهنا إلى الجزيرة المذكورة، ووجدنا ميناءها أمينة طبيعية، تبلغ في الطول ثلاثة كيلومترات، وفي العرض نحو كيلومترين، تكفي لخمسين بارجة حربية، وقد أحدقت الجبال بها إلا من جهة واحدة، فكأنَّ الطبيعة أرادت أن تغنيَها بمواهبها عن أيدي البشر. ولهذا الميناء نظائر عديدة في سلطتنا العثمانية، مثل مَرْسَى أزمير وسلانيك وغيرهما، مع أنَّ الممالك الأخرى أنفقت ملايين من الجنيهات لإعداد مواني ترسو فيها المراكب آمنةً سطوة البحر، ومنها مدينة الإسكندرية، فقد أُنفق على مينائها مئات ألوف من الجنيهات.

ولمَّا قضينا مدَّة الحجر الصحي — وهي ثلاثة أيام — قامت الباخرة في الثامن من الشهر المذكور إلى أزمير، فبلغتها بساعة بعد أن رأينا في مرورنا طابية فيها المدافع، ثمَّ سلسلة قرى مبنيَّة على خليج أزمير، منها قرية كوردي ليون؛ أي قلب الأسد، اسم خليج أزمير سُمِّي في الخارطة خليج الأسد. وفي كثير من هذه القرى في الضواحي مساكن أعدَّها الأزميريون لهم، يذهبون إليها ويعودون منها كلَّ يوم إلى أشغالهم. وبعد أن رَسَت الباخرة في ميناء أزمير نزلنا للتفرُّج عليها، وأهم ما يُرى فيها الرصيف المبني على شاطئ البحر الذي يبلغ طوله بضعة كيلومترات، تجاوره منازل صغيرة نظيفة، وهذا الرصيف أكبر مُلْتَقى للأزميريين، يتنزَّهون فيه بعد غروب الشمس أو يجلسون في القهوات أو في النادي الأهلي، حيث تناولنا الطعام. وللنادي فناء خارجي يُشْرِف على البحر، وفيه قاعات للجرائد والألعاب المختلفة حسبما يُعْهَد في الأندية. ومنه ذهبنا إلى كنيسة الروم الأرثوذكس، وهي قديمة العهد بُنِيَتْ على النسق البيزانتي، ورأينا أنَّ الأيقونسطاس والكراسي من خشب مدهون باللون الأسود كأنه اللك الصيني، ومحفورة فيه حفرًا صورُ الملائكة والقدِّيسين والقيامة. وفي ساحة الكنيسة قُبَّة الجرس، وهي شاهقة ذات أعمدة رخامية مستدقَّة، وثلاثة أجراس كبار قُدِّمَتْ هدية من الغراندوق سرجيوس الروسي.

ومن الكنيسة خرجنا لنتجوَّل في الأسواق، وهي مثل سوق الموسكي في مصر، ثمَّ خرجنا إلى الضواحي، وهي جميلة. وعند عودتنا إلى الباخرة وقفنا في محطَّة سكَّة الحديد الموصلة إلى آيدين في داخلية الأناضول. ثمَّ قامت الباخرة غروبًا إلى متلين (مدلي)، فبَلَغَتْهَا بعد سير أربع ساعات، فنزل من الرُّكَّاب مَنْ نزل وصعد مَنْ صعد، ثمَّ سارت الباخرة إلى الآستانة. وفي الغد — أي ٩ من الشهر المذكور — دخلت الدردنيل، حيث توجد الطوابي والاستحكامات الشاهانية التي اشتُهر أمر منعتها، وكان الهواء لم يزل جميلًا في بحر مرمرة حين ظهرت شطوط آسيا الصغرى على اليمين وشطوط «بروسة» على الشمال. وعند الساعة الثانية بعد الظهر لاحت لنا سان ستيفانو ويدي قولة، ثمَّ دارت الباخرة نحو السراي القديمة، فكان أمامها غلطة وبيرا، وعلى شمالها استامبول، وعلى يمينها أسكودار وقاضي كوي. وأخيرًا رست في الميناء، وفيه عدد كبير من البواخر فضلًا عن البواخر التي تمخر في البوسفور ذاهبةً إلى المدن المبنيَّة على ضفَّته أو عائدة منها، فنزلنا إلى الآستانة ومررنا بكوبري غلطة، وفي آخره جامع سلطان والده، ثمَّ جامع آيا صوفيا وجامع السلطان أحمد، وسبيل الإمبراطور غليوم بُنِيَ تذكارًا لزيارته الآستانة، وكُتِبَ على قُبَّته الحرف الأول من اسمه، ومسلَّة مصرية قائمة على قاعدة فيها تماثيل رومانية، وتجاهها عمود الإمبراطور يوستنيانوس، والعمود المحروق والسر عسكرية، وسوق الآستانة — وقد وَصَفْتُ ذلك كله بالتفصيل في سياحتي الأولى للآستانة — ثمَّ عدنا إلى الباخرة بعد الغروب. والآن لا يسعني إلا أن أُظْهِرَ دهشتي من منظر الآستانة في الليل كما يُدهش كل سائح غريب، فما غابت شمس السماء حتى بزغت ألف شمس وشمس من الأنوار تسطع وتبهر الأبصار، وهي منتشرة في الجبال السبعة التي تتألَّف منها الآستانة، وذلك من شاطئ البوسفور إلى أعلى هذه الجبال، فإذا وجَّهْتَ نظرك إلى الأمام ترى غلطة وبيرا كأنهما شعلة نار، وعلى الشمال استامبول وقرن الذهب، وعلى اليمين أسكودار وقاضي كوي.

وبالاختصار أقول إن منظر الآستانة الإجمالي في الليل قليل النظير في العالم جلالًا وبهجة وجمالًا. وفي الحادي عشر من الشهر المذكور قامت الباخرة من مَرْسَاها، ودخلت البوسفور مارَّة أمام القصور الشاهانية، مثل طولمه بغجه وجراغان ومحطَّات طرابيه وبيوكدره، حتى إذا اجتازت البوسفور دخلت البحر الأسود، حيث رأينا الطوابي وقد رُفِعَ في أعلاها العلم العثماني إكرامًا لوجود دولتلو محمود نديم باشا سفير الدولة في فيينَّا، وكان معنا في الباخرة عائدًا إلى مركزه عن طريق بخارست، وهو يتكلَّم العربية الفصحى. والبحر الأسود هذا طوله ١١٨٧ كيلومترًا وعرضه ٦١٣ كيلومترًا، ومساحته ٤٢٣٩٧٢ كيلومترًا مربعًا، وهو مشهور في العمق؛ إذ يبلغ متوسِّطه ١١٠٠ متر، على أنه يبلغ عند القريم عمق ٢٦١٦ مترًا.

وبعد سير ثماني ساعات لاحتْ لنا شطوط بلغاريا، وبعد ساعة رَسَت الباخرة في قسطنسة، وهي ثغر لرومانيا، فكانت مدَّة السفر من الإسكندرية إلى قسطنسة تسعة أيام، منها مدَّة الحجر الصحي، ولا بدَّ قبل براح الباخرة من كلمة ثناء طيِّب عادل على مستخدميها؛ لما بذلوه من الجهد في سبيل راحة الركاب وحسن معاملتهم، وبعضهم من سكان مصر؛ فقد كان الطعام أحسن طعام تناولناه في بواخر الشركات الأخرى، وكان الخدم كثيرين مستعدِّين للقيام بواجباتهم عند أول إشارة، وأمَّا عن نظافة الغرف فحدِّث ولا حرج، فضلًا عن وجود مروحة كهربائية في كلِّ غرفة، وفي الباخرة غرفتان كبيرتان أشبه بالقاعات، الأولى مفروشة أطلس أزرق والثانية أطلس أصفر، وفي كلٍّ منهما سرير نحاس مثلما يُرَى في أحسن البيوت، وبالباخرة كرسي ميكانيكي يُدار بالكهرباء عكس دوران الباخرة وحركتها، يستعمله كلُّ مَن يصيبه الدوار، وقد أوجدوا طريقة فيها راحة تامَّة للمسافرين، وهي أن جمرك رومانيا يندب من قِبَلِهِ معاونًا يرافق المسافرين من الآستانة إلى ثغر رومانيا السالف الذكر، وهو يسأل الركاب هل عندكم شيء تؤخَذ عليه رسوم؟ فإذا أجابوه سلبًا تركهم وشأنهم ووضع ورقة على كلِّ طرد. وبناءً على ذلك لم ندخل الجمرك عند وصولنا إلى قسطنسة، بل ذهبنا توًّا إلى فندق كارول، وهو متَّسع قائم داخل حديقة تُقدَّم فيه أطايب الأطعمة، ولا سيما السمك.

قسطنسة: اسمها بالتركية قسطنجة، هي الآن ثغر من ثغور رومانيا كبير الأهمية واقع في إقليم دوبريجة، وكان هذا الإقليم قبلًا تابعًا لتركيا، وضُم إلى رومانيا سنة ١٨٨٨ بمقتضى معاهدة برلين المشهورة، كما تقدَّم ذكره في المقدمة التاريخية. وقسطنجة هذه كانت فيما مضى قرية، وأمَّا الآن ففيها شوارع عريضة، بعضها مبلَّط بالأسفلت، وغيرها مرصوف غُرِسَت الأشجار إلى جانبيه. فمررنا من شارع رومانيا إلى أن وصلنا إلى ميدان أُقيم في وسطه تمثال أوفيدو الشاعر، يجتمع فيه خلق كثير، حيث يخطرون ذهابًا وإيابًا أو يجلسون في القهوات، ومنه ذهبنا إلى شارع تريان — سُمِّي باسم الملك الروماني تريانوس — وهو لا يقلُّ حُسْنًا عن الأول، بُنِيَ فيه قصر لوليِّ العهد، وإلى يمينه قصر آخر للبلدية، وإلى شماله بناية المجلس، وهي من الأبنية الجديدة، وكان معنا طبيب الباخرة فذهبنا معه إلى ضواحي البلدة، ومَرَرنا ما بين أشجار الكرز والمشمش وكروم العنب حتى وصلنا إدارة التلغراف بلا سِلْك، فدخلناها بعد الاستئذان، وهناك رأينا سارية شاهقة العلوِّ قائمة بقرب البحر تتدلَّى منها أسلاك تتصل ببطارية، ويتصل بالبطارية سلك يفضي إلى غرفة حاوية جهازًا للتلغراف، يخرج منها شريط ورق فيه علامات الحروف التي تتركَّب منها كلمات التلغراف، وكان مدير المحل يُرينا الضربات التي تنبِّه العمال لأخذ الإشارات. ثمَّ ذهبنا لمشاهدة شحن زيت البترول، ولا يخْفَى أنَّ رومانيا تعدُّ الآن الثالثة بعد أميركا وروسيا في آبارها البترولية، تُسْتَخْرَج منها مقادير كبيرة من إقليم كاربات، وهو كلُّ سنة بازدياد يصدِّرونه إلى مرسيليا وجهات أخرى للتجارة من ثغر قسطنسة. وقد رأينا في القطارات صهاريج مخصوصة لشحن هذا الصِّنف وتفريغه، وهم يفرِّغونه في حوض، ومن هذا الحوض تمتدُّ القنيُّ إلى الباخرة الراسية بقرب الشاطئ.
من قسطنسة إلى بخارست: وفي هذا اليوم ركبتُ القطار من قسطنسة إلى بخارست عاصمة رومانيا، والمسافة بينهما ٦ ساعات وعدد المحطَّات ٢٢ محطَّة، فقام القطار ينهب الأرض نهبًا. وهي إلى هذه الجهة ما بين مرتفع ومنخفض مسافة ساعة تقريبًا، وأمَّا بعد ذلك فكانت الأراضي منبسطة سهلة مثل أراضي القُطْرِ المصري، سوى أنَّ هذه تحدق بها الجبال يمينًا وشمالًا، وأنَّ تلك لا تعوق مدى البصر بشيء؛ لأنها متَّصلة بأقاليم، واسعة وتُزرع على المطر؛ إذ لا يركبها نهر الطونة لانخفاضه، ومن ثَمَّ لا يرى الرائي ترعًا وجداول كما يرى في الديار المصرية. وقد لاحظتُ أن قسمًا من تلك الأراضي له لون أسود حالك كأنه محروق، وهو مخصب يغل كثيرًا، فإن زراعة الذرة الشامية نامية فيه نحوًا عظيمًا، وزراعة الشوفان أكثر من ذلك. وهناك مراعٍ طبيعية تَرْعَى فيها الثيران معظمها رمادية اللون، وأمَّا السواد والحُمْرَة فنادران فيها، ولها قرون كبيرة، وجاءوا بشيءٍ منها إلى القُطْرِ المصري أيام موت البهائم، وما زال القطار يستقبل محطَّة ويودِّع أخرى، والمسافرون ينتظرون بفروغ صبر بلوغ الكُبري العظيم (الجسر) الذي له شهرة مستطيرة في العالم، وقد بُني فوق نهر الدانوب عند مدينة شيرنافودا، بناه مهندس روماني يُدْعَى سالين، طوله ٤٠٠٠ متر؛ نظرًا لوجود بِرَك مياه على ضفَّة النهر، فهو أطول وأجمل كُبري في العالم، وقد استغرق من النَّفَقَات ٣٥ مليون فرنك حتى مرَّ القطار فوق هذا الجسر، فتأمَّلنا أولًا في النهر فوجدناه كأنه في وادٍ عميق بالنسبة إلى علوِّ الجسر، وهو وإن كان جميعه مدهونًا بدهان أبيض يظهر للناظر كقطعة من الحلي رونقًا ورواءً؛ وذلك لإحكام صنعته وحسن هندسته. وقد سار القطار مسافة طويلة والناس تتفرَّج عليه من عربات القطار الذي له شُرُفات كالقطارات بين القاهرة والإسكندرية. وفي النهر بعض بوارج مدفعية، فضلًا عن وجود قوَّة عسكرية تخفر الجسر، ووقف القطار في إحدى المحطَّات ٥ دقائق، فأتت بنات بأيديهنَّ أقداح من ورق أبيض ثخين مملوءة حليبًا ممزوجًا بالدقيق وعصير الليمون؛ فاشتراها المسافرون، وبعد ما شربوها رموا الأقداح، وهو شراب مرطِّب مقبول في فصل الصيف. ورأينا في محطَّة المجيدية جامعًا صغيرًا، وكنا نرى في أثناء الطريق رجالًا ونساء من الفلاحين بملابسهم الوطنية. وبعد ٦ ساعات دخل القطار محطَّة بخارست عاصمة رومانيا، ومنها ذهبنا إلى فندق بولفار.

وقبل أن أتقدَّم لوصف عاصمة رومانيا، أكتب خلاصة تاريخية لهذه المملكة فأقول …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤