بلغاريا

خلاصة تاريخية

إن تاريخ بلغاريا القديم يُعَدُّ جزءًا من تاريخ البلْقَان، فقد ساد على هذه البلاد الجنس الروماني والمقدوني والرومي والتركي، ولكنَّ أصل البلغاريين الحقيقي سلاف من قبائل نشأت عند نهر فولكا اسمها بولغار، وكان رجالها أشدَّاء دأبهم شنُّ الغارات فما تمدَّنوا إلا في القرن التاسع على يد ملكهم بوريس الذي تنصَّر بإرشاد كيرلس ومتوديوس، وهما راهبان يونانيان أدخلا الديانة الأرثوذكسية إلى بلغاريا، وخَلَفَ بوريس ولده سيمون فقويت دولته واستولى على الفلاخ وقسمٍ من بلاد المجر والأرناءوط ومقدونية، ولُقِّبَ تسار أو قيصر كل البلغار، وكان من درجة إمبراطور بيزانس (الروم) في القسطنطينية، ولكن بعد وفاته كثرت الأحزاب والضغائن في هذه البلاد حتى ضعفت وسقطت في يد الدولة العليَّة سنة ١٣٩٣، وأصبحت ولاية عثمانية تابعة في أمورها الدينية لبطريركية القسطنطينية، وقد رأتْ هذه البلاد من جَوْرِ الحكام الأتراك والجنود ما رأت غيرها، فإنهم كانوا يستعبدون الناس استعبادًا. قرأت في كتاب أنَّ أحدَ الحكام اغتصب بنت فلاح وأخذها لمنزله فلمَّا علمت أختها هربت إلى الجبال العالية وهي تنشد قصيدة مؤثِّرة عن اغتصاب أختها، وهي قصيدة يغنِّيها القوم إلى هذا النهار، ولكن البلغاريين حافظوا على جنسيتهم السلافية وعلى ديانتهم الأرثوذكسية، وكان لهم جمعيات سرية تسعى في الاستقلال، فلمَّا انتقض الأروام على الدولة في سنة ١٨٢١ وأشْهَرت روسيا حربًا عليها في سنة ١٨٢٧ قوي حزب الاستقلال في بلغاريا، وقد تلا ذلك أنَّ بلاد الفلاخ والبغدان ثارت في سنة ١٨٥٧ وتبعتها البشناق والهرسك، فاقتدت بلغاريا بهذه الأمم في طلب الاستقلال، وطاف وفد بلغاري في عواصم أوروبا ليستغيث بأهلها من مظالم الأتراك، وقد حَدَثَ أن الأتراك قتلوا قنصلَي فرنسا وألمانيا في سلانيك عامئذٍ، فكان لذلك دويٌّ عظيم في كلِّ أوروبا، وقام المستر غلادستون السياسي الشهير في إنكلترا يُلْقِي الخُطَب ضد الدولة ليساعد البلغاريين على استقلالهم.

figure
فرديناند ملك البلغار.

وأهمُّ من كلِّ ذلك أنَّ إمبراطور روسيا إسكندر الثاني جمع سفراء الدول في قصره في بطرسبورغ في ١٢ أبريل سنة ١٨٧٧، وقال لهم إنه لم يبقَ في طوقه ترْك البلغاريين إخوانه في الجنسية والمذهب يقاسون العذاب الأكبر من ظُلْمِ الأتراك بعد أن مرَّت القرون عليهم في هذه الحالة، وإنه أشهر الحرب على الدولة لتنال بلغاريا استقلالها، وأمر عساكره أن تزحَفَ في الغد إلى البلقان، فاشتبكت روسيا في حرب شعواء مع الدولة، وقد بدأت هذه الحرب ببعض النصرات للغازي مختار باشا وتقدُّمه على حدود الأراضي المسكوبية، ولكنه تقهقر بعد ورود نجدات قوية للجيش الروسي، وكذلك اشتُهر القائد العثماني الغازي عثمان باشا في حصار بلفنا وقد نال شرفًا عظيمًا من قيصر روسيا بعد تسليم سيفه؛ لأن الإمبراطور قابله مقابلة بطل ضرغام وردَّ إليه سيفه وهو يقول له إن مثلك لا يُؤخَذ منه السيف. وتقدَّمت العساكر الروسيَّة بعد ذلك ففازت على القواد فؤاد باشا وسليمان باشا، وزحفت حتى وصلت سان ستفانو من ضواحي الآستانة، حيث عقدت معاهدة الصلح ما بين روسيا والدولة في شهر مارس سنة ١٨٧٨، ثمَّ أبدلت الشروط بمعاهدة برلين في العام التالي، وهاك نص شروط الصلح فيما يخص بلغاريا: أولًا: استقلال بلغاريا تحت سيادة الدولة العلية. ثانيًا: أن يكون الوالي مسيحيًّا ينتخبه الشعب البلغاري وتوافق عليه الدولة وممالك أوروبا، على شرط ألا يكون من أفراد العائلات المالكة في أوروبا حتى لا يميلَ في سياسته مع الدولة التي يكون هو منها. ثالثًا: تُعيَّن لجنة عثمانية وروسية لفصْلِ أملاك بلغاريا وتحديد التخوم قبل أن تبرحَ العساكر الروسية بلاد الروملي الشرقية. رابعًا: تدفع بلغاريا جزية إلى الدولة العليَّة باعتبار دخل البلاد التي سُلخت منها. خامسًا: يعيَّن كومسير عالٍ مسكوبي لتنفيذ الشروط المذكورة، ويقيم في بلغاريا مع ٥٠ ألف عسكري مدَّة سنتين حتى يمكن لبلغاريا أن تنظِّم جنودًا لها لحفظ الأمن، ويكون لها مجلس نُظَّار ومجلس نيابي ينظران في أمورها.

بقي بعد هذا أنَّ بلغاريا تنتخب لها واليًا، وقد وَقَعَ اختيارها على البرنس إسكندر باتنبرج من عائلة غير مالكة في ألمانيا، وكان الأمير يومئذٍ شابًّا في الثانية والعشرين من عمره، وقد عَرَفَه البلغاريون؛ لأنه حارب معهم قبل ذلك الحين بعامين مع صفوف الجنود الروسية، وأقرَّت الدول الأوروبية والدولة العليَّة تعيينه، وكان البرنس إسكندر يوم انتخابه في حاشية القيصر في لفاديا؛ لقرابة بينه وبين القيصرة، فذهب وفد بلغاري إليها وعرض الإمارة عليه، فقبِلَها وحضر مع الوفد وحلف يمين الأمانة واستلم مهام الأعمال، فعمَّت الأفراح في طول البلاد وعرضها.

أمَّا الروملي الشرقية المتاخمة لبلغاريا فإنها عُيِّن لها والٍ مسيحي لمدَّة خمس سنين يدْفَع جزية إلى الدولة ويكون تحت سيادتها، وانتُخِب لهذا المنصب عليكو باشا وهو رومي الأصل، ولكن ذلك لم يحلُ للبرنس باتنبرج ولم يوافق مطامعه؛ لأنه كان يريد توسيع مملكته وكان الشعب حيًّا سار على خطته فحرَّكوا أهل الروملي الشرقية ومعظمهم سلاف أرثوذكس حتى ثاروا وانضمُّوا إلى بلغاريا سنة ١٨٨٥، وكان حاكم الروملي الذي سبق ذكره في قصره، فوفدت عليه فلَّاحة بلغاريَّة ومن ورائها نحو ثلاثة آلاف من الأهالي أشاروا عليه بالفرار أو يقتلونه، ففرَّ من البلاد وسُرَّ الأهالي سرورًا عظيمًا.

وبينا هم وأميرهم في هذه المسرَّات وفد تلغراف على الأمير من جلالة قيصر روسيا يوبِّخه على عمله هذا، وصَدَرَ أمره إلى ناظر حربية البلغار — وهو روسي كان مندوبًا من حكومة روسيا لتعليم الضُّبَّاط البلغاريين فنون العسكرية — أن يترك بلغاريا هو وجميع الضُّبَّاط الروسيين ويعودوا إلى أوطانهم حالًا، ومع أنَّ أمير بلغاريا رجا القيصر مرارًا أن يعفوَ عن زلَّته فلم يفلح ووقع في حيرة؛ لأنَّ حكومته لم ترَ كيف يمكن التخلِّي عن الروملي، وكان ميلان ملك السرب يطمع في ولاية الروملي الشرقية؛ ليعيد مملكة سربيا القديمة، فاغتنم فرصة الاستياء الذي أبدتْه روسيا وزَحَفَ بعساكره على صوفيا عاصمة بلغاريا ومعه ٦٠ ألف عساكره — قام منها حالًا ليدافع عن بلاده، واشتبك بقتال مع السربيين في موضع اسمه سلفنتزا، ومع أنه لم يكن معه إلا نصف عدد العساكر السربية فقد هزمهم شرَّ هزيمة بفضل ما أبْدَى جنوده من البسالة وحسن قيادته لهم في تلك المعركة، ولكنَّ هذا النصر لم يُفد البرنس شيئًا؛ لأنه سار على سياسة تضادِّ غاية روسيا، فظلَّت حكومتها واحدة عليه، وذاع بين الناس أنَّ القيصر غير راضٍ عنه وهو عند البلغاريين في أعلى منزلة، فنما في البلاد حزب العداء للبرنس إسكندر وساعده وكيل دولة روسيا المسيو نليدوف حتى أَقْدَمَ بعض الضُّبَّاط يومًا على مؤامرة حملهم عليها ميلهم على روسيا واعتراف أهل بلغاريا جميعهم بفضله في إنالتهم الاستقلال؛ ولذلك طلبوا إلى البرنس أن يستعفي ويترك بلادهم فَفَعَلَ في شهر أوغسطس سنة ١٨٨٦، وذهب إلى النمسا واشتغلت الأفكار بأمره كثيرًا، وكان معظم الأمة معه هاج مما جرى له فشُكِّلَت حكومة مؤقتة أظهرت أسفًا مما حدث، وأرسلت تدعو البرنس إسكندر ليعود إلى إمارته، وكان رئيس هذه الحكومة الموسيو ستامبولوف، وهو أشْهَرُ وزير بلغاري في التاريخ الحديث. ولمَّا رجع البرنس إسكندر إلى بلغاريا قابله الناس بسرورٍ عظيم، ولكن قيصر روسيا أرسل إليه تلغرافًا يعلنه باستيائه من هذا الرجوع فظهر للرجل أنَّ بقاءه في مكانه رغمًا عن إرادة الحكومة القيصرية مُحَال؛ ولذلك استعفى وبرح بلغاريا عائدًا على النمسا وهناك تزوَّج راقصة بارعة الجمال، فنبذه الملوك والأمراء ومات حقيرًا وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وقد أظهر البلغاريون حبهم له بنقل جثته ودفنها في بلادهم، وله مدفن سنذكره في باب السياحة.

وقد شُكِّلَت على إثر استعفاء البرنس إسكندر حكومة مؤقَّتة رأسها المسيو ستامبولوف وكانت غايتها المحافظة على استقلال بلغاريا، واهتمَّت الأمة لانتخاب أمير جديد ترضى به روسيا وبقية دول أوروبا، فوقع الانتخاب بقرار صَدَرَ من الجمعية العمومية في سنة ١٨٨٧ على البرنس فردناند من آل كوبرج في النمسا، وهو حفيد لويس فيليب من عائلة أورليان الشهيرة في فرنسا من بنته البرنسيس كليمنتين التي اشتُهرت بالفضائل، وصادقت الدولة العليَّة على هذا الانتخاب بفرمان صدر في السنة المذكورة، واعترفت الدول الموقِّعة على معاهدة برلين به أيضًا.

وصل البرنس الجديد إلى صوفيا عاصمة بلغاريا في أواخر سنة ١٨٨٢ وألَّف وزارة رأسها المسيو ستابولوف، وكان هذا الوزير ذا أَثَرة وإقدام، وكان يولِّي الناظر أو الحاكم الذي يريده حتى إنهم اتهموه بقتل بعض المعارضين له من أرباب الجرائد وغيرهم، وعليه أصبحت كلُّ البلاد في قبضة يده، وكانت يده هذه من حديد حتى على نفس البرنس الذي أصبح آلة يحرِّكها ستامبولوف كيفما أراد، وكان هو الحاكم المطلَق في كلِّ بلغاريا مدَّة سبع سنين، ولمَّا كان لكلِّ شيء حد ففي ذات يوم ذهب ستامبولوف إلى قصر البرنس؛ ليعرض عليه مسألة قال إنها إذا لم تنته على الطريقة التي يريدها فإنه يستعفي، فلمَّا توقَّف الأمير خرج ستامبولوف مغْضَبًا وهو يظن أنه لا بدَّ للبرنس أن يسترضيه، ولكن البرنس كان قد ملَّ استبداد وزيره فأرسل إليه كتابًا بقبول الاستعفاء. وحَدَثَ بعد مدَّة ليست بطويلة أنَّ ستامبولوف كان خارجًا من نادي الأحرار ليعود إلى منزله فهاجمه ثلاثة رجال بالخناجر وأثخنوه بالجراح، وهو يدافع ما استطاع عن نفسه حتى وهنت قواه وسال الدم من رأسه ويديه، فنُقِلَ إلى منزله حيث أدركه لأطباء، ولكنه تُوفِّي بعد أن قاسى أشدَّ الآلام ثلاثة أيام. وشُكِّلَت بعد وفاة ستامبولوف وزارة جديدة تحت رئاسة استوبلوف، فكان أول عمل قامت به أنها سعت في إرضاء روسيا، فذهب البرنس فردناند إلى بطرسبورغ وقابل الإمبراطور وتقرَّر في هذه المقابلة أنَّ وليَّ عهد بلغاريا البرنس بوريس يعتنق المذهب الأرثوذكسي ويكون الإمبراطور عرابه، وبذلك أرضى البرنس روسيا وكسب محبَّة أهل بلاده؛ لأن أمَّة البلغار أرثوذكسية مثل أكثر دول البلقان. ولمَّا اشتُهر ذلك أرسل أمير الجبل الأسود إلى أمير بلغاريا تلغرافًا، هذا نصه: «إنِّي أهنئك يا أخي بدخول ولدك ولي العهد في كنيستنا المقدَّسة الأرثوذكسية واتحادنا السلافي، فبالأصالة عني وبالنيابة عن كلِّ شعبي أسديك التهاني، وأدعو لولدك الذي سيحكم بلغاريا بطول العمر فليحيا الإمبراطور نقولا الثاني عراب ولدكم.»

وقد ظلَّ أمير البلغار من ذلك العهد يسعى في الاستقلال التامِّ وتلقيب نفسه بلقب ملك أو تزار حتى أُعْلِنَ الدستور العثماني سنة ١٩٠٨، وأَعْلَنَت حكومة بلغاريا استقلالها التام في بلغاريا والروملي الشرقية وصيرورتها مملكة ونُودي باسم فردناند الأول ملكًا (تزار)، واختارت المملكة الجديدة لرايتها من الألوان الأبيض والأحمر والأخضر. وأمَّا الملك فردناند فجملة ما يُقال في تاريخه أنه وُلِدَ في فيينَّا سنة ١٨٦١ واقترن أولًا بالبرنسيس لويز السالف ذكرها في سنة ١٨٩٣، ثمَّ اقترن بعد وفاتها بالبرنسيس إلينورا من آل روس الألمانية، ورُزِقَ من زوجته الأولى البرنس بوريس وهو ولي العهد وُلِدَ في صوفيا في سنة ١٨٩٤، وولدًا آخر اسمه إسكندر وُلِدَ سنة ١٨٦٥، وابنة اسمها أودكسيا وُلِدَت في سنة ١٨٩٨، وابنة أخرى اسمها نديجدا وُلِدَتْ في سنة ١٨٩٩.

وقد أُحْصِي سكان بلغاريا سنة ١٩٠٥ فكانوا ٤٠٣٥٦١٥، منهم ١٣٣٤٦٧٧٣ أرثوذكس و٦٠٣١١٣ مسلمون و٣٧٦٥٣ يهود، و٢٩٤٤٢ كاثوليك و١٢٦٩٤ أرمن أرثوذكس و٥٤٠٢ بروتستانت، وعدد جيشها في وقت السلم مائتا ألف محارب، ويُقال على الجملة إن الملك فردناند سهران على تقدُّم بلاده، وأعماله ظاهرة مما أتى منذ ارتقى العرش، وهو يميل إلى بساطة المعيشة ويربِّي أولاده على الصلاح وعمل الخير.

صوفيا

كانت عاصمة بلغاريا قبل استقلال هذه البلاد قرية صغيرة، ولكنها تمَّت حتى أصبحت من المدن العامرة لا يقلُّ عدد سكانها عن تسعين ألفًا. والبلغاريون ذوو وطنية وشمم، لمَّا نالوا غايتهم من الاستقلال وصار لهم ملك يغار على مصالحهم ويسهر على أعمال دولتهم، اهتمُّوا بتحسين هذه العاصمة وإعادة بنائها على رسْمٍ جديد، وجعلوا فيها من الأبنية العمومية ما يستحقُّ الذكر، من ذلك قصر السوبرانا أو هو مجلس النُّوَّاب، وهو قصر جميل فخيم البناء، ونادي الضُّبَّاط ونِظَارات الخارجية والحربية والمالية والبوسطة العمومية والمدرسة الحربية والمدرسة الجامعة والبنك الأهلي والتياترو، وسنأتي على وصف كلٍّ منها على حِدَته. وقد أنشئوا حديقتين، إحداهما داخل المدينة والثانية خارجها، ومدُّوا خطوط الترامواي في كلِّ جهات العاصمة تسهيلًا للنقل، منها خط إلى أسفل جبل فيتوش من جبال البلقان مسافة بضعة كيلومترات، حتى إن الناس يشترون هنا الأرض ويبنون منازل فيها، وقد اتبعوا في ذلك الطريقة الأميركية، أي إنهم يمدُّون سكك الحديد في البراري، وبعد مرور السنين تقوم مدن عامرة فيها فتمَّ لهم ذلك؛ لأن هذه الأراضي كانت في البدء تُبَاع بالفدَّان أو الدنم وهي تُباع الآن بالمتر. وقد وُجِدَ في العاصمة مياه معدنية تشفي من ألم المعدة فبنوا حمَّامات كثيرة الاتساع على شاكلة حمَّامات فيشي، وفي أثناء تجوُّلي في العاصمة رأيتُ أنَّ البناء قائم على ساقٍ وقدم خصوصًا في تبليط الشوارع، وقد اختاروا الطوب الأصفر؛ لأنه يسهُل السير عليه للعربات فضلًا عن نظافته، وهو يُكْنَس مرتين في كلِّ يوم، وما اكتفوا بتحسين عاصمتهم حتى إنها صارت تعدُّ من العواصم الجميلة، بل أظهروا ميلهم الشديد للمنافع العمومية، مثل مد سكك حديدية وبناء قناطر ولا سيَّما المدارس الابتدائية في كلِّ القرى، ولهم مدرسة جامعة في روستشوك عظيمة جدًّا، ولهم ميل زائد للعسكرية.

أخذتُ ترجمانًا من الفندق للتفرُّج على ما في هذه العاصمة، فبدأتُ بشارع المحرر (أي القيصر إسكندر الثاني)، وفيه قصر الملك بُنِي على مُرْتَفَع محل السراي التركية وسط حديقة فيها كلُّ أنواع الشجر والزهر، وقد دخلتُ القصر بعد الاستئذان من الباب الخارجي حيث وَقَفَ بعض العساكر فدُرْتُ في الحديقة، ثمَّ صعدتُ مع أحد العمال من سُلَّمٍ رخام إلى الدور الأعلى من القصر، ورأيت في إحدى قاعاته صور قياصرة الروس وصور الوقائع الحربية في شبقا مع عساكر الدولة العليَّة، وصورة الواقعة الحربية ما بين البلغاريين والسرب كان الفوز للبلغار، وصورة ماري لويز زوجة الملك راكبةً جوادًا أبيض ولابسةً كسوة جنرال؛ لأنَّ أحد الألاليات سُمِّي على اسمها، وصورة عماد ولي العهد على المذهب الأرثوذكسي، كما أوضحناه في المقدمة. أمَّا الملك وزوجته وبناته فعلى المذهب الكاثوليكي، وقد جعلوا في قصر ملك بلغاريا كنيستين في الدور الأول منه، إحداهما كاثوليكية يذهب إليها البرنس وزوجته وبناته، والكنيسة الثانية أرثوذكسية يصلِّي فيها ولي العهد وأخوه، ويكون معهما رئيس مجلس النُّظَّار والنُّظَّار والتشريفاتية والياويرية، والقاعات في هذا القصر كثيرة العدد، رأيت في واحدة منها صورة البرنس إسكندر باتنبرج وصورة الملك الحالي ضمن أفاريز مذهَّبة، ثمَّ انتقلنا إلى قاعدة رحْبة معدَّة للحفلات الموسيقية، يجتمع فيها الملك وأفراد عائلته والنُّظَّار والسفراء وعائلاتهم، ومن بعدها قاعة الرقص تضمُّ ألف شخص وقد عُلِّق فيها ست ثريات من النحاس الأصفر المذهب تُنار بالكهربائية، ويليها قاعة الطعام طويلة تكفي لمائة مدعو أو أكثر فلا يمكن وصف ما يحوي هذا القصر من التُّحَف والأواني وغير ذلك، ولكنني أقول إنه يعدُّ من القصور الجميلة ما بين قصور ملوك أوروبا. ولمَّا خرجتُ من هذا القصر بلغتُ نادي الضُّبَّاط ولا يجوز الدخول إليه، ولكنهم يقيمون فيه حفلات يدعون إليها وجوه البلد وأحيانًا تَصْدَح الموسيقى في حديقته فتسمعها المارَّة من هذا الطريق، وهذا النادي قصر واسع عظيم قال المؤلِّفون الأوروبيون إنه يضارع النادي العسكري الشهير في برلين، وأنا أرى رأيهم فيه أيضًا. وعلى خطوات قليلة من هذا النادي نِظَارة الخارجية بُنيت على أحسن هندسة ونظام، قابلنا فيها المسيو ديمتروف مستشار الخارجية فأعطانا بعض كتب عن البلغار، وبعد الخارجية بناء السوبرانا، وهو مجلس النُّوَّاب بُنِي على أكمة قائمة بنفسها فزاد ذلك في رونقه وفخامته، وقد نُقِشَ فوق بابه شعار الحكومة، دخلناه من سُلَّم رخامي صغير إلى القاعة الكبرى محل اجتماع النظار والنُّوَّاب، فرأينا في صدرها العرش وهو عالٍ ومذهب ومفروش بقطيفة حمراء، وفوقه مظلَّة يجلس إليه الملك عند افتتاح البارلمان ومنه يتلو خطابه السنوي، وقد وضعوا في هذه القاعة صور المسيح وأمامه قنديل يُنار ليلًا ونهارًا، وللقصر قُبَّة شاهقة تظهر من بعيد وكل شيء فيه يدلُّ على النظافة والرونق والذوق. ثمَّ دخلنا قاعة فيها صور رؤساء النُّظَّار منذ تأسيس الحكومة واستقلالها وهم يسيرون على هذه الطريقة إلى ما شاء الله، فتجتمع عندهم مجموعة صور تذكِّرهم بأعمال رجالهم، وجميع هذه الصور عُملت بالقد الطبيعي وبالأردية الرسمية والنياشين ووُضِعَتْ ضمن براويز مذهبة. وهناك قاعات شتَّى، منها للراحة والمسامرة والمطالعة ومكتبة ومطعم، وتجاه البارلمان ميدان فسيح فيه تمثال الإمبراطور إسكندر الثاني.

وقد مرَّ في المقدِّمة التاريخية أنَّ هذا الإمبراطور أنال بلغاريا استقلالها، فما اجتمعت ببلغاري إلا وكل أمياله روسية، والتمثال المذكور من أحسن صناعة ما رأيتُ أحسن منه، والقيصر فيه راكب جوادًا وهو بملابسه الحربية ينظر إلى حصار بليفنا، والحصان واقف فوق قاعدة ضخمة من الصوان الأزرق، وفي هذه القاعدة من الأمام رسوم بارزة لنحو أربعين قائدًا من القُوَّاد الروسيين مثل سكوبليف وغيره، بعضهم على ظهور الخيل والبعض يشيرون بسيوفهم إلى الأمام. وعلى الوجه الآخر من القاعدة كُتِبَ من «بلغاريا المتشكرة»، ولا يبعد من هذا التمثال مدفن البرنس إسكندر باتنبرج أمير بلغاريا السابق، دخلناه من حديقة لطيفة محاطة بسور من حديد مذهب، وقد بادر الخادم وفَتَحَ باب المدفن فرأيناه من الرُّخام الأبيض الناصع، وحول المدفن آثار من أكاليل وأعلام قُدِّمَتْ في يوم دفنه، وهناك خزانة من زجاج فيها كسوته وسيفه وقبَّعته. ثمَّ مشينا لجهة الشمال وهناك تمثال أحد البلغاريين من أبناء هذه العاصمة يُدْعَى واسيليفكي كان من قادة الثورة وقَتَلَه الأتراك في هذا المكان، فأُقيم فيه تمثاله.

هذا أهمُّ ما يُرى في هذا الشارع خارجًا عن البلد، أمَّا القسم الآخر منه لجهة البلد فاسمه شارع التجارة، وفيه المخازن والقهاوي وحركة الأشغال والأعمال، رأيتُ أحد موظفي الصحة يراقب بداخل الحوانيت لبيع لمأكولات، فقال لنا الترجمان ليس الغرض من ذلك فحص المأكولات والموازين فقط، بل عليه ملاحظة النظافة، فإن وَجَدَ وساخة عُوقب صاحب الدكان. وقد حانت هنا مني التفاتة إلى جامع ومئذنة، فاستأذنتُ الشيخ بالدخول فرافقني لداخله وقرأت على الجدران أسماء عمر وعلي ومصطفى، وعلى جدرانه خارجًا هذه الجملة: «عجِّلوا بالصلاة قبل الفَوْت» «وعجِّلوا بالتوبة قبل الفَوْت»، وقد قال هذا الشيخ إن بقية المسلمين هنا ٢٥ عائلة فقط، والباقون هجروا البلاد، وفي هذه الجهة قام بناء سوق عموميَّة من الحجر في غاية الاتساع، وقد وجدوا هنا مياهًا معدنية تشفي من مرض المعدة فبنوا حمَّامات على شاكلة حمامات فيشي في فرنسا، وهي تضمُّ نحو ألف شخص في آنٍ واحد، وهذا شيء كثير على بلد تعدُّ بتسعين ألفًا، وقد أخبرني ذلك فرنسوي مقيم في صوفيا، وهو الذي قال لي إن السوق الجديدة ستكلَّف ستين ألف جنيه، وأظن على الجملة أنَّ بلغاريا صَرَفَت مليار فرنك في تحسين عاصمتها ومدنها وأمورها النافعة، وكأنِّي باليهود أرادوا أن يظهروا وطنيتهم ويقتدوا بالحكومة، فإنهم بنوا معبدًا دخلناه وهو على وشك النهاية، له قُبَّة تُرَى من كلِّ جهة لعلوِّها وهو واسع جدًّا، وقبته وجدرانه مموَّهة بالذهب، وقد صُرِفَ عليه سبعمائة ألف فرنك لحدِّ الآن مع أنَّ اليهود هنا لا يزيدون عن اثني عشر ألفًا، وفي هذه الجهة كنيسة أرثوذكسية للرومانيين وأخرى للسرب يصلون بها بلغاتهم.

figure
تمثال الإمبراطور إسكندر الثاني.

ولصوفيا حديقة عمومية تُدْعَى حديقة إسكندر بالقرب من قصر الملك يؤمُّها خلق كثير في كلِّ يوم قبل الغروب وتَصْدَح فيها الموسيقى، وفيها مطعم وهم يضعون المنضدات والكراسي ما بين الأشجار، ومطعم آخر بُنِيَ من غير أعمدة في الوسط تُقَام فيه حفلات موسيقية ورقص، فيه نحو ٦٠ منضدة صغيرة للطعام، قال لنا شكري بك السكرتير الأول لسفارة تركيا — وأصله من عنتاب القريبة من حلب — إنهم بنوا هذا المكان الواسع بسرعة غريبة. وحول الحديقة المذكورة نِظَارة الحربية والتياترو الكبير تجسِّدها عاصمة القُطْر المصري على حُسْنِ وضعه وجماله بناه مهندس نمسوي عالم خبير على أحسن طراز جديد، فلمَّا دخلناه وتأمَّلنا دائرة اللوجات (الغرف) رأيناها على كثرة عددها واتساع المرسح في دائرة صغيرة، وما ذلك إلا من حسن الهندسة، فذكرت تياترو لاسكالا في ميلان، وبالقرب من المرسح غرفة الملك وهي مذهبة ورياشها أطلس أحمر. ويُقال على الجملة إن هذا الملهى يذهل الرائي بحسن شكله وزخارفه ونقوشه تدلُّ على الفنون الموسيقية. والبناء منفرد تحيط به طرق زُيِّنَتْ ببديع الأزهار والأغراس من كلِّ جانب. وحول الحديقة المذكورة بنايات أخرى مثل نِظَارة الحربية والبنك الأهلي، وهما بنايتان فخيمتان، والمتحف فيه آثار قديمة أكثرها حجارة كبيرة تمثِّل وقائع حربية من أيام الرومانيين وقبور من ملوك هذه المملكة، وقطع حجار من المعابد الرومانية، وهذا المتحف أصله جامع كبير قائم على ثمانية عُمُد ضخمة. وهنالك أيضًا حديقة يتنزَّه بها الأهالي في طرف البلد تُدْعَى حديقة بوريس على اسم ولي العهد؛ لأنها متصلة بغابات لا يرى المرء آخرها، أنشئوا بها ناديًا لألعاب الكرة يجتمع فيه وكلاء الدول وعائلاتهم. والبلغار قوم يميلون إلى الحرب والقتال، فإنهم بنوا مدرسة حربية على مرتفع في أطراف العاصمة ذات ثلاث طبقات، وهي طول قصر عابدين بمصر تقريبًا، وقد تكلَّمتُ عن جميع هذه البنايات العمومية والمتحف وغير ذلك بمجرد النظر والسؤال عنها من هذا وذاك. ولو كان في عاصمة البلغار دليل يفيد السائح فيما يريد أن يحيطَ به علمًا مثل عواصم أوروبا، لكان من وراء ذلك فائدة كبرى، وقد أعلنت هذا النقص لمن يهمهم هذا الأمر، فقال لي أحدهم إنه سيكتب دليلًا لبلاده بالإنكليزية والألمانية.

وفي هذا اليوم توجَّهنا لسماع الصلاة باللغة البلغارية، وحقيقة الحال أنَّ الأنغام التي سمعتها من المرتِّلين وهم يقفون داخل جدار من الشعرية من خيرة ما يُنشد من هذا القبيل، وقد سألت إذا كان مع جوقة المرتِّلين أرغن، فقيل لي إنه لا يجوز الأرغن في الكنائس الشرقية، والكنيسة المذكورة كبيرة جدًّا لها قبب وأصلها جامع.

وفي هذا اليوم بعد الظهر ذهبنا إلى جبل البلقان اسمه فيتوش في هذا المكان، وقد سبق ذكره، يبعد ساعة تقريبًا علوه ١٤٠٠ متر، وقد مدُّوا خط تراموي هنا عاد بالنفع فكثرت في هذه الجهة القرى والمزارع والمنازل والحدائق لحدِّ الجبل، وبأسفله عدة مطاعم وقهاوي تَصْدَح فيها الموسيقى جلستُ في إحداها ما بين جماهير الناس، وهم إذا سمعوا النشيد الوطني أظهروا علامات الفخر والسرور والأولاد يطربون ويرقصون، فالبلغاريون يحبون وطنهم محبة العبادة ويفتخرون بجنديتهم. وفي أسفل هذا الجبل مياه كبريتية بُنِيَتْ عندها حمَّامات يؤمُّها خلق كثير للاستحمام من العاصمة والمدن الأخرى.

وقد كان يومنا هذا ١٥ أوغسطس، وهو عيد جلوس الملك فردناند، وكان جلالته في مصيفه في فارنا، فقام القوم باحتفال عظيم في طريق جبل البلقان المار ذكره، حيث نُصِبَ سرادق فخيم لوكلاء الدول والنُّظَّار وأصحاب المقامات في العاصمة، فعند وصولنا للسرادق رأينا منه أنَّ العساكر كانت مصطفَّة مشاة وفرسانًا ومدفعية، وكان ناظر الحربية راكبًا جوادًا وإلى جانبه مندوبون حربيون من قنصليات إنكلترا وفرنسا والسرب بكساويهم ونياشينهم وهم على خيولهم، فقبل الابتداء بالمناورة الحربية أُقيمت الصلاة بداخل السرادق من الإكليروس، وكان المرتِّلون من الجنود، وبعد نهاية الصلاة تقدَّم النُّظَّار وقبَّلوا الإنجيل ثمَّ أَمَرَ ناظر الحربية أن تتحرَّك عساكر المشاة، فمشت صفوفًا، كل فرقة وأمامها الموسيقى والعلم المختص بها، وكانت كل فرقة إذا بلغت السرادق ومرَّت تحيِّي ناظر الحربية، وهو ينادي ليحيي الجيش فيجيبه الجنود بمثل ندائه، ولمَّا انتهت فرق المشاة من هذه الحركة تبعتها فرق الفرسان برماحها، ثمَّ رجال المدفعية بمدافعها، وكان ذلك ختام الموكب، وحسب العادة أُقْفِلت المصالح العمومية، ورُفِعَت بأعلاها الإعلام البلغارية وبطلت الأعمال وتوارَدَ ألوف الناس ليشاهدوا موكبًا يذكِّرهم بحريتهم واستقلالهم.

وفي هذا اليوم دعاني حضرة المسيو سمنتوسكي المعتمد السياسي وقنصل جنرال دولة روسيا لمناولة الطعام في منزله، وهو — أي المنزل — قصر فخيم بَنَتْهُ الحكومة الروسية على نفقتها، مفروش بأحسن الأثاث ولا تقلُّ قيمته عن ثلاثين ألف جنيه، وأذكر هنا عادة عند الروسيين ما سمعتُ عنها قبلًا، وهي أنه بعد الفراغ من الطعام قام القنصل وقبَّل زوجته وهي قبَّلته وولده قبَّل شقيقته وهي قبَّلته أيضًا، وكان السير ياكنون المعتمد السياسي وقنصل جنرال دولة إنكلترا قد دعانا أيضًا للعشاء، وعلمتُ من حضرة زوجته أنَّها تقضي فصل الشتاء في لندن؛ لأنَّ البرد شديد هنا وسببه قرب جبل البلقان من البلد، وأنَّها تودُّ أن تقضي بعضًا من فصول الشتاء في مصر، إذ طالما سمعت من الإنكليز عن اعتدال الطقس فيها، فودَّعنا هذه العائلات الكريمة واعتمدنا أن نبرحَ صوفيا في الغدِ إلى سلانيك، والمسافة بينهما ٢٠ ساعة بسكَّة الحديد.

بين صوفيا وسلانيك: قام القطار من صوفيا في الساعة الحادية عشرة مساء، ومرَّ في بلاد السرب حتى إذا وصلنا مدينة زبقجة، وهي الحدُّ الفاصل ما بين السرب وولاية سلانيك، انتقلنا إلى قطار آخر سار بنا في ولاية سلانيك، وفيها المدن والقرى آهلة بالسكان من أتراك وبلغاريين وسربيين وأروام وأرناءوط، وجميعهم على مختلف مذاهبهم وأجناسهم ولغاتهم يقيمون في بلد واحد أو قرية واحدة، والأراضي في هذه الولاية خصبة تجري في سهولها الأنهر والجداول، رأيتُ فيها كثيرًا من شجر التوت، ولا يخْفَى أن الدستور العثماني نبت في هذه البلاد، وفيه عُقِدَت الاتفاقات والجمعيات على بذلِ كلِّ غالٍ ورخيص للحصول عليه كما هو معلوم ومشهور، وكان الدستور قد أُعْلن منذ شهر؛ ولذلك كانت الحركة عظيمة في هذه البلاد أثناء مرورنا، ولا سيما لأنه كان معنا أفراد من حزب تركيا الفتاة الذين نَفَتْهُم الحكومة أو فرُّوا وقد عادوا إلى سلانيك، فكان كلَّما بلغ القطار محطَّة — وهي كثيرة العدد في هذه الجهات — يجتمع فيها الجمُّ الغفير من كافَّة الملل والنحل، ولكلٍّ منها أزياء خاصَّة تُعْرَف بها ليرحِّبوا بالقادمين من إخوانهم ويعانقوهم عند اللقاء، وكلَّما قام القطار هتفوا لهم فلتحيا الحرية، كلُّ واحد بلسانه. ودخل القطار في أوسكوب عاصمة إقليم نوفي بازار، وهي مدينة عامرة فيها نحو ٥٠ ألف، كان حضرة قنصل السرب الجنرال بمصر قد أشار عليَّ أن أقضي فيها يومًا، ولكنني وجدتُ حرَّها يومئذٍ شديدًا وترابها كثيرًا، وقد قال لي أحد أهاليها إن هذه المدينة غير مبلَّطة، وكل ما كان يُجْمَع من الأهالي لتبليطها كان يذهب إلى الجيوب، فلا يمكن وصف طريق قضينا به ٢٠ ساعة لحدِّ سلانيك، وهو طريق جبال عالية أو منخفضة وسهول ونجاد ووهاد، وكان نهر وردان سائرًا معنا من إسكوب إلى سلانيك حتى دخل القطار محطتها، ومنها ذهبنا إلى فندق أولمبيا المبني على شاطئ البحر.

وبهذا انتهيتُ هنا من سياحتي في رومانيا والسرب والبلغار ومقدونيا، ومَنْ شاء أن يتبع طريقتي هذه في السفر فإنه يرى قسمًا كبيرًا من البلقان في مدَّة شهرين، وما عليه غير أن يذهب من إسكندرية إلى قسطنسة، وهي ثغر رومانيا، ومنها يركب قطار سكَّة الحديد شرقًا إلى بخارست عاصمة رومانيا مسافة ٦ ساعات، ومنها إلى مدينة أورسوفو الواقعة في أول حدود السرب مسافة ١٠ ساعات، ومن هذه يركب باخرة في نهر الطونة لحد بلغراد عاصمة السرب مسافة ١٥ ساعة، ومن بلغراد إلى صوفيا عاصمة البلغار مسافة ١٠ ساعات، ومن صوفيا إلى سلانيك ٢٠ ساعة، جميع ذلك مسافة ٤٦ ساعة بالسكَّة الحديدية و١٥ ساعة في نهر الطونة.

سلانيك

سألت كثيرين عن تعدادها، فكان كلٌّ يختلف بالقول عن الآخر، ولكنَّ المرجَّح أنها تُعد بمائة وخمسين ألفًا، منهم ٦٠ ألفًا من اليهود والبقية أتراك وأروام وأجناس مختلفة، والسبب في كثرة اليهود هنا أنهم رحلوا من إسبانيا وجاءوا هذه الجهة وما زالوا يتكلَّمون لغة الإسبان. أمَّا موقع البلد فعلى البحر يشبه موقع أزمير أو هو أحسن منه؛ لأنَّ الرصيف الممتدَّ فيه غُرِسَتْ إلى جانبيه الأشجار تحدُّها المنازل على الشمال والبحر على اليمين، وهذا الرصيف أطول وأعرض من رصيف أزمير ومنازل سلانيك في آخر هذا الرصيف أكثرها للأوروبيين من أصحاب اليسار، لكلٍّ منهم منزل داخل حديقة جميلة تُشْرِف على البحر، وقد مدُّوا خطوط الترامواي من عهد قريب، والخط يسير إزاء البحر من أول الرصيف المذكور إلى آخره في مسافة نصف ساعة، وهو للشركة البلجيكية التي احتكرت كلَّ المشروعات من هذا القبيل في رومانيا والسرب ومصر وبيروت، وعدا الترامواي هذا فإنه يوجد خط آخر للبواخر الصغيرة تمخر في البحر إزاء الرصيف من أوله إلى آخره، وفي المحطَّة الأخيرة لهذه البواخر قصر اللاتيني الذي نُفِيَ إليه السلطان عبد الحميد بعد عهد الدستور، فسبحان مغيِّر الأحوال! وفي هذا الرصيف محطَّات للبواخر يذهب الناس منها إلى أحيائهم أو يعودون منها، فحركة الانتقال لا تبطل من الصباح لحدِّ نصف الليل. قلت: إن الرصيف ممتدٌّ إزاء البحر تمتدُّ منه شوارع لجهة الجبل تُعَدُّ بالعشرات، فيها الحوانيت ومواضع التجارة والأسواق بعضها مسقوف مثل أسواق دمشق، وبعضها عريض ولا سيَّما في أواخر هذا الرصيف، وقد غَرَسُوا الشجر إلى الجانبين. فسلانيك على الجملة أجمل من مدينة أزمير. أخذتُ دليلًا من الفندق وهو — كما سبق القول — مبنيٌّ على البحر، وأمامه ساحة دُعِيَتْ من بعد الدستور ساحة الحرية، فيها الفندق المذكور وفنادق أخرى تُشْرِف على البحر، وقهاوي يجتمع فيها خلق كثير حتى لا يبقى مكان خاليًا من كثرة عددهم وخصوصًا بعد الغروب. وقد ذهبنا في أول الأمر إلى جهة الجبل أو التلال سائرين صعدًا حتى بلغنا جهة فيها قصر الوالي والمجالس والمصالح الأميرية.

وذهبتُ من هنالك إلى جامع أصله كنيسة على اسم مار جرجس من أيام دولة بيزانس (الروم) واسمه الآن خور طه جي جامع، فأرانا الدليل في بنائه الخارجي بِرْكَة ماء صُنِعَتْ من الرُّخام الأبيض، وقد أُعِدَّت للوضوء، ثمَّ دخلنا الجامع فألفيناه كبيرًا واسعًا له قُبَّة شاهقة حولها صور الملائكة والقدِّيسين، مثل بطرس وبولس ويوحنا المعمدان والعذراء وصورة المسيح يبارك الشعب، كلُّ ذلك ظاهر للعيان لم يطمسوه مثل ما حصل في كنيسة آيا صوفيا في الآستانة، وكلُ هذه الصور مصنوعة بالفسيفساء ولم يغيِّروا هيئة الكنيسة ولكنهم بنوا منبرًا عليه عَلَمَان من اللون الأخضر، كُتِبَ عليهما «لا إله إلا الله»، ومحرابًا من رخام حُفِرَ فيه آيات قرآنية، وكُتِبَ على الجدران بالخطِّ الكبير اسم الجلالة ومحمد وعلي وعمر، ثمَّ ذهبنا إلى جامع آخر دُعِيَ قاسميه جامع أصله أيضًا كنيسة على اسم مار ديمتري، يظنُّ الداخل إليه أنه في كنيسة، وهذا الجامع لا يقلُّ اتساعًا عن جامع السلطان حسن في مصر، وهو أيضًا بُني في مدَّة مملكة الروم ولم يتغيَّر شكله الأصلي، ولكنهم أضافوا المنبر والمحراب والمئذنة وتركوا الصور جميعها على حالتها الأصلية على الجدران والركائز والسقف ما عدا الصور من جهة القِبْلَة. والصور هنا كثيرة صُنِعَتْ بالقد الطبيعي من الفسيفساء وهي تلمع وتسطع كأنها تمَّ عملها الآن ولا سيَّما الصور التي نُقِشَتْ على العُمُدِ والأركان، والفسيفساء قطع من الزجاج صغيرة مثل رأس المسمار يلصقون بعضها ببعض ويلوِّنونها بألوان تشبه ألوان البشر والملابس، ويطلونها بالذهب ولا بدَّ في صنعها من الصبر الطويل والعناية الفائقة، ويوجد على بعض جدران هذا الجامع كتابات باللغة اليونانية باقية لحد الآن، لم أتمكَّن من ترجمتها. والكنيسة بُنِيَتْ من دور أول للرجال قائم على أعمدة رخامية ضخمة، بعضها من الرُّخام الأخضر وهو نادر الآن، وفي الدور الأعلى المعد للنساء عُمُد خضراء كهذه أيضًا ولكنها مستدقَّة.

وقد رآني شيخ الجامع ولحظ أنِّي أعدُّ الأعمدة فأخبرني أنه ١١٢ عمودًا، وبأعلاها تيجان من الرُّخام مزخرفة بأدقِّ النقوش، وأشار إلى قبر لصق جدران الجامع وهو بارز مقدار متر، فقال إنه قبر ابنة ملك الروم، وأراني أيضًا في صحن الجامع قطع رخام كبيرة عليها صلبان وكتابات باللغة اليونانية، قال إن تحتها قبور الأساقفة وأراني قِطَع رخام كبيرة على الجدران من اللون الأحمر والأبيض معرقة مثل ما يُحاك على القماش، فقال إن سائحًا إنكليزيًّا دَفَعَ للجامع ٥٠٠٠ جنيه ليأخذها إلى متحف لندن فلم يُقْبَل طلبه. ولا يبعد من هذا الجامع قوس نصر تخرَّبت، ولكن ما زال القسم الواطئ منها باقيًا، وهو من الرُّخام الأصفر، وفيه تماثيل قُوَّاد ومواقع حربية فيها لأسرى ذات صناعة بديعة يندهش المرء من رؤيتها، ولا يمكن التعبير عنها بالكتابة. ومن سوء الحظ لا يوجد في سلانيك كتاب دليل يُسْتَدَلُّ منه على تاريخ بناء هذه الجوامع والقوس لإفادة القارئ.

وفي سلانيك حديقة للبلدية هي أحسن محل لتمضية الأوقات، والوصول إليها هيِّن بالعربة أو الترامواي أو بباخرة البحر، وهي كبيرة فيها كلُّ أنواع الأشجار والزهور ومطعم وقهاوي وتياترو، ومنها ذهبتُ لزيارة دولتلو حسين حلمي باشا مفتِّش إصلاحات مقدونيا الذي كان له اليد الطولي في تقرير الدستور، وكانت المخابرة معه من يلدز وصار فيما بعد صدرًا أعظم، ودولته رجل طويل القامة عالي الجبهة له عينان سوداوان برَّاقتان، وكل ملامحه وأقواله تدلُّ على مدارك سامية، أقام السنين واليًا على بيروت ولا ريب أنه يحفظ الود؛ لأنه كلَّفني أن أبلِّغَ سلامه إلى كثيرين من ذوات بيروت سمَّاهم بأسمائهم.

وفي هذا اليوم أظهرتُ رغبتي للتُّرْجمان، وهو الدليل الذي كان يرافقني من الفندق في الإشراف على موقع سلانيك من محلٍّ مرتفع؛ فذهبنا إلى طرفها من جهة الجبل، وقد رأيناها بكلِّ أجزائها وجوامعها وكنائسها وأحيائها وضواحيها والمراكب الراسية في مينائها، وفي الغد برِحْتُهَا مع الوابور النمساوي في ١٩ أوغسطس إلى فولو عاصمة تساليا من مملكة اليونان، حيث رَسَت الباخرة ٦ ساعات تجوَّلت في أثنائها في أحيائها، وجميعها مبنيَّة على شاطئ البحر، ومن ورائها جبال وهي آهلة بالسكان. وفي الغد — أي ٢٠ منه — وصلنا بيرية أسكلة أثينا، وفي نفس اليوم سافرنا منها بباخرة يونانية إلى الإسكندرية فوصلناها في ٢٣، ومنها سافرنا في ٢٦ إلى بيروت فجبل لبنان لتمضية الباقي من الصيف، ثمَّ عدنا لمصر وكان ذلك خاتمة السياحة، والحمد لله على كلِّ حال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤