الدنمارك
خلاصة تاريخية
كان الدنماركيون أقوامًا متوحِّشة شأنهم شنُّ الغارات على الممالك المجاورة لبلادهم، واشتُهروا بهذه الغارات والغزوات في البر والبحر حتى صار اسمهم — وهم أهل الشمال — مرادفًا للشر والهجوم عند سكان أوروبا في القرون المتوسطة، وهم يومئذٍ مع أهل السويد والنورويج يدًا واحدة؛ لأنهم من جنس واحد، وقد اشتُهرت غزوات الدنماركيين في إنكلترا من القرن التاسع إلى الحادي عشر؛ فإن ملكهم سوين هاجم بلاد الإنكليز سنة ١٩٨١ وملكها وأورثها من بعده لابنه كانوت الذي صار أعظم ملوك زمانه؛ لأنه ملك إنكلترا والدنمارك والسويد والنورويج وكان مشهورًا بالعدل والحكمة، ولمَّا مات في سنة ١٠٣٦ اقتسم أولاده الثلاثة أملاكه، فكانت بلاده الأصلية نصيب ابنه هرديكانوت وهو الذي ضاعت إنكلترا من يد الدنمارك في أيامه، واستعادت استقلالها.
ولم يحدث بعد هذا أمر مهمٌّ في تاريخ البلاد غير تعاقب الملوك والغزوات إلى أن ورثت العرش ملكة اسمها مرغريتا كانت مفرِطة الذكاء كثيرة الحكمة، ظهرت مآثر اقتدارها في ممالكها الثلاث، وهي: الدنمارك والسويد والنورويج فسُمِّيَتْ سميراميس الشمال إشارةً إلى سميراميس ملكة آشور التي تُرْوَى عنها عظائم الفعال، وذلك في أواخر القرن الرابع عشر، ولمَّا اشتُهر أمرُ الانقلاب الديني في أوروبا بعد أيام لوثيروس كان ملك الدنمارك رجلًا عاتيًّا جبارًا اسمه كوستيان الثاني، وهو يُعْرَف عند بعض المؤرِّخين باسم نيرو الشمال إشارةً إلى نيرو قيصر الرومان الذي اشتُهر بقسوته وفظائعه، فلمَّا انتشر المذهب البروتستانتي في ممالك كرستيان هذا استعمل منتهى الشدَّة مع الذين اعتنقوه، حتى إنه دعا معظم أشراف السويد إلى وليمة وفَتَكَ بهم غدرًا وعدوانًا؛ بسبب انضمامهم إلى طائفة البروتستانت فهاجت أمة السويد لذلك، وقامت بنصرة أمير نجا من الذبح اسمه جوستافوس فاسا، فحاربت جنود الدنمارك تحت قيادته وطردتها من البلاد، وبذلك انسلخت بلاد السويد عن هذه المملكة وصارت مملكة مستقلَّة في سنة ١٥٢١، وبعد هذا بقليل فرَّ كرستيان من البلاد؛ لأنَّ معظم الأهالي قاموا عليه فسارت بلاد الدنمارك بعد ذلك في سبيل التقدُّم تحت إمْرَة ملوكها من آل أولدنبرج، ولم يحدث أمر يُذْكَر لهم غير أنَّ الملك استبدَّ بالأمر في سنة ١٦٦٠، ولم يُبقِ أثرًا لنفوذ الأشراف والأمراء ووافقه عامة الناس على صنيعه.
وكانت الدنمارك من الدول البحرية، ولها متاجر واسعة فلمَّا عظم أمرُ نابوليون الأول اتحدت معه على مناوأة الإنكليز فهاجمها أسطولهم مرتين تحت قيادة اللورد نلسون أمير البحر المشهور في سنة ١٨٠١ و١٨٠٧، ودمَّر حصون عاصمتها كوبنهاجن وأَسَرَ أسطولها برُمَّته فاستخدمه في محاربة نابوليون، وكان ملك الدنمارك صديقًا لنابوليون حميمًا ظلَّ على ولائه إلى يوم سقوطه، فأسخط ذلك دول أوروبا الناقمة على نابوليون، وسلخت منه بلاد النورويج فأضافتها إلى مملكة السويد على ما سيجيء في تاريخ هاتين المملكتين. وفي سنة ١٨٣٤ تحرَّك الأهالي لطلب الحقوق الدستورية فسلَّم بها الملك فريدريك السادس، وصارت البلاد دستورية شوروية من ذلك الحين، فتقدَّمت في درجات الحضارة ونَمَتْ ثروتها، ولكنها فقدت بعض أملاكها في سنة ١٨٦٤ بعد محاربة شاقَّة مع بروسيا، وأُخذت منها ولايات لاونبرج وشليسوج وهولشتين، كما تقدَّم عند الكلام عن ألمانيا.
وفي سنة ١٨٦٣ رقي عرش الدنمارك ملكها السابق كرستيان التاسع وكان ذا منزلةٍ عظمى بين ملوك أوروبا وأقيالها؛ لأنه — فضلًا عن فضائله وحسن سياسته — ارتبط بأعظم العائلات المالكة بربط القرابة، فإن ابنته الأولى اقترنت بجلالة ملك إنكلترا الحالي ولها شُهْرَة بالفضائل لا تفوقها شهرة، يحبُّها الإنكليز جميعهم حبًّا مفرِطًا لحسن خصالها، واقترنت أختها الثانية بالمرحوم إسكندر الثالث قيصر روسيا والد القيصر الحالي، وهي أيضًا من أشهر الأميرات في رقَّةِ القلب وحبِّ الفضيلة، واقترنت الثالثة منهم بالديوك أوف كمبرلند حفيد جورج الرابع ملك إنكلترا، وهو المطالب الآن بسرير مملكة هانوفر التي ذكرنا خبر ضمِّها إلى السلطنة الألمانية في الفصل السابق، وأمَّا أولاده الذكور فأولهم جلالة الملك الحالي، وثانيهم جلالة ملك اليونان الحالي أيضًا، والثالث أمير اسمه فلاديمير عُرِضَتْ عليه إمارة البلغار فلم يقبلها، تُوفِّي هذا الملك الكبير يوم ٢٩ يناير سنة ١٩٠٦ بعد أن مَلَكَ ٢٣ سنة وهو في سنِّ الثمانين، فأثَّرت وفاته في أكثر عائلات أوروبا المالكة، ودُفِنَ باحترام عظيم فخلفه جلالة الملك فريدريك كرستيان الحالي وهو الثامن من ملوك الدنمارك بهذا الاسم، وقد بدأ حكمه بخطاب ألقاه على الناس من شرفة قصره يوم وفاة أبيه قال فيه: «إن ملكنا السابق والدي العزيز قد قضى نحبه، وكان أمينًا في قضاء الواجب عليه حتى ساعة الممات؛ فورثتُ عنه الحِمْل الكبير، ولي أمل أن أحذوَ حذوه وأسأل الله إعانتي على تحقيق هذا الأمل، ويسرُّني أنِّي على اتفاق مع نواب الأمَّة فيما يضمن خيرها وتقدُّمها، فلننادِ كلنا بصوت واحد ليحيا الوطن.» فوقعت هذه الخطبة أحسن وَقْع في النفوس، وعدد النفوس في بلاد الدنمارك نحو ثلاثة ملايين.
كوبنهاجن
هي عاصمة الدنمارك، فيها من السكان أربعمائة وخمسون ألف نفس، ومعنى اسمها «فرضة التجارة» إشارةً إلى اشتهارها بالمتاجر من عهدٍ بعيد أو من عهدِ تأسيسها، فإنها بدأ ببنائها الأسقف إكسل في القرن الثاني عشر للميلاد، وكانت في أول الأمر قرية ينتابها بعض تجار السمك، ويقيم فيها الصيَّادون، فجعلت تكبر وترتقي إلى أن تولَّى مملكة الدنمارك كرستيان الرابع سنة ١٥٨٨، وكان مقدامًا نشيطًا ميَّالًا إلى توسيع المتاجر هُمَامًا باسلًا في الحروب، فتقدَّمت المدينة على أيامه تقدُّمًا عظيمًا وبُنِيَتْ فيها حصون لصدِّ هجمات الأعداء، أكثرها باقٍ إلى الآن، وهي من المناظر التي تستحقُّ الذِّكْر في كوبنهاجن، وقد اشتُهرت هذه المدينة فوق المتاجر بصناعة القُفَّاز أو الكفوف والسفن الشراعية، وبعض أشكال الخَزَف، وأتقنت صناعة الجبن؛ لأن أهلها اشتُهروا بتربية المواشي. وفيها من المشاهد المعدودة شيء كثير، من ذلك الميدان الملكي كان أول ما قصدناه عند خروجنا من الفندق، فإذا هو ساحة متَّسعة الأطراف أُقيم في وسطها تمثال للملك كرستيان الخامس راكبًا جواده، وكان كرستيان هذا من ملوكهم العظام، حكم البلاد من سنة ١٦٧٠ إلى ١٦٩٩، واشتُهر بمحاربة الأسوجيين، واتحد مع النمسا لمحاربة لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وسنَّ قانونًا للأحكام لم يزَلْ أساس الأحكام الدنماركية إلى هذا اليوم. وفي ذلك الميدان بناء المرسح الكبير وسفارات الدول العظيمة ومنازل لبعض السراة وفنادق وحانات ومطاعم في جوانبه الأربعة، فترى الناس يقصدونه بسبب وجود هذه الأشياء كلها عصاري كلِّ يوم يتمشَّون في جوانبه أو يقعدون في إحدى حاناته، وهو من أشهر مواضع الاجتماع في كوبنهاجن.
وإنِّي بعد أن رأيتُ هذا الميدان الملكي خَطَرَ في بالي ملك الدنمارك وطلبتُ إلى الدليل الذي كان معي أن يسير بي قبل كلِّ شيء إلى قصر الملك السابق ففعل، ولمَّا انتهيتُ إليه تولَّاني العجب من بساطته فعلمتُ أن القصر الذي كان الملك يقيم فيه احترق عام ١٨٨٤، ولم يشأ جلالته أن ينفق الأموال الطائلة على تجديده؛ لأنه كثير الميل إلى البساطة، فهو يقيم حيث تقدَّم الكلام، وللملك الحالي قصر أجمل من مسكنه ولأخيه جورج ملك اليونان قصر أجمل من الاثنين، وهو مُقْفَل لم يرضَ كرستيان أن ينتقل إليه؛ لما اشتُهر من حبه للعيش البسيط وإنفاقه المال على الإحسان بدل التلذُّذ بالأطايب والتفاخر باليسار. وقد كان يوالي فقراء أمَّته بالمال والزاد ويوزِّع على بيوت كثيرة في كوبنهاجن وسواها وقودًا وطعامًا في زمن الشتاء، ونوادر بساطته كثيرة، قصَّ عليَّ صاحب الفندق الذي نزلتُ فيه واحدة منها، هي أنه لمَّا زارت هذه العاصمة البرنسيس ستفاني ابنة ملك البلجيك وأرملة رودولف ولي عهد النمسا الذي انتحر عام ١٨٨٨، جاء الملك ليسلِّم عليها في ذلك الفندق ووصَلَ الباب وحده كأنَّما هو واحد من تجار المدينة أو صُنَّاعها، فأخذ من جيبه بطاقة الزيارة وأعطاها لواحد من الخادمين؛ ليوصلها إلى الأميرة وظلَّ هو منتظرًا عند الباب يحدِّث صاحب الفندق ويسأله عن إيراده ونفقاته، وعدد الذين يدخلون فندقه كل عام وغير ذلك من المباحث، حتى عاد الخادم وأخبره أنَّ الأميرة تنتظر تشريفه فصعد إليها وراء الخادم، وبعد أن أقام معها زمانًا عاد كما جاء بلا طنطنة ولا احتفاء، وكان الناس يحبُّون هذا الملك الفاضل وأسرته الكريمة حبًّا مفرطًا، وهم يعلمون ميله إلى البساطة ونفوره من الطنطنة والأبهة، فإذا مرَّ بهم حادوا من طريقه احترامًا وتوقيرًا، وقد لا يسلِّمون عليه حتى لا يحمِّلوه مشقَّة الرد، وفي ذلك موافقة لأمياله أيضًا.
وأمَّا متاحف كوبنهاجن وقصورها العظيمة فأشهرها قصر روزنبرج، وهو صرحٌ تُرِكَ على حالته الأصلية، وفيه من نفائس التحف وثمين الآثار شيء كثير، بناه الملك كرستيان الرابع عام ١٥٨٨، وله موقع في وسط المدينة جميل، وسِرْتُ إلى هذا القصر في ثاني الأيام فوجدتُ غيري ينتظرون الإذن بالدخول على مثل ما كنت أرى في أكثر هذه المتاحف المشهورة، حتى إذا جاء الموعد أتانا خادم باللباس الأسود والقُفَّاز الأبيض وربطة العنق بيضاء أيضًا كأنَّما هو في حفلة للتشريفات، وقادنا إلى غرف القصر، فإذا هي أو أكثرها ملوَّنة بالألوان الواضحة كالأصفر والأحمر والأزرق، وأول هذه الغُرَف قاعة فسيحة كانت مُعَدَّة لاستقبال الزائرين، وقد وضعوا فيها صور أفراد العائلة المالكة حالًا في الدنمارك والكل بملابسهم الرسمية القديمة على أتمِّ إحكام وأوفى إتقان، وهنالك عروش كثيرة جَلَسَ عليها ملوك البلاد من آل أولدنبرج، بعضها من الفضة والبعض الآخر من الخشب الثمين، وقد نُقِشَ على أكثرها شعار الدولة الدنماركية، وهو ثلاثة أسود، ورسوم أخرى تشير إلى بعض ما حدث في البلاد من الأمور الكبيرة. ومن غريب الآثار المحفوظة في هذه الغرفة أيضًا قرن جاموس له حكاية خرافية، فحواها أنَّ الكونت أولدنبرج أبا مؤسِّس الدولة الدنماركية الحاضرة ظهرت له منجِّمَة في سنة ١٤٤٨ وأعطتْهُ ذلك القرن، وأشارت عليه أن يشرب ماءً فيه فيرافقه السعد ويخدمه الزمان؛ ففعل بإشارتها وما مرَّ زمان بعد ذلك حتى صار ابنه ملكًا لبلاده والملك باقٍ في يد سلالته إلى اليوم، وقد أبقوا هذا القرن أثرًا لمؤسِّس دولتهم فطلوه بالفضة ورصَّعوه بالحجارة الكريمة وحفظوه في هذه الغرفة مع حلي لبعض ملكاتهم وأسلحة مثمنة لبعض ملوكهم وملابس مزركشة، وغير هذا من آثار الملوك الذين درجوا نكتفي بهذه الإشارة إليها؛ لأنها كثيرة ووصفها يضيق عنه المقام.
ودخلنا بعد ذلك غرفة الورد، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأن جدرانها ملبسة بنسيج من الحرير النفيس عليه صور الورد من كلِّ أشكاله، وفيها المصابيح والثريَّات البديعة، ومنضدة صُنِعَتْ من خشب الأبنوس وزُخْرِفَتْ بالعاج والصدف وُضِعَتْ على أشكال الطيور، وفيها فوق العشرين من الأدراج السرية يفتح كلٌّ منها بأسلوب خاص، وقد صُنِعَتْ هذه المنضدة للملك في سنة ١٧٣٥ وأَنْفَقَ عاملها على صنعها نحو ٤٥٠ جنيهًا، وهي من الآثار الجميلة في هذا المتحف لغرابة صنعها وغير هذا كثير.
ثم صعدنا الدور الأعلى من القصر ومن غرفه العجيبة: قاعة المرائي سُمِّيت بذلك؛ لأن جدرانها كلها من هذه المرائي، وتليها قاعة النبلاء مُلِئَتْ بصور الأمراء والقُوَّاد الذين اشتُهروا في تاريخ الدنمارك، وفيها كرسي من الفضة جميل الصنع يتوَّج عليه ملوك هذه البلاد، وجرن للعماد يُعمَّد فيه أطفال الأسرة المالكة، وقد نُقِشَ عليه تاريخ ١٧٢٠ وكله من الفضة الخالصة، وعليه رسوم كثيرة، منها رسم يوحنَّا المعمدان يعمِّد المسيح في نهر الأردن، وفي جدران هذه القاعة صورة بطرس الأكبر قيصر روسيا الذي جاء هذه المدينة متنكِّرًا، وأقام في معامل السفن يدرس بنفسه كيفية صنعها حتى يعلم أهل بلاده وكان مدَّة وجوده هنا مثل بقية العمال في معيشته.
وظللنا في ذلك القصر القديم ندور بين نفائسه ونمتِّع الطَّرْفَ زمانًا، ثم انصرفنا وكثيرون من السائحين والسائحات يتردَّدون في الخروج، وقد رأينا من خدمة هذا القصر شممًا لم نعهده في أمثالهم من الخادمين؛ فإنه لمَّا عُرِضَ على أحدهم مال قليل كالذي يأخذه الخادمون في كلِّ موضع أبى قبوله، وأظهر الاستغراب من صنيعنا، وهذا أمر يستحقُّ الذكر للدنماركيين، وهم قوم اشتُهر عامَّتهم وخاصتهم بالأمانة والصدق. وأحقر الناس عندهم لا يجهل القراءة والكتابة؛ لأن التعليم قسري في هذه البلاد، فليس في طولها والعرض أمِّيٌّ واحد، ونزلنا بعد ذلك إلى حديقة قصر روزنبرج هذا، وهي بعيدة الأطراف فسيحة المجال فيها من صفوف الكستناء أشجار عمرت قرونًا. وهنالك تمثال للملك كرستيان الرابع الذي مرَّ ذكره وتمثال آخر للعالم أندرسون الذي اشتُهر بالكتابات الأدبية والقصص الصغيرة يقرأها الأولاد في المدارس ويتعلَّمون منها أحسن المبادئ، وهو في التمثال هذا واقف بيده كتاب ومن حوله صبية يصغون لأقواله، والناس يحترمون ذكر هذا الكاتب المفضال هنا حتى إنهم أقاموا له الذكر في عدَّة مواضع، ولمَّا ساروا بجثته للدفن بعد وفاته كان الملك في جملة الماشين وراء النعش احترامًا لفقيد الأدب، وهنا يظهر لك نفع البساطة والحريَّة عند الملوك؛ فإن إكرام العلماء إلى مثل هذا الحدِّ ينشط أصحاب العقول ويشجِّعهم ويدفعهم إلى الإقدام على الدرس والكتابة فيما يفيد.
وعلى ذكر هذه الحديقة التي نحن في شأنها أذكر أنِّي زُرْتُ في كوبنهاجن حديقة أعظم منها وأوفر جمالًا وأوسع شهرة، هي حديقة تيفولي تُعَدُّ من المتنزَّهات المشهورة عندهم. وقد قضيتُ سهرة من أحلى السهرات رأيت في جوانبها الواسعة مصابيح تُعَدُّ بالآلاف، وهي صغيرة كثيرة الألوان صُفَّت صفوفًا منظَّمة على أبواب الحديقة، وعلى أقواس عدَّة نصبوها من هنا ومن هنا في نواحي الحديقة، وعلى جوانب الطرق الكثيرة وفوق بِرْكَة من الماء كبيرة، وبين غصون الشجر وفي المروج الخضراء، وكلها — كما تقدَّم — ذات ألوان مختلفة توافق محل وضعها، ولها منظر بديع شائق لا تشبع العين من النظر إليه، ولا سيما فوق ماء البحيرة وحول جوانبها، حيث تنعكس الأنوار الكثيرة الملونة فتزيد المنظر غرابة وبهاءً. والقادم إلى هذه الحديقة يحسب أنه في يوم عيد عظيم مع أنَّ هذا حالها في كلِّ يوم، وقد أنفقوا المال الكثير على إيصالها إلى هذه الدرجة من الجمال حتى صيَّروها من أجمل المشاهد، وبنوا في وسطها الملاعب والحانات والمطاعم، أذكر أنِّي دخلتُ مطعمًا منها سمُّوه باسم قصر الحمراء في غرناطة بإسبانيا، وجعلوه على شكل ذلك القصر الفخيم الذي ترى وصفه عند الكلام على مملكة إسبانيا، وفي ذلك المطعم الموائد الشهيَّة ومواضع لثلاثمائة شخص صُفَّت على أجمل الأشكال، وفي بحيرة الحديقة أيضًا سفائن صُنِعَتْ على شكل السفن الدنماركية القديمة، يدور بها المتنزِّهون حول تلك الضفاف البهيَّة، ومغارة تشبه المغارة الزرقاء في نابولي، وسوف يأتي الكلام عليها أيضًا عند الكلام على مملكة إيطاليا، وتل صناعي من الصخور الجميلة يتدفَّق الماء من جوانبه وينصبُّ في البحيرة، ومن فوق ذلك التل صرحٌ صغير أو كشك أُنير بالمصابيح الملوَّنة، وفيه نفر من القوم الطليان يغنُّون الأنغام الإيطالية، والناس يدورون بهم من كلِّ جانب، وقد كانت سهرتي في تلك الحديقة كثيرة الفكاهة واللذة، ولا سيما إذا ركبتُ زورقًا في البحيرة والزورق يخترق صفوف السفائن ملأى بالمتفرِّجين. وأعجبني على نوعٍ خاص ما رأيتُ من هدو أهل البلاد وسكونهم وتأدبهم في الحديث والإشارات، فإن الذين دخلوا الحديقة في تلك الليلة لا يقلُّون عن عشرة آلاف، ومع هذا فإن الهدوء كان سائدًا والأُنْس شاملًا، فما سمعت جلبة ولا ضوضاء ولا رأيتُ غير كلِّ وقار ومهابة، والناس يسيرون أفرادًا وأسرابًا في جوانب الحديقة على مهل فرِحِين وشعور صغارهم ذكورًا وإناثًا تتلألأ بياضًا كأنَّما هي فضَّة فوق ورد الخدود النقية، وهي صفة عامة في أهل الشمال.
وأصبحت في اليوم التالي فقصدتُ المين الحربية، وفيها الاستحكامات صفوفًا، وقد تقدَّمت الإشارة إليها، وبعضها يُعَدُّ موقعه من أجمل المواقع وتولم فيه الولائم العسكرية الفاخرة، وعلى مقربة منها ميناء التجارة، وهي واسعة كبيرة ترى فيها من أشكال السفن والبواخر والأبضعة ما يعسر عدُّه، وأكثر السفن في ميناء كوبنهاجن إنكليزية؛ لأن للإنكليز أوسع المتاجر مع أهل هذه البلاد، وهم يشترون من إنكلترا الحديد والفحم الحجري، وبعض المصنوعات ويرسلون إليها كثيرًا من حاصلات بلادهم ومصنوعاتها، ويقرب من هذه المين مطعم من الطبقة الأولى بين المطاعم المعروفة، بُنِيَ على مرتفع من الأرض وأكثر الذين يقصدونه ضباط من أسطول هذه البلاد والدوارع التي تزورها. وأذكر أنِّي رأيتُ من ذلك المطعم عربة فاخرة يجرُّها فرسان من جياد الخيل، وقد لبس سائقها والخادم الآخر إلى جانبه القطيفة الحمراء مزركشة بالقصب، فسألت الترجمان عن حقيقة أمرها، وعلمتُ أنَّها جلالة الملكة الحالية، وهي أميرة أسوجية لها ثروة طائلة وَهَبَتْ منها نصف مليون جنيه لابنها الثاني البرنس شارل ملك نروج الحالي عند اقترانه بالبرنسيس مود ابنة ملك إنكلترا، وهي ابنة عمَّته كما يذكر القارئون، وقد اشتُهر ملك الدنمارك والملكة بالأدب وحب الدرس والمطالعة، وهما على شاكلة الملك السابق في البساطة وحب الفقير، فالناس يميلون إليهما كثيرًا ويسرُّون كلما التقوا بواحدٍ من هذه العائلة الكريمة.
وقصدتُ بعد ذلك الحديقة العمومية، وهي من أجمل الحدائق اشتُهرت باتساع مروجها البهيَّة، حيث يغطِّي الأرض عشب قصير سندسي مرقط بأشكال الأقحوان والزهر الجميل على نَسَقٍ يحيي في النفوس ذكر الجمال الطبيعي، وتفوح من تلك الأزهار روائح عطرية أكثرها يتضوَّع من الورد الكثير المزروع في هذه الحديقة على أشكاله، ولا حاجة إلى القول إن في هذه الحديقة من الأبنية والمشاهد ما في سواها، وقد أسهبتُ في وصفه غير مرة فأتركه كما تركتُ الحديقة يوم زُرْتُهَا وتوجَّهت إلى متحف الآثار القديمة في كوبنهاجن، وهو من المشاهد المعدودة في هذه العاصمة، وقد قُسِّمَ ثلاثة أقسام: أولها قسم التاريخ القديم ويليه قسم العصور الوسطى ثم قسم التاريخ الحديث، فترى في الأول أشكال الأسلحة الأولى من الحجر والصوَّان، وبعض الحِرَاب والسيوف والرماح والنبال، وما كان يستعمله الأولون من آنية الطبخ وأمشاط من قرن الجاموس وصناديق من قشر الشجر وأدوات أخرى لا محلَّ لذكرها تمثِّل حالة الأوائل وكيفية معيشتهم وحروبهم أتمَّ تمثيل. وأكثر ما في القسم الثاني ملابس وأسلحة لفرسان العصور الوسطى ونقود من أيام شارلمان ومَنْ قام بعد أيامه من ملوك الدول الأوروبية، وقد رُتِّبَتْ حسب تاريخ ضربها والممالك التي ضَرَبَتْ فيها وأكثرها يدلُّ على تقهقر الصناعة في العصور المتوسِّطة؛ فإن الأولين أتقنوا النقش والحفر والرسم لا سيما في أيام الرومان واليونان الذين تشهد آثارهم الكثيرة أنهم وصلوا درجة عظيمة من التقدُّم في هذه الفنون الجميلة، فلمَّا انقرضت دولتهم وكثر ظلم مَن خلفهم استولى الجهل على العقول وسُمِّيَتْ تلك الأزمان بالعصور المظلمة؛ لما اشتُهر عن أهلها من الجهل الكثير، فما أفاقوا من تلك الغفلة إلا في القرن الخامس عشر حين هبَّتْ ممالك أوروبا الحالية إلى إتقان العلم والصناعة، وأخذت شيئًا كثيرًا عن العرب، وهم والحق يُقال تفرَّدوا في أيام دولة الأندلس بالعلم والارتقاء، وأوصلوا معارف الأولين للآخرين فلهم على الحضارة فضل لا يُنْكَر.
وأمَّا القسم الثالث من هذا المتحف ففيه آثار جمَّة معظمها يشير إلى حوادث مشهورة في تاريخ أوروبا عمومًا والدنمارك خصوصًا، بينها كتب غريبة في جملتها كتاب هندي ألَّفه واحد من أدباء الهند وقدَّمه لملك إنكلترا الحالي حين زار سلطنة الهند سنة ١٨٧٦، وهو ولي العهد وفيه قصيدة ترجموا بعض أبياتها للإشارة إلى ما في التعبير الشرقي من الغرابة على ذهن الغربيين، وقد قال الهندي في أحد تلك الأبيات مخاطبًا للأمير إن: «أين اللؤلؤ والكافور والقمر منك! فإن في القمر نقطًا سوداء تشوِّه وجهه، وفي اللؤلؤ ثقوبًا تقلِّل متانته، وللكافور رائحة تطير ولا تبقى، وأمَّا أنت فإن شهرتك ناصعة البياض وهي صلبة وباقية.» وهي معانٍ تخطر في بال الشرقي كما لا يخفى.
وسِرْتُ بعد ذلك لمشاهدة معرض للتماثيل يصنعونها من الشمع على شكلِ الرجال والنساء من مشاهير العصر الحالي والعصور الماضية، وهو له نظائر في أكثر العواصم الأوروبية يرى فيها الغريب رجال الدولة العظام ومشاهير الأمَّة كأنه واقفٌ معهم فلا يفوته العلم بهيئة الذين يُذكرون بين عظماء البلاد التي يزورها، وقلَّ مَن يزور أوروبا ولا تتوق نفسه إلى مقابلة هؤلاء المشاهير، فالذي لا تمكن له المقابلة يكتفي بمثل هذا المعرض الذي رأيتُ فيه جميع مشاهير الدنمارك وسواها، أذكر منها رسم غامبتا رجل فرنسا المشهور تقتله عشيقته، ورسم ستانلي الرحَّالة وهو الذي اخترق القارة الأفريقية من زنجبار في الشرق إلى مصبِّ الكونجو في الغرب، واستغرقت سياحته هذه ٩٩٩ يومًا رأى فيها من هائل المتاعب ما تنوء به الرجال، وجاب الأقطار الاستوائية قبل ذلك باحثًا عن لفنستون الرحَّالة الشهير أيضًا، ثم عاد إليها ثالثة لإنقاذ أمين باشا واكتشاف بعض المجاهل، وكان قبل وفاته من أعضاء مجلس النُّوَّاب في بلاد الإنكليز وأحرز ثروة من سياحته ومؤلَّفاته، وكان مقامه بين الناس عظيمًا، وإلى جانب ستانلي تمثال اثنين من نوتية الدنمارك رافقوه في بعض سياحاته، وتمثال الكونت مولتكي القائد الألماني العظيم الذي قاد جيوش بروسيا إلى ساحات النصر والظَّفَر في حربها مع النمسا ومع فرنسا، وكان أصله دنماركيًّا فنصبوا له هذا التمثال هنا، وأذكر أيضًا تمثال البرنس كرستيان بن هانز ملك الدنمارك أرسله أبوه إلى نروج في مهمة فلقي هناك فتاةً فاتنة بارعة الجمال وشغف بحبِّها، فاقترن بها على كُرْهٍ من أبيه، فغضب عليه الملك وحرمه الملك، وبهذا أضاع الفتى ثلاث ممالك، هي: الدنمارك وأسوج ونروج وهي يومئذٍ متحدة بسبب حبِّه لهذه الفتاة التي صوَّروها معه في هذا المعرض وهي في غيبوبة تفارق الحياة، وقد أمسك الشاب بيدها يجسُّ نبضها والحزن ظاهر على مُحَيَّاه إلى درجة توجب اشتراك الرائي معه في الأسف الشديد، ويقول الدنماركيون إن هذا الشاب رقص مع تلك الفتاة ثلاث رقصات كلَّفه كلٌّ منها مملكة، وهو من الأقوال المأثورة عندهم إلى اليوم.
ولا بدَّ من القول إن ضواحي كوبنهاجن من المواضع الكثيرة الجمال وهي يقصدها الناس بحرًا وبرًّا؛ لأن بعضها في جزر قريبة من المدينة، منها كلامبربرج، وهي على مسيرة ساعتين إلى الشمال من كوبنهاجن واقعة على ضفَّة خليج السوند الفاصل بين الدنمارك وأسوج، والمنظر من المدينة إليها في غاية الجمال، فلمَّا وصلناها أعجبنا ما فيها من القصور، في جملتها قصر كان الملك السابق يقضي فيه أشْهُر الصيف، والقصر بسيط وإلى جانبه قصر عظيم كان القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي يقيم فيه حين يجيء مدَّة الصيف، هنالك كانت الأميرات والملكات تجتمع ومعهنَّ قيصر الروس وملك اليونان وملك إنكلترا وآل أولدنبرج جميعهم من الأسرة المالكة في الدنمارك، ويقضون أوقاتًا شهيَّة ضيوفًا لملك البلاد الجليل حتى أصبحت تلك البقعة مُلْتَقَى الملوك والأمراء على عهد إسكندر الثالث، وفي كلامبربرج مروج وغياض وحراج عجيبة الإتقان والجمال تَسْرَح فيها أسراب الأيل، وكان إسكندر الثالث الذي ذكرناه مولَعًا بهذه الأيائل وبالأرانب يأتون بها من أبعد الأقطار ويطلقونها في تلك الغابات فيصطادها في ساعات الفراغ، ولطالما رآه الفلاحون وحده في الغياض راجعًا إلى قصره ومعه شيء مما اصطاده، وعرفوه من كِبَر جثته وعلوِّ قامته فإنه كان من أكبر أهل زمانه.
وقضيتُ في كلامبربرج نهارًا كثرت مسرَّاته، فلمَّا عُدْتُ إلى كوبنهاجن في آخر النهار رأيتُ على مقربة منها صفوفًا من المنازل البسيطة بُنِيَتْ من الطوب الأحمر وهي فسيحة الطرق نظيفة المنظر، فأخبرني الدليل أنها مساكن لعمال البريد والتلغراف وبعض المصالح الأخرى، والمستخدمات في هذه المصالح من البنات كثيرات في الدنمارك وسواها حتى إنهنَّ صرن أكثر من الرجال عددًا في بعض مكاتب البوسطة والتلغراف في أوروبا وأميركا، ولمَّا كانت أجرة هؤلاء العمال قليلة لا تسمح لهم باستئجار المنازل المبنيَّة على قواعد الصحة في المدينة، فقد بنى المجلس البلدي لهم هذه المنازل في خارج المدينة وعيَّن لها الأُجر الزهيدة فأفاد العمال واستفاد، وهذا شأن الحكومات المنظَّمة تنظر إلى مصلحة عمالها ورعاياها وتساعدهم على تحسين حالهم، وحكومة الدنمارك تُعَدُّ — كما لا يخفى — من أحسن حكومات أوروبا نظامًا، ومن أشْهَرها التفاتًا إلى مصلحة الأصاغر والفقراء، وبناء هذه المنازل مع ما ذكرنا من الأشياء الأخرى يدلُّ دلالة قاطعة على سهرها وحسن انتظامها.
وسِرْتُ بعد ذلك إلى قصر فردنسبرج، وهو من أجمل متنزَّهات الضواحي يبعد نحو عشرة أميال عن العاصمة شمالًا، بناه الملك فريدريك الرابع سنة ١٧٢٢ على إثر حرب مع بلاد السويد وجعله في بحيرات يوصل إليها بجسور بديعة الصُّنْع، ولمَّا دخلنا هذا القصر رأينا في مدخله ساحة كبرى يتوسَّطها بِرْكَة من الماء أُحيطت بجدار من الرُّخَام الأسود وفيها تمثال نبتون إله البحر عند الأقدمين وغيره، والماء يتدفَّق من ٥٧ أنبوبة دقيقة ومن وراء ذلك غرف القصر الكثيرة قُسِّمَتْ إلى جناح أيسر للملك وجناح أيمن للملكة، ويحيط بالجانبين رواق على شكل شرفة فيه تحف وآثار وصور تمثِّل تاريخ هذه البلاد، ومن أشهرها صورة أهل هذه البلاد يهاجمون إنكلترا في القرن الحادي عشر، وصور الحوادث المشهورة وأكثرها حروب مع بلاد السويد وروسيا وصور أفراد العائلة المالكة وهم ٢٢ شخصًا بالقد الطبيعي، وصور بعض المشاهير من قُوَّاد الدنماركيين وأمرائهم، في جملة ذلك أمير البحر رانسو الذي «مات بالتقسيط» على ما يقول أهل بلاده؛ ذلك لأنه فقد عينه في واقعة ويده في واقعة ورجله في واقعة أخرى وأذنه في واقعة، وهكذا إلى أن قَضَى نحبه، والصور التي من هذا القبيل كثيرة لا محلَّ لسردها هنا.
وبعد أن أقمتُ أيامًا في كوبنهاجن على مثل هذا الحال غادرتُهَا قاصدًا بلاد أسوج ونروج، ومررتُ بحصون كوبنهاجن المشهورة التي قاومت مدافع الإنكليز في أوائل هذا القرن، وهي التي كان بطرس الأكبر قيصر الروس يعمل فيها وجرى بينه وبين ملك الدنمارك حديث نسوقه هنا تفكهةً للقُرَّاء، قال بطرس الكبير لزميله ملك الدنمارك يومًا: «إنِّي يا أخي الملك يمكن لي أنْ آمر مَنْ شئت من رجالي أن يلقي بنفسه من أعلى هذا البرج ولا يتردَّد، فهل يمكن لك ذلك؟» فأجابه الملك: «إنِّي يا أخي القيصر يمكن لي أن أضع رأسي بين يدَي مَنْ شئت من رعاياي ولا أخاف شرًّا فهل يمكن لك ذلك؟» وكان جواب الملك مفحمًا دالًا على فضل النظامات الدستورية، هذا ذكَّرتني به الحصون السالفة الذكر، وقد مررت عليها حين مبارحتي لهذه الديار قاصدًا بلاد أسوج التي ترى الكلام عنها في الفصل القادم.