روسيا
خلاصة تاريخية
كانت روسيا بلادًا غير معروفة، يسكنها أقوام محاربون اشتُهر ذكر بسالتهم في تاريخ إيران واليونان والرومان، ولكنهم عُرِفُوا بالغِلْظَة، ولم يكن بينهم رابطة ولا ائتلاف حتى قام أمير اسمه رورك في سنة ٨٦٢ من قبيلة تُعْرَف باسم روسن واشتُهر بالحكمة فاستدعتْهُ قبائل أخرى للحكم عليها وعظُمَ أمره، فكان هو أول مَن بدأ بتشييد الدولة الروسية الحالية، وأطلق على رعاياه اسم روسيين نسبةً إلى قبيلة روسن من ذلك العهد. وتوارث الملك عن رورك أمراء من نسله وسَّعوا نطاق الدولة حتى قام فلاديمير الأول وأَدْخَلَ الديانة المسيحية إلى البلاد في سنة ٩٨٨، ومن ذلك الحين ظهرت دولة الروس وصار لها علاقات مع الدول الأخرى، ولكن سوء الحظ فاجأها؛ لأن مملكة بولونيا أغارت عليها وكَسَرَتْ جنودها وامتلكت أكثر أجزائها، وظلَّت البلاد تابعة لبولونيا إلى القرن الثامن عشر، وكان الجزء الذي تُعَدُّ موسكو قاعدته قد وَقَعَ تحت حكم التتر من بعد أيام فلاديمير، فظلَّ خاضعًا لهم. والأمراء الروسيون يعدُّون من الولاة التابعين لسلاطين التتر حتى أوائل القرن الخامس عشر حين استقلُّوا في أيام إيفان الثالث سنة ١٥٠٥، وكانوا مدَّة سيادة التتر قد انفصلوا عن الأجزاء الأخرى انفصالًا تامًّا، فإن الروسيين الذين خضعوا لبولونيا اعترفوا بسيادة البابا الدينية، والذين خضعوا للتتر ظلُّوا تابعين للكنيسة الشرقية ثم أعلنوا استقلالهم وانفصالهم عنها مع بقائهم على عقائد الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، وكانت بلادهم تُعْرَف باسم روسيا الكبرى أو بلاد المسكوب، وهي التي تغلَّبت بعدئذٍ على بقية الولايات الروسية وصيَّرتها دولة واحدة، وبدأت بذلك من أيام إيفان الثالث الذي ذكرناه، فإنها اتسع نطاقها وعظم شأنها من بعد القرن الخامس عشر وضمَّت إليها بعض أجزاء سيبيريا والولايات الروسية التي أخضعها التتر مثل كازان وأستراخان وغيرها.
وفي سنة ١٥٩٨ انقرضت سلالة رورك فوَقَعَت البلاد في فوضى طالت مدتها، وانتهت سنة ١٦١٣ بقيام رجل اسمه ميخائيل رومانوف كان ابن أحد الأساقفة وأمه من بيت رورك، واستلم هذا الزعيم مُلْكَ قياصرة الروس فأسَّس من ذلك العهد الدولة الحاكمة في البلاد إلى الآن، وبذل جهد المستطاع هو وابنه الذي خلفه على الملك في توطيد دعائم الأمن وقَطَعَ دابر الفتن من البلاد، فنجح في ذلك وأعاد إلى روسيا شأنها الأول. ولمَّا جاءت سنة ١٦٨٩ قُدِّرَ للبلاد أن يتولَّى أمورها رجل من أعظم رجال الدهر وأكبرهم همة وأوسعهم شهرة، نريد به بطرس المعروف باسم بطرس الكبير في التاريخ، أظهر مقدرة تندر في الرجال، وهو يومئذٍ فتًى في السابعة عشرة من عمره، وجعل همه الأول الوصول إلى البحر الأسود وإنشاء أسطول حربي وتجاري يدور في مينه، فتوصَّل إلى امتلاك فرضة أزوف وهي على ضفافه بعد عناء كبير، ومن ثَمَّ شَرَعَ في بناء أسطول يعاونه على ما يريد من الفتح ومهاجمة بلاد الدولة العليَّة، وكان أهل بلاده إلى ذلك الحين لا يدرون من صناعة السفن شيئًا ولا مال في خزينة حكومته يقوم ببناء السفن المطلوبة، ففرض مالًا طائلًا على أشراف مملكته وخَدَمَة الدين فيها، واستخدم أناسًا لجمع ذلك المال ثم سافر متنكِّرًا إلى ممالك أوروبا التي اشتُهرت بقوَّتها البحرية فأقام زمانًا في إنكلترا والدنمارك على شواطئ البحار والأنهار يعمل كعامل بسيط فقير في بناء السفن ويتعلَّم دقائق الصناعة، والناس لا يعرفون مَنْ هو فإذا عرفوه انتقل من مكانه وعاد إلى التخفِّي حتى إذا أتمَّ المراد من ذلك عاد إلى بلاده سنة ١٧٠٠ واستلم مهامَّ المُلْكِ، وبدأ بعمل الأسطول في البحر الأسود، ثم اتفق مع ملك الدنمارك وملك بولونيا على محاربة أسوج واقتسام أملاكها، ولكن أسوج كان لها يومئذٍ ملك باسل هو كارل الثاني عشر، فردَّ جموع المهاجمين وفلَّ جنود أعدائه مرارًا، ثم حدث ما ذكرناه في تاريخ أسوج وعاد بطرس الكبير إلى مهاجمتها؛ فكَسَرَها شرَّ كسرة في معركة بولتافا سنة ١٧٠٩، ونتج عن هذه الحرب أن عدَّة ولايات في الشمال والغرب أُضيفت إلى روسيا، وصار لها المواني على بحر البلطيق فعظم شأنُ روسيا من بعد هذا النصر، ولُقب بطرس الكبير إمبراطور روسيا جميعها، وهو لقب القياصرة من آل رومانوف إلى الآن.
وانقطع بطرس الكبير بعد ذلك إلى إصلاح داخلية بلاده، فأدخل إليها النظامات الجديدة المصطلح عليها يومئذٍ في ممالك أوروبا المتمدِّنة، وأصلح الجيش وإدارة الأحكام والمحاكم والمالية، وفَتَحَ الترع وبنى الجسور والطرق، ووسَّع نطاق المتاجر وأنشأ المدارس وأبْطَلَ امتياز البطاركة الأروام في كنيسة بلاده، فجعل نفسه رئيس الكنيسة الروسية ولم يزَل القياصرة رؤساء الدين في بلادهم إلى الآن. وفي سنة ١٧٠٤ بنى مدينة بطرسبرج وسمَّاها باسم القدِّيس بطرس واسمه وجعلها قاعدة المملكة، ولمَّا مات في سنة ١٧٢٥ كانت روسيا في عداد الدول العظيمة، مع أنها لم تكن قبل أيامه على مثل هذا.
وورث المُلْك عن بطرس الكبير امرأته كاترينا الأولى، ملكت عامين ثم ماتت، وخلفها بطرس الثاني حفيد بطرس الكبير، ومات بطرس الثاني سنة ١٧٣٠ فخلفته الإمبراطورة حنة، وهي ابنة إيفان أخي بطرس الكبير حدث في أيامها حروب كثيرة مع الدولة العليَّة لم تستفد منها روسيا شيئًا، ولمَّا حان أجلها أوصت بالملك لإيفان حفيد أختها كاترينا، وكان إيفان هذا أميرًا ألمانيًّا من آل هانوفر لا يزيد عمره يومئذٍ عن ستة أشهر، ولكن الجيش الروسي لم يرضَ به ملكًا فخلعه بعد سنة وعيَّن إليصابات إمبراطورة سنة ١٧٤١، وهي أصغر بنات بطرس الكبير، وحكمت هذه الإمبراطورة إلى سنة ١٧٦٢ حين تنازلت عن الملك لابن خالتها أمير هولشتين، وهو أيضًا ألماني فرَقِيَ العرش وسُمِّي باسم بطرس الثالث، ولكنه أغضب رجال الدين وقُوَّاد الجيش ببعض أموره فخلعوه وأقاموا مكانه الأميرة صوفيا أوغستا من آل أنهلت زربست في ألمانيا، فحكمت روسيا باسم الإمبراطورة كاترينا الثانية أو الكبيرة، وهي ملكة مشهورة في التاريخ بالحروب الكثيرة التي جَرَتْ بينها وبين الدولة العليَّة، وكان الفوز في أكثرها لرجالها، وأُضيفت في أيام هذه الإمبراطورة عدَّة ولايات ومدن إلى روسيا من أملاك الدولة العليَّة، وفي أيامها أيضًا جُزِّئَتْ مملكة بولونيا، وهي التي ملكت روسيا أو بعضها حينًا من الدهر، فلمَّا ماتت سنة ١٧٩٦ كان ملكها عظيمًا ودولتها قويَّة ورثها عنها ابنها بولس الأول، وكان مشهورًا بقُبْحِ الخصال وقُبْحِ الوجه، وله أمور لا تنطبق على قياس، وهو الذي سَنَّ لائحة تقضي بحرمان النساء حق الملك في روسيا، وكان له ولعٌ خاصٌّ بالوقوف أمام المرآة زمانًا والتفرُّج على سحنته، فلمَّا ثقل جوره على الناس تآمر بعضهم عليه وقتلوه سنة ١٨٠١، وبذلك بطلت الحرب بين روسيا وإنكلترا التي كاد الإمبراطور يضرمها بسوء تدبيره.
ومَلَكَ البلاد بعد بولس ابنه إسكندر الأول، وهو من الملوك العِظَام له شهرة في التاريخ بسبب تحالفه مع نابوليون الأول ومحاربته له بعد التحالف بعد ما كان من طمع نابوليون، وكان هذا الإمبراطور حَكيمًا عادلًا تُرْوَى عنه المآثر الكثيرة، وهو الذي كان السبب في سحق قوة نابوليون؛ لأنه لمَّا دخل ذلك الفاتح بلاده تمكَّن من ردِّه وكسر جنوده، ثم دخل باريس مع مَنْ دخلها سنة ١٨١٢، وقضى بإبعاد نابوليون عنها وكان في آخر أيامه صديقًا حميمًا لدولة الإنكليز، وتُوفِّي إسكندر الأول سنة ١٨٢٥ فخلفه أخوه نقولا الأول، وكان جبَّارًا عظيم الخِلْقَة شديد القوة يحكي الجبابرة الأُوَل في قوة جسمه وكِبْرِه، وله شهرة في البسالة وحب الأثرة لا تفوقها شهرة، وحدثت في أيام هذا الإمبراطور عدَّة حروب، منها ما كان مع بلاد إيران ونَتَجَ عنها استيلاء روسيا على ولاية أروان وما وراء نهر جيجون، ومنها مع الدولة العليَّة ونتج عنها وضع حماية روسيا على الفلاخ والبغدان (رومانيا الحالية)، وهي يومئذٍ من أملاك الدولة العليَّة، ومنها مع بولونيا التي حاولت استرجاع استقلالها فَسَحَقَهَا نقولا سَحْقًا وبَطَشَ بقوَّاتها إلى حدِّ أنه أقعدها عن كلِّ حركة قادمة، ومنها مع المجر؛ لأنَّ إمبراطور النمسا استغاث به على قمع ثورتها وردِّها إلى طاعته، فأعانه وأرسل عليها جيشًا جرَّارًا سَحَقَ ثورتها وأخضعها إخضاعًا تامًّا.
وظلَّ نقولا الأول على المحاربة والفتح زمانًا، وهو لا يكتفي بما وصل إليه، ونفسه الطماعة تتوق إلى المزيد حتى إنه لمَّا ثار محمد علي والي مصر على الدولة العليَّة وَعَدَهَا بالمساعدة على شرط أن يكون لدولته الكلمة الأولى في الآستانة فتمَّ له ذلك، ثم أخضع دولة إيران لنفوذه وحملها على إرسال جيش يقوده ضباط روسيون لمهاجمة الهند فردَّهم الإنكليز على الأعقاب.
وجملة القول أنَّ هذا الإمبراطور العظيم كان جبَّارًا وَفَعَلَ فِعْلَ الجبابرة، وَسَحَقَ أممًا كثيرة لولا فعله لكانت الآن دولًا زاهرة، وظلَّ به الطمع إلى أنْ عوَّل على ابتلاع ممالك الدولة العليَّة، وأثار عليها حربًا عنيفة سنة ١٨٥٤ تُعْرَف بحرب القرم، ولم يزل خبرها يرنُّ في الآذان، ولمَّا كانت إنكلترا تخشى امتداد صولة الروس وصيرورة المراكز البحرية على البوسفور والبحر المتوسط إلى يدهم جهرت بمضادتهم وانتصرت للدولة العليَّة، وسعت في ضمِّ غيرها إلى هذا التحالف فانضمَّت إليها فرنسا ومملكة سردينيا، وتحارَبَ الفريقان زمانًا أظهر فيه الروس والأتراك والإنكليز والفرنسويون من أشكال البسالة والإقدام ما تَعْجَز عن وصفه الأقلام، وانتهت حرب القرم بفتح سباستيول، وهي فرضة على البحر الأسود في بلاد القرم التابعة لروسيا كان القيصر نقولا يظنُّ أنها لا تفتحها قوات الإنس والجن، وأنَّ جيشه لا يغلبه جيشٌ في الوجود، فلمَّا انتهى الأمر على غير ما أمَّل اضطرَّ إلى عقد صلح لم تخسر منه روسيا كثيرًا، ولم تستفد الدول الأخرى غير رجوع روسيا عن الفتح زمانًا، وضاق صدرُ القيصر نقولا من هذا الحادث وهو جبَّار لا تذلُّ نفسه ولا ترضى بغير النصر، فمات بعد الحرب بقليل وخلفه ابنه إسكندر الثاني، ويعدُّهُ البعض أشرف القياصرة نفسًا؛ لأنه حرَّر الفلاحين في بلاده الواسعة وكان الفلَّاح الروسي بمنزلة عبد للأشراف، فأبطل ذلك النظام القديم وتَرَكَ له ذكرًا حميدًا في تاريخ البشر، وحارب إسكندر الثاني الدولة العليَّة الحرب الأخيرة المشهورة سنة ١٨٧٦ فانتصر في أكثر المواقع، ومَلَكَ بعض الأراضي العثمانية وساعد بلغاريا على الاستقلال، فاسمه مقرون بالاستقلال والحرية في جميع فعاله.
وكان هذا القيصر جميل الوجه، طَلْق المُحَيَّا، شريف الملامح، لم يقم بين ملوك الروس أجمل منه وجهًا ولا أطيب قلبًا، ولكنه بُلِيَ في آخر أيامه بفئة التهلست التي قويت وامتدَّت صولتها وكثر أعوانها، وهم أعداء له وللحكم الاستبدادي، فقتلوه بقنبلة تفرقعت في طريقه سنة ١٨٨١، وأسِفَتْ أوروبا لفقده أسفًا كبيرًا، فورثه ابنه إسكندر الثالث، وهو المشهور باسم «بطل السلام»، كان ملكًا شريف الخصال طيِّب القلب سليم النية، كبير الجسم، عظيم القوة، حَكَمَ بلاده بالعدل والإنصاف، وعمل على ترقيتها بإنماء موارد الرزق فيها، وتوسيع جوانبها بلا حرب ولا قتال، فعظم شأن روسيا في بلاده وتودَّدت إليها الممالك، وأُبرمت بينها وبين فرنسا محالفة مشهور أمرها، واقترن هذا الإمبراطور قبل أن يرقى العرش بالأميرة داجمار ابنة ملك الدنمارك، وهي أخت ملكة إنكلترا وملك اليونان، فكان يحبها حبًّا مفرطًا، ويعمل برأيها في أكثر الأمور، وقد رُزِقَ منها القيصر الحالي وأخاه وبنتين، وتُوفِّي هذا القيصر في ١ نوفمبر سنة ١٨٩٤.
ورقي عرش القياصرة العظام بعد إسكندر الثالث بكر أنجاله جلالة القيصر الحالي نقولا الثاني، وهو شاب في مقتبل العمر أظهر إلى الآن مقدرة في اختيار الوزراء وحبًّا للعدل، ورغبة شديدة في ترقية مصالح بلاده، وزادت قوات روسيا في البحر مدَّة الأعوام الأخيرة، واتسعت متاجرها وقوي نفوذها، وقد جال جلالة القيصر قبل تولِّيه في الشرق والغرب مع أخيه الغراندوق جورج وابن خاله البرنس جورج أمير كريت، ورآه أهل هذه البلاد وسواها، وكان أينما حلَّ يلْقَى من آيات الاحتفال والتعظيم ما لم يلْقَه السوى، وحاول رجل في بلاد اليابان أن يقتله فأنقذه البرنس جورج اليوناني، وقد اقترن القيصر بالبرنسيس أليس حفيدة ملكة إنكلترا السابقة، وأحب الحفيدات إليها، وهي ابنة أمير هس درامستات من أمراء ألمانيا، ورُزِقَ منها أربع بنات وولد، وهو مشهور بحبِّه لأهل بيته وأقاربه جميعهم، وقد عُرِفَ بحسن الخصال واشتُهر في أيامه ارتباطه بفرنسا وزيارته لها وزيارة رئيس الجمهورية وبقيَّة الملوك العظام له، وتعاظم نفوذ روسيا قبل حربها مع اليابان.
وكانت سبب هذه الحرب أنه لما مدَّت روسيا سكَّة الحديد من بلادها إلى الشرق الأقصى عظم نفوذها هنالك وتجسَّمت مصالحها، ولا سيما بعد أن احتلَّت منشوريا وبدأت بنيل الامتيازات في كوريا، وزادت حصون بورت أرثر زيادة كبرى، كلُّ هذا واليابان ترى أنَّ في تقدُّم روسيا على هذا المنوال خطرًا عليها عظيمًا؛ لأن تلك البلاد مواجِهَة لها ومتَّصلة بها، وهي مورد الأرز الذي يعوِّل عليه اليابانيون في الغذاء، فإذا ملكتها روسيا أصبحت اليابان نفسها تحت تحكم الروس؛ ولذلك جعلت حكومة اليابان تخابر روسيا في الرجوع عن كوريا والوقوف على حدٍّ معلوم في منشوريا، فلم تعتد روسيا بها كثيرًا؛ لأنها حسبت قوَّات اليابان دون الصحيح بمراحل، وكان هذا هو الرأي الغالب في العالم المتمدِّن إلى ذلك الحين، فاضطرَّت اليابان إلى إضرام نار الحرب قبل إعلانه رسميًّا حسب عادة الدول، وَهَجَمَتْ بخدعة على مينا بورت أرثر، فأضرَّت بأسطولها ضررًا بالغًا وانقضَّت بوارجها على بارجتين صغيرتين كانتا في ثغور كوريا فأغرقتهما، وعند ذلك هاجت روسيا وطفقت تسيِّر الفيالق البرِّيَّة عن طريق سيبريا لمواقعة الأعداء، وأرسلت الأميرال مخاروف إلى بورت أرثر ليقود قوَّاتها البحرية، وبدأ السير في حرب كبيرة دامت أكثر من سنة، كان القائد العام فيها لدولة الروس الجنرال كورباتكين الذي تولَّى وزارة الحرب في بطرسبرج عدَّة سنين، والقائد العام لليابان الجنرال أوياما، ولكن روسيا لقيت من المتاعب في هذه الحرب شيئًا كثيرًا؛ لأنه لم يكن لجيوشها طريق إلى الحرب غير سكَّة الحديد المنشورية ومركزها في خربين يبعد ١٥ يومًا عن عاصمة روسيا على الأقل، هذا غير أنَّ أهل منشوريا كانوا أعداءً لروسيا في الحرب، وأنَّ اليابانيين أظهروا علمًا بتلك البلاد وخبرة بما فيها يفوقان التصديق.
وقد جَرَتْ في هذه الحرب عدَّة معارك بحرية وبرِّيَّة، فأما البحرية فمنها المعركة الأولى في ثغر بورت أرثر وقد ذكرناها، ومعركة أخرى في شهر مارس من سنة ١٩٠٥ أصاب فيها بارجة الأميرال مخاروف نسافة أغرقتها، وكان الأميرال المذكور في جملة القتلى، ومنها معركة في ١٠ أوغسطس من تلك السنة حين حاول أسطول روسيا الإفلات من ثغر بورت أرثر فَفَقَدَ بعض بوارجه وتعطَّل البعض الآخر، وكانت آخر المعارك البحرية من المواقع المعدودة في تاريخ الأمم، وهي معركة بحر اليابان حدثت على مقربة من جزيرة تسوشيما حين التقى أسطول البلطيك لروسيا وقائده الأميرال رودجفنسكي بأسطول اليابان وقائده الأميرال توجو؛ فكان انتصار اليابانيين يومئذٍ عظيمًا؛ لأن معظم الأسطول الروسي وَقَعَ في أيديهم، وأمَّا المعارك البرية فكانت كثيرة، منها معركة نهر يالو عند حدود كوريا ومنشوريا حدثت في أوائل الحرب، ومعركة لياوتنج كانت من المواقع الكبرى والفوز فيها لليابانيين، ومعارك بورت أرثر، وهي مدينة حصَّنها الروسيون وأقام مائة ألف جندي من اليابانيين على حصارها تحت قيادة الجنرال نوجي نحو عشرة أشهر، ثم سلَّمت حاميتها حين قطعت الرجاء من وصول المدد إليها، وقد حُوكم الجنرال سنوسل قائد حاميتها كما حوكم الأميرال نبوجاتوف الذي سلَّم في معركة بحر اليابان؛ لأن قوانين روسيا الحربية لا تبيح التسليم للأعداء على أيِّ حال، فصدر أمر المحكمة الحربية بإعدام الرجلين، وأبدل القيصر هذا الحكم بالسجن في قلعة بولس وبطرس المشهورة في بطرسبرج، ثم عفا عنهما مراعاةً للسن والصحة بعد ٣ سنين.
قلنا إن جيشًا قويًّا من اليابان أقام على محاصرة بورت أرثر حتى اضطرَّها إلى التسليم، ثم انضمَّ إلى الجيش الكبير الذي كان أوياما قائده في منشوريا فصارت قوة اليابانيين هنالك عظيمة قُدِّرَتْ بنحو ٤٥٠ ألفًا، وتقدَّمت على أهمِّ مواقع الروس في مكدن، وهي عاصمة منشوريا، فحدثت هنالك معركة ربما كانت أكبر معارك التاريخ الحديث، اشترك فيها نحو مليون محارب من الجانبين، ودامت يومين، ثم رأى القائد الروسي أنَّ البقاء موضعه أصبح مستحيلًا؛ نظرًا إلى تكاثر قوات الأعداء فأرسل يخبر القيصر بتقهقره مرة أخرى، واستعفى من القيادة العامَّة فخلفه الجنرال لنيفتش، ولكن الحرب وقفت بعد هذه المعارك الهائلة؛ لأن أمم الأرض بدأت ترى جسامة مصائبها فجعلت تسعى في الصلح، وكان السابق في هذا السعي المستر روزفلت رئيس ولايات أميركا المتحدة سابقًا ففاز بالمراد ودعا مندوبي الدولتين إلى بلاده لعقد الصلح، وقد تمَّ الصلح على شروط، أهمها: أن تعترف روسيا بسيادة اليابان على كوريا وتخلي لها بورت أرثر، وتعيد إلى الصين النصف الجنوبي من منشوريا وتتنازل لليابان عن نصف جزيرة سخالين، ولكنها لم تدفع غرامة حربية وبهذا انتهت أكبر حروب القرن العشرين.
على أنَّ روسيا لم تنته من هذه الحرب حتى وقعت فيما هو شرٌّ منها، إذ ثارت في أرجائها القلاقل الداخلية، وقام المطالبون بالدستور وأهل الفوضى على الحكام والسراة فأودوا بكثيرين، أعظمهم الغراندوق سرجيوس عم القيصر قُتِلَ في موسكو بقنبلة انفجرت تحت عربته فحطمتها ومزَّقت الرجل تمزيقًا، وأُلْقِيَتْ قنبلة في منزل المسيو ستولبين رئيس الوزارة يومئذ، فأودت ببعض الأعوان وجُرحت ابنة الوزير وكثير من سواها، وما زال القوم في مطالبة بالدستور ومعظم رؤساء الدين والأشراف يقاومونهم حتى أذعن القيصر لرأي الأمَّة وعمل بالمشهور عنه من حبِّ الرعية؛ فأمر بإنشاء مجلس نيابي اسمه الدوما وإشراكه مع الحكومة في شئون البلاد، ويبلغ عدد سكان روسيا مائة وخمسين مليونًا وهم يزيدون مليونًا ونصف مليون من النفوس كل عام، فسيكون لها شأن عظيم في المستقبل.
بطرسبرج
تُعَدُّ اليوم بمليونين من النفوس، وقد أسَّسها القيصر بطرس الكبير على ما عملت في باب التاريخ، وجعل موقعها على نهر النيفا، وهو يخرج من بحيرة عظيمة اسمها لادوجا على مقربة من المدينة، ويصبُّ في البلطيق عند مدينة كرونستاد.
كانت مدينة موسكو المشهورة عاصمة روسيا حتى قام بطرس الكبير ورأى أنَّ بُعْدَها عن بقية أنحاء أوروبا وعدم اتصالها ببلدان الغرب يضرُّ ببلاده؛ ولهذا انتخب موقع بطرسبرج ودعا إليها العَمَلة ألوفًا، فكان يعمل في بناء المدينة نحو ٤٠ ألف عامل مدَّة أعوام متوالية، والأسوجيون يوالون الهجوم عليه حتى اضطرَّ أن يبني حصونًا ترد هجماتهم وتقي العمال شرَّ فعلهم، ولم يزل ذلك الموقع حصينًا مشهورًا باستحكاماته هو كرونستاد التي مرَّ عنها الكلام.
وبنى بطرس لنفسه كوخًا من الخشب في ذلك المكان، وأبدله بعد ذلك بمنزل فخيم على ضفَّة النيفا، فكان يراقب سير العمال ويرشدهم بنفسه ويدير أمور المملكة من ذلك الموضع، وكلَّما عسر عليهم أمر فَعَلَه بيده حتى إنه ليُرْوَى عنه أنه جاءه عامل يشكو من ألم في ضرسه ويرجوه الإذن بالذهاب إلى الطبيب، فقام القيصر واقتلع ذلك الضرس بيده حتى لا يغيبَ الرجل عن عمله زمانًا، ولم يزل الضرس محفوظًا في أحد معارض العاصمة دليل اجتهاد هذا القيصر العظيم وكثرة مواهبه، وظلَّ الأسوجيون يهاجمون بطرسبرج إلى أنْ سَحَقَ بطرس الكبير قواتهم في معركة بولتافا، ومن ثَمَّ تقدَّم العمل في بناء المدينة وتنظيمها حتى صارت من المدائن العظيمة، وتقاطر السكان إليها من كلِّ حدب بعيد.
على أنَّ تقاطر الناس للسكن في بطرسبرج لم يكن بغير عناء، فإن أهل موسكو وكييف، وهما العاصمتان القديمتان لروسيا ما زالوا يحنُّون إلى وطنهم ويذكرون ما فيه من الكنائس والأديرة ومدافن القدِّيسين، وهم أهل تُقَى وورع مشهور — كما يعلم القارئ — فرأى القيصر أن يحوِّل ميلهم إلى مدينته الجديدة بنقل عظام القديس نفسكي الذي يعتبره المسكوييون وليهم الأكبر من موسكو إلى بطرسبرج، وبنى لهذه العظام كنيسة وديرًا عظيمَين ومدرسة يتلقَّى فيها رجال الدين العلوم اللاهوتية، فمالت بعض النفوس إلى الانتقال مع عظام هذا القديس، وكان القيصر يلجأ إلى القوة في بعض الأحيان؛ لنقل العائلات وتعمير العاصمة الجديدة، وحوَّل بطرس بعد موسكو نظره إلى كييف، وهي العاصمة الأولى لروسيا، فيها مدفن القديس إسحق الذي أدخل النصرانية إلى البلاد وكانت يومئذٍ أشهر مدائن روسيا بمعابدها وأديرتها، فبذل القيصر جهده وبنى للمهاجرين منازل من الحجر، وحظر على كلِّ المدائن الروسية أن تشيد منزلًا بالحجر حتى يتمَّ بناء بطرسبرج، وما زال على مثل هذا الجهد حتى عمر المدينة وغادرها حين وفاته وفيها ٧٥٠٠٠ نفس، ولم يكن هذا بالشيء القليل وقتئذٍ، ولكنَّ المدينة ظلَّت على النماء والتقدُّم حتى إنها الآن من أشهر عواصم الأرض وأكثرها جمالًا وفخامة وأعظمها مشاهد وأبدعها نظامًا، وهي مقرُّ البيت القيصري والفيلق الأول من الحَرَسِ الإمبراطوري ومركز تجارة روسيا من ناحية البلطيق وليس في الأرض مدينة تفوقها في القصور العديدة.
وصلت هذه العاصمة العظيمة عن طريق كرونستاد وتوجَّهت إلى فندق أوروبا، وهو من الفنادق الكبيرة يمتاز عما سواه بتوسُّط مركزه ووقوعه في أشْهَرِ الشوارع — أريد به شارع نفسكي الذي سيجيء الكلام عنه — وفيه من أنواع المشاهد ما يعزُّ نظيره، وقد أصبح موضع هذا الفندق محطَّة لقطر الترامواي وموقفًا للعربات الكثيرة؛ نظرًا لأهميته يجتمع فيه خلق كثير من السائحين ومن أهل المدينة وضباطها وهم كثار العدد، وقد كان قربه من المتاحف والمشاهد — التي سيرد ذكرها — داعيًا كبيرًا لتسهيل الرحلة عليَّ ودَرْس ما في بطرسبرج من آيات العظمة والإتقان، وكان وصولي في مدَّة الصيف على ما تقدَّم، والصيف هنالك قصير مدَّته. ولبطرسبرج هواء وأحوال جويَّة غريبة؛ فإن هذه المدينة نظرًا لتطرُّفها في الشمال يطول زمان الشتاء فيها ويكثر البرد فتجمد مياهها ويصبح النهر والبحيرة ألواحًا من الجليد تسير عليها العربات والجموع، ومعظم القوم يلبسون الفَرْو الروسي المشهور مدَّة البرد ويتلثَّمون بأنواع من القبعات كثيرة، فلا يظهر منهم غير العينين اتقاءً للبرد ومضارِّه، وأمَّا الصيف فإنه قصير الأجل لا يزيد عن ٦١ يومًا في السنة، أعني من ٧ يونيو (حزيران) إلى ١٢ أوغسطس (آب)، ولا يرى الناس في تلك المدَّة ظلام الليل إلا قليلًا؛ لأن النهار يطول والشَّفَق يستمرُّ معظم ساعات الليل، فترى المدينة منيرة والشمس في كبد السماء عند الساعة الثالثة بعد نصف الليل، والناس كلهم نيام لا حركة في المدينة ولا صوت للساكنين كأنَّما أنت في مدينة خَلَتْ من أهلها، ويذهلك ذلك بقدْرِ ما يذهلك ظلام المدينة مدَّة النهار في أشْهُرِ الشتاء، فإن نور الصباح لا يظهر هنالك في فصل البرد إلا قبل الظهر بساعة، ويغيب عند الساعة الثالثة بعد الظهر، فترى المدينة في حركة كبرى وجدٍّ كثير، والنواحي كلها منارة بالمصابيح في وسط النهار، وهنا موضع للاستغراب ومزيَّة لمدينة بطرسبرج على بقية العواصم المشهورة.
وقد بُنِيَتْ هذه المدينة على نهر النيفا — كما تقدَّم — وهو عظيم الاتساع، ولكنه ليس من الأنهر الطويلة، يختلف عرضه ما بين ٢٦٠ مترًا و٦٥٠ وعمقه من ٣ أمتار إلى ١٦، وهو داخل في العاصمة يقسمها سبعة أقسام، وله فروع وأجزاء يتكوَّن منها جزر تدخل في عِدَاد أحياء المدينة وتجعل لها رونقًا وبهاءً كبيرَين، وقد مدُّوا في داخل المدينة ترعًا كثيرة لا يقلُّ عديدها عن ٢١ بُني فوقها ١٥٠ جسرًا أو قنطرة بعضها بالحديد والبعض بالحجر، ولكلِّها نوع جمال ودقَّة في الصناعة يمرُّ فوقها الألوف مشاة، وتجري العربات وقطر الترامواي، وإذا تجمَّد الماء من تحت هذه الجسور في الشتاء قلَّ مرور الناس عليها وكثر مشيهم على الجليد حتى إن العربات لتجري فوق ذلك الماء المتجمِّد ولا خطر عليها من الغرق. وأمَّا بحيرة لادوجا التي يخرج منها هذا النهر العظيم فتُعَدُّ من أكبر بحيرات أوروبا، مساحتها ١٨٠٠٠ كيلومتر مربع، وطولها ٢٠٠ كيلومتر، وعرضها ١٥٨. وهي جميلة المنظر يذهب إليها الناس للنزهة على تلك البواخر الكثيرة التي تروح وتجيء بين بطرسبرج وسواها. ولهذه البواخر تسعة خطوط ينشأ عن السير فيها حركة دائمة تدلُّ إلى أهمية المدينة وعظيم شأنها، وليس يقتصر الأمر على هذه الخطوط البحرية؛ فإن في مدينة بطرسبرج خمس محطات للسكك الحديدية يسافر منها الناس إلى الضواحي وداخلية البلاد، وفيها ٢١ خطًّا للترامواي، ترى عرباتها ملأى بالمتنقِّلين من هنا ومن هنا في كلِّ حين، وهي إذا أُضيفت إلى الذي تراه من العربات في هذه المدينة كانت شيئًا يفوق الحصر، ولا عجب فإن بطرسبرج مسكن الأمراء الفخام وأهل السعة ورجال الإدارة والأحكام وكبراء المتاجرين وسراة الروسيين.
ولمَّا كانت هذه العاصمة حديثة النشأة وقد بُنِيَتْ على النظامات الأخيرة، فهي ممتازة بانتظام أكثر شوارعها واتساع طرقها وميادينها وعدم وجود العوج والشذوذ في دروبها، ويمكن أن يجتمع في ميدان واحد من ميادينها الكثيرة مائة ألف نفس، وقد ساعدها على كلِّ هذا وجودها في أرض منبسطة، واتساع المجال من ورائها، فأهلها ليسوا في حاجة إلى الحفر والردم ولا إبدال الأسوار القديمة والحصون بالطرق والمتنزَّهات كما فعل غيرهم في مثل فيينَّا وبرلين وباريس، إذا أرادوا التوسُّع في دائرة المدينة فعندهم أرض للضواحي عريضة طويلة من كلِّ جانب، فلا عجب بعد هذا إذا اشتُهرت بشوارع عظيمة فيها مثل شارع نفسكي الذي تقدَّم ذكره؛ لأنه أكبر ما في هذه العاصمة من الطرق المعروفة، طوله نحو خمسة آلاف متر، وهو يمتدُّ في قلب المدينة من الشرق إلى الغرب، وفيه القصور الباذخة والمباني العمومية والكنائس الفاخرة والفنادق والمراسح والمخازن مملوءة بأنْفَسِ السلع وأجود الأبضعة، فالناس ينتابون جوانبه ألوفًا مؤلَّفة في كلِّ حين، ويتنقَّلون في الشوارع التي تتفرَّع منه لقضاء الحاجات الكثيرة، وهنالك يحلو التمشِّي للزائر؛ لأنه يرى عاصمة الروس بأبهى مظاهرها وجميع ما تحوي من أنواع الساكنين، هنالك يرى الزائر العربات صفوفًا صفوفًا تجرُّها الخيل الروسية المشهورة بكبر الخلقة وجمال المناظر، ولا مثيل لها في خدمة العربات؛ فهي يشتريها الناس لهذا الغرض من روسيا لجميع الأقطار، ومعظم الجياد الكبيرة التي تدق الأرض دقًّا ولوَقْعِ حوافرها رنَّة وطنين يأتي بها التجار من تلك البلاد. ويكثر أن تمرَّ هنالك عربات الأمراء العظام من آل رومانوف وهم أصحاب الحكم في الدولة الروسية لهم أملاك في هذا الشارع كثيرة، وعدد البيوت التي يسكنونها لا يقلُّ عن مائة في بطرسبرج وضواحيها؛ لأنهم عائلة كبيرة ولأكثرهم قصور منيفة ولهم رواتب من الدولة وأراضٍ فسيحة تُدِرُّ المال الوفير، فإذا مرَّت عرباتهم في مثل شارع نفسكي وغيره عرفها الناس من ملابس الساقة والخادمين؛ لأنها حمراء مزركشة بالقصب تحكي ملابس الغلمان الذين يقفون في خدمة العربات الخديوية في حفلات التشريفة الكبرى، والناس إذا مرَّ بهم واحد من أعضاء العائلة القيصرية أبدوا الاحترام الكثير؛ لأن هذه العائلة العظيمة رَفَعَتْ بلادهم إلى أوج العظمة، وامتاز أفرادها بعلوِّ النفس وكرم الأخلاق وسموِّ التربية حتى إنه ليس في أوروبا كلها أمراء يمتازون عن أمراء الروس في حُسْنِ تربيتهم وعلوِّ آدابهم وتمسُّكهم بالدين والفضائل.
وليس يقتصر الأمر على عربات الأمراء والسراة وأهل اليسار في شارع نفسكي؛ فإن عربات الأجرة المعروفة لا يقلُّ عددها في تلك العاصمة عن ٢٤ ألفًا، وفيها فوق ذلك من أشكال الأمنبوس والترامواي ما يعْسُرُ عدُّه، هذا غير أنَّ الذين يخطرون في هذا الشارع لهم مناظر جميلة مختلفة الأنواع، ومن أهمِّ أنواعهم الضُّبَّاط من جيش روسيا وأساطيلها، وهم يلبسون الملابس الفاخرة تختلف ألوانها باختلاف الآليات التي يختصُّون بها، ويغلب بينها اللون الأخضر الزيتي، والقبَّعة السوداء تحكي الفرو في شكلها، وهي تقرب من طرابيش الجراكسة في الجيش العثماني، وأمَّا ملابس رجال الحرس القيصري فتبهر الأنظار بجمالها وكثرة زخارفها؛ لأنها تكاد تكون من القصب والذهب، ومن فوقها خوذة صفراء تسطع وتلمع، وقد وُضِعَ في أعلاها تاج صغير مطلي بالذهب وفوقه صليب من الفضة، فلا تشبع العين من النظر إلى هذه الجنود وضباطها، وهم كثار يخطرون أو يمرُّون على ظهور الجياد فيستوقف منظرهم الأبصار، ولا حاجة إلى القول إن الجيش الروسي يمتاز بغير هذه الملابس وله شُهْرَة في البسالة والقوة لا تزيد عنها شهرة، وقد تفرَّدت هذه الدولة العظيمة بزيادة عدد الجنود الواقفة تحت السلاح في أرجائها الواسعة؛ فهي مجنِّدة الآن نحو مليون جندي، وفي وقت الحرب لا يعسر عليها أن تجنِّدَ عدَّة ملايين من الرجال.
ويزيد منظر هذا الشارع جمالًا أنَّ تلامذة المدارس الروسية يمرُّون فيه، والعادة عندهم أنَّ التلامذة يلبسون بذلًا تقرب من البذل العسكرية، سواء كانوا من تلامذة المدارس الحربية أو سواها، ولكلِّ مدرسة نوع من البذل فإذا مرَّت بك فرقة من طلبة العلم حسبتها نفرًا من الجند، وليس في بقية العواصم الأوروبية مثل هذا النظام، هذا غير أنَّ عمال الحكومة ومستخدميها الملكيين يلبسون أيضًا أنواعًا معلومة من البذل، لكل مصلحة أو نِظَارَة نوع خاص بها، وقد اقتدت المصارف الكبرى والمحلات التجارية الواسعة بمصالح الحكومة؛ فجعلت تميِّز عمالها ببذل خاصَّة بهم، فكيفما اتجهت في عاصمة الروس رأيتَ أناسًا يلبسون نوعًا لا يلبسه سواهم، وزادت لذَّة التفرج على المارَّة في شوارع بطرسبرج بسبب هذا التنوُّع في الملابس والتفنُّن الذي يجهل الغريب سرَّه، وأمَّا الواقف على الحقيقة فيمكن له أن يعرف كلَّ مَنْ مرَّ به ببذلة غير معتادة في أيَّة المصالح هو، وهذا أيضًا تمتاز به بطرسبرج لا يقرب منه في المدائن الأوروبية الأخرى إلا أن يكون امتياز عمال البريد والتلغراف بالملابس الخاصة.
ويرى المتأمِّل في هذا الشارع أيضًا عامَّة الروس وفلَّاحيهم يأتون من القرى والضواحي بهيئتهم المعروفة فيزيدون منظر المدينة غرابة، والفلاح الروسي يُعْرَف بصُفْرَة فوق بياض الوجه، وقِصَر في القامة مع شيء من السمن، ولحية كثير شعرها ورأس كبير، يلبس الجبَّة الكبيرة وحولها منطقة من الجلد وحذاء طويلًا يصل إلى الركبتين فيفيده في السير على الجليد وخوض السواقي الكثيرة، وقبعة من الصوف أو الفرو تشبه الطربوش الجركسي، وهو من أَبْسَطِ الخلق حالًا وأطيبهم قلبًا وأكثرهم ورعًا وتعبدًا، فقلَّ أن تَلْقَى في الأرض رجلًا يتمسَّك بدينه ويحترم رؤساء ملَّته مثل الفلاح الروسي، ولمَّا كان القيصر رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في بلاده فالناس هنالك والفلَّاحون — بنوع أخص — يحترمونه ويحبُّونه حبَّ الرجل البسيط لمولاه ورئيس دينه، وهذا سر عظمة القياصرة الروسيين وسبب صَوْلَتهم العجيبة ونفوذهم الغريب. هنالك نرى أيضًا النساء الفلَّاحات وهنَّ عنوان صحَّة الجسم وبساطة القلب يرتدين جلبابًا بسيطًا من الشيت الأحمر، ويعتصبن بمنديل أحمر فيشبهنَ نسوة الشام في القرى منظرًا، وهنَّ يأتين مع الأزواج لبيع الحاصلات في العاصمة أو لمشترى الحاجات، ويدُرْنَ في هذا الشارع حاملات صررًا من الملابس والزاد، وهنالك ترى باعة الطعام يدورون به منادين بلذَّته ومحاسنه وآخرين يبيعون الأحذية أو لعب الأولاد، وفي بدء كلِّ شارع قوم يبيعون الشاي، وللروس ولعٌ بشرب الشاي — كما تعلم — فهم والإنكليز سواء في استعماله، غير أنَّ الإنكليز يشربون الشاي مع اللبن، والروس يؤثِرون شربه بسيطًا أو مع قليل من عصير الليمون، هذه كلها مناظر تَعْرِض لك في شارع نفسكي إذا ما زُرْتَه فتمثل لك حال الدولة الروسية بكل فروعها، وتريك الفلاح البسيط الحقير والأمير النبيل الكبير، وتبسط أمامك درجات الحياة الروسية كلها فتغنيك عن السياحة في داخلية البلاد، وقلَّ أن تجد مثل هذه الأشكال المتنوِّعة في قلب مدينة عظيمة أوروبية إلا أن يكون في الآستانة العليَّة، وهي مشهورة بكثرة الأجناس التي تُرى فيها، والقاهرة وهي عاصمة قُطْر جَمَعَ ما بين أهل الغرب والشرق والشمال والجنوب، فترى هنا الأوروبي والأميركي في شوارع مصر يمشي وإلى جانبه أسود الوجه من سنار أو دارفور، وقليل مثل هذا في عواصم الأوروبيين.
والذي يقف في هذا الشارع العظيم يمكنه الوصول منه إلى كثير من مشاهد بطرسبرج المشهورة، من ذلك كنيسة كازان (العذراء) الكاتدرائية، ولها شُهْرَة ذائعة في الخافقين؛ فإنها قائمة على ١٣٢ عمودًا ضخمًا من الرُّخَام تشبه عُمُد كنيسة القدِّيس بطرس في رومة، وقد بُنِيَتْ على النسقِ الكورنثي، وهو الذي تحيط به أعمدة كهذه، ولها قبة من النحاس الأصفر قُطْرها عشرون مترًا، وقد طُلِيَتْ بالذهب فكأنَّما هي ذهب خالص بما تشعُّ من الأنوار، وما يظهر لها من الجمال الساحر للأنظار، والقُبَّة هذه قائمة على عُمُد عددها ستة وخمسون، قوائمها وتيجانها من النحاس الأصفر المغشي بالذهب أيضًا، وفي جدرانها أعلام غنمها الروس في حروبهم الكثيرة مع الأتراك والنمسويين والألمان والفرنسيس والإيرانيين، وإلى جانب هذه الأعلام مفاتيح المدن التي دخلها جيش الروس عنوة وُضِعَت كلها تذكارًا لفعال الأبطال الذين غنموها، وعنوانًا على فخر الأمَّة بجيشها الباسل، وأمَّا هيكل الكنيسة وأيقونسطاسها فقد صُنِعَا من الفضة الخالصة، وفي الكنيسة صور للعذراء كثيرة ورسوم أخرى دينية، ولم يقتصر الروسيون على تحلية هذه الأيقونات بالفضة والذهب بل هم رصَّعوها بحجارة الألماس الكبيرة (برلانتي)، وهذا إتقان خاصٌّ بالروسيين دون سواهم.
وفي هذا الشارع بعد الكنيسة المذكورة المكتبة القيصرية المشهورة، وهي من أعظم مكاتب الأرض في كثرة المجلدات إن لم تكن أعظمها، فيها نحو مليون وستمائة ألف كتاب مطبوع، وأكثر من أربعين ألف كتاب بخط اليد، وثمانون ألف رَسْم مُتْقَن لجوانب الأرض، وكلُّ هذه النفائس الثمينة في خدمة الذين يطلبون العلم من أهل البلاد وساكنيها، وبناء المكتبة واسع فخيم له طبقتان، وقد قُسِّمَ أقسامًا جمَّة: بعضها للكتب الدينية والبعض للكتب الفلسفية أو الطبية أو الرياضية أو غير هذا من مواضيع العلم والمعرفة، وقد رأيتُ فيها كتبًا عربية قديمة العهد، منها ما كُتِبَ بخطِّ اليد، ومنها ما هو مطبوع، وتوراة يونانية من الجيل الخامس وَجَدَهَا الأستاذ تشندورف في دير طور سينا، وفي المكتبة أيضًا معرض لأدوات الكتابة من أول أمرها إلى الآن، وأول كتاب روسي طُبِعَ في هذه السلطنة، وغير ذلك من التُّحف التي لا تُعَدُّ، وقد أسَّس هذه المكتبة العظيمة القيصر بطرس الكبير وعُنيت القيصرة كاترينا بتحسينها من بعده، فأنت كيفما سِرْتَ في أنحاء المكتبة ترى رسوم هذا القيصر وهذه القيصرة؛ إقرارًا بفضلهما وإحياءً لذكر مآثرهما.
وإلى جانب المكتبة هذه حديقة مشهورة في بطرسبرج تُعْرَف باسم حديقة ألكساندرة، أنشأها القيصر إسكندر الثاني وجعلهَا تذكارًا لكاترينا الثانية، وهي أعظم القياصرة بعد بطرس الكبير، وقد نُصِبَ فيها تمثال هذه القيصرة في عنقها وسام القدِّيس أندراوس أقدم وسامات الدولة الروسية، وفي يمينها صولجان الملك، وفي اليسار تاج ومن حولها تماثيل الرجال الذين اشتُهروا بخدمة الدولة الروسية في أيامها سواء في الحرب أو في السياسة أو في العلم والصناعة، وكل ذلك صُنِعَ على أجمل نظام، وبين أغراس وأزهار بهيَّة وطرق نظيفة مرصوصة بالحصى تزيد منظر تلك الحديقة رونقًا وبهاءً.
وفي آخر هذه الحديقة مرسح ألكساندرة، وهو من المراسح الكبيرة قائم على عُمُد كورنثية وله قاعة من داخله تضمُّ ألفَي سامع للتمثيل، وللروس ميل إلى الروايات الفرنسية، فهم يستحضرون الأجواق الكبيرة من فرنسا ويدفعون إليها المال الطائل فوق الذي تمدُّهم به الحكومة من الصلات، وليس يقتصر حبُّ الروسيين على الروايات الفرنسية، بل هم مغْرَمُون بآداب اللغة الفرنسية كلها، وأهل الطبقة العليا منهم يتكلَّمون هذه اللغة كما يتكلمها أصحابها، وهم يستعملونها في بيوتهم ومع صحبهم وخلَّانهم كأنَّما هي لغة أجدادهم ويقرءون المؤلَّفات الفرنسية كما يقرأها أهل فرنسا، ويؤلِّف كثيرون منهم بهذه اللغة فلا يجهلها غير الفلاحين والخَدَمَة من الروسيين، وقد تأصَّل فيهم هذا الميل من عهد بطرس الكبير الذي استعان بأساتذة من الفرنسيس على تمدين بلاده وزاد من جيل إلى جيل.
وفي هذا الشارع قصور عديدة للأمراء والسراة لا يستفيد القارئ من عدِّها، وأشهرها قصر نقولاي كان جلالة القيصر الحالي يقيم فيه مدَّة كان ولي العهد، وينتهي هذا الشارع بدير نفسكي الشهير، وهو مقام رئيس الأساقفة وأعظم أديرة روسيا شهرةً وثروةً يُعَدُّ أحد الأديرة القيصرية، وهي ستة: منها ثلاثة في روسيا، أولها دير نفسكي هذا والثاني في ترويستا والثالث في كييف، وثلاثة في الخارج هي، دير طور سينا ودير أورشليم ودير أثوس عند مدخل الدردنيل في بلاد الدولة العليَّة، ودير نفسكي هذا مبنيٌّ على شكل حصن عظيم تحيط به الخنادق والأسوار القوية، وهو أغنى أديرة روسيا بما له من الأوقاف وما فيه من الكنوز والذخائر، بدأ به بطرس الكبير على مثل ما تقدَّم ووهبته الإمبراطورة إليصابات سنة ١٧٥٢ ما استُخرج من الفضة مدَّة سنة كاملة من مناجم روسيا التي اكتشفوها وقتئذٍ، فبلغ ذلك ١٨٠٠ كيلو، وأُهْدِيت إليه هدايا لا حصر لها ولقيمتها، فزُينت كنيسته بالذهب في أكثر جوانبها وعُلِّقَتْ فيها الأيقونات الثمينة المرصَّعة ومُلِئَتْ جوانبها بالمصابيح الفاخرة والنقوش البديعة، حتى إن منظر هذه الكنيسة في داخل الدير ليُعَدُّ من أجمل ما تراه العين، وإلى يمين الكنيسة قبر القديس نفسكي الذي نَقَلَه بطرس الكبير من موسكو، وقد صُنِعَ القبر من الفضَّة الخالصة، وفوقه إنجيل مغشى بالفضة وصليب من الذهب وأمامه شمعدانان كبيران من الفضة هبة القيصر إسكندر الأول، وتُحَف أخرى لا محلَّ لذكرها، وعيد هذا القدِّيس من الأيام المشهورة في روسيا تُقَام له صلوات ويحضر القيصر بنفسه صلاة العيد في كنيسة هذا الدير، وأكثر الأحيان يتناول الغداء مع رئيس الأساقفة بعد الصلاة في منزله الكائن داخل سور هذا الدير العظيم. وفي فناء الكنيسة مدافن لبعض أمراء الأسرة القيصرية وأشراف الدولة الروسية وهو— بوجه الجملة — من المشاهد العظيمة في هذه العاصمة.
على أنَّ الذي مرَّ كله لا يُذْكَر في جنب القصر الشتوي المشهور وما له من الأهمية الكبرى في مدينة بطرسبرج؛ فإن الواقف في الميدان المتَّسع أمام هذا القصر الباذخ يرى أعظم المساكن القيصرية، ويرى متحف أرمتاج وقصر أركان الحرب ونِظَارة الخارجية ودار وزارة البحر وندوة الأعيان والمَجْمع المقدَّس، وكلها تُشْرِف على نهر النيفا حيث بُني رصيف عظيم إلى جوانبه سفارات الدول الكبرى وقصور الأمراء العظام حتى أصبحت تلك البقعة مركز روسيا وقلبها ونقطة السؤدد والفخامة فيها، فليس يخْفَى أنَّ حكومة روسيا مُطْلَقة غير مقيَّدة، وللقيصر في أمورها القول الفصل، غير أنَّ جلالته يعمل في مهامِّ الدولة برأي مجلس الأعيان، وهو مركَّب من وزراء البلاد وكبرائها وأصحاب الشأن الخطير فيها وبرأي الدوما أيضًا أو مجلس النواب، والمجمع المقدَّس يفصل في الأمور الدينية كلها وله رأي في المسائل الإدارية الكبرى أيضًا يرأسه القيصر كما أنه يرْأَس مجلس الأعيان، فلا عَجَبَ إذا قلنا إن القوة والعظمة في روسيا تنحصران في تلك البقعة التي بُنِيَ فيها القصر الشتوي وما ذكرنا من القصور الأخرى.
ولطالما سمعت بشمم هذا القصر وبدائع صنعه وتاقت النفس مني إلى رؤيته، فأوصيتُ الدليل بعد استقراري في عاصمة الروس أنْ يأخذني إليه، فقام بالأمر وجاء في أحد الأيام بإذنٍ يمكن لنا به دخول القصر، وهو ذات أبواب ومداخل عدَّة، منها ما خُصَّ بآل البيت القيصري، ومنها ما أُعِدَّ لسفراء الدول، ومنها باب لوزراء الدولة الروسية وقُوَّادها يدخلون لقضاء المهام وتلقِّي الأوامر العالية، ومنها باب لعامَّة الناس والسائحين دخلناه والهيبة ملء الفؤاد لما رأينا من عظمة البناء في خارجه، فإن هذا القصر واسع عظيم الهيئة له أربع طبقات بُنِيَتْ كلها على عُمُدٍ متناسقة من الرُّخَام وفوق عُمُده ونوافذه وأبوابه آيات من النَّقْشِ والزخارف وُضِعَتْ على نَسَقٍ ترتاح لمرآه النفس، ويحدِّث بعظمة البانين وبالمال الطائل الذي أُنفق على تشييد مثل هذا البناء العظيم، وارتقينا من ذلك الباب سُلَّمًا عريض الذُّرى صُنِعَتْ كلها من الرُّخَام الأبيض النقي حتى انتهينا إلى بهوٍ عظيم يُعْرَف بقاعة إسكندر، وهي قاعة فسيحة عظيمة قامت على عُمُدٍ من الرُّخَام يتوِّج كل عمود منها نقش دقيق، وقد أُعِدَّت من عهد بعيد لذكر مجد الدولة الروسية في الحروب، وإحياء الذكر لأبطالها وقوادها المشهورين؛ ففيها ٢٥٠ صورة محكَمَة الصنع تمثِّل أولئك القواد من أيام القيصرة كاترينا الثانية إلى هذا العهد، وهنالك يستقبل القيصر أمراء البحر وقواد الكتائب من رجال أسطوله وجيشه، فيرى القادم صورة أولئك الرجال وصورًا أخرى تمثِّل بعض الحوادث العظيمة مثل دخول الروس مدينة برلين سنة ١٧٦٠ وباريس سنة ١٨١٢، وحصار وارنا سنة ١٨٢٨ واستيلائهم على أرضروم سنة ١٨٢٥ وغير هذا من الحوادث التي يفْخَرُ الروس بمثلها، وفي صَدْرِ هذه الرسوم كلها رسم بطرس الكبير بقده الطبيعي وُضِعَ في برواز غالي الثمن، وكل ذلك يذكِّر الرائي بمجد الأمَّة الروسية وفعال أبطالها في الحروب.
وقاعات هذا القصر العظيم أكثر من أنْ تُعَدَّ هنا، ولا مجال لوصف شيء منها غير القليل، أذكر منها قاعة ألكساندرة كلها بيضاء مذهبة لمنظرها تأثير يُفْرِح النفوس ويُنْعِش الصدور، وقد زاد بهاؤها في أنَّ أدوات النور من الشمعدانات والثريات فيها صُنِعَتْ من اللازورد الغالي الثمن، ومقاعدها وكراسيها محلَّاة بالذهب الوهَّاج وملبسة بالحرير الأبيض من أحسن أنواعه، وتليها قاعة بطرس الكبير وهي حمراء اللون كُسِيَتْ جدرانها ومقاعدها بالمخمل الأحمر، وفيها رسم هذا القيصر العظيم تحيط به الملائكة وشعار الدولة الروسية صُنِعَتْ بماء الذهب، ولها منظر فائق الجمال، وفي صَدْرِ هذه القاعة عرش القياصرة، وهو مقعد كبير من الذهب مرصَّع بالحجارة الكريمة لا يقعد فيه القيصر إلا مرة أو مرتين في العمر، وقد اعتاد القياصرة في المدَّة الأخيرة استقبال سفراء الدول في هذه القاعة يوم رأس السنة، وهو الاستقبال الذي يقول فيه القيصر شيئًا عن سياسة الدول ويرنُّ صداه في كلِّ الأقطارِ.
ومن هذه القاعات العجيبة قاعة القدِّيس جورجيوس قائمة على عُمُدٍ من الرُّخَام بديعة، وفيها الثريَّات والمصابيح العديدة، وهم يحتفلون بعيد هذا القدِّيس في القاعة المذكورة كل عام، وقاعة الرقص كلها زخارف ومراءٍ نقيَّة، وهي قائمة على ستِّين عمودًا مذهبة القواعد والرءوس، ولها أرض من خشب الورد المصقول يحكي المعدن اللماع في صقلته، وقاعة الطعام يمكن أن يتناول الطعام فيها ٣٠٠ نفس، وفيها خزائن وُضِعَتْ ضمنها الآنية الفاخرة من الصيني النادر المثال والبلُّور الثمين والأشياء المصنوعة من الفضة والذهب، وفي جملتها ممالح أُهديت إلى قياصرة الروس من الأمراء الخاضعين لهم ولم يزل القياصرة يقتبلون يوم تتويجهم خبزًا وملحًا من رعاياهم علامة الخضوع، وهي عادة قديمة تمسَّكوا بها، ومن طبعهم الاحتفاظ بالقديم والنفور من التغيير السريع.
ودخلتُ بعد هذا قاعة كان القيصر إسكندر الثاني الذي قَتَلَه النهلست يتناول الطعام فيها، وعلمتُ يومئذٍ قصَّة يعدُّها بعض الروسيين من غرائب العناية الإلهية بذلك القيصر، فإن النهلست — وهم فئة من أهل البلاد يكرهون العائلة المالكة وحكمها ويكيدون لها المكايد — قَصَدُوا قتل إسكندر الثاني بنسف هذه الغرفة بالديناميت مدَّة وجوده فيها، ونجحوا في أمرهم إلى حدِّ أنهم وضعوا الديناميت تحت أساسات الغرفة التي يقيم فيها الحرس، وهي واقعة تحت غرفة الطعام التي نحن في شأنها فنُسِفَتْ غرفة الحرس وقُتِلَ من هؤلاء الخدَّام الأمناء سبعة عشر رجلًا، والغرفة التي كان جلالته فيها تهدَّمت برمَّتها وتحطَّم كلُّ ما فيها، ولم يسْلَم من هذا الهول إلا شخص القيصر، فكان ذلك داعيًا للاستغراب والشكر الكثير، ولكن هؤلاء الأشرار ما زالوا يعملون على الإيقاع بإسكندر الثاني حتى قتلوه في الطريق يومًا خَرَجَ فيه لزيارة شقيقته، وكان من عادته الاشتغال في غرفة بهذا القصر بسيطة الرياش والأدوات فأبقوها على حالها إلى الآن ودخلتُها فإذا بالمنضدة التي كان يجلس إليها وعليها أوراقه كما تركها يوم اغتياله وكرسي من الخشب له مقعد من الجلد يدور مع القاعد كيفما أراد، وقد وُضِعَ أمام المنضدة ووجهه إلى ناحية الباب كما تركه صاحبه ساعة خروجه، وهنالك شمعتان ذاب نصفهما وسيجارة أُشْعِلَ طرفها وورقة بدأ القيصر بالكتابة عليها ولم يكملها، والكل في حالة تمثِّل لك إسكندر الثاني كأنَّما هو باقٍ إلى اليوم وقد خرج وتَرَكَ غرفته على هذه الحالة ليعود إليها بعد حين.
وقصدتُ بعد ذلك الحمَّام التركي في داخل القصر، وهو على شاكلة الحَمَّامات الشرقية التي يكثرون من بناء مثلها في أوروبا ويُطْلِقون عليها اسم الحَمَّامات التركية، فرأيت على بابه أشعارًا تركية وستاير عليها كتابات بمعنى نعيمًا وهنيئًا، والحمَّام كله آية في الإتقان والجمال، بُنِيَ أكثره من الرُّخَام الأبيض الثمين.
والعائلة القيصرية قدوة للأمة الروسية كلها في الورع والتدين، فلا يفوت أفرادها حفلة عامَّة للصلاة، ولها تمسُّك بالدين الأرثوذكسي مشهور، حتى إن أمراء الروس لا يجوز لهم الاقتران بأميرة غير أرثوذكسية ولا بدَّ للأميرة الأجنبية من اعتناق المذهب الأرثوذكسي قبل الاقتران بواحدٍ منهم، وهذا الذي جرى لجلالة القيصرة الحالية والقيصرة الأخيرة وكثيرات غيرهما، ولمَّا كانت هذه منزلة العبادة عندهم فهم أقاموا في داخل القصر الشتوي الذي نحن في شأنه كنيسة بُنِيَتْ على اسم العذراء، تُقَام فيها صلوات عامَّة في بعض المواسم والأعياد الكبرى، وقد وضعوا على باب هيكلها صورة للعذراء ثمينة مرصَّعة بالألماس والياقوت والزمرد، وبعض هذه الحجارة يساوي ألوفًا من المال، وهنالك خزانة غالية الثمن وُضِعَتْ فيها عظام يقولون إنها بعض عظام مار يوحنَّا المعمدان ومريم المجدلية، وقد أُرسلت الصورة والعظام إلى قياصرة الروس من فرسان مالطة المشهورين اعترافًا منهم بفضل القياصرة على أهل النصرانية عامَّة، ويحتفل في هذه الكنيسة بقدَّاس عظيم يوم عيد الغطاس من كلِّ سنة، يحضره القيصر وأمراء البيت القيصري وكبراء السلطنة ورؤساء الدين وقُوَّاد البَرِّ والبحر، وبعد الصلاة يسير القيصر في جمع غفير من الشعب ورجال الحرس الإمبراطوري إلى نهر النيفا وتنصبُّ فوق الجليد مظلَّة كبيرة يحتفلون تحتها بصلاة يحْمِل فيها رئيس الأساقفة صليبًا يغطسه في الماء المُصْلَى فوقه، ويرش به القيصر وأعضاء عائلته وبقية الحاضرين، ثم يأخذ كلُّ واحد شيئًا من ذلك الماء المصلى فوقه في زجاجة ويبقيه في بيته للتبرُّك، وقد رأيتُ منه زجاجة في غرفة القيصر نقولا الأول باقية في هذا القصر من أيام الإمبراطور المذكور.
وأجمل ما في هذا القصر العظيم وأثمنه قسم منه خُصِّصَ لجواهر القياصرة ونفائس التُّحَف النادرة المثال، وقد وُضِعَتْ هذه المجوهرات الثمينة في غرفة متينة أبوابها من حديد، يقوم بحراستها اثنان من ضباط الحرس الإمبراطوري، فإذا أُذِنَ لأحد الناس بالدخول إليها دخل معه الضابطان وأوصدا من ورائه الأبواب، فيرى من غالي الحجارة الثمينة ما يبهر الأنظار ويسحر الأفكار، في جملة ذلك حجر من الألماس عظيم القدر والقيمة قيل إنه كان في عين معبود للهنود في مدينة دلهي اسمه المغول الكبير، وكان في العين الثانية الحجر المشهور باسم «كوه نور» أي جبل النور، وهو الآن في حوزة الدولة الإنكليزية والحجران من أثمن جواهر الأرض طُرًّا وأعظمها جمالًا، ويُقال في كيفية وصول ذلك الحجر إلى قياصرة الروس إن هنديًّا سرقه من عين الصنم وفرَّ به إلى مدينة مالابار في جنوبي الهند، فلقيه ربَّان لسفينة بورتغالية واشترى الألماسة منه بألفَي جنيه، ولمَّا عاد إلى أوروبا باعها لتاجر إسرائيلي باثنَي عشر ألف جنيه، وباعها التاجر لصائغ أرمني في مدينة أمستردام بهولاندا، وهي مشهورة من قِدَمٍ بصناعة الألماس وطرائق قطعه ونحته وصقْلِه، وكان هذا الصائغ الأرمني روسي التبعة اسمه لازاريف فعَرَفَ بالأمر الكونت أورلوف وهو يومئذٍ من كبراء الدولة الروسية وأصحاب الثروة الطائلة فيها، فاستقدم إليه الصائغ واشترى الجوهرة منه بنصف مليون ريال روسي، ومعاش سنوي لذرية البائع مقداره ألفا ريال، ثم حَمَلَ الكونت ذلك الحجر إلى القيصرة كاترينا الثانية وقدَّمه هدية لها ووزنه ١٥٨ قيراطًا، فهو من أكبر الجواهر حجمًا ووزنًا، وللحجر الآخر الذي كان في عين الصنم بدلهي قصَّة أخرى تحكي هذه؛ فإن الفاتحين من ملوك إيران، مثل نادر شاه ومحمود الغزني استولوا عليه مدَّة ثم عاد إلى قبضة سلاطين دلهي حتى أُتيح للإنكليز دخول الهند والاستيلاء على بعض خزائنها، فكان هذا الحجر الثمين أكبر ما أحرزوا من الجواهر وأعظمها فأرسلوه إلى أمستردام ليُضلع ويُقطع، وكان الأمير الهندي دوليب سنغ الذي أُخِذَ هذا الحجر من خزائنه بعد أن طرده الإنكليز من مملكته لا يتحسَّر على شيء قدر تحسُّره على تلك الجوهرة الثمينة، واشتُهر هذا الأمير بالتجائه إلى روسيا وعمل الدسائس الكثيرة ضد إنكلترا، فلمَّا أخفق سعيه ورأى أنَّ الحكمة في التسليم للقوة طلب الصفح من الملكة فكتوريا؛ فصدر أمرها بالعفو عنه، ولمَّا جاء لمقابلتها بعد العفو قال لها: إنِّي أرجو جلالتك في أمرٍ صغيرٍ؟ قالت: ما هو؟ قال: أن تسمحي لي بنظرة من كوهِ النور أو هي تلك الألماسة العظيمة فإنِّي أشتاق لرؤيتها أكثر من شوقي لرؤية الوطن والخلَّان؛ فأمرت الملكة بإحضار الجوهرة وقدَّمتها إليه فأخذها بيده وجعل يقلِّبها ويعجب بباهر نورها، ثم ردَّها إلى الملكة قائلًا: إنِّي بكل احترام أقدِّم هذه الهدية العظيمة إلى إمبراطورة الهند وملكتي المعظَّمة، فقَبِلَتْها الملكة باسمة شاكرة وانصرف الرجل، وابن هذا الأمير الهندي اسمه البرنس فكتور دوليب سنغ رُبِّيَ في إنكلترا واقترن بابنة اللورد كوفنتري أحد أشراف الإنكليز من عهد غير بعيد.
على أنَّنا في حكاية الجواهر التي رأيناها في خزائن القصر الشتوي العظيم، فمنها أيضًا تاج قيصري صُنِعَ سنة ١٧٦٢ وتوِّجت به الإمبراطورة كاترينا الثانية، في أعلاه صليب مرصَّع بحجارة الألماس النقي كبيرة بحجم البندق، والنور يسطع منها شعاعًا شعاعًا، وقد وُضِعَ هذا الصليب فوق ياقوتة حمراء كبيرة فاخرة يحيط بها ١١ حجرًا من الألماس النقي، وعند حافة التاج مما يلي الجبين لؤلؤة عظيمة المقدار يحيط بها ٢٦ حجرًا من الألماس، وفيه جواهر أخرى نُسِّقَتْ تنسيقًا بديعًا حتى أصبح ذلك التاج مجموع جواهر كأنَّما هي مصابيح تتوقَّد أنوارها وجمالها يفوق الوصف، ولا عجب فإن ثمن هذا التاج الغريب خمسة ملايين ريال، وقليل بين تيجان الملوك ما كان مثله، وفي جملة هذه المجوهرات كُرَة من الذهب الخالص تمثِّل الكرة الأرضية فوقها صليب مرصَّع بأثمن الجواهر يحملها القياصرة في اليسار يوم تتويجهم كما يحملون صولجان الملك في اليمين، وهذا الصولجان من الذهب الخالص يبلغ طوله ٣ أقدام، وفيه ٢٦٨ حجرًا من الألماس و٣٦٠ من الياقوت و١٥ من الزمرد، هذا غير المجوهرات والحلي والحجارة الأخرى التي اشتراها أمراء الروس وقياصرتهم أو أُهْدِيَتْ إليهم، وهي محفوظة في هذا القسم الثمين من القصر الشتوي الذي لا يفوقه قصر في أوروبا كلها في جمال متاحفه وكثرة كنوزه وفخامة بنائه واتساع قاعاته وبدائعه الأخرى.
وقد أَطَلْتُ المقال في وصف هذا القصر، وصرتُ أخشى أن يعتري القارئ الملال، ولولا ذلك لأسهبتُ في وصف حديقته الغريبة، وهي في الطبقة الثانية من البناء وفي ذلك غرابة لا تخفى، يكفي أنْ يُقال إنِّي قضيتُ هنالك ثلاث ساعات متواليات أتنقَّل من غرفة إلى غرفة فلا أرى شيئًا إلا قلت هو أبدع ما نظرت من نوعه، حتى إذا بصرتُ بغيره زدتُ إعجابًا فوق إعجابي الكثير، وما خرجتُ من ذلك القصر الفخيم إلا وفي النفس رهبة لعظمة القياصرة وطَرَب بجمال ما رسخ في الذهن من المناظر الشائقة وإعجاب بما وصلت إليه يد الصناعة الدقيقة، وما تمكَّن سادة هذه السلطنة من جمعه في تلك القاعات، وهو شيء يعجز عن مثله كبار الملوك وتقْصُرُ عن امتلاك بعضه الدول الكبيرة، كلُّ هذا وهم يقولون لك إن بين قصور القياصرة ما هو أعظم من هذا وأفخم، مثل قصر بترهوف وقصر تسارسكوي سيلو مما سنعود إلى ذكره.
وإلى جانب القصر الشتوي متحف للصور عظيم يُعْرَف باسم أرمتاج وهو بناءٌ فخيم ملتصق بالقصر المار ذكره طوله ١٥٦ مترًا وعرضه ١١٣، وجهته الشمالية تُشْرِف على نهر النيفا، والجنوبية تطلُّ على ميدان القيصر، دخلنا هذا المتحف من باب قائم على عُمُدٍ من الرُّخَام عِدَّتها ستة عشر، والبناء كله فيه من هذه العُمُدِ الجميلة مائة وأربعة، وهو مشهور من قِدَمٍ، عُني قياصرة الروس بأمره واحدًا بعد واحد، وأحضروا إليه أثمن ما أمكن لهم امتلاكه من الصور البديعة حتى بلغ عدد رسومه الآن ٢٠٠٠ صورة من صنع أَشْهر المصوِّرين في أوروبا، أُنْفِقَ عليها مالٌ طائلٌ، من ذلك أنَّ كاترينا الثانية وهي مؤسِّسة هذا المتحف اشترت سنة ١٧٦٣ مجموع صور من تاجر ألماني عددها ٣١٧ ودَفَعَتْ ثمنها مائتي ألف ريال، وكان الرجل قد جمع هذه الصور ليبيعها لفريدريك الكبير ملك بروسيا، فما قدر الملك على ابتياعها بسبب ما أنفق من المال على الحرب، واشترت هذه الإمبراطورة بعد ذلك مجموعة الماركيز كروزات أحد رجال البلاط الفرنسوي في دولة الملك لويس الخامس عشر، ومجموعة روبرت وولبول الإنكليزي بأربعين ألف جنيه، واشترى القيصر إسكندر الأول مجموعة من جوزفين زوجة نابوليون الأول بمليون فرنك، ونقولا الأول اشترى صورة واحدة للعذراء من صُنْعِ روفائيل المشهور بمبلغ ثمانية آلاف جنيه، ومن هذه الأمثلة تَعْلَم مقدار ما في متحف أرمتاج من الصور الثمينة. وقد قُسمت الرسوم أقسامًا ووُضِعَتْ في مواضع مرتَّبة وطُبِعَتْ لها جداول وكتب، وهي كثيرة الأشكال لا يمكن الإشارة إليها بغير الإيجاز، لا سيما وأنها تحكي ما في المعارض الأخرى للصور من رسوم تمثِّل حوادث التوراة والإنجيل، أذكر منها صورة احتراق سدوم وعمورة وقد انقضَّت عليهما النار من السماء انقضاضًا هائلًا أشعل جوانبهما، وأرجف أهلهما خوفًا حتى إنك لترى الأولاد وقد تولَّاهم الرعب فارِّين ممسكين بأذيال والديهم، والرجال ينظرون إلى السماء وقد تفطَّرت قلوبهم جزعًا وخوفًا، ومن ذلك صورة فرار لوط وأهل بيته من هذه النار المحرِقة بناءً على ما أُوحي إليه، وهي مما يمثِّل للناظر حالة الناس في تلك الحوادث المشهورة ويزيدها رسوخًا في الأذهان، وهنالك صور معارك وحوادث معروفة وأشخاص نوابغ ومناظر طبيعية تنشرح لجمالها الصدور.
وليس يقتصر الأمر في هذا المعرض على الصور والرسوم، بل إن في الدور الأول منه تماثيل وأشكالًا تمثِّل تاريخ الأمم القديمة، وهي كثيرة لا موضع لوصفها، وفيه قسم للآثار اليونانية القديمة أكثروا فيه من وضع الأدوات والآلات البيتية بعضها من الفضة وبعضها من الذهب، وفي المعرض أيضًا قسم عظيم للنقود لا يقلُّ مجموع القطع التي عُرِضَتْ فيه عن مائتي ألف قطعة، قُسِّمَتْ إلى روسيَّة وأجنبية وقديمة وحديثة، فالقسم الروسي فيه جميع أنواع النقود الروسية من أول عهدها إلى هذا اليوم، والقسم الأجنبي فيه نقود الممالك الغربية والممالك الشرقية، وللنقود القديمة عندهم شأن عظيم.
ويَلْحَق بهذا المعرض العظيم معرضان آخران: أحدهما على اسم بطرس الكبير والثاني على اسم كاترينا الثانية، وقد وضعوا في المعرضَين شيئًا كثيرًا من آثار هذين المليكين العظيمين، ولا سيَّما الذي صنعه بطرس الكبير بيده أو كان يستعمله مدَّة حياته، من ذلك علب للسعوط بعضها من الخشب البسيط وبعضها من المعادن الثمينة مرصَّع بالحجارة الكريمة وأدوات رياضية زاول العمل بها أعوامًا طويلة ومركبة من صُنْعِهِ، وقفص داخله شجيرة فوقها ديك، والكلُّ من ذهب وغير هذا شيء كثير، وأمَّا الأشياء المحفوظة في معرض كاترينا الثانية فأكثرها ملابس وآثار من أيام تلك الملكة العظيمة.
وخرجتُ من هذه المتاحف إلى ميدان القصر وهو واسع بعيد الأطراف فارتحتُ إلى منظره الفسيح بعد التنقُّل بين الآثار العديدة كل تلك الساعات الطوال، وفي هذا الميدان عمود للقيصر إسكندر الأول أقامه القيصر نقولا الأول سنة ١٨٣٤ تذكارًا لسَلَفِهِ وهو من أفخم الأعمدة التي نُصِبَتْ لمثل هذه الغاية وأطولها، كله من الرُّخَام الأحمر المصقول جاءوا به من بلاد فنلاندا، وقاعدته رخام أبيض بهي المنظر، وفي أعلاه كرة من النحاس كبيرة ملبسة بالذهب وفوقها رسم ملاك باسط جناحيه وقد رفع يدًا إلى السماء وأَمْسَكَ باليد الأخرى صليبًا كبيرًا من النحاس المذهب؛ ولذلك الميدان بهاء لا يزيده بهاء القصور المتجمِّعة حوله مثل القصر الشتوي، وهذه المتاحف وقصر أركان الحرب وهو بناءٌ فخيم ذو ثلاث طبقات لها ٧٦٨ نافذة تطلُّ على الميدان، وفي جوانب هذا البناء وزارة المالية ووزارة الخارجية «والدفترخانة» الروسية، وهي جامعة لشيء كثير من الأوراق الرسمية والتقارير عن الحروب الحديثة. ومن تحت هذا البناء سرداب واسع وباب كبير يمكن الوصول منه إلى شارع نفسكي، وفوق الباب تمثال مارس إله الحرب صُنِعَ من النحاس تجرُّ مركبته ستة من الجياد، وقد دخلتُ وزارة البحرية فألفيتُها قصرًا باهيًا باهرًا دُهِنَ باللون الأصفر في خارجه ما خلا الأعمدة والأركان، فإنها بيضاء وفي أعلاه نُصُب وأعلام قيصرية وتمثال بطرس الكبير مؤسِّس هذه الوزارة يتناول من نبتون إله البحر خطافًا مثلث الزوائد، وفوق الباب برج علوه ٧٥ مترًا، في أعلاه سهم مذهب يناطح السحاب وينتهي السهم بشكل تاج ومركب، وفي هذه الوزارة غير المواضع المعَدَّة للأعمال الرسمية غرف للمدرسة البحرية ومكتبتها ومتحفها، وفيها رسوم بحرية لا تُعَدُّ ترى في أولها رَسْم بطرس الكبير وبعض السفن التي صَنَعَهَا بيده وصورته في معركة أزوف البحرية التي أشرنا إليها في الخلاصة التاريخية، وغير هذا كثير.
وسِرْتُ من هذه الوزارة إلى ميدان بطرس الكبير، فرأيت فيه تمثاله العظيم الذي أقامته كاترينا الثانية واستقدمت لصنعه مهندسًا فرنسيًّا اسمه فالكونه، فرسمه راكبًا جواده وعلى رأسه إكليل الظفر يهمز جواده ملتفتًا إلى نهر النيفا وقد مدَّ يده إلى ناحية المدينة التي أنشأها، والجواد واقف على قاعدة من الرُّخَام عظيمة الاتساع يتقهقر إلى الوراء ويدوس تنينًا تحت رجليه، وقد لزِمَ لهذا التمثال الكبير قناطير مقنطرة من النحاس، وبلغت نفقاته أكثر من مليونَي ريال روسي، وهو أكبر تمثال من نوعه في عاصمة الروس.
وعلى مقربة من هذا الميدان الكبير مجلس الأعيان، وهو الذي أشرنا إليه قبل، وهنا يجتمع أمراء المملكة وكبراؤها للنظر في الشئون العامَّة تحت رئاسة القيصر أو مَن يقوم مقامه، وفي قسمٍ من هذا البناء المجمع المقدَّس، وهو كما قلنا قبل الآن يفصل في المسائل الدينية الخطيرة ورئيسه القيصر أيضًا، والبناء كلُّه على شاكلة القصور الأخرى التي ذكرناها، فلا أتعب القارئ بوصفه ولا أطيل عنه الكلام.
وقد ذكرنا أنَّ في شارع نفسكي كنيسة كازان، وأشرنا إلى بعض ما فيها، ولكن في بطرسبرج كنيسة أخرى لها شهرة قديمة لا تقلُّ عن شهرة أعظم الكنائس الروسية، هي كنيسة مار إسحق ويسمُّونه إسحق الدلماسي؛ لأنه جاء من دلماسيا في بلاد ألمانيا، وكان هو أول مَن بشَّر الروس بالإنجيل وهداهم إلى النصرانية على عهد فلاديمير كما رأيت في الخلاصة التاريخية، فبنوا هذه الكنيسة على اسمه وجعلوها من أعظم الكنائس وأفخمها، وكان البادئ في بنائها القيصر إسكندر الأول، وضع الحجر الأول فيها سنة ١٨١٩، واستمرَّ في البناء القيصر نقولا الأول، فما تمَّ حتى عام ١٨٥٨ على عهد إسكندر الثاني، فاشتغل في إتمامها وإتقانها ثلاثة قياصرة عظام مدَّة ٣٩ عامًا، وبلغت نفقاتها ٢٤ مليون ريال وهي مبنيَّة من الرُّخَام والصوَّان، وقد جُعِلَتْ على شكل صليب طولها ١٠٥ أمتار وعرضها ٩٠ مترًا، ولها قُبَّات كثيرة مختلفة الأشكال، أهمها القبَّة الوسطى التي بلغ محيطها ٢٦ مترًا، وهي قائمة على ٢٤ عمودًا رُكِّزَتْ فوق برج عظيم قائم على أعمدة أخرى، وفي أعلاها صليب كبير، والقبَّة بأعمدتها وصليبها وقاعدتها وبرجها ملبسة بالنحاس المذهب، ولها منظر فائق الجمال، وهي تظهر للقادم إلى بطرسبرج من عرض البحر نظرًا إلى ارتفاعها ولمعان معدنها ولا يقلُّ علوها عن مائة متر.
وللكنيسة أربعة أبواب، منها اثنان أصليان كلٌّ منهما قائم على ١٦ عمودًا من الرُّخَام الأحمر المصقول، وقواعدها وتيجانها من النحاس المذهب، وهي تقرب من أعمدة الهياكل المصرية القديمة وأعمدة قلعة بعلبك في منظرها وضخامتها، فإن قطر العمود منها متران، وقد صُنِعَتْ أبواب هذه الكنيسة من النحاس وحُفِرَ عليها رسوم ملائكة الجنان والقدِّيسين على مثال الموجود من هذه الرسوم في كنيسة القديس مرقص في مدينة البندقية بإيطاليا، والدرجات الموجودة في هذه الكنيسة كلها من الرُّخَام أو الصوان المصقول كل درجة منها حجر واحد، وواجهة الكنيسة من الرُّخَام الأبيض تتخلَّله عروق من الذهب، وفيها من الأيقونات ما لا يُعَدُّ أكثرها مرصَّعة بالحجارة الكريمة وباب الهيكل من الفضَّة الخالصة يحفُّ به ١٨ عمودًا باهر الجمال، منها عشرة من اللازورد وثمانية من المالكيت الأخضر وهما من الحجارة الغالية الثمن، وعلى باب الهيكل إلى اليمين واليسار صورة العذراء والمسيح مرصَّعة بالألماس (برلانتي) ترصيعًا لم أرَ له نظيرًا في غير هذه البلاد، فإن حجارة الألماس أُدخلت في الصورة نفسها مرتَّبة حول الرأس وفي الصدر، وهي كبيرة الحجم لا تقلُّ عن البندقية، والروسيون ينفقون على مثل هذا الترصيع مالًا وفيرًا، وأمَّا المذبح فكلُّه من الفضة الخالصة، وآنية الخدمة من الذهب الدقيق الصناعة، وجملة القول إن وزن ما في هذه الكنيسة من الآنية الفضية ١٢٠٠ كيلو، ومن الآنية الذهبية ٤٠، وأكثره هدايا من القياصرة وأعضاء البيت القيصري وبعض المجالس البلدية وسراة الروسيين. وفي هذه الكنيسة أعلام ومفاتيح مدن غَنِمَها الروس في حروبهم وأشياء كثيرة لتذكار الفِعَال العظيمة التي قام بها رجالهم، وهي — بوجه الإجمال — من أغرب كنائس الدنيا وأوفرها بهاءً.
وخرجتُ من هذه الكنيسة إلى حديقتها، ومنها إلى ميدان مريم وهو متَّسع من المدينة أشْهَر ما فيه تمثال لجبَّار القياصرة — أعني به الإمبراطور نقولا الأول — وقد مثَّلوه راكبًا جوادًا جموحًا، ونَقَشُوا على جوانب القاعدة أعمال هذا القيصر العظيم وآثاره الكبيرة، ووضعوا بينها رسوم زوجته وأولاده، وعلى كل جانب من جوانب القاعدة إحدى هذه الكلمات الأربع، وهي: القوة، العدل، الإيمان، الحكمة، وهم يمثِّلون هذه الكلمات في رسوم وتماثيل عديدة تجدها في دور القضاء وقصور الملوك كثيرة في كلِّ المدن الأوروبية، وقد أُقيم هذا التمثال تذكارًا لحادثة تاريخية جَرَتْ في أيام نقولا الأول؛ فإن بعض الأهالي ثاروا وتجمهروا في هذا الميدان يقصدون الشرَّ، فجاءهم إليه القيصر راكبًا جواده فحالما رأوه خرُّوا خاضعين وانتهت ثورتهم.
ولمَّا كانت وزارة الخارجية في قصر أركان الحرب الذي تقدَّم ذكرُهُ، وكان سعادة السري الموسيو سليم دي نوفل وطنينا الكريم في هذه الوزارة مستشارًا لها، فإنِّي دخلتُهَا وقصدتُ زيارته، فعلمتُ من العمال أنه مقيم من أيام في منزله الكائن في شوفالوفو إحدى ضواحي بطرسبرج، فعُدْتُ إلى فندقي وفي ثاني الأيام أخبرني صاحب الفندق أن تلميذًا من تلامذة المدارس القيصرية جاء بكتاب إلي مدَّة غيابي فتناولتُ الكتاب وفضضتُ غلافه، فإذا به من سعادته نقلَه نجلُه إلى الفندق، وفي الكتاب أنه طريح الفراش من كسر أصاب رجله إثر سقطة، وألحَّ عليَّ كثيرًا أنْ أذهب إلى شوفالوفو لزيارته، فذهبتُ في القطار الحديدي بين غياض وحراج وبقاع مرصَّعة بفاخر البناء والمنازل، ولبساتينها وحدائقها الغنَّاء جمال خاص بها حتى إذا وَقَفَ القطار في محطَّة شوفالوفو قصدتُ منزل صديقي، وهو قائم في وسط حديقة جميلة فقابلني حضرة قرينته وحضرات أنجاله بالتَّرْحاب وساروا بي إلى غرفته فسررتُ لذلك اللقاء سرورًا كثيرًا، وظللت في غرفته إلى ساعة الغداء حين قمنا إلى قاعة فسيحة للطعام مدفَّأة بالنار ونحن في أواسط شهر أوغسطس، وبعد الغداء قمنا ندور بين تلك الحدائق ومتَّعتُ الطَّرْف بهاتيك المناظر البهيَّة وأنا مع عائلة المسيو دي نوفل، ثم عُدْنَا إلى المنزل، والحديث أذكر منه أنَّ صديقي سألني عما رأيت فحدَّثته عما خَلَجَ صدري من التأثُّر حين زُرْتُ القصر الشتوي، ورأيت غرفة إسكندر الثاني الذي اغتاله النهلست، فقال لي إن هذا القيصر كان كثير الورع شديد الاعتقاد بحكم القضاء وبعناية الله به حتى إنه كان مع كلِّ الذي أصابه من مكايد النهلست لا يحْذَر على نفسه منهم، وحاول أحدهم أن يغتاله سنة ١٨٧٦ فأخطأ سهمه المرمى، وفي السنة التالية حاوَلَ آخر بولوني الأصل أن يقتُلَ جلالته أيضًا فلم يُفْلِح في سعيه المذموم. وفي سنة ١٨٧٨ خرج يتمشَّى من قصره الشتوي فهَجَمَ عليه أحد هؤلاء الأشرار وجعل يُطْلِق الرصاص عليه خمس مرات متواليات وهو لا يصيبه، وكان القيصر — كما قلنا — ماشيًا ففرَّ من الرجل وظلَّ يعدو مسرعًا والرجل وراءه يُطْلِق الرصاص حتى دخل وزارة الخارجية تجاه قصره الشتوي، ونجا من القاتل. وفي سنة ١٨٨٠ حاول النهلست نَسْفَ غرفته على مثل ما تقدَّم، وما برح القوم يكيدون المكايد لهذا القيصر النبيل حتى ظفروا به.
قال صديقي وحَدَثَ أنه يوم اغتياله رجاه مدير البوليس السري ألا يخرج من قصره ذلك اليوم، فما سمع النصيحة وذهب لزيارة شقيقته فألقى الأعداء اللئام تلك القنبلة المفرقعة تحت عجلات عربته وتفرقعت فقتلت الخيل والسائق، وكان القيصر في داخل العربة فلم يصبه أذًى، ولو ظلَّ فيها لما وصله مكروه، كذلك حذَّروه الذين كانوا معه ورجوه أن يبقى مكانه داخل العربة، ولكنَّ القيصر كان جسورًا كثير الاتكال على ربِّه فخرج من العربة ليسأل عن رجال حرسه، فألقى أحدُ الأشرار بين قدميه قنبلة ثانية قَضَتْ على حياته الثمينة وحزن العالم المتمدِّن لموته حزنًا شديدًا، وكان الموسيو دي نوفل يورد لي هذه القصة والحزن ملء فؤاده حتى إذا انتهى منها خَنَقَتْهُ العَبْرَة لأنَّ إسكندر الثاني كان ولي نعمته، رقَّاه وأحسن إليه برفيع الرُّتَب والوسامات وقبل طلبه، فتنازل إلى أن يكون عرَّابًا للموسيو إسكندر بسترس نجل المرحوم سليم بسترس، وكان القيصر إسكندر الثالث عرَّابًا للموسيو فلاديمير وهو النجل الثاني للمرحوم سليم بسترس أصدر بذلك أمرًا قيصريًّا حمله الموسيو دي نوفل إلى لندن، حيث كان الموسيو بسترس، واحتفل بذلك احتفالًا عظيمًا حضره سفير دولة روسيا وكثيرون من أهل المقام العالي، وكان مع سعادته أيضًا وسامات عالية من جلالة القيصر، واحد منها للمرحوم سليم بسترس وآخر لحضرة قرينته نظرًا لما اشتُهر عنها من الفضائل والمبرَّات.
وآخِر ما أذكر هنا من مشاهد بطرسبرج الإسطبلات القيصرية، وما هي بالشيء الحقير كما يُفْهَم من اسمها، بل إنها معرض لجياد الخيل من روسية ومجريَّة وإنكليزية وعربية وللعربات الفاخرة والسروج النفيسة المرصَّعة بالحجارة الكريمة والأدوات الأخرى كاللجم والمهاميز والأزمَّة وسواها، أكثرها من الذهب والفضة وبعضها هدايا من سلاطين آل عثمان وملوك إيران وأمراء بخارى وخيوا وبقية الممالك التي علا فيها سؤدد روسيا في أواسط آسيا. وفي أول هذا المتحف جواد القيصر نقولا الأول محنَّطًا، وهو الذي كان يركبه في حرب القرم، ثم رسوم أمراء الإسطبل القيصري بالزيت وبالقد الطبيعي من يوم أُنْشِئَتْ هذه الوظيفة إلى الآن، وهنالك عربات كثيرة للقيصر والقيصرة والأعوان والحَشَم وعربات أخرى كثيرة الزخرف فائقة الإتقان للقياصرة السابقين، أجملها عربة إسكندر الثالث وهي كلها مذهبة الجوانب تبرق وتلمع كأنَّما هي شُعْلَة من نار، ومركبة لبطرس الكبير صَنَعَها بيده، ومضرب لكاترينا الثانية كانت ترقُدُ فيه وقت الحرب، ومركبة نقولا الأول سار بها يوم تتويجه، ومركبة إسكندر الثاني التي قُتِلَ بها وهي محطَّمة الجوانب بفعل الديناميت، وعلى مقربة من هذا المكان، البقعة التي قُتِلَ فيها القيصر إسكندر الثاني وقد غرزوا صليبًا حيث تفرقعت القنبلة القتالة، وشرعوا ببناء كنيسة ستكون من أعظم ما في بلاد الروس من نوعها، وقد لا ينتهي العمال منها قبل أعوام كثيرة تجيء فوقفت في ذلك المكان أتأمَّل أحكام القدر، حيث سقط قيصر عظيم لم تغنِهِ قواته الهائلة شيئًا وفي ذلك عِبْرَة للمعتبرين.
وجملة القول أنَّ مشاهد بطرسبرج العظيمة لا تُعَدُّ في مثل هذا المقام، وقد بُنِيَتْ على جزر والنهر يشقُّها شطرين، فتكثر فيها وفي ضواحيها الغابات والحدائق، منها الحديقة الصيفية مساحتها ١٥ كيلومترًا مربَّعًا أُنشئت على النسقِ الفرنسوي، وحديقة بطرس الكبير أُنشئت على النسقِ الإنكليزي وتكثر فيها الروابي والهضاب، وحديقة الحيوانات وفيها من كلِّ حيوان غريب ما في معارض الحيوان المعروفة في أوروبا. ومطاعم بطرسبرج كثيرة، بعضها صيفي وبعضها شتوي، وملاهيها ومراسحها كثيرة أيضًا ينفقون عليها المال الطائل، وكثير منها تُمثَّل فيه الروايات بالفرنسية ويحضرها سراة الروس وهم معروفون بالتَّرَف والبذخ في المعيشة، وقد رأيت في أحد هذه المراسح ما لم أرَه في غيرها مدَّة سياحاتي من أنواع الرقص الإفرنجي البديع، فإن الستار رُفِعَ عن نحو مائتي فتاة جعلت يتفتَّلن ويتمايلن ويترقصن على أشكال وحالات تسكر الأذهان وتختلب العقول وهنَّ بتلك الملابس المزخرفة، ظللن في تفنُّن ولعب بديع والناظر إلى حركاتهنَّ وأقدامهنَّ يظنهنَّ آلة تُدار بقوة واحدة، فلا تخطئ السير في جهة من الجهات أو إذا تأمَّل هاتيك القدود تتثنى وتتهادى ببهي الحُلَل خُيِّلَ له أنَّه يرى بحرًا من الحسن تغرق فيه الأفكار.
هذا بعضٌ من كلٍّ شهدتُّه في عاصمة الروس العظيمة، ولو أنِّي شئتُ التطويل لضاق المقام عن البيان، فأتقدَّم الآن إلى ذكر شيء عن ضواحي هذه المدينة.
ضواحي بطرسبرج
كنت مدَّة مكثي في عاصمة السلطنة الروسية أسمع ببهاء ضواحيها، وأول ما قصدتُ منها قصر تزارسكوي سيلو — أي قرية القيصر — أنشأها بطرس الكبير وبنى بها قصرًا، ثم تبعه في البناء قياصرة الروس وسراتهم حتى أضحت هذه الجهة مجموع مشاهد باهرة ورياض زاهرة ومنازل عامرة، فيها القصور المنيفة حيث يقيم أهل الشرف الشامخ والحدائق الغنَّاء يتراوح بين أزهارها وشجرها جماعة التَّرف الباذخ، وفي وسط هذا العز الساحر زينة القصور الشمَّاء وصلة السعد ما بين عيشة الأرض وعيشة السماء، أريد به قصر تزارسكوي سيلو بَنَتْهُ كاترينا الثانية، وهو الذي طارت شهرته في الآفاق ومُلِئَتْ بوصف جماله الأوراق، والقصر بناءٌ عظيم يحيط به سور شاهق في أعلاه حديد مذهب، وطول البناء لا يقلُّ عن ٢٤٥ مترًا، وقد دُهِنَ من خارجه بلون أصفر بهي واللون الأصفر كثير الاعتبار في بلاد الروس خلافًا للمواضع الأوروبية الأخرى حيث يقلُّ وجوده، وقد زاد بهاء هذا اللون في قصر تزارسكوي سيلو أنَّ العُمُدَ والقباب والقواعد والشُّرُفَات كلها مذهبة تسطع منها الأنوار، وتجعل لذلك القصر العظيم أبَّهة وجمالًا يقلُّ لهما النظير بين قصور روسيا، وهي التي اشتُهر أنَّها امتازت عن جميع العواصم الأوروبية بقصورها وما فيها من القاعات الغريبة. ولا عجب إذا قلنا إن قصر القيصر في تزارسكوي سيلو هذه يُعَدُّ أعظم القصور الحالية؛ فإنهم أنفقوا على تذهيب جوانبه المرَّة الأخيرة اثني عشر مليونًا من الفرنكات، فما قولك في بقية ما فيه من غرائب البناء والنَّقْش والتصوير والزخارف والرياش الذي يعجز عن مثله أقيال الزمان، ولا تكتفي لعُشْرِ معشاره أموال قارون؟!
وقاعات هذا القصر تبلغ الثلاثمائة عدًّا، منها ٣١ قاعة على خطٍّ واحد بعضها وراء بعض، إذا وقف المتأمِّل في أولها عسر عليه أن يرى آخرها، وكلها آيات معجزات في إتقان الصُّنع ونفيس الفرش وباهر التُّحف وبديع الجوانب المذهبة، إذا أسعدك الحظ برؤيتها حكمت لأول وهلة أنها زينة القاعات الملوكية، ما رأى الراءون أكثر منها حسنًا وبهاءً، ولا سمع السامعون بأوفر منها رونقًا وزهاءً، تَغْرس في نفس الرائي بهجة وحبورًا وتنسيه بقية ما في الأرض من أمر شاغل أو شيء خطير، ولا قِبَلَ لنا بغير الاختصار فنذكر هنا من هذه البدائع الشهيَّة قاعة الرقص والولائم يقيمون فيها الحفلات الراقصة أو الولائم الفاخرة، وهي قاعة حدِّث عن جمالها ما شئت، وقُلْ في غرائبها ما استطعت، إنها مفروشة بالحرير الأصفر الفاقع وسقفها وجدرانها ملأى بالزخارف المذهبة، ومرائيها عظيمة المقدار والقيمة، فوقها الشعار القيصري، وهي تعكس هاتيك المناظر الباهرة من هنا ومن هنا فلا يرى المتأمِّل غير جمال وراء جمال، ولا سيما إذا تدلَّى من السقف والجدران هاتيك الثريَّات تحكي الجواهر في لمعانها، وهي متى أُوقدت مصابيحها في الليل تألَّق نورها وكثر شعاعها إلى حدٍّ يبهر الأبصار، وكلُّها تُنار بالشمع؛ لأن النور الكهربائي غير مستعْمَلٍ في قصور الضواحي، وفي هذه القاعة وحدها ٢٦٥٠ شمعة، فتأمَّل بهاء تلك الأنوار ومن حولها المناظر الساحرة لا سيما إذا احتفلوا بالليلة الراقصة التي يقيمها جلالة القيصر في كلِّ عام، ويدعو إليها أمراء البيت القيصري وأميراته وسفراء الدول ووزراء المملكة وقُوَّاد الجيوش والأساطيل ورؤساء المصالح الكبيرة وسراة الأمَّة وعظمائها، فيأتون كلهم بالملابس الرسميَّة والوسامات، ومعهم سيدات تنفق الواحدة منهنَّ ألوفًا على لباس تلك الليلة وتتحلَّى بنفيس الجواهر، فما ترى في كلِّ جانب غير عزٍّ وبهاء ويسار كثير وتَرَف ونعمة تزيد عما في بقية العواصم الكبرى، والكلُّ من سادة وسيدات يؤدُّون واجب الإكرام للقيصر، وهو متى بدأ الرقص يخاصر قرينة أقدم السفراء الحاضرين ويرقص معها دورًا ثم يتنحَّى، والقيصرة ترقص دورًا مع أكبر السفراء الحاضرين سنًّا ثم تتنحَّى أيضًا، ويظلُّ الباقون في طرب ونعيم إلى آخر الليل.
ولكنَّ بدائع هذه القاعة الغريبة تُعَدُّ شيئًا يسيرًا عند قاعة الكهرباء الفاخرة، وقد أُطْلِقَ عليها هذا الاسم؛ لأن الكهرباء الثمينة فيها تقوم مقام الخشب والحديد فكلُّ مقاعدها ومناضدها وكراسيها صُنِعَتْ من الكهرباء مع ما تعلم من غلاء قيمتها، والفرش من فوقها حرير أصفر يتلاءم ببقية ما في القاعة، وقد ذاعت شهرتها في أوروبا وتحدَّثت الرُّكْبَان بعظيم قيمتها. ومن ذلك أيضًا قاعة الفضَّة وكل ما فيها من هذا المعدن الناصع صُنِعَ على نَسَقٍ يحلو للأنظار، وتليها قاعة اللازورد، وهي لا تقلُّ في الغرابة عن قاعة الكهرباء؛ لأن حجر اللازورد من أثمن الحجارة المعروفة وهو أزرق سماوي في لونه، زيَّنوه بعروق من ماء الذهب، فصار له منظر يشْرَح الصدور ولا تشبع العين من التأمُّل فيه، والقاعة الصينية وكلها من الأطلس الأسود المزركش بالقصب وخشبها كله من التيك الأسود الفاخر، وقاعة الصور وفيها صور بعض الحوادث التاريخية مثل تسليم الشيخ شامل وتتويج إسكندر الثاني وتنصير أولاده وغير هذا كثير، وقاعة الموائد وهي للولائم الرسمية العظيمة، فيها مواضع لمائتين وخمسين مدعوًّا، وكلُّ آنيتها من الذهب والفضة تليق بعظمة ذلك القصر العظيم، وقاعات أخرى لا يعي الذهن ذكرها وكلها من غرائب الصناعة ودلائل اليسار والعز الكبير.
وفي هذا القصر كنيسة جميلة مدهونة جدرانها بلون أزرق تتخلَّله عروق ذهبية بديعة الإتقان، وللقيصر والقيصرة كرسيَّان أمام باب الهيكل من أجمل ما رَأَتْهُ العين، وللكنيسة قبَّة بديعة يراها القادم إلى القصر من خارجه، ويلي الكنيسة رواق عظيم طوله ٨٢ مترًا يطلُّ على أشهى المناظر، ومنه يمكن الوصول إلى الحديقة المحيطة بقصر تزارسكوي سيلو، وهي يقْصُرُ في وصفها قلم الكاتب البليغ، تجوَّلت في جوانبها حينًا من الدهر ثم غادرتُهَا ونفسي تحدِّث بما رأت من محاسن هذا القصر الغريب، وعُدْتُ إلى المدينة وأنا أفكِّر بما رأيتُ فيه من الغرائب، وقد خَطَرَ في بالي أن بانيته العظيمة القيصرة كاترينا الثانية لمَّا انتهت من بنائه وإعداده دعت سفير فرنسا في ذلك العهد لرؤيته، فجاء السفير وجعل يحدق ببصره ويتأمَّل تلك البدائع، وهو يتطلَّع ذات اليمين وذات الشمال كأنَّما هو يبحث عن شيء، فسألته القيصرة أنْ: ما الذي تبحث عنه؟ قال: إني أبحث عن غطاء من البلُّور أغطِّي به هذا القصر الثمين.
وفي هذا اليوم قصدتُ مدفن القياصرة العظام فقمتُ من الفندق مارًّا بميدان فسيح اسمه شان ده مارس، سُمِّيَ على اسم إله الحرب؛ لأن المناورات العسكرية تجري فيه، ومن ورائه الحديقة الصيفية ثم الجسر المبني فوق نهر النيفا، وفي آخره على الشمال كنيسة لها قبَّة علوها ١٢٨ مترًا، وهي أعلى ما في روسيا من القبَّات. وفي هذه الكنيسة مدفن القياصرة وأصله قلعة قديمة دخلتُهُ ورأيتُ قبر بطرس الكبير وكاترينا الثانية وإسكندر الأول صاحب وقائع بونابارت، ونقولا الأول صاحب حرب القرم، وإسكندر الثاني أشرف القياصرة ومحرِّر الأمم، وإسكندر الثالث بطل السلام، وهو والد القيصر الحالي، وفي تلك المدافن مصابيح يوقَد فيها الشمع ليلًا ونهارًا ولها منظر يؤثِّر في النفوس.
بقي عليَّ من هذه القصور العظيمة في ضواحي بطرسبرج قصر بترهوف المشهور، وبترهوف هذه قرية على شاطئ البلطيق قريبة من بطرسبرج أول مَنْ عمرها بطرس الكبير فسُمِّيَتْ باسمه كما ترى، وكان هذا القيصر ينوي جَعْلَ قصره في بترهوف مثل قصور فرنسا في فرسايل فبالغ في إتقانه، وجاءت كاترينا الثانية من بعده ونقولا الأول وغيرهما، فأضافوا إلى هذا القصر العظيم ما تعجز الألسن والأقلام عن وصفه. ويمكن الوصول إلى بترهوف من العاصمة برًّا أو بحرًا في البلطيق، فاخترت طريق البحر ووصلتُ موضع القياصرة العظام حيث يقضون معظم أشهر الصيف، والحقُّ يُقال إنِّي أراني عاجزًا عن وصف هذا القصر الفخيم؛ لكثرة محاسنه المشهورة ولكثرة ما تقدَّم من وصف أمثاله، فأكتفي ببسيط الإشارة إلى أهمِّ ما فيه وهو يظهر لك عن بُعْدٍ من بريق قباته المذهبة ومن حوله العمائر الفاخرة لأمراء الروس، فكأنَّما هو الشمس تدور بها النجوم السيَّارة في فضاء كله جمال وبهاء ما بين بحر نقي ماؤه وأرض فُرِشَتْ بالسندس ورُصِّعَتْ بأبهى ما في الرياض من زهر وشجر، ولا سيما حديقة القصر الإمبراطوري نفسه، وهي تحكي حدائق النعيم في جمالها واتساعها، حتى إن ألوفًا من العربات تسير في جوانبها ولا تظهر بين هاتيك المناظر الفاتنة، وللقصر أبواب كثيرة، منها واحد ارتقينا عشرين درجة من الرُّخَام الأبيض البديع حتى وصلناه، وأمامه بِرْكَة للماء صُنِعَتْ من الرُّخَام الأبيض أيضًا يحفُّ بها أربعون تمثالًا مذهبًا، وفي وسطها وزَّة كبيرة من المرمر يتدفَّق الماء من فمها تدفُّق السيل صُعُدًا، ثم ينهمل من علوِّ ٢٥ مترًا وينصبُّ في البِرْكة فيجري منها بين الأغراس والتماثيل إلى ما وراء القصر ويستقرُّ في بحر البلطيك.
وقد جعلوا رياش كلِّ غرفة في هذا القصر من نَسَقٍ يختلف عن نَسَقِ غيرها، فهذه فُرِشَتْ على النسق الصيني، وهذه هندية وهذه يابانية وهذه مصرية وهذه تركية وهذه أوروبية، وكلها بدائع إتقان تحار في وصفها الأفهام. وهنالك قاعة عظيمة للرسوم عُنيت كاترينا الثانية بجمع أشكال النساء فيها، فأَمَرَتْ برسم فتيات ونساء روسيات على أشكالهنَّ في كلِّ إقليم، ووُضِعَتْ تلك الرسوم تمثِّل حالة المرأة الروسية في أيامها، فلا يقلُّ عدد الصور هنا عن ٣٦٨ صورة. ويلي هذه الغرفة قاعة الاستقبال الخاصَّة بهذه الإمبراطورة فُرِشَتْ بأنفس الطنافس وأثمن أنواع الحرير، وفيها صور بنات حُزْنَ قَصب السَّبْقِ في مدرسة البنات التي أسَّستها هذه الإمبراطورة العظيمة، وقاعة الاستقبال العمومية، وقاعة نساء الشرف التابعات للقيصرة، وقاعة المائدة لها ٣٠ نافذة أو شباكًا لكلِّ شباك برواز بارز جميل يحيط به من داخل القاعة، وإلى جانبيه الشمعدانات المذهبة في كلٍّ منها ٤٠ شمعة، فيكون عدد الشمعات حول تلك الشبابيك فقط ١٢٠٠ غير المدلَّى من سقف القاعة في الثريات البديعة، وفي القصر كنيسة لها قبَّات مذهبة جميلة، وفيها بعض غنائم الحروب من آسيا الوسطى، وزخارفها أكثر من أنْ تُعَدَّ، وهناك قصر ألكساندرين، وقصر إسكندرية، وقصر بطرس الكبير حُفِظَتْ فيه بعض ملبوساته، فمصيف بترهوف هذا مجموع قصور شُيِّدَتْ في تلك الحديقة العظيمة، وليس قصرًا واحدًا، وأمَّا عن تلك الحديقة فحَدَثَ أنِّي ما رأيت في حدائق القصور أغرب منها ولا أبهى، وقد قضيتُ النهار أدور في جوانبها وأتفرَّج على روابيها ونجادها وجزرها وطرقها وأغراسها، واستلْفَتَ الدليل نظري إلى شجرة لم أرَ لها في أول الأمر مزيَّة، ولكنه تنحَّى عني إلى حيث فتح أنبوبًا فانبعث الماء حالًا من فروع الشجرة وأوراقها وأزهارها وكل أجزائها، وعلمت حينئذٍ أنها شجرة صناعية مُلِئَتْ بالمسام الغير المنظورة يخرج الماء منها على مثل ما رأيت.
وقد رأيتُ في تلك الحديقة من الأزهار والأغراس ما غرسته أيدي القيصرات، فإن والدة القيصر الحالي غَرَسَتْ شيئًا كثيرًا والقيصرة التي تقدَّمتها كانت مُغْرَمة بهذه الحديقة أيضًا، ولكلٍّ منهما قطعة تُعْرَف باسمها وتدلُّ على حسن الذوق وكثرة الاعتناء، وفي هذه الحديقة جزيرة صُغْرَى فيها أنواع الغرس والنبت، ومنها شجرة أصلها من أميركا وقد اتفق أنَّ سائحًا أميركيًّا رآها في أحدِ الأيام مهملة فدَفَعَ إلى البستاني مائة ريال؛ ليُعنى بأمرها؛ ولذلك أطلقوا على هذه الشجرة اسم واشنطن تخليدًا لأريحية ذلك الرجل الأميركي.
والقسم الخاص بكاترينا الثانية بين هذه القصور الشمَّاء قديم العهد، فيه غرفة الطعام الخاصَّة بها صُنِعَتْ على شكل يمكن به إرسال الصحون وألوان الطعام في آلة ترفعها في غرفة سفلى فتصل إلى المائدة، ويمكن بهذا الاستغناء عن خَدَمَة يقفون حول المائدة ويسمعون حديث الملكة مع رجال الدولة، وهنالك أيضًا غرفة النوم، وفيها بعض ملبوسات هذه الإمبراطورة، وإلى مقربة منها حمَّامها الصيفي، وهو عبارة عن بحيرة كبيرة كانت تسبح في مائها النقي، وفي وسط البحيرة أنابيب مستدقَّة ينبعث الماء منها تقرب من المائة عدًّا، وهي كثيرة الجمال.
وأعود إلى القول إنِّي لو شئتُ عدَّ الغرائب في قصور بترهوف وحدائقها لما أمكن لي بعض الشيء منه؛ لأن الموضع الذي أَجْهَد البارعون قرائحهم في تحسينه وأنفق القياصرة العظام مالًا لا يُعَدُّ وأعوامًا طوالًا في إعداده، لا يكثر فيه وصف ولا يحيط بجماله وغرائبه علم إلا الذي تسعده الأيام برؤيته، فلمَّا انتهيتُ من التجوُّل في تلك الجنَّات البهيَّة عُدْتُ إلى العاصمة، وقصدتُ من بعدها حصون كرونستاد، وهي التي كان دخولنا من البلطيق إليها قبل الوصول إلى بطرسبرج على ما تقدَّم، وكرونستاد هذه مينا بطرسبرج اشتُهر أمرها في الأعوام الأخيرة بزيارة الأسطول الفرنسوي لها، وإبرام المعاهدة فيها بين الدولتين، وقد كان منظرها يوم دخلتها مؤثِّرًا، وهيئة الحصون والقلاع والبوارج الحربية ترسخ في النفس، وأذكر منها بنوع أخص يختًا لجلالة القيصر أنفق والده إسكندر الثالث على بنائِهِ وإعداده أربعمائة ألف جنيه، وكان يجتاز البحر فيه كل صيف إلى الدنمارك حيث يجتمع بالأهل والأقارب، ولهذه المدينة مين تجارية ومين حربية كلها كاملة الإتقان، وفي آخرها أرصفة عريضة وطرق جميلة، وأمامها فنادق عظيمة أكثر الذين يؤمُّونها من ضباط البحرية الروسية، ولا حاجة إلى القول إن استحكامات كرونستاد هذه وحصونها في الطبقة الأولى من القوة والمنعة، قضيتُ في التفرج على جوانبها زمانًا، ثم عُدْتُ إلى بطرسبرج مودِّعًا لها متنقِّلًا من موضعٍ إلى موضع ومن شارع إلى شارع، فلمَّا انقضى اليوم العاشر على زيارتي لهذه العاصمة العظيمة غادرتها وأنا مُعْجَب بآيات العزِّ فيها، وسِرْتُ إلى مدينة موسكو، وهي التي يجيء الكلام عنها في الفصل التالي.
موسكو
يبلغ تعدادها اليوم مليونًا ونصف مليون، والمسافة بالقطار الحديدي إليها من بطرسبرج ست عشرة ساعة في مروج كلها مناظر بهيَّة كُسِيَتْ بالخضرة النضرة، ورُصِّعت بالعمائر والقرى تخرقها الجداول وترويها الأنهار، فكيفما وجَّهتُ نظري كنت أرى أرضًا أَرِيضة ومزارع مقبلة، ومراعي فسيحة تَسْرَح فيها الأبقار الضليعة والماشية الكثيرة، فتمثِّل لك في كلِّ جهة مقدار ما يعوِّل الروسيون على الزراعة في بلاد واسعة الأكناف بعيدة الأطراف، هائلة سهولها كثيرة غلالها، يصدِّرون منها مقادير كبرى في كلِّ عام، وهي مصدر الثروة الكبرى في البلاد، كما أنَّ الصناعة والتجارة مصدر الثروة في بلاد الإنكليز. ولمَّا انقضى زمان المسير وأشرفنا على مدينة موسكو العظيمة ظهرت لنا قُبَّات كنائسها الكثيرة بعضها مذهب تنبعث منه أشعَّة النور في ذلك السهل الفسيح، وبعضها ملوَّن بألوان مختلفة، هذه صفراء وهذه حمراء وهذه خضراء وهذه بيضاء أو زرقاء، أو لها لون آخر يستلفت الأنظار لا سيَّما وأن لها أشكالًا غريبة لا تراها مجتمعة في مدينة من مدائن الأرض غير موسكو، فإن تلك القباب بعضها مضلع وبعضها مستدير وبعضها إهليلجي وبعضها على شكل الرُّمَّان أو الموز أو الشمع أو غير هذا، فالقوم ما تركوا شكلًا شرقيًّا أو غربيًّا حتى جمعوه إلى تلك الأشكال، وعملوا على مثاله قُبَّات في مدينة الروس المقدَّسة فإذا رأيتَ كلَّ هذا وأنت مشرِف على المدينة من بُعْدٍ ذكرت الآستانة ومآذنها، وقد بُنِيَتْ موسكو في سهل كما بُنِيَتْ معظم مدائن الروس ومنازلها بعيدة بعضها عن بعضها، وفيها من الحدائق والبحيرات والميادين الفسيحة ما يجعل لها مساحة لا تقلُّ عن مساحة باريس، ولمَّا كانت هي مسكن أهل الطبقة العليا من أشراف الروس وفيها من أكابر التجار الموسرين عدد عظيم لكلٍّ منهم قصر أو قصور تحيط به الأغراس والحدائق، فقد اتَّسع نطاقها وبَعُدَت أطرافها فوق ما يقتضيه عدد سكَّانها، فزاد في رونقها وجمالها وغرائبها الكثيرة التي سنوردُ بعضًا منها فيما يلي.
وأمَّا أنَّ هذه المدينة مقرُّ الغرائب في بلاد الروس والعظائم فواضح من كثرة قصورها الشمَّاء كما تقدَّم، ومن كثرة كنائسها أيضًا وأديرتها، فهي المدينة المقدَّسة عند الروس، وهي كانت عاصمة المملكة إلى عهد ليس ببعيد فيها الآن نحو ٤٠٠ كنيسة و٢١ ديرًا و٤٦٠ مدرسة أو تزيد، وهي مقر الحاكم العام لولاية موسكو العظيمة يغلب أن يكون الحاكم فيها أميرًا من أمراء البيت القيصري، وفيها مركز الفيلق الثاني من الجيش الروسي وكرسي المجمع المقدَّس يرأسه رئيس أساقفة موسكو، وهو أعظم رجال الكنيسة الروسيَّة بعد القيصر، وقد بُنِيَتْ هذه المدينة الكبرى إلى جانبَي نهرٍ صغير اسمه موسكوفا، فدُعِيَت المدينة باسمه وغَلَبَ هذا الاسم بعد ذلك على الولاية كلها ثمَّ على المملكة برمَّتها؛ لأسباب فصَّلناها في التمهيد التاريخي، وهي إذا دخلهَا الزائر الغريب أذهله ما فيها من الأزياء الكثيرة والأجناس المتباينة، يكثر فيها التتر والجراكسة والأتراك والإيرانيون والبولونيون وبقية أشكال المتوطِّنين فيها من الناس حتى إنك لترى فيها العجمي بقبَّعته السوداء الطويلة وجبَّته وسُمْرَة وجهه، والتتري له صفرة وعين تدلُّ إلى شيء من القوة والغدر، وهو بملابسه التترية وعمامته المتدلِّية أطرافها أو بشيء من الملابس الإفرنجية لا تخفي عن المتأمل حقيقته، وهنالك الجراكسة وأهل داغستان وكرْمَان وقوقاف بعضهم يلبسون الفرو وجلود الغنم على مثل ما اعتادوا في بلادهم، وهم يمشون بجنب الذين رقوا أعلى درجات التمدُّن الغربي من الروس وتهذَّبوا في المدارس الكبرى، أو الذين تراهم على تلك الخيول المطهمة، وفي العربات الفاخرة من أغنياء المدينة وموظَّفيها وضباطها وأبناء أشرافها فيختلط الشرق بالغرب في تلك المدينة اختلاطه في الآستانة أو أعظم، وفي ذلك نزهة للغريب وفُرْجَة يعسر الوصول إليها في غير هذا المكان.
وقد كانت روسيا في أول عهدها يحكمها أمراء كييف على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، فلمَّا قويت شوكتهم قليلًا بعد التنصُّر بنى أحدهم حصنًا على ضفَّة نهر موسكوفا في سنة ١١٤٧، واسم هذا الأمير فلاديميروفتش دولجوروسكي، فكان ذلك بدء تأسيس المدينة وأُطلق اسم النهر عليها، والحصن الذي بناه عُرِفَ من يوم بنائه باسم كرملن، وهو لفظ تتري معناه القلعة أو الحصن، فبقي هذا الاسم ملازمًا للجهة الأصلية التي نشأت فيها مدينة موسكو، وهو الآن اسم القصور العظيمة والكنائس والمنازل الفاخرة المختصَّة بالقيصر وعائلته، ويُطْلَق أيضًا على القسم المجاور له من أقسام موسكو وهو أعظمها وأفخمها وأكثرها غرائب، وطفقت موسكو تتقدَّم من بعد بنائها شيئًا بعد شيء حتى صارت مقرَّ الولاية — كما تقدَّم القول — ولكنها احترقت مرتين في القرن السادس عشر، وعادت إلى النماء حتى إذا قام بطرس الكبير نقل تخت السلطنة منها إلى بطرسبرج ولكن خلفاءه لم يسهل عليهم الانتقال، فعادوا إليها ولم يستقر رأيهم على الانتقال منها نهائيًّا إلا في أوائل هذا القرن حين أَضْرَمَ أهلها النار فيها؛ ليردُّوا جيش نابوليون عنها، ولكن موسكو عادت وبُنِيَتْ على أحسن مثال من بعد تلك الحرائق وجُددت معالمها وشُيِّدَتْ قصورها ومعابدها وهي يتوَّج فيها القياصرة إلى هذا اليوم، وتُعَدُّ مقرَّ التجارة الروسية الداخلية ومركز الرأي العام الروسي والكنيسة الأرثوذكسية، وها أنا مورد بعض الشيء من وصف الذي فيها ملتزمًا خطة الاختصار.
تقدَّم القول إن قسم الكرملن أهم أقسام المدينة، وهو في منتصف البلدة آخره متصل بنهر مسكوفا بُنِيَ على رابية مرتفعة واسعة قام فوقها القصر الإمبراطوري والكنائس والأديرة، وقد جُمِعَتْ هذه الأبنية العظيمة كلها في الدائرة التي تُعْرَف باسم الكرملن وأُحيطت بسور واطئ محيطه نحو ألفَي متر، وللكرملن هذا عند الروس مقام عظيم واعتبار فائق حتى إن بين أمثالهم مثلًا معناه أنَّ الكرملن يعلو كلَّ شيء ولا يعلوه غير السماء، وله مداخل عدَّة، منها مدخل المخلص وهو باب عظيم عُلِّقَ فوقه أيقونة السيد المسيح جاء بها القيصر ألكسي من بلدة سمولنسك، وهم يضيئون أمامها مصباحًا لا يُطْفَأ في الليل ولا في النهار، وقد جرى الروس على عادة قديمة في عهد القيصر الذي ذكرناه واتبعوها بأمره هي أنهم إذا مرُّوا من تحت هذه الصورة رَفَعُوا القبَّعات احترامًا لها وخشوعًا، وصار الأجانب في موسكو يفعلون فعلهم أيضًا، ولمَّا دخلتُ الكرملن من ذلك الباب أذهلني كثرة ما يضمُّه ذلك المكان من الأبنية العجيبة والكنائس، فإنك كلما سِرْتَ خطوات معدودة وجدتَّ أمامك كنيسة تزيد التي تقدمتها في محاسنها وغرائبها فقصدتُ قبل كلِّ أمر قصر القياصرة الذي يقيمون فيه عند زيارة موسكو أو حين حضورهم للتتويج، فارتقينا سلَّمًا عريضًا من الرُّخَام النفيس درجاته منبسطة لا يكاد الصاعد عليها يشعر بعناء الصعود، وفي آخرها رسوم تاريخية، منها رسم تتويج إسكندر الثالث ومشايخ الأقاليم يقدِّمون له الخبز والملح علامة الخضوع، وغير هذا من رسوم الحوادث المشهورة، والقصر عظيم الاتساع فيها ثمانمائة قاعة وغرفة ورحبة، شَرَعَ نقولا الأول في بنائه سنة ١٨٣٨، على أطلال القصور السابقة التي أفنتها النار أو تهدَّمت من طول الزمان، فما تمَّ البناء إلا سنة ١٨٤٩، وأنفق عليه حوالي ١٢ مليون ريال روسي، وفي أول القسم الجديد من هذا القصر الفخيم رَحْبَة مستطيلة قائمة على عُمُدٍ من الرُّخَام المصقول، وهي توصل إلى قاعات ثلاث لها شهرة ذائعة في أوروبا كلها، وقد سُمِّيَتْ بأسماء القدِّيسين الذين أُعطيت أسماؤهم لأشرف الوسامات الروسية، وهي قاعة القدِّيس جورجيوس وقاعة القدِّيس إسكندر نفسكي وقاعة القدِّيس أندراوس.
أمَّا قاعة جورجيوس فسُمِّيَتْ باسم القدِّيس الذي تحترمه الطوائف الأرثوذكسية وتُرْوَى عنه حكاية التنين، وقد جعلوا طول هذه القاعة الفخيمة من قصر كرملن ٦١ مترًا، وبنوها من الرُّخَام الأبيض البديع تزيِّنه عروق من الذهب ورسوم كثيرة، وأرض هذه القاعة من الخشب المصقول مثل أكثر القاعات الكبرى في قصور الملوك والأشراف، وسقفها قائم على عُمُدٍ ودعائم من الرُّخَام أيضًا نُقِشَ عليها بماء الذهب تاريخ الفتوحات الروسية وأسماء المواضع التي مَلَكَها الجيش الروسي، وعلى الجدران أسماء الفِرَق التي امتازت بالإقدام في هذه الحروب والقواد الذين شادوا لهذه السلطنة صروح الفخار في معامع النِّزال، وأُحسن إليهم بوسام القدِّيس جورجيوس وهو أعلى وسام يناله المرء عندهم بسبب بسالته وإقدامه، وفي آخر القاعة تماثيل قُوَّاد عظام من الفضَّة مثل القائد يرماك الذي فَتَحَ سيبيريا، وفيها ثريَّات لا يقلُّ عدد شموعها عن ٤٥٠٠ شمعة وكلها آية في الجمال والبهاء.
ويتَّصل بهذه القاعة العظيمة قاعة القدِّيس إسكندر نفسكي، وهي حمراء والجدران محلَّاة برسوم ذهبية طولها ٣١ مترًا وعلو قبَّتها ٢١ مترًا. وفي هذه القاعة صور تمثِّل حياة القديس نفسكي الذي سُمِّيت القاعة باسمه، وفيها ١٤ شباكًا أمامها مراءٍ ترى فيها ما وراء القصر من المناظر وحركة المارين.
ثم قاعة القدِّيس أندراوس وهو يُعَدُّ حامي بلاد الروس ووسامه أشرف وسامات الدولة الروسية، أنشأه بطرس الكبير سنة ١٦٩٧، وقد جعلوا هذه القاعة العظيمة خاصَّة بالعرش ولونها أزرق معرق بالذهب، وضعوا في صدرها عرش القياصرة يحمله نسران عظيمان والقيصر يجلس عليه حين قدوم المهنِّئين بعد حفلة التتويج، وطول هذه القاعة ٤٩ مترًا، وهي محاذية للقاعتين السابقتين تكوِّن معهما خطًّا واحدًا، وتتصل بهما بأبواب فسيحة، فطول القاعات الثلاث كلها ١٤٦ مترًا، ولها منظر غاية في الجمال وهي تُقَام فيها الحفلات العظيمة وتُولَم الولائم للسفراء ورؤساء الكنيسة وكبراء الدولة بعد انقضاء حفلة التتويج، ووراء قاعة العرش هذه قاعات للحرس الإمبراطوري ثم قاعات القيصرة وسيدات الشرف من الأميرات اللائي يسِرنَ بمعيَّتها، وكلُّ هذه القاعات من الرُّخَام الثمين المذهب، وفي بعضها عُمُد بديعة الشكل من حجر المالكيت، وأمَّا رياشها وأدواتها فيكفي أن يُقال بأنها تليق بأعظم القصور وأعظم القياصرة ولا حاجة بعد هذا للإسهاب، وقد رأيتُ أنَّ قاعة الطعام في هذا القصر كل كراسيها ومناضدها من الفضَّة الخالصة وأدوات الأكل كالملاعق والسكاكين من الذهب، وهنالك حمَّام على النسقِ الشرقي كله رخام وبلُّور ورسوم ذهبية وستائر ثمينة كُتِبَ فوق بعضها ألفاظ شرقية، وكل معدَّاته دالَّة على منتهى التَّرَفِ، وكنيسة هذا القصر فاخرة فخيمة صُنِعَ بابها من الفضة المحلاة بالذهب ومثله الهيكل.
هذا كلُّه في القسم الجديد من قصر القياصرة في الكرملن، وأمَّا القسم القديم فإنه باقٍ على حاله من أيام القيصر فيودور ألكسوفتش والد بطرس الكبير الذي بَنَى هذا المنزل لأولاده، فله عند الروسيين اعتبار عظيم؛ ولهذا القصر القديم أربع طبقات كان بطرس وإخوته يشتغلون في الأوليين منهما بالصنائع كالرسم والنجارة والحدادة وغيرها، ويقيمون في الدورين الباقيين، والغرف كلها واطئة بسيطة إذا قابلتها بقاعات القصور الحديثة، منها غرفة الرُّقاد فيها سرير من الحديد قديم في غاية البساطة لوالد بطرس الكبير، وبساط صنعته ابنة ذلك القيصر العظيم بيدها وصندوق كانت توضَع فيه عرائض المتظلِّمين والمشتكين، فكان القيصر ينزل في آخر النهار إلى هذا الصندوق ويأخذ ما فيه من الأوراق بنفسه ثم ينظر فيها وينصِف أصحابها، وفي داخل هذه الغرفة غرفة أخرى صغيرة خصَّت بالعبادة تُوقَدُ فيها الشموع حول الأيقونات ليلًا ونهارًا، ومررنا من الدهليز إلى القسم المخصَّص للمجمع المقدس، حيث كانت تُعْقَد جلساته للمفاوضة في الأمور الدينية، وفي جدران هذا القسم صور تمثِّل الحوادث الدينية المذكورة في التوراة والإنجيل.
وعلى مقربة من قصر القيصر هذا دار التحف الإمبراطورية، وهي ذات طبقتين: الأولى منهما للعربات الفاخرة كان يستعملها القياصرة في حفلات التتويج ترى في أشكالها المختلفة صناعة كلِّ عصر وذوق أهله، وأكثر العربات القديمة ضخمة ثقيلة واسعة تشبه القاعة الكبرى كثيرة الزخرف، وأمَّا العربات الحديثة وأخصها التي استعملها إسكندر الثاني مدَّة تتويجه فجميلة رشيقة فاخرة قليلة الأدوات، والقسم الذي فوق العجلات منها كله ذهب وأطلس نفيس، وقد كان القياصرة يسيرون في شوارع موسكو بعد التتويج بعرباتهم هذه ولكنهم صاروا يركبون الخيل ويسيرون على ظهورها ليراهم الناس جميعًا من بعد تتويج إسكندر الثالث، وفي هذا القسم غير العربات المختلفة أسلحة استعان بها بطرس الكبير على زُمْرَةٍ من الجنود طغوا وبغوا يُعْرَفون باسم أوسترلتز، وهم أشبه بالمماليك الذين أبادهم محمد علي في مصر أو الإنكشارية الذين أبادهم السلطان محمود في الآستانة.
هذا جلُّ ما في الدور الأسفل من دار التحف. وأمَّا الدور الأعلى ففي صدره صورة الإمبراطورة كاترينا الثانية امتطَتْ جوادًا مطهمًا، وقد ركبت كما يركب الرجال لا كما يركب نساء هذا العصر، وتردَّت بأثواب الفرسان فلا يظنُّها الرائي لأول وهلة من النساء. وفي غرف هذا المتحف أنواع الأسلحة من قديمة وحديثة وشرقية وغربية، وفيها شيء كثير أُهْدِي إلى قياصرة الروس من سلاطين آل عثمان وملوك إيران وأمراء خيوا وبخارى وألبانيا والجركس، هذا غير أسلحة القياصرة الكثيرين مرتَّبة في دائرة واسعة وضعوا في وسطها رايتين للقائد يرماك فاتح سيبيريا، وراية للبرنس يازارجسكي الذي أنقذ الروس من دولة بولونيا في سنة ١٦١٢ على ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وأعلامًا أخرى للإمبراطور ألكسي، وغيرها لبطرس الكبير وسواه تشهد بمفاخر الروس وفعالهم في الحروب.
وفي هذه الدار غرف وُضِعَتْ فيها مجوهرات القياصرة والقيصرات وملابسهم الرسمية والأكاليل الفاخرة وعصِيِّ الملك الثمينة والحلي النفيسة، وهي تامَّة هنالك مرتَّبة ترتيبًا تاريخيًّا مدَّة هؤلاء القياصرة، فترى ملابس كل قيصر أو قيصرة في موضعها حتى الأحجبة التي كانوا يعلِّقونها تحت قمصانهم وكذلك كراسيهم، أو هي العروش يجلسون عليها في ساعات الحكم والإمارة، أذكر منها عرش القيصر ألكسي وهو مرصع بنحو ثمانمائة حجر من الألماس، وعرش إيفان فيه نحو تسعمائة حجر من الألماس والفيروز أكثرها هدايا من شاه إيران في أيامه، وقد جلس جلالة القيصر الحالي على هذا العرش يوم تتويجه، وعرش بطرس الكبير فيه ألفان ومائتا حجر من الألماس، ورأيتُ هنالك كرسي الملك قسطنطين آخر ملوك الدولة الشرقية في الآستانة صُنِعَ من العاج وقد نُقِلَ من الآستانة إلى موسكو بمساعي الإمبراطورة صوفيا، وهو الذي جَلَسَ عليه إسكندر الثاني يوم تتويجه.
ومما يُذْكَر بين تحف هذه الدار العظيمة سيف عثماني مرصَّع بالألماس، وسرج عربي مرصَّع أيضًا ولجام وركابات صُنِعَتْ على النمط العربي، وهي من الفضة محلاة بالذهب، وقد أُهْدِيَتْ هذه كلها إلى الإمبراطورة كاترينا الثانية من السلطان سليم الثالث، وهنالك آنية من الذهب وبقية المعادن الثمينة لا تُعَدُّ أكثرها هدايا لقياصرة الروس من أقيال الشرق والغرب، من ذلك آنية للمائدة كاملة كلها من الذهب الخالص تُسْتَعمل في ولائم التتويج، ومنضدة وسيف وديك ونسر من الفضة أُهْدِيَتْ من مدينة باريس في أيام نابوليون الأول، وقصع جميلة قُدِّمَ عليها الخبز والملح للقياصرة علامة الخضوع، وطاقم صيني من أَنْفَسِ أنواعه صُنِعَ في معمل سيفر المشهور، وأهدي من نابوليون الأول لإسكندر الأول، ورأيتُ هنالك كرسي خان خيوا استولى عليه الروس سنة ١٨٧٣ وكرسي عباس ميرزا سلطان إيران أُخذ سنة ١٨٢٧، وسريرًا لبطرس الكبير كان يضطجع عليه مدَّة الحروب، وسريرًا لإسكندر الأول لهذه الغاية وسريرَين لنابوليون بونابرت وَقَعَا في قُبضة الروس سنة ١٨١٢ حين تقهقر ذلك الفاتح العظيم عن بلادهم بعد واقعة موسكو. وأمَّا ملابس القياصرة الموجودة في هذه الدار فيَعْجَز القلم عن وصفها ويضيق المقام، أذكر منها ملابس إسكندر الثالث وقرينته، وهما والدا القيصر الحالي، وهي حُلَّة من الحرير الأصفر الفاخر فوقها رسوم النِّسر الروسي بالقطيفة السوداء ولها ذيل طويل مبطَّن بالفرو الأبيض الثمين، وفي صدرها «بطرشين» إكليريكي عليه رسوم النسر الروسي والملائكة وفوقها التاج البطريركي مرصَّع بأنْفَس الحجارة الكريمة على أشكالها، وفي قمَّته نسر من الذهب فوقه صليب من الفضة، وأمَّا حُلَّة القيصرة فقد صُنِعَتْ كلها من الفضة الرقيقة وبُطِّنَتْ بالحرير الأبيض وزُرْكِشَتْ بالرسوم مماثلة لما ذكرنا عن حلة القيصر، وفوقها تاج أصغر من تاج القيصر ولكنه لا يقلُّ عنه جمالًا وثمنًا، وهذه حُلَّة ثقيلة لا يمكن للقيصرة المسير بها، ولكنَّ الأميرات التابعات لها يرفعن جوانب الحُلَّة من وراء القيصرة مدَّة وقوفها في حفلة التتويج ومسيرها القليل، وقد وضعوا هاتين الحُلَّتين داخل قباء أو مظلَّة من الحرير الأصفر المزركش بالرسوم الروسية يتدلَّى من جوانبها أهداب حريرية صفراء، وهي قائمة على عُمُدٍ رفيعة من الفضة المحلَّاة بالذهب عِدَّتها اثنا عشر، يمسك بكلٍّ منها قائد من قواد السلطنة الروسية، ويرفعون هذه المظلة فيسير من تحتها القيصر والقيصرة بأبَّهة عظيمة، وقد أوصت القيصرة الحالية في باريز على بدلة التتويج حين تُوِّج قرينها القيصر فاشتغل مهرة الرجال والنساء بها ١٢ شهرًا، وبلغ ثمنها ٤٠ ألف جنيه، والبدلة كلها حجارة من الألماس واللؤلؤ نُسِجَتْ بخيوط مستدقَّة من الذهب، وقدَّر بعضهم قيمة ما في هذا المتحف من النفائس بنحو ١٢ مليون جنيه.
وقد أشرتُ مرارًا إلى حفلة التتويج كما ترى، فرأيتُ هنا أن أوضِّح بعض الشيء عنها؛ لأنها أكبر ما يأتيه البشر من أنواع الأُبَّهة ومظاهر العظمة والفخامة في الحفلات الكبرى، وكانت زيارتي لبلاد الروس في أيام القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي، فاخترت أن أصفَ كيفية الاحتفال بتتويجه؛ لأن نظام هذه الحفلات يتغيَّر قليلًا بحسب مطالب الزمان ورغائب القيصر، ولو أنَّ الأشياء الجوهرية تظلُّ على حالها، وأمَّا إسكندر الثالث فإنه جاء ليتوَّج في موسكو مع عروسه في قطار خاص يتقدَّمه قطاران، أولهما رائد الطريق والثاني فيه بعض الأعوان والعمال، وكانت الطرق كلها تحرسها الجنود الروسية والمحطات مزدانة أبهى زينة، وفيها الجنود أيضًا يؤدُّون التحية العسكرية ويضجُّون بالدعاء كلما مرَّ القيصر بواحدة منها حتى إذا وصل القطار الملكي موسكو أُطلقت المدفع، وَجَرَتْ رسوم الاستقبال العظيم، وسار القيصر والقيصرة إلى سراي بتروفسكي من الضواحي في طرق زُينت أفخر زينة، وكانت المدينة كلها يومئذٍ في فرحٍ عظيم وفيها من الناس ألوف فوق ألوف جاءوا من كلِّ صقع بعيد؛ ليروا أعظم الحفلات الملكية وكانت هذه الألوف تصيح بالدعاء وتطأطئ الرءوس تجليةً وإكرامًا أينما سار القيصر العظيم. وبات القيصر والقيصرة تلك الليلة في قصر بتروفسكي الذي ذكرناه، وهي عادة جرى عليها القياصرة من أول هذا القرن تذكارًا لخروج نابوليون بونابارت منه، فإنه جعله منزلًا له مدَّة وجوده في موسكو محاربًا للروس، ولمَّا بدأ الصباح التالي قامت موسكو عن بكْرَة أبيها لتحتفل بيوم التتويج، فما كنتَ ترى إلا جنودًا وقوادًا وأمراء وسفراء ووزراء ونوابًا وأهل مقام كبير يخطرون بالحُلَلِ الفاخرة وسيدات من كلِّ نوعٍ وملَّة يتهادَين بجميل الملابس ويتفاخرون بنفيس الحلي والجواهر، وقد تراكمت ألوف الناس بعضها فوق بعض وامتلأت الطرق بهم وبالرياحين والأزهار والطنافس والرايات وغيرها من أدوات الزينة، وما بقي سطح ولا شُرْفَة ولا نافذة حتى احتشد الجمْعُ فيها بلَهْفَة وشَوْق إلى رؤية الموكب العظيم، حتى إن البيوت والأماكن الواقعة في الشوارع التي مرَّ منها الموكب استأجرها أهل اليسار بالمال الكثير، ودَفَعَ بعضهم خمسة آلاف ريال أو تزيد أجرة موضع تقعد فيه العائلة وتطلُّ على ذلك الموكب حين مروره.
يا ربِّي وإلهي، يا ملك الملوك، إنِّي أَعْتَرِف برأفتك وإشفاقك، وأنحني خضوعًا أمام مجدِك العظيم؛ لأنك اخترتني ملكًا وقاضيًا للسلطنة الروسية المظفرة، فاجعل الحكمة السائدة في عرشك أن تهبط عليَّ من علوِّ قدسك حتى آتي الذي يروق في عينيك، وأفهم كلَّ ما ينطبق على أوامرك، وليكن قلبي مودَعًا بين يديك الطاهرتين وأهِّلني لعمل ما يفيد الأمَّة العظيمة التي أقمتني رئيسًا لها، على أنْ أقدم الحساب عنها في يوم قضائك الرهيب آمين.
هذه صورة القسم العظيم يتلوها القيصر وهو راكع والناس وقوف خاشعون، حتى إذا انتهى من تلاوتها نَهَضَ ورَكَعَ الحاضرون جميعًا إلى أن يتمَّ الاحتفال الديني، ولمَّا فَرَغَ القيصر من القسم تناوَلَ تاجه من يد رئيس الأساقفة ولبسه علامة أنه هو رئيس الكنيسة الروسية، ثم تناول تاج القيصرة ووضعه على رأسها أيضًا، فتقدَّم رئيس الأساقفة ودَهَنَ رأس القيصر ويديه وجبينه بالزيت المقدَّس، وباركه وبارَكَ القيصرة، وتلا صلاة وجيزة ثم رفع يديه مبتهلًا شاكرًا الله، وتمَّ بذلك الاحتفال، فنهض الجمْعُ الغفير، ودقَّت أجراس الكنائس كلها وأولها جرس كنيسة فان فلكي، وعدد هذه الأجراس لا يقلُّ عن ألف وخمسمائة ثم أُطلق مائة مدفع ومدفع، وَهَتَفَت الجنود بالدعاء، وصاحت جماهير الناس وألوفهم المؤلَّفة بأصوات الفرح والابتهال حتى إذا اشتدَّ قَصْفُ المدافع ورنَّة الأجراس كلها اختفت عند تلك الأصوات الكثيرة والضجَّة الهائلة، وعاد القيصر ومَنْ معه في وسط تلك الأصوات المتصاعدة إلى السماء فدخل القصر المشهور واستقرَّ به المقام في قاعة القدِّيس أندراوس — التي ذكرناها — وفي صدرها العرش جلس فوقه والقيصرة عن يساره، وهنالك جاءت وفود المهنِّئين والذين يقدِّمون علامات الخضوع خبزًا وملحًا، وطال المقام لكثرة القادمين من أصحاب المراكز الكبرى حتى جاءت ساعة الطعام فدخلوا قاعته وهم لا يقلُّون عن ثلاثمائة شخص من أكبر كبراء الأرض والقيصر في أولهم، وفي المساء زُيِّنَتْ موسكو زينة باهية باهرة، وظلَّت الحفلات والولائم والأفراح قائمة بعد ذلك ثمانية أيام عاد من بعدها القيصر إلى العاصمة، وانتهى بذلك الاحتفال بتتويجه.
وبعد أن خرجتُ من هذا القصر سِرْتُ في الطريق الذي اتبعه الموكب إلى كنيسة الصعود التي يتمُّ فيها التتويج، ورأيتُ غيرها من كنائس موسكو العظيمة، وهي كثيرة العدد أخاف إنْ أقدمت على وصفها أن يطول الشرح إلى فوق ما يمكن إيراده، ولكنني أقول هنا بالاختصار إن كنائس موسكو تُعَدُّ في الطبقة الأولى من الأهمية بين الكنائس، يكثر فيها الذهب والرُّخَام وأبواب الفضة والهياكل والمذابح من الفضة أيضًا، وفيها صور ثمينة كلها مرصَّعة، أذكر منها صورة العذراء في كنيسة الصعود هذه يقولون إنها من صُنْعِ لوقا الإنجيلي، نُقِلَتْ من الآستانة إلى كنائس روسيا في القرن الثاني عشر، ولا يقلُّ ثمنها وثمن جواهرها عن خمسمائة ألف ريال روسي، وصورة أخرى هنالك للسيد المسيح يحافظون عليها كلَّ المحافظة، ولا يراها إلا القليلون في بروازها حجارة ثمينة من هدايا القياصرة لا تقلُّ قيمتها عن نصف مليون ريال أيضًا، ومذبح هذه الكنيسة من الذهب الخالص صُنِعَ على شكل جبل طور سينا، وفي أعلاه صورة الكليم موسى حاملًا ألواح الشريعة، ولا يقلُّ ثمن هذا المذبح عن خمسين ألف جنيه.
ويقرب منها كنيسة على اسم رئيس الملائكة، فيها مدافن لبعض قياصرة الروس الذين توفُّوا في موسكو يزورها كل قيصر يأتي هذه المدينة بعد الاحتفال بتتويجه، ولكنه لا يقف في الكرسي المعَد له، بل بين هذه المدافن عِبْرَة وذكر.
ومن ذلك كنيسة العذراء العجائبية يزورها كلُّ قيصر يأتي موسكو أيضًا، ولا يمرُّ بها روسي إلا وهو يرسم الصليب على وجهه، فيها صورة العذراء داخل إطار غالي الثمن نفيس الحجارة، وأصل الصورة من دير طور سينا، والناس يعتقدون بكرامة هذه الأيقونة ويقدِّمون لها النذور الكثيرة، وقد يطوف الكهنة بها في عربة فاخرة تجرُّها أفراس ستة فيدخلون بها بيوت المرضى، ويجلُّ القوم مقامها إجلالًا عظيمًا ويتبرَّكون بحضورها، فإذا قابلوها في طريق طأطئوا الرءوس ورفعوا القبَّعات، وفي موسكو غير هذا من الكنائس ما ليس يمكن لنا الإشارة إليه بعد الذي تقدَّم ذكره.
ورأيتُ في موسكو ساحة الأعمال الحربية، وهي على مقربةٍ من هذه الكنائس، فيها ركام متراكمة من المدافع القديمة يبلغ عددها ٨٧٥ مدفعًا، منها ٣٦٦ تركها نابوليون الأول عند تقهقره من بلاد الروس، وعلى بعضها الحرف الأول من اسمه، وهناك مدافع نمسوية وبروسيانية وبولونية وبافارية وهولاندية وأسوجية، وكلها من غنائم الحروب السابقة، وأعظمها مدفع مسكوبي من أيام القيصر فيودور الأول يُقال له أبو المدافع وزنه ٣٩٠٠٠ كيلو وقطره متر، ويَلْزَم لكلِّ طلقة من طلقاته ٢٠٠٠ كيلو من البارود.
ومما رأيتُ في موسكو متحف الصور، وأكثره رسوم تمثِّل حوادث التاريخ الروسي، فإنِّي لمَّا رأيتُ صورة حصار بلفنا مثلًا، وقائد الجند الروسي سكوبلف يخطر على جواده بين الصفوف بعد تسليمها، ذكَّرني ذلك بما كان من بسالة الجنود العثمانية والروسية في ذلك الحصار المشهور، وما جرى للغازي عثمان باشا من الإكرام بعد أنْ سلَّم للروس وصار أسيرًا عندهم، فإن القيصر إسكندر الثاني وقواد جيشه رأوا أنَّ هذا البطل العثماني أظهر بسالة خارقة في الحصار، فأحبُّوا إظهار إعجابهم بصفاته وأرسل القيصر وراءه، وهو أسير فجاء في طريق اصطفَّ جنود الروس إلى جانبيه، ولمَّا دخل مضرب القيصر وجده واقفًا بين قُوَّاد جيشه الظافر، فحيَّاه القيصر ولاطفه كثيرًا وهنَّأه بإقدامه الغريب ثم ردَّ إليه سيفه، والأسير لا يُرَد إليه السيف إلا علامة الإكرام العظيم فقَبِلَه البطل العثماني شاكرًا، وخرج من خيمة القيصر فصاح الجنود الواقفون في الطريق «برافو عثمان»، معجَبين ببسالته وشَكَرَهُم هو على ذلك اللطف، فكانت حكاية بلفنا من أجمل حكايات الحروب الحديثة.
وقصدتُ بعد ذلك موضعًا في الضواحي يسمُّونه جبل العصافير، سِرْتُ إليه في عربة فوصلتُهُ بعد ساعتين، ورأيت هنالك خلقًا كثيرًا من المتفرِّجين، وسفح هذا الجبل عند نهر موسكوفا، ثم تتعالى جوانبه شيئًا فشيئًا حتى تناطح السحاب وكلها مكسوة بالشجر البهي كالسنديان والصنوبر، فلمَّا ارتقينا القمَّة رأينا موسكو تحت أنظارنا والنهر ملتفٌّ بها متعرِّج بين جوانبها، ومن ورائها هاتيك السهول الفسيحة والأغراس البهيَّة وذكرتُ ساعتئذٍ أن بونابارت استطلع المدينة حين قدومه لمحاربتها من هذا الموضع، ولعلَّ ذلك البطل الذكي لمَّا رأى حصون موسكو وقبابها وعظمة ما فيها حدَّثته النفس بالرجوع عنها مدحورًا، فإنه كان سريع الخاطر كثير الإصابة فيما سيكون من ارتداده عن بلاد الروس بالخيبة، وكانت حملته عليها بدء سقوطه وضياع سلطته، فذكَّرني ذلك بما كان يقوله لقواده وهو ذاهب إليها: «لأفعلن ما أريد»، وأمَّا في عودته فقال لهم: «افعلوا ما تريدون.» وعُدْتُ إلى المدينة في المساء في النهر، فعند وصولي قابلني صديق لي هو مدير شركة الكسييف التجارية العظيمة، ذهبتُ معه إلى مطعم أرمتاج، وهو محل فخيم يُنار بالكهربائية، وكل ما فيه روسي محض، فإن ألوان الطعام روسيَّة والخَدَمة يلبسون ملابس الروس القديمة، وهي سراويل ضيِّقة بيضاء وسترة بيضاء واسعة الأكمام وقبَّعة صغيرة بيضاء أيضًا، فكان لهذه المناظر البهيَّة ولصوت الموسيقى تأثير مطرب وأثر جميل، وأهل المدينة يقصدون هذا المطعم الفاخر لإحياء الليالي وعمل الولائم والأعراس، وفيه استعداد تام لكلِّ ما يلزم من هذا القبيل، وغرف لكلِّ أمر ومَطْلَب حتى إن السمك يوجد في بِرْكَة حيًّا، والمرء يختار السمكة التي يريدها فيصطادونها ويطبخونها له في الحال.
وقد سِرْتُ مع هذا الصديق في اليوم التالي لزيارة كنيسة المخلِّص، وهي من أعظم الكنائس وأبهاها، بُنِيَتْ فوق أكمة تُشْرِف على المدينة ولها قباب مذهبة بديعة الأشكال بناها القيصر نقولا الأول تذكارًا لخلاص البلاد من الفرنسويين، وبلغت نفقات بنائها عشرين مليون ريال، جُمِعَتْ بالاكتتاب من مدن روسيا، وقد اشتغلوا ببنائها ٤٤ سنة، والذي فيها من الصور الثمينة والأنوار البديعة والجوانب المزخْرَفة يفوق الوصف، وفيها خمسة آلاف نور. وكنيسة أفان فليكي في برجها ٣٤ جرسًا، صُنِعَ أكبرها من بقايا أجراس قديمة بعد حريق موسكو سنة ١٨١٢ وزنه ٦٨٣٩٠ كيلوجرامًا، وعليه صور الإمبراطور إسكندر الأول وبعض أعضاء عائلته، وهو يُقْرَع مرتين في السنة — أي يوم عيد الميلاد ويوم عيد الفصح — ويُقْرَع أيضًا عند التتويج أو عند حدوث حادث في السلطنة عظيم كوفاة قيصر أو ما يشبه هذا، وأعظم منه — بل هو أعظم أجراس الدنيا — الجرس الكبير الملقى إلى الأرض على مقربةٍ من هذا البرج، وضعوه في قبَّة متينة فسقطت من ثقله، علوه ٨ أمتار ومحيط فوَّهته ٢٤ مترًا، فيمكن لعشرين شخصًا أن يجتمعوا داخله، وعليه نقوش دينية ورسوم بعض القياصرة، ويُؤخذ من كتابة عليه أن الإمبراطورة حنة صبَّته سنة ١٧٣١ ويبلغ وزنه ١٩٥٠٠٠ كيلو.
وقد ذكرنا أنَّ القياصرة إذا أتوا موسكو للتتويج باتوا في قصر بتروفسكي تذكارًا لخروج نابوليون منه، وهو بات فيه ليلة اندحاره وتقهقره عن موسكو، ومما يُذْكَر عنه أنه جاء بلاد الروس ومعه ١٥٠ ألف جندي، فلمَّا خرج من موسكو كان معه ٤٠ ألفًا فقط، وذلك بسبب ما أصاب هذا الجيش من هجمات الروس والبرد الشديد وتراكم الثلج وقلة الزاد، وقد مات هذا الخلق الكثير — أي مائة وعشرة آلاف — في ثلاثة أيام فقط من ١٩ إلى ٢٢ أكتوبر سنة ١٨١٢، فسِرْتُ إلى هذا القصر في سهل فسيح تحيط به الحدائق الغنَّاء والرياض الفيحاء، ووراءها ساحة التمرينات العسكرية وميدان لسباق الخيل ومتنزَّهات وقصور جميلة، حتى أتينا القصر ورأينا جوانبه، ولا حاجة إلى الوصف والإسهاب بعد كلِّ الذي كتبناه عن قصور القياصرة العظام.
وجملة القول أنِّي شُغفت بهذه المدينة وآثارها العظيمة، فما أبقيت منها شيئًا حتى قصدتُّه، ولمَّا انتهى الأجل وعوَّلت على الرحيل منها غادرتُهَا وقصدتُ غيرها من مدائن الروس.
كييف
اجتاز القطار بنا المسافة بين المدينتين في ٢٧ ساعة قضينا معظمها نخترق الهضاب والبطاح، ونسرح الأنظار في تلك المروج النضرة والحراج الغضَّة والحقول الفسيحة مرصَّعة بالقرى والعمائر، وفيها الفلاحون بالجبات الطويلة والجزم الروسية المتينة، والنساء بملابس من الشيت يعملن في إنبات الأرض واستدرار خيرها على مهل، والرزق متوفِّر لديهم بما نالوا من خصب الأرض وطيب الهواء. وكييف — ولا يخفى — كانت عاصمة الروس قبل موسكو، وهي تُعَدُّ مدينة مقدَّسة عند القوم؛ لأن النصرانية امتدَّت منها إلى بقية نواحي المملكة، وفيها مناسك الأولياء ومعابد قديمة العهد، وهي عاصمة إقليم كبير بُنِيَتْ على ضفَّة نهر دنيبر العظيم، وهم يسمُّونه نهر أورشليم؛ لأن الذين اعتنقوا الدين المسيحي عند دخوله البلاد تعمَّدوا في مائه، ولمنظرها جمال تحفظه الذاكرة؛ لأن أحياءها واقعة على تلال وآكام، تليها عقبات وساحات، وهي مشهورة بتجارة الغلال؛ لأنها مثل أكثر مدائن الروس في وسط سهول تكثر فيها الزراعة.
ومن أشهر ما في كييف الدير القيصري وكنيسته والمغارات المقدَّسة إلى جانبه، وهو على رأس أكمة بديعة قصدناه ودخلنا تلك المغائر الضيقة، فرأينا فيها مدافن المتعبِّدين الأُوَل توقد الشموع إلى جانبها ليل نهار، وللناس ولع بزيارة هذا الموضع حتى إنهم لا يقلُّون عن مائتي ألف زائر كل عام، وفي هذا الدير مدرسة لاهوتية ومطبعة وفرن للقربان المقدس، بلغ ثمن ما وزِّع منه على الزائرين في سنة واحدة خمسين ألف ريال، وفيه كنيسة كأنها قطعة من الذهب لكثرة ما ذهَّبوا من جوانبها، وقد أَوْدَعوا فيها عظام القديس ثيودوسيوس، وهنالك موضع بسيط لا أثر فيه للعظمة غرسوا فيه صليبًا وإلى جانبه بِرْكَة من الماء يحترمهما الروس احترامًا عظيمًا؛ لأن هذا الموضع كان أساس النصرانية في البلاد وأول من تنصَّر من أهلها عُمِّد في تلك البِرْكَة، فهم يتبرَّكون بمائها وينقلونه إلى أبعد الأنحاء، وأكثر ما في كييف مناظر مثل هذه لست أرى داعيًا إلى الإسهاب في وصفها، وعدد سكانها ثلاثمائة ألف نفس.
أودسا
تركتُ كييف قاصدًا أودسا وهي مدينة للروس عظيمة في الجنوب على شاطئ البحر الأسود، تبلغ المسافة بينها وبين كييف ١٦ ساعة في القطار، ولا يصل المسافر من بطرسبرج إليها إلا بعد سفر ستين ساعة في القطار المستعجل يجتاز في خلالها ١١ إقليمًا، وفي هذا ما يكفي للدلالة إلى اتساع بلاد الروس وعظمتها، والطريق إلى أدوسا لا يختلف في وصفه عما مرَّ ذكره من مناظر البلاد الروسية، ولكنَّ المدينة عظيمة الأهمية، والمتاجر يصدر منها في كلِّ عام من الحبوب ما قيمته مائة مليون ريال، وفيها معامل للنشا وللصابون والحديد والجلد والدخان والشمع، ومعامل لبناء السفن التجارية والحربية، ولا يقلُّ عدد السفن التي تدخُلُ ميناءها كل سنة عن ستة آلاف سفينة. ولهذه المدينة تاريخ قديم مثل كييف، فإنها بُنِيَتْ على عهد كاترينا الثانية، وأتاها في سنة ١٧٩٠ فرنسوي هو الدوك ريشليو هجر بلاده لأسباب سياسية، فعُيِّن حاكمًا لها ونظَّمها ورفع منزلتها، فصارت من أيامه تعدُّ من أمهات المدائن الروسية، وهي الرابعة بين مدن روسيا الكبيرة الآن، وعدد سكانها نصف مليون من النفوس.
وأعظم مشاهد أودسا محل يشبه منشية الإسكندرية في شكله ووضعه، وهو إلى جانب البحر ترى منه البواخر الراسية أو السائرة في كلِّ الجهات وقسمًا عظيمًا من المدينة، وهو مثابة الكبراء من أهل أدوسا ينتابونه في الليل والنهار، وفيه مطاعم ومواضع للتنزُّه من كلِّ جانب، ويلي هذا الموضع البهي بناء البورصة والمكتبة العمومية ونادي الأشراف ومركز شركة البواخر الروسية والمرسح الجديد، وغير هذا مما أكتفي بالإشارة إليه، هذا غير الضواحي الجميلة والقرى الكثيرة المحيطة بهذه المدينة، مما قضيتُ ردحًا من الزمن في التفرُّج عليه إلى أنْ آن زمان السفر من بلاد الروس فتركتها معجبًا بما فيها.