سويسرا
خلاصة تاريخية
عُرِفَتْ هذه البلاد من أيام الرومانيين باسم هلفتيا، واشتُهر أهلها من قِدَمٍ بالبأس والجُرْأَة والتفاني في طلب الحرية والدفاع عن الاستقلال، ولم تزل هذه صفاتهم حتى يومنا، وهم ما نالوا استقلالهم الحالي إلا بعد حروب كثيرة واقتحام الأهوال مدة القرون الطوال، وكان من أمرِ هذه البلاد أن برابرة الأوروبيين الأُوَل مثل الغوث والألمان والفرانك وسواهم دخلوا أرضها وعاثوا فيها فسادًا بعد انحطاط الدولة الرومانية، فظلَّت في حوزتهم أجيالًا، ولم تزل آثار الرومانيين ظاهرة في القسم الجنوبي من البلاد، وأمَّا القسم الشمالي فألماني اللغة والشرقي فرنسوي، والكل جمهورية واحدة تعدُّ في مقدمة الجمهوريات اعتدالًا وانتظامًا. ولمَّا قامت مملكة شارلمان كانت سويسرا من أملاكه ثم انفصلت عن فرنسا وصارت من ولايات النمسا أو ألمانيا، وحصلت بين أهلها وبين ملوك النمسا حروب كثيرة في القرون الوسطى، اشتُهر فيها رجل اسمه غليوم تل، والمرجَّح في الأذهان أنَّ قصته وهمية، ولكنَّ الألسن تداولتها في كل بلاد حتى أضحت من أمور التاريخ المشهورة، وخلاصتها: أن هذا الرجل كان من زعماء المحاربين للنمسا طلبًا للاستقلال، فَظَفَرَ به يومًا الحاكم النمسوي وأراد تعذيبه بقَتْلِ ابنه، وكان غليوم تل من المشهورين بالرماية وله ولد وحيد تعلَّق على حبه، فقال له الحاكم إنه لا يطلق سراحه إلا إذا رمى تُفَّاحة تُوضَع على رأس ابنه بسهم يصيبها ولا يقتل الولد، وكان في ذلك خطر عظيم على الولد والوالد معًا، ولكن غليوم تل أصاب التفاحة ولم يؤذِ ابنه، وهي قصة تمثَّل على المراسح الأوروبية في كل مدينة.
وكان من وراء هذه الحروب أن ملوك النمسا رضوا باستقلال الولايات السويسرية واحدة بعد واحدة مع بقائها تابعة اسمًا للدولة النمسوية، فقويت هذه الولايات بالاتحاد حتى إنها فازت في الحرب على إمبراطورة النمسا وعلى ملوك فرنسا، وكانت سويسرا بلادًا مُهَابة قوية في بدء القرن السادس عشر، فما اجترأ أحد على العبث باستقلالها من ذلك الحين حتى قام نابوليون بونابارت وغيَّر نظامها كما فعل بغيرها، ولكنها عادت إلى حالها الأول بعد سقوطه، وحدثت من ذلك الحين ثورات وقلاقل كثيرة انتهت بحرب أهلية في سنة ١٨٤٨ نظمت من بعدها الجمهورية الحالية على مثل ما تراها اليوم وعاصمتها مدينة برن في وسط البلاد، ورئيس الجمهورية يُنْتَخَبُ كل سنة وراتبه لا يزيد عن ستمائة جنيه في السنة، وهو يرأس مجلسًا للنُّوَّاب يقضي مصالح الأمة عامة، وأمَّا مصالح الولايات الخاصة فتقضيها مجالس محلية في كل ولاية. ويُقال بوجه الإجمال إن حكومة سويسرا من أنظم الحكومات وأهلها من أرقى أهل الأرض عقلًا وأكثرهم علمًا؛ فإن مدارسهم في الطبقة الأولى من التقدُّم وصناعتهم مُتْقَنَة ومشهورة، وهم أهل نشاط وهمَّة تليق ببلادهم الجبلية التي تكثر فيها العظائم والمحاسن الطبيعية إلى حدٍّ يفوق التصديق، ولهم أمانة تُضْرَب بها الأمثال، فقد كان ملوك أوروبا لا يستخدمون لحراستهم الخاصة وحراسة ذويهم غير رجال سويسريين؛ لأنهم اشتُهروا بالبسالة والأمانة، وهم من أقلِّ الناس ميلًا إلى الحيلة والخديعة وأكثرهم حبًّا للغريب وصدقًا في المقال، فلا عجب إذا كثر السائحون في سويسرا، وهي جنة أوروبا ومنتزه السراة من أهلها، ما دام أن البلاد كلها محاسن بديعة وهذه طباع أهلها المشهورة.
وأمَّا عدد سكان هذه البلاد فقد كان في بدء القرن الحالي ٣٣١٣٠٠٠ نفس ومساحتها ١٥٤٦٥ ميلًا مربعًا.
سان غوثار
وماذا أقول عن محاسن هاتيك الربوع التي يخترقها القطار في خط سان غوثار، وأنا لو أوتيت مقدرة أعظم الواصفين ما قدرت على عُشْرِ معشار الذي يليق بعظمة هذه المناظر الفخيمة، وهي مقصد الطلاب ومطمع الروَّاد من كلِّ بلاد فإن قوى الطبيعة كلها تضافرت وتعاونت هنالك وعرضت من أنواع الحسن الباهر ما يخلب الألباب ويفتن الأنظار فبين أنت في ذيالك القطر العجيب تسير في سهل دبَّجته يد الطبيعة بأشهى الأعشاب وأبهى أنواع الزهر والشجر الباسق إذا أنت على ضفة جدول لمائه خرير يلذُّ للسمع، وقد راق زُلاله ورقَّ استرساله ورُصعت جوانبه بوشي من الخُضْرة وأشكال الزهر الغريب، تحملك على الظنِّ أنك في ديار النعيم حتى إذا ضاع فكرُكَ في التأمُّلِ ببدائع هذا السهل رأيتَ أنك فوق جسر عظيم يمتدُّ من جبلٍ إلى جبل، كأنما هو معلَّقٌ بينهما وتحته الوادي تجري فيه الأنهار، فإذا ما اجتزت ذلك الجسر سرت إلى جانب المجرى سيرًا متعوِّجًا متعرِّجًا، كأنما القطار أفعى تنساب بك ما بين تلك المروج البهيَّة والضفاف الشهية، وتقع في حيرة إلى أيِّ الجانبين تحوِّل الأنظار، إلى جانب الوادي وما يليه من خضرة نضرة ومنازل رُصِّعَت بها الجوانب ترصيعًا، وقد التفَّت من حولها الأغصان على شكلٍ بديعٍ وماءٍ ينسيك متاعب الدهر وأحواله، أمْ إلى الجانب الآخر، حيث قام جبل شاهق باسق في قمته سحاب تتساقط منه كرات المطر كأنما هي اللؤلؤة والدر على تلك الأعشاب الندِيَّة، ومن دون السحاب ثلج يجلِّل قمة الجبل ويزيده مهابة وجمالًا، ومن دون الثلج صخور بينها شجر تحنُّ النفس إلى ذكر مثله وتصبو إلى التظلُّل طول العمر بفيئه، لا سيما وقد جرت من بين تلك الصخور والجبال جداول ماء معين يتدفَّق في هاتيك المسالك البهيَّة تدفُّقًا يروق للناظرين، ويتساقط من سفح الجبل فيريك أعجب ما رأيت من أشكال الجنادل، وهي تغيب آونة وتظهر أخرى ما بين المسالك التي يتعشَّق القلب ذكرها وتمثِّل للرائي منتهى العزِّ وحدَّ الإعجاز في الجمال.
لوسرن
وظللت ثمان ساعات في القطار يخترق الأراضي السويسرية، وقد وددتُ لو تكون ثمانين، حتى وصلت مدينة لوسرن، وهي من أشهر مدن هذه البلاد وأوفرها جمالًا بُنِيَتْ في وسط جبال، بدائعها لا تُوصف، مثل أكثر مدن سويسرا، وإلى جانبها بحيرة تُعْرَفُ باسمها اشتُهرت أيضًا بحسنها الفائق، وطول هذه البحيرة ٢٣ ميلًا والعرض يختلف ما بين نصف ميل وميلين وعمقها ٧٠٠ قدم، ولها مَزِيَّة على أكثر البحيرات السويسرية في أنها لا تجمد مدة الشتاء، كما أن لوسرن لها مزية باعتدال الهواء وجودته، فلا عجب إذا أضحت كعبة السائحين يفِدُون إليها ألوفًا مؤلَّفة في كل عام، وينفقون فيها الأموال الطائلة ويجدون ما يسرُّهم سواءٌ من محاسن الطبيعة التي تصبو إليها النفوس أو من اجتهاد الحكومة والأهالي في تحسين ما عندهم، فإن الفنادق والمخازن كلها مُتْقَنَة، والمعاملة مع السويسريين ليس فيها شيء من التعقيد ولا خوف على السائح من الغَبْنِ وسوء المعاملة، هذا غير أنَّ المجلس البلدي لا يفْتُرُ عن إعداد وسائل الراحة للسائحين حتى إنه أنشأ مكتبًا خاصًّا لخدمتهم، فيه المترجمون يتكلَّمون بكلِّ لسان ويرشدونهم بلا أجرة إلى كل حاجة. وأهل لوسرن مثل أهل سويسرا كلهم يتعلَّمون الفرنسية والألمانية في مدارسهم؛ لأن البلاد قسم ألماني وقسم فرنسي، فأمَّا القسم الفرنسوي فأهمُّ ما فيه مدينة جنيف، وهي واقعة على ضفَّة بحيرة جميلة تُعْرَفُ باسمها، طولها ٤٥ ميلًا وعرضها ٨، وقد امتازت هذه البحيرة بصفاء مائها وزُرْقَتِها، وهي تمخر فيها الباخرات الحسناء بين المدائن الواقعة على شواطئها، مثل أفيان وففيه ولوزان، وكلها من المصايف المشهورة. ويحيط بهذه البحيرة جبال بهية يصطاف بها أكابر البلاد والسائحين، وفي أكثرها قصور لبعض الأغنياء. ولجنيف شُهْرَة بمدارسها الجامعة، يقصدها الطلاب من كل الأنحاء، وفيها معامل كثيرة للساعات والآلات الموسيقية — وسنعود إليها في فصل يجيء — وأمَّا القسم الألماني فأهمُّه لوسرن التي نحن في شأنها.
وأعظم متنزَّهات لوسرن البحيرة وما يحيط بها من آكام أو جبال بُنِيَتْ فوقها القصور، أو طرق زُرِعَتْ إلى جانبيها الأشجار أو حدائق رُصِّعَت ببدائع الأغراس، أو شوارع مُلِئَتْ بالفنادق والمخازن الكبار، وعلى ضفَّة البحيرة رصيف طويل فيه شجر من الدلب تطاولت جذوعه وتشبَّكت فروعه، والناس يحتشدون في جوانب الرصيف ويسمعون شجي الأنغام، ينقلون الطرْف من البحيرة إلى ذلك الشجر وما يليه من محاسن المدينة، ولا عجب أن يكون أهل سويسرا أصحاب ذكاء متوقِّد ومناظر حسنة ما دامت بلادهم هذه حالها وهذه مناظرها. ولقد ركبتُ مرة إحدى البواخر الكثيرة التي لا تزال طول النهار وبعض الليل بين ذهاب وإياب في جوانب البحيرة الشهيَّة، وكانت الباخرة تقف حينًا بعد حين في مواقف ما رأت العين أجمل منها، وتدور بين مروج خضراء وجبال سحيقة شمَّاء لتصل أطرافها بالسماء وحدائق فيحاء غَنَّاء، وضياع وعمائر كُتِبَ على جبين أهلها الرغد والهناء، وأُتْقِنَ ما فيها من طريق وبناء، فما ترى أينما سِرْتَ إلا مناظر تتلو المناظر وكلها آيات في الحسن بينات، ينفرج أمامك المجال حينًا ويضيق بعد حين، فإن الباخرة التي كنتُ فيها وصلت في سيرها إلى موضع ضيِّق خُيِّلَ لنا منه أنَّ السفينة حُصِرَت بين أربعة جبال شاهقة، ولم يبقَ لها مَخْرَج من ذلك الموقف، فما عتمتْ أن دارت حول جبل من تلك الجبال الشهية، فإذا نحن في بحيرة أخرى، وقد اتسع المجال ورأينا المرابع والمراتع في كل جانب، والأبقار الضليعة ترعى على مهل يقودها صبيان على أبدانهم دلائل العافية والحبور، وقد رقدوا على العشب الندي يتأمَّلون محاسن ما أوجد الله لهم أو يتغنُّون ويُسْمِعُون أصواتهم للمارَّة في قطر الحديد والباخرات الطافية على وجه تلك البحيرة الصافية، وقد يبيعون الأزهار البرية للسائحين، وهنالك رجال ونساءٌ لا يعملون في مزارعهم المُتْقَنَة بما اشتُهر عن أهل هذه البلاد من الاجتهاد، والكلُّ يحرثون الأرض وينقبون، وملابسهم نظيفة ووجوههم طلقة لا ترى عليهم دلائل الهمِّ والقلق؛ فإن حكومتهم عادلة غير جائرة والضرائب المفروضة عليهم يسيرة غير رابية وأسواقهم — حيث تباع حاصلات الأرض — رائجة غير كاسدة، فما عليهم من همٍّ ولا هم يحزنون. وهنالك ترى خطوط الحديد إلى جانب الماء تمرُّ عليها الأرتال وقد أطلَّ المسافرون من كلِّ كوة أو نافذة يُسَرِّحون الطَّرْفَ في تلك المناظر الشهيَّة حتى لا يغيبَ عنهم جمال شبر من أشبار الأرض، وسكة القطار كلها مرصوصة بالحصى والأرض، يرطِّبها المطر المتوالي لا ينقطع في الصيف أو في الشتاء، فالسفر هنالك لذَّة، لا غبار يعمي الأبصار ولا رجرجة تضني الأجسام وتذهب بالاصطبار، ولا مراقبة مستمرَّة على التذاكر ولا تفتيش في كل حين تتألَّم منه الأفكار، فلا عجب إذا كان السفر في أرض سويسرا الحسناء لذَّةً، والإقامة فيها نعيمًا تتوق إليه النفوس.
وقد وقفت بنا الباخرة في محطة غليوم تل — سُمِّيَتْ باسم هذا الرجل الذي ذُكِرَ في المقدمة التاريخية — فرأينا فيها بنات لابسات الزي السويسري القديم يُنْشِدْنَ النغم الوطني، وسِرْنَ في الباخرة إلى آخر البحيرة معنا وهنَّ دائبات على الإنشاد، وعُدْنَا في آخر النهار إلى لوسرن ونحن نُسَرِّح الأنظار في تلك الجبال الفخيمة، وهي ما بين مخروطة ومنبسطة ومتشعِّبة ومستدقَّة، وكلها تكسوها الأعشاب وحراج الشجر البهي وتتساقط من جوانبها جداول الماء، وفوق بعضها الجسور المعلَّقة بين طرفين من أطراف الجبل يمرُّ عليها الناس، ومن دونهم ما لا ينسكب بين هاتيك الشِّعَاب الغريبة، وأجمل ما يكون في سويسرا منظر بحيراتها وجبالها المشهورة.
وأمَّا الجبال المحيطة بلوسرن فكثيرة، منها جبل بورجستوك ذهبنا في باخرة إلى محطة في أسفله، وارتقينا قمته في قطار يسير صعدًا بسير رويدًا وهو يتعرَّج وينثني بين مسالك الجبل، وقد صنعوا له دواليب مشبَّكة في وسطه غير الدواليب التي تسيِّره فوق قضبان الحديد، وفائدة هذه الدواليب المشبَّكة أنَّ أسنانها تردُّ القطار عن أنْ يهوي ويتدحرج إلى الوراء مدة سيره بالصاعدين، وكان في أعلى الجبل آلة بخارية تساعد في جرِّ القطار وقد رُبِطَتْ إليه بسلسلة من الحديد قوية، ولا حاجة إلى القول إن السفر على هذه الطريقة يسْحَرُ الألباب بجماله وغرابته ولا سيما إذا أطلَّ الراكب ورأى ما فوقه وما دونه من عجيب المناظر الطبيعية، وشعر كأنه صاعد في السحاب من بين شقوق الجبل البهي. والجبل منظَّم الطرق في أعلاه ترشُّ جوانبه بالماء وقد صُفَّت الأغراس فيه صفوفًا بهيَّة، وبُني محل للتلفون وآخر للتلغراف يوصلان الموضع بلوسرن وبقية الأرض وفيه فنادق والموسيقى تصدح بالأنغام الشجيَّة عصاري كل يوم، فما أحلى التنقُّل في تلك القمة الشمَّاء وقد ترقرق ماء البحيرة من دونها، وقامت شوامخ الجبال الراسيات وبدائع المحاسن المتناسقات حوله من كلِّ جانب، حتى تمثِّل لك صورة الهناء والنعيم. ولقد قضيت في ذلك الجبل ساعات ثم انحدرت إلى سفحه وعُدْتُ إلى المدينة، فقصدتُ منها في الغد جبلًا آخر أشهر من هذا وأكبر اسمه ريكي، بلغ ارتفاع قمَّته عن سطح البحر ١٨٠٠ متر، وفيه كثير من الفنادق المُتْقَنَة سواء في أعلاه أو في أسفله أو في الجوانب التي تزيِّنها الحِرَاج الغَضَّة، وقد كان القطار يصعد بنا في هذا الجبل وله آلة بخارية تجرُّه من الأمام وأخرى تدفعه من الوراء، وقد نُظِّمَتْ قمة الجبل وزُيِّنَتْ بمليح الطرق والبناء والقرى مثل التي مرَّ ذكرها، فكان أكثر المتفرِّجين معنا يتسلَّقون على تلك الأعشاب النديَّة ويتمرَّغون، وقد لذَّ لهم بهاء الموضع وحسنه الباهر وتناسوا هموم الزمان، وبعض الذين تراهم هناك يقضون أشهر الصيف كلها فيما شُيد من المنازل الفخيمة في جوانب الجبل، وأصحاب الفنادق هنا جروا على عادة لا تروق لأكثر الشرقيين هي أنهم يوقظون الضيوف كلَّ صباح عند شروق الشمس حتى يروا كيف يكون طلوع الغزالة من وراء الجبال، وهم يدقُّون لذلك الأجراس عند الفجر وعند المغيب فَيَهْرَع الإنكليز وسواهم للتأمُّل في ذلك المنظر الجميل، ولكن الشرقي الذي لا تغيب الشمس من بلاده مدَّة النهار بطوله وهو يرى كيف تُشْرِقُ وكيف تغيب في كلِّ حين لا يهتمُّ للقيام من النوم في ألذِّ ساعاته حتى يرى هذا المنظر المعروف.
وأعلى من ريكي جبل بيلاطس وهو في ضواحي لوسرن أيضًا، علوُّه ٢٠٠٠ متر، والصعود إليه في قطر البخار يستغرق ساعة ونصف ساعة، وهو لا يقلُّ جمالًا عن الجبلين اللذين ذكرناهما، وقد عُنيت حكومة لوسرن بتشييد المنازل فيه وتمهيد الطرق البديعة، وهي تأتي كل حيلة ممكنة لاستجلاب السائحين وترغيبهم في الإقامة طويلًا فيها كأنما المحاسن الطبيعية التي تجمَّعت هنالك لا تكفيها، وفي جملة الذي تأتيه الحكومة لهذا الغرض أنها تقيم في كلِّ عام زينة بهيَّة في بحيرة لوسرن فتُنار البواخر والجبال بالأنوار الكهربائية وسواها وتخترق الفضاء أسهم نارية تتصاعد على أشكال شتَّى تروق للناظرين، ويتكوَّن من مجموع هذه الأنوار منظر يزيد المدينة حُسْنًا فوق محاسنها الكثيرة؛ ولهذا يكثر إيراد المدينة من السائحين وهم ألوف كثيرة لا يقلُّ عدد الذين يرتقون جبل بيلاطس منهم عن ثلاثين ألفًا في كل عام.
وفي لوسرن فنادق كثيرة بُنِيَتْ فوق الروابي والآكام المحيطة بها غير هذه الجبال، وهي تُنار بالغاز والكهرباء، وإذا جاء الليل سَطَعَت الأنوار منها على البحيرة، فكان لها منظر غريب كثير الجمال. وفي هذه المدينة الحسناء معارض تاريخية وتصويرية وكنائس وأسواق تُذْكَر، وحدائق بديعة الوضع والأشكال، ولكنني اكتفيت بما مرَّ ذكره عنها؛ لأنه أهمُّ ما فيها، وشهرتها قائمة في جمال الموقع وجمال المناظر الطبيعية وجودة الماء والهواء، ولو لم يكن فيها من المحاسن غير الذي أوجده الله لكفاها عزًّا وهناءً.
وبرحتُ هذا الموضع للسياحة في نهر الرين فركبتُ باخرةً من بواخره قامت تمرُّ على تلك الضفاف البهيَّة، وهي تقف مرةً في الشِّمال ومرةً في اليمين، وتجتاز ما لا يُعَدُّ من الحزون الشمَّاء والمروج الخضراء والهضاب الحسناء والعمائر متواصلة البناء. وكان في جملة ما رأيناه محطة ستوكبرن اتسع نطاق النهر عندها حتى صار بحيرة بهيَّة الضفاف وقام من فوقها جبل بُنِيَ على قمَّته قصر كان لهورتانس والدة نابوليون الثالث، وهو الآن ملك أرملته الإمبراطورة أوجيني، ورأينا أيضًا بلدة كوتلين وفيها قلعة سُجن فيها يوحنَّا هوس المصلح الشهير وجيروم تلميذه؛ لأنهما خالفا العقيدة الكاثوليكية — وسنعود إلى ذكرهما — وظلَّت الباخرة دائبة في السير متنقِّلة بين أبهى المناظر وأشهاها مدة ثمان ساعات انتهينا في آخرها من السباحة في سويسرا، ودخلنا بلاد الألمان فزُرْنَا عدة مدائن، منها: «كونستانس» وهي قاعدة إمارة بادن من إمارات ألمانيا، بُنِيَتْ على ضفَّة بحيرة عظيمة تُعْرَفُ باسمها وتُعَدُّ البحيرة مِلْكًا شائعًا؛ لأنها الحدُّ الفاصل بين أملاك سويسرا والنمسا وألمانيا، وهي كبيرة مساحتها ٢١٠ أميال مربَّعة وكلُّ جوانبها آيات في الإتقان والجمال الطبيعي وبلدان تتصل بأطراف النمسا وألمانيا؛ ولهذا ترى بواخر الدول الثلاث تجول في جوانبها وقلَّ أن يمرَّ عام ولا يجيء الملوك والأمراء العِظَام من الدول الألمانية وسواها إلى هذه البحيرة البديعة، وقد يشتدُّ هبوب الريح في بعض الأحيان فتنقلَّب هذه البحيرة الصافية إلى بحر عجاج تعلو في جوانبه الأمواج، وفي فصل الشتاء يتجلَّد من هذه البحيرة قسم كبير فيصير مضمارًا على القباقيب.
وقد قصدتُ البناء الذي عُقِدَ فيه مجلس كونستانس لمحاكمة يوحنَّا هوس السابق ذكره لاتباعه طريقة الإصلاح البروتستانتية ومخالفة الكنيسة اللاتينية سنة ١٤١٥ﻫ، وهو مجلس له شُهْرَة في تاريخ أوروبا؛ لأنَّ أفواج الناس تقاطرت لحضوره من كلِّ حَدَبٍ بعيد، وكان رئيس ذلك المجلس البابا يوحنا الثالث عشر ومن أعضائه الإمبراطور سجسموند و٢٦ أميرًا من أمراء الدولة الألمانية و١٤٠ كونتًا و٢٠ كردينالًا من كبراء الكنيسة الكاثوليكية، و٩٠ أسقفًا وآخرين من خدمة الدين، فكانت جملة الحاضرين أربعة آلاف رجل، هؤلاء حاكموا الرجل ولم تَرُقْ لهم أساليب دفاعه وحكموا بإعدامه؛ لأنه خالف تعاليم الكنيسة البابوية فأحرق الرجل حيًّا جزاء تصريحه بما يعتقد، وكان الإمبراطور سجسموند يودُّه وقد ضَمِنَ له الحياة ولكنه لم يقوَ على مخالفة البابا وذلك الجمهور فأسِفَ لما أصابه، وقد قام أنصار هذا المصلح بعدئذٍ وبنوا له قبرًا في ضواحي كونستانس سِرْنَا إليه في طريق جميل يظلِّله شجر الحور والصفصاف وإلى الجانبين منازل تحيط بها البساتين والحدائق البديعة وقد تدلَّت الأثمار اللذيذة من الأغصان، وراق ذلك المنظر للعيان حتى إذا انتهينا إلى القبر في الخلاء رأينا حجرًا واحدًا كبيرًا أُحيط بسياج من الحديد، وفوق القبر أكاليل من الزهر وضعها بعض أنصار هوس من طائفته، وقد كُتِبَ على الحجر من أحد جانبيه «يوحنا هوس سنة ١٤١٥»، وعلى الجانب الآخر «جيروم سنة ١٤١٦»، وعُدْتُ بعد أن شهدتُ هذا المشهد المؤثِّر إلى كونستانس مفكِّرًا في فعال الإنسان وأمور هذا الزمان.
وقمتُ من مدينة كونستانس إلى جهة الشمال فمررتُ بالغابات السوداء، وهي لها شهرة في أوروبا، وكان القطار مدة سيره يجتاز بنا الجبال مرة في نفق تحت الأرض ومرة يدور ملتفًّا حول الجبل، وأذكر أنِّي حسبتُ ٢٥ نفقًا دخلها القطار وخرج منها في مدة ساعتين، وهذا قليل مثله في خطوط الحديد الأخرى، والسائح في هذا القطار يرى عشرات من قمم الجبال القريبة لكلٍّ منها منظر يختلف عن منظر القمة الأخرى، وما مرَّ في تلك الغابات السوداء أحد إلا وهو مُعْجَبٌ بفَرْطِ بهائها وغرابة أشكالها، وقد ظللنا سبع ساعات في هذا النعيم حتى بلغنا مدينة: «ستراسبورغ» وهي عاصمة ولاية الألزاس كانت تابعة لألمانيا ثم اغتصبها الفرنسيس وضمُّوها إلى مملكتهم في حرب الثلاثين سنة التي سبقت الإشارة إليها، وكان ذلك سنة ١٦٨٠، وظلَّت من أملاك فرنسا حتى حربها الأخيرة مع بروسيا سنة ١٨٧٠، حيث ضُمَّت إلى ألمانيا وصارت جزءًا منها، وكان الألمانيون كل مدة استيلاء الفرنسيس عليها يعِدُون النفس باسترجاعها حتى إن أحدهم أنبأ في كتاب له بينا كان الفرنسويون يبنون الحصون فيها والقلاع بمجيء يوم تدكُّ المدافع الألمانية تلك الحصون وتعيد المدينة إلى أصلها الألماني فكان الذي قاله. ولمَّا وصلنا المدينة ونزلنا من القطار إلى محطتها الواسعة رأينا في صدر القاعة الكبرى من هذه المحطة صورة القيصر ولهلم الأول جد القيصر الحالي ومن ورائه ولي العهد وأركان الحرب وكبراء الدولة، فذكَّرنا ذلك بحرب سنة ١٨٧٠، وهي لا بد لزائر ستراسبورغ من تذكرها أينما سار؛ لأن المدينة ملآنة بالنصب والأبنية والأشكال أُقيمت لذكر استرجاعها من فرنسا وانتصار ألمانيا في تلك الحرب العظيمة، حتى إنك لترى صور قُوَّاد الجيش الألماني وتماثيلهم منتشرة في أرجاء المدينة غير ما فيها من الثكنات الواسعة والقلاع الحصينة الجديدة، تقيم فيها ألوف الجند المدرَّبة وهي من أكبر مراكز الجيش الألماني، وإنِّي بعد وصولي رأيت عند المحطة ميدانًا واسعًا كثير الإتقان صُفَّت فيه الأغراس ووُضِعَت المقاعد، فترى الناس ينتابونه شأنهم في كلِّ مكان مثل هذا للتنزُّه والتفرُّج بعضهم على بعض.
ولمَّا كانت المدينة من المواضع العسكرية كما مرَّ فإني أخذني الدليل قبل كل شيء إلى حصونها ومحل المعارك التي حدثت فيها مدة الحرب الأخيرة، وقد اشتُهر حصار الألمانيين لهذه المدينة؛ فإنهم حصروها مدة ٤٦ يومًا قبل أن يفتحوها وطردوا الفرنسويين منها وأطلقوا عليها ١٩٣ ألف قنبلة دمرت حصونها وأوقعت الفناء في حاميتها حتى سلَّم القائد الفرنسي، وانتهت ويلات الحصار بدخول الجيش الألماني ظافرًا وكان في جملة الذي غنمه الفاتحون ١٢٠٠ مدفع و١٢٠٠٠ بندقية و١٨٠٠ حصان وأسروا ١٨٠٠٠ رجل من جنود الفرنسيس، وقد هُدِمَت الحصون القديمة وأُنشئ مكانها طرق ومتنزَّهات وقصور، وبُنيت حصون حديثة فاتسع ببعدها نطاق المدينة.
وكانت ستراسبورغ يوم زيارتي لها حافلة بآلاف الوافدين عليها من كلِّ صوب؛ لأنه أُقيم فيها معرض عامٌّ في ذلك العامِ داخل حديقة واسعة الأطراف متنوِّعة المحاسن ووُضِعَت فيه أشكال المصنوعات الحديثة متناسقة مقسَّمة فروعًا، فالآلات الميكانيكية للنقل والزراعة والصناعة على أنواعها في قسم، والمنسوجات في قسم والمفروشات في قسم، وكلها أدلة على تقدُّمِ البلاد في هذه الصناعات، ووصفها لا يختلف عن وصف غيرها من المعارض فلا أضيِّع الوقت عليه، ولكنني أذكر بنوع خاص أنِّي رأيت بناءَ جامعٍ في ذلك المعرض أُحْكِمَ الوضع، وبناءً آخر يشبه كنيسة القبر المقدَّس في القدس الشريف بكلِّ ما فيها من التحف والمصابيح الثمينة والملابس المقصبة التي يستعملها خَدَمة الدين، وغير هذا مما يوهم الواقف هنالك أنه في القدس وليس في ألمانيا. وكانت الأعشاب في بعض أجزاء هذه الحديقة مزروعة على نَسَقٍ يُقرأ منه اسم ولهلم وبسمارك ومولتكي الذين أسَّسوا الدولة الألمانية الحالية. وأذكر أنِّي حال خروجي من هذا المعرض دخلت موضعًا فيه مراءٍ عديدة لا تقلُّ عن خمسمائة صُفَّت قطعًا صغيرة بعضها إلى جانب بعض، فإذا وقف المرء أمامها رأى شكله خمسمائة مرة في كل ناحية، وذكَّرني هذا بمحل مثله في برلين إذا دخله الزائر ورأى صورته في كل جهة عسر عليه أن يعرفَ من أين يخرج إذا لم يساعده صاحب المحل على ذلك.
وفي ستراسبورغ حدائق وميادين وشوارع كثيرة وافرة الإتقان، أذكر منها ميدان جوتنبرج مخترج الطباعة، فيه تمثال من الرخام الأبيض يشرح معنى الحروف البارزة لجماعة من السائلين، وتمثال كليبر القائد الفرنسوي الذي جاء مصر مع نابوليون وكان وكيله في رئاسة الجيش ثم قُتِلَ في الأزبكية على ما هو مشهور، والرجل من أبناء ستراسبورغ وُلِدَ فيها سنة ١٧٥٣ وقُتِلَ سنة ١٨٠٠ كما ترى على أحد جوانب التمثال المقام له في هذا الميدان، وهو من النحاس الأصفر، وكتبوا على الوجه الثاني واقعة المطرية سنة ١٨٠٠، وهي كان النصر فيها لهذا القائد على جيش الأتراك والمماليك، وعلى الوجه الثالث عبارة قالها كليبر لجنوده عند افتتاح الحرب معناها: «أيها الجنود إن الجواب الوحيد على هذه الإهانة هو الانتصار فدونكم والقتال.» وعلى الوجه الرابع عبارة معناها: «هنا بقايا ابن وطننا.» ومع أن المدينة صارت ألمانية، وكليبر كان من قُوَّاد الجند الفرنسوي فلم يتغيَّر من هذا الأثر شيء دليل إكرام الأهالي والحكومة لذكر الأبطال. وفي المدينة ميدان آخر سُمِّيَ باسم الدوك برولي الوزير الفرنسوي الشهير، فيه أحسن المباني والقصور وفي آخره الملهى الكبير، ويمكن الوصول منه إلى قصر الإمبراطور بناه الأهالي بعد الفتح الألماني على نفقتهم وقدَّموه هدية لقيصر ألمانيا، زُرْتُهُ ورأيت فيه وفي حديقته من البدائع ما يستحقُّ الذكر ولا سيَّما الغرفة التي يستقبل الإمبراطور فيها وفود الناس مدة وجوده في ستراسبورغ والقسم المخصَّص للإمبراطورة. ويقرب من هذا القصر مدرسة جامعة لها شهرة في أوروبا حتى إنها تعدُّ من مباني العلم الأولى في أوروبا كلها، وقد أنفقوا على بنائها ١٢ مليون مارك وكتبوا على صدرها من الخارج «خدمة للعلم والوطن.»
ولا بدَّ أن يكون القُرَّاء قد سمعوا بكنيسة ستراسبورغ، وهي من أشهر كنائس الأرض وأغربها، عُرِفَتْ بساعة فلكية فيها تدقُّ أشكالًا وتُعرف منها أسماء الأيام والأشهر وتاريخ الشهر والسنة وحالة المطر والهواء ومواقع بعض النجوم، ومن أدوات هذه الساعة تماثيل اثني عشر رسولًا تنحني أمام المسيح حين تدقُّ الساعة الثانية عشرة، وديك يصيح بعد ذلك ثلاثًا، وغير هذا مما يحتاج إلى شرح طويل.
وأهل ستراسبورغ عُرِفُوا بالجِدِّ والنشاط، وأكثرهم ألمان ولكن بعضهم فرنسويون فيكثر الخصام بين الفريقين، ولا يخشى الحزب الفرنسوي من إظهار الميل لفرنسا مع قوة الحكومة وبطشها، وكلهم يتكلَّمون اللغتين ولهم شهرة بالخطابة ودرس الفنون السياسية تحكي شهرة كنيستهم والثكنات العسكرية الكثيرة في مدينتهم.
ولمَّا انتهيت من مدينة ستراسبورغ بَرِحْتُها إلى جهة الشَّمال فمررتُ بما لا يُعَدُّ من المدائن العامرة، وكلها بادية عليها أدلة التقدُّم والنماء ترى معاملها وخطوطها الحديدية في كل جانب، ولو أحصيت خطوط الحديد في الممالك بالنسبة إلى اتساعها لكانت ألمانيا في مقدمتها، هذا غير أن الأهالي بلغوا درجة قصوى من التهذيب وانتشرت مصنوعاتهم في كلِّ قُطْرٍ فقد مررتُ في هذا الطريق على مدينة «مانهيم» وهي تُعْرَفُ في اصطلاح القوم بلفربول الرين؛ لكثرة معاملها ومصنوعاتها التي تُرْسَل إلى هذا القُطْرِ وسائر الأقطار، وظللنا نخترق العمائر حتى وصلنا «مايانس» أو مينز بلغة الألمان، وهي من أمهات المدائن الألمانية، لها شهرة ذائعة في حسن موقعها على نهر الرين وجودة الهواء والمناظر ووفرة الحصون والاستحكامات التي قامت إلى كلِّ جانب منها، وأكثرها في جبال تحيط بهذه المدينة إلى جانبي النهر؛ ولذلك كانت هذه المدينة من المواقع العسكرية المشهورة، وفيها حامية كبيرة لا يقلُّ عددها عن اثنَي عشر ألفًا وهم منتشرون في المدينة وضواحيها تراهم كيفما سِرْتَ وعلامات الانتظام والتعليم العسكري المشدَّد ظاهرة عليهم، وقد وصفنا حالة الجندية الألمانية وصعوبتها واستبداد ضباطها بالعساكر، وغير هذا عند الكلام عن برلين، وفي هذه المدينة الجميلة حديقة غَنَّاء قائمة على ضفة النهر تَشْغَلُ مكانًا فسيحًا فيها، وكلها آيات ومحاسن توجَّهنا إليها وسرنا منها إلى كنيسة فيها مدافن الأساقفة القدماء الذين نشئوا في مينز ونواحيها، وقد أذهلني أن امرأة هي قندلفتة الكنيسة أو حارستها جاءت لنا بالمفاتيح ودارت معنا ترينا جوانبها، والعادة في كل الأنحاء تقريبًا أن تكون هذه الخدمة للرجال لا للنساء.
ورأيت في مايانس ميدان جوتنبرج المشهور مخترع الطباعة وُلِدَ في هذه المدينة فأقاموا له هذا التذكار تمثالًا في وسط الميدان، وكان الرجل من بسطاء الأهالي وُلِدَ في مايانس وَنزح إلى ستراسبورغ للارتزاق؛ فحدث أنه كان جالسًا تحت ظِلِّ شجرة عند ستراسبورغ يومًا، وأسند ظهره إلى جذعها زمانًا فلمَّا نهض انتزع رداءه ليحمله على يده؛ فرأى في الرداء علامات طُبِعَتْ عليه، وهي تشبه الكتابة، وكانت تلك العلامات أثر قشور الشجر طُبِعَتْ على الرداء من استناده إلى الجذع ففكَّر صاحبنا مدة في هذا الاتفاق المليح، وفطن منه إلى أنه يمكن أن تُصنع حروف ناتئة إذا ضُغِطَ عليها ظهرت علاماتها على الورق أو القماش؛ فذهب إلى بيته وصنع بعض الحروف من الخشب ثم جعل يصبغها ويضع فوقها قماشًا أو ورقًا يضغط عليه فترتسم هيئة الحروف على الورق، وانتشر اختراعه، فكان ذلك بدء الطباعة وصيرورة العلم إلى حاله الحالية، وقد عمَّت المعارف بواسطة هذا الاختراع الجليل إلى درجة لم تخطر على بال المخترع، وكان أول كتاب طُبِعَ بهذه الحروف الإنجيل والتوراة باللغة اللاتينية، وأمَّا الاختراع فتمَّ في ستراسبورغ سنة ١٤٤٠، ولمَّا كان المخترع من أهل مايانس فقد أُقيمت له التماثيل في المدينتين. ورأينا في هذه المدينة أيضًا تمثال الشاعر شلر في ميدان سُمِّي باسمه، وصعدت حديقة في رأس جبل حصين يُشْرِفُ على النهر والمدينة، فتأمَّلت الحصون المنيعة ورأيت هنالك طريقًا عسكريًّا قال لي الدليل الذي كان يرشدني إلى هذه المواضع إنه يوصل إلى باريس توًّا، وكان نابوليون الأول قد أنشأه ليمهِّد الطرق لجيشه ويخضع ألمانيا عن هذا الطريق، فكانت النتيجة أنَّ الجنود الألمانية جعلته طريقها إلى باريس وأخضعتها في الحرب الأخيرة.
وانتقلتُ من مدينة مايانس هذه قاصدًا «وسبادن»، وهي على مقربة منها، تُعَدُّ من أشهر مدائن ألمانيا بجمال مناظرها وجودة هوائها وحماماتها المعدنية يقصدها ألوف في كلِّ عام للاستشفاء والاستحمام غير الذين يأتونها لتسريح الطَّرْفِ بمناظرها البديعة والتمتُّع بهوائها المنعش. وقد مشيتُ في شارع كبير من شوارع هذه البلدة يُعْرَف بشارع ولهلم وفيه صفوف من أشجار الكستناء الباسقة إلى الجانبين ومنازل فخيمة وفنادق عظيمة في كل جانب منه، وفي آخره حديقة عمومية عظيمة الترتيب بهيجة الأشكال نصبوا فيها تمثال ولهلم الأول بملابسه الجندية وهو في أيام الكبر، والتمثال كله من الرخام الأبيض الثمين، وعلى مقربة من هذه الحديثة أروقة طويلة قامت على عُمُدٍ وقناطر عديدة ومن تحتها المخازن والدكاكين فيها كل أنواع الأبضعة الألمانية والأجنبية وفي طَرف هذه الأروقة ملهى أو كازينو من الطبقة الأولى في الإتقان والجمال؛ دخلنا قاعة فسيحة فيه للرقص صنعوا قسمًا علويًّا منها داخل حواجز من النحاس الأصفر لجماعة العازفين والمغنِّين وعُلِّقَ في سقفها ١٢ ثريَّا من النحاس الأصفر الذهبي غير المصابيح الأخرى، تُنَار كلها بالنور الكهربائي ولضوئها جمال غريب، هذا غير ما في الكازينو من الغرف والمحاسن الأخرى التي لا تختلف عما ذكرنا أو ما سنذكر في المدن الأخرى المشهورة بحماماتها. ومتنزَّهات وسبادن هذه متصلة بعضها ببعض لكثرتها، فما تنتهي من أحدِهَا حتى تصل متنزَّهًا يضارعه في النظام والجمال وكثرة الواردين إليه، وفي جبل فوق وسبادن كنيسة روسية بُنِيَتْ تذكارًا لأميرة ناسو، وهي الغراندوقة إليصابات الروسية ابنة القيصر نقولا الأول، اقترن بها أمير ناسو الألماني وتُوفِّيَتْ سنة ١٨٤٥؛ فبُنِيَتْ هذه الكنيسة تخليدًا لذكرها، وهي يُصْعَدُ إليها في طرق ومسالك متعرِّجة بين مشاهد الجبل البديعة وغياضه القديمة، تتضوَّع منها الروائح العطرة، ويقيم بعض خَدَمة الكنيسة الروسية كل يوم قُدَّاسًا عن نفس الأميرة المذكورة.
وقد صنعوا قبر هذه الأميرة في تلك الكنيسة على شكل بديع ثمين من الرخام الأبيض والناصع، ووضعوا فوق الضريح تمثال الأميرة مستلقية على ظهرها وعينيها ناظرة إلى السماء وألبسوها ثوبًا أبيض نقيًّا، ووضعوا على رأسها إكليلًا من الزهر، وكل ذلك من المرمر الناصع الثمين يجعل لهذا الأثر منظرًا يؤثِّر في النفس، ويعيد إلى الصدر ذكر الورع والعفاف، وقد بُنِيَتْ في ذلك الجبل عدة فنادق ومطاعم وحدائق منظَّمة بديعة الترتيب، قضينا بينها بعض النهار ثم سافرنا منها إلى «فرانكفورت» وهي من أشهر المدن الألمانية وأعظمها، عدد سكانها نحو مائتين وخمسين ألف نفس، ولها شهرة ذائعة بمدارسها العالية ومتاحفها العظيمة ومصارفها الكبرى ويُعَدُّ أهلها في الطبقة الأولى من التهذيب؛ لأنه لا يوجد بينهم أمِّيٌ واحد ولا متسوِّل، وهذا كثير مثله في مدن ألمانيا العامرة، وفرانكفورت مشهورة في التاريخ بالحروب والمعاهدات التي أُمْضِيَتْ بها، وأعظمها ما كان مختصًّا باتحاد الدول الألمانية؛ ولهذا فإن ولهلم الأول جاءها قبل غيرها من المدن الألمانية بعد انتصاره على فرنسا سنة ١٨٧١، وهنالك أُمْضِيَت المعاهدة النهائية بين ألمانيا وفرنسا، ومن أشهر ما يُذْكَرُ عن هذه المدينة بنك روتشلد الكبير له معاملات مع كلِّ المحلات المالية في الأرض، وقد كان آل روتشلد العظام من أهل فرانكفورت، ومنها بدأت عظمتهم بما أظهر جدُّهم أنسلم روتشلد من الأمانة لأمير فرانكفورت حين هاجمها نابوليون، وكان أنسلم روتشلد هذا مقرَّبًا للأمير وقد جمع مالًا بالدأب والاجتهاد، فلمَّا خاف الأمير من هجوم نابوليون استدعاه إليه وأودع أمواله كلها عنده ثم فرَّ من المدينة؛ فأخذ روتشلد أموال الأمير وخبَّأها مع ماله الخاص في بيته، والبيت باقٍ في فرانكفورت إلى اليوم أثرًا جليلًا شاهدتُّه مدة وجودي فيها، ومن أغرب ما يُرْوَى عنه أنَّ نابوليون لمَّا دخل المدينة وفتحها بات ليلة في هذا البيت؛ لأنه كان من أحسن بيوت المدينة، وكانت تلك الأموال مخزونة في السقف فوق رأسه فما دَرَى بها، ولمَّا انتهت الحرب وخرج الفرنسيس من البلاد عاد الناس إلى مساكنهم وعاد روتشلد إلى هذا البيت، فوجد الأموال وأرجعها إلى الأمير كما كانت فسُرَّ الأمير بأمانته وساعده على الارتقاء، وظلَّ روتشلد يجمع الأموال حتى صار من أكبر المثرين وورثه خمسة أولاد تفرَّقوا في عواصم أوروبا، وكان أشهرهم ابنه الثالث ناثان روتشلد توطَّن في أول أمرِهِ مدينة مانشستر، ثم جاء لندن وكان مقاولًا للجيش الإنكليزي مدة حروبه الأخيرة مع نابوليون الأول حتى إنه ذهب بنفسه في أواخر الحرب إلى بروكسل؛ ليرى فيما يلزم لهذا الجيش، فحضر موقعة واترلو المشهورة، وعلم أنَّ النصر تمَّ فيها للإنكليز، ومن ثَمَّ أسرع في الرجوع إلى لندن في سفينة له خاصة، فبلغها وهو عالم بخبر النصر قبل أن تصل الأخبار إلى البلاد بيوم كامل قضاه كله في مشترى الأوراق المالية، وهي يومئذٍ في سقوط زائد بسبب خوف الناس من الحرب، وجمع منها مقدارًا هائلًا، فلمَّا انتشر خبر النصر وفرار نابوليون ارتفعت قيمة الأوراق ارتفاعًا عظيمًا وربِحَ منها روتشلد في يوم واحد عدة ملايين، ومن ذلك العهد صار بيت روتشلد أكبر البيوت المالية في أوروبا، ولم يزل على ذلك إلى الآن.
وبعد أن شاهدتُ هذا في فرانكفورت عُدتُ إلى مايانس لأتمِّمَ السياحة منها في نهر الرين، وهو الأمر الذي جئتُ هذه البلاد لأجله، وعَرْضُ هذا النهر لا يقلُّ عن ٦٠٠ متر في بعض الجهات. وأنت أينما سِرْتَ ترى القلاع القديمة والحديثة على رءوس الجبال وقصور الأغنياء تُطِلُّ على النهر من تلك الأعالي، وإلى جانب الماء من هنا ومن هنا مروج خضراء وحقول أريضة ينتقل فيها أناس يظهر عليهم النعمة والرواء، وأرتال تمر على خطوط الحديد مرة تقرب من النهر ومرة تفذُّ في داخل البلاد حتى إن المسافر في النهر ليرى القطرات البخارية في بعض الأحيان خارجة من وسط الجبل على غير انتظار أو سائرة على ضفة الرين فيشهد من ذلك حركة لا تنقطع في النهر والبر، تشهد بعظمة هذه البلاد وتقدُّمها العجيب، والبواخر التي تسير في نهر الرين كثيرة الجمال والإتقان نزلت في واحدة منها اسمها ولهلم الأول، لها طبقة علوية ممتدَّة على طول الباخرة، وقاعة الطعام فيها فسيحة يُدْهِشُ نظامها الأبصار، مُدَّت فيها ١٢ مائدة عليها الآنية الفضية تسطع وتلمع، ومن حولها الخادمون بأنظف الملابس، وكان الراكبون في هذه الباخرة من الألمان والإنكليز والأميركان وسواهم يتأمَّلون محاسن الرين مثلي ويَعْجَبُون، وقد اشتروا رسمًا لهذا النهر مطبوعًا رُسِمَتْ فيه المدن التي تقف فيها السفن وهي كثيرة لا يمكن لي وصفها، أذكر منها: «بون» وهي مدينة زاهرة عامرة اشتُهرت بمدرستها الجامعة التي تَلَقَّى الإمبراطور الحالي دروسه فيها، ومنها «كوبلنتز» وهي نقطة عسكرية مشهورة، فيها ألوف من رجال الجند الألماني، وأذكر أننا بعد أن تجاوزنا كوبلنتز رأينا في إحدى الروابي قصرًا فوقه راية أميركية حيَّت السفينة وأُطْلِقَ من القصر مدفع صغير فضجَّ الأميركيون السائحون معنا استحسانًا. وهكذا ظللنا مدة ١٢ ساعة في نهر الرين نمرُّ على أبهى أنواع الحقول والمدن والكروم تمتدُّ من شاطئ النهر إلى أعلى الجبال، وهي التي يُسْتَخْرَج منها نبيذ الرين المشهور، ولا حاجة إلى القول إن مَشَاهد وادي الرين تَفْضُلُ أكثر المشاهد المشهورة في الأرض والسفر فيه من ألذِّ أشكال السياحة، بقيت أتمتَّع بمحاسنها كل تلك المدة حتى وصلت مدينة «كولون» المشهورة بماء كولونيا العطر، يُصْنَع في معاملها قناطير مقنطرة ويُرْسَلُ منها إلى جميع الأقطار.
ولهذه المدينة شُهْرَة بموقعها البديع على نهر الرين وجسرها الحديدي الطويل فوق ذلك النهر العظيم لا يقلُّ عرضه عن خمسمائة متر ما بين هذه المدينة ومايانس، وبكنيستها الكاتدرائية المشهورة، وهي ذات برجين عاليين ارتفاع أكبرهما ٦٥٠ قدمًا، وأما نقوش هذه الكنيسة الدقيقة في خارجها وداخلها والرسوم البديعة المنزلة على الزجاج في شبابيكها والعُمُد المستدقَّة والحفر الغريب في كل جوانبها فمما يحيِّر الأفكار، ولا عجب فإن كنيسة كولون من أشهر كنائس الأرض طُرًّا، ويا ليت أنَّ الوقت يسمح لي بالتطويل في وصف بنائها الأنيق، بدءوا ببناء هذه الكنيسة سنة ١٣٢٧ حين أَرْسَلَ البابا منشورًا يطلب فيه جمع مال بالاكتتاب لبنائها، فما تمَّ صنعها حتى عام ١٦٠٠، ولكنها تهدَّمت مرارًا وأضرَّت بها جنود نابوليون سنة ١٧٩٤؛ إذ جعلتها مستودَعًا للمهمات وأَخَذَت بعض التماثيل النحاسية منها فصبَّتها مدافع، فلمَّا طُرِدَ الفرنسويون منها أعادوا زخارفها وظلُّوا إلى عهد قريب جدًّا يضيفون إليها أغرب غرائب الصناعة الحديثة حتى صارت من أعظم مشاهد الأرض الحالية، وهي قائمة على ٥٦ عمودًا كبيرًا في طولها و١٨ عمودًا في العرض، وتحت القُبَّة الكبرى عمودان ضخمان بلغ محيط كلٍّ منهما ٣٦ خطوة، وفي ذلك من المَزِيَّة ما لا يخْفَى حتى إن الذي يقف أمام الكنيسة ويرى تلك العُمُد البديعة والقباب البهيَّة والنقوش الفاتنة، وكلها من الرخام الأبيض الثمين ليزيد عجبه عن الذي يدخل جوانبها الكبرى ويقف أمام تلك الصور الدينية المنزَّلة في الزجاج فيخيَّل له أنه يرى حقيقة لا رسمًا.
وجملة القول أنَّ كولون من أهمِّ مدائن ألمانيا مناظر وصناعة وتجارة، عدد سكانها نصف مليون نسمة، وقد أقمتُ فيها أربعة أيام ثم برِحْتُها قاصدًا بلاد هولاندا.