هولاندا
خلاصة تاريخية
كانت هولاندا في أول عهدها بالعمران تُعَدُّ مع البلجيك بلادًا واحدة اسمها في أوروبا «نذرلاند» أو البلاد الواطئة، وأَطْلَقَ عليها العرب اسم الفلمنك نسبةً إلى ولاية فيها يتكلَّم أهلها اللسان الفلمنكي أو الفلاماندي القديم، وهو يقرب من اللسان الألماني، وكان يملك هذه البلاد أمراء برغندي إلى أن مات آخر أمراء هذه العائلة، وانتقل الملك إلى آل هابسبرج الذين يحكمون بلاد النمسا اليوم باقتران الأمير مكسميليان في سنة ١٤٧٧ بابنة الأمير الأخير من أمراء برغندي، ومكسميليان هذا صار بعد وفاة أبيه إمبراطور النمسا، وانتقل منه الملك إلى كارلوس الأول الذي كان ملك إسبانيا وإمبراطور النمسا في آنٍ واحد، فظلَّت البلاد تابعة لملوك إسبانيا حين وفاة ملكها كارلوس الثاني سنة ١٧٠٠ حتى صارت الدول الكبرى تتسابق على امتلاك الفلمنك، وتحاربت فرنسا والنمسا عليها زمانًا طويلًا فانتهت الحرب بصلح عُقِدَ سنة ١٧١٤ في راسناد بين كارلوس السادس إمبراطور النمسا ولويس الرابع عشر ملك فرنسا، وكان من مقتضى هذا الصلح أنَّ أكثر البلاد المعروفة باسم البلجيك اليوم أُعيدت إلى مملكة النمسا وظلَّت في قبضتها حتى أيام الثورة الفرنسوية حين أُلْحِقَتْ بأملاك فرنسا.
وكان من أمر هولاندا أنها لقيت من ملوك إسبانيا ظلمًا كبيرًا واضطهادًا دينيًّا لم يسْبِق له نظير، واشتدَّت وطأة الظلم عليها في أيام فيليب الثاني، وكان هذا الملك شديد التعصُّب ساءه أن أهل هولاندا اتبعوا المذهب البروتستانتي فأمر بإعدام كلِّ مَنْ لا ينكر هذا المذهب، وأرسل الدوك ألفا من قِبَلِهِ لتنفيذ هذا الحكم الجائر، وكان في جملة المحكوم عليهم الأمير الحاكم على هولاندا من قبل فيليب الثاني، وهو من آل أورانج العائلة الحاكمة حالًا على هذه البلاد؛ فجهر الأمير بالعصيان وجنَّد من أهل بلاده جيشًا قويًّا حارب الإسبانيين وانتصر عليهم بعد معارك جسيمة واستقلَّت هولاندا من ذلك اليوم فصار أمير أورانج حاكمًا عليها وتوارث آله الإمارة من بعده، وكان ذلك في سنة ١٧٥٠، وتقدَّمت بلاد هولاندا في حكم هؤلاء الأمراء تقدُّمًا عظيمًا، واتسعت متاجرها وملكت المستعمرات الكبرى في الهندين الشرقية والغريبة، وظلَّت على ذلك حتى أيام الثورة الفرنسوية فإن الفرنسويين انتصروا عليها وضمُّوها إلى جمهوريتهم، ثم جعلها بونابارت مملكة لأخيه لويس نابوليون، وانتهزت إنكلترا فرصة اشتغال هولاندا حينئذٍ بهذه المتاعب فَسَطَتْ عليها وغنمت بعض مستعمراتها، وأهمها رأس الرجاء الصالح في أفريقيا وجيانا في أميركا الجنوبية.
ولمَّا بدأت قوة فرنسا بالسقوط في أواخر أيام نابوليون الأول قام الهولانديون عليها وتمكَّنوا من الاستقلال مرة أخرى في سنة ١٨١٤ واتحدوا مع بلاد البلجيك فساعدتهم أوروبا على ذلك، وأُنشئت مملكة جديدة للبلاد الواطئة دُعي وريث آل أورانج للحكم عليها. ولكن الاختلاف بين البلادين في الذوق والطبع كان كبيرًا، فلم تمر أعوام كثيرة على هذا الاتحاد، وقام البلجيكيون يطلبون الاستقلال في سنة ١٨٣٠، فنالوه وساعدتهم أوروبا على نيله وانتُخِبَ أمير من آل ساكس كويرج (إمارة في ألمانيا) للحكم على البلجيك، وظلَّت هولاندا تحت حكم ملوكها من آل أورانج، وهي على هذا الحال إلى اليوم، وقد كان من أمرها أن عائلتها المالكة كادت تنقرض في أواسط هذا القرن ولم يبقَ منها غير أمير واحد ورث آل أورانج وآل ناسو، وهم حكام إمارة لكسمبرج، فورث الرجل البلادين وحكمها زمانًا باسم ولهلم الثالث، وكان له ولدان تُوفِّيَا في حياته وتُوفِّيَتْ بعدهما زوجته فاضطرَّ الرجل أن يقترن وهو في الثالثة والستين من عمره مرةً أخرى؛ ليأتيه مَنْ يرث المملكة والإمارة ولم يُرْزَق غير فتاة هي ملكة البلاد الحالية، ولهلمينا وُلِدَتْ في ٣١ أوغسطس سنة ١٨٨٠، وتُوفِّي والدها سنة ١٨٩٠، فقامت أمُّها بالوصاية عليها إلى أن بلغت الثامنة عشرة من عمرها، وتُوِّجَتْ ملكة لهولاندا في شهر مايو من سنة ١٨٩٩، وكان الاحتفال بتتويجها عظيمًا بديعًا كثُرَ فيه فرح أهل البلاد، وهم يحبُّون هذه الملكة حبًّا مفرطًا لما ظَهَرَ لهم من حسن خصالها وتوقُّد ذهنها، وقد رُبِّيت جلالة الملكة ولهلمينا على يد أمهر الأساتذة والمربِّيات، وهي الآن تكتب بعدة لغات أوروبية غير لغتها، ولها إلمام باللغات الشرقية التي يتكلَّم بها سكان الأملاك الهولاندية في الشرق، وضاعت إمارة لكسمبرج من هولاندا في حكم ملكتها الحالية؛ لأنها بحسب نظامها القديم لا يحكمها النساء، واقترنت هذه الملكة بالبرنس هنري الألماني من إمارة مكلنبرج شورين في سنة ١٩٠٢ فرُزِقَتْ منه بنتًا سنة ١٩٠٩ هي ولية عهد المملكة الهولاندية، وكان لولادتها رنَّة فرح في بلاد هولاندا تشبه أفراح القوم يوم تتويج ملكتهم الحالية.
وهولاندا بلاد صغيرة عدد سكانها خمسة ملايين ونصف من النفوس، ولكنها في الطبقة الأولى من طبقات التمدُّن، ولها مستعمرات عظيمة أكثرها في جزائر المحيط الهندي لا يقلُّ عدد سكانها عن أربعين مليونًا، فهي من أكبر دول الاستعمار الحالية، ولها تجارة واسعة وعمارة قوية، ولأهلها شهرة في الجد والإقدام والأمانة العظيمة، وهذا السر في نجاحهم مع قلة العدد.
أمستردام
جئت بلاد هولاندا عن طريق كولون التي تقدَّم ذكرُها في الفصل السابق، وكان أول بلد منها دخلتُهُ مدينة سفناخ الواقعة على حدود البلاد من الجنوب، وَقَفْنَا فيها ريثما انتقلنا إلى القطار الهولاندي، وفتش العمال حاجاتنا ثم تابعنا المسير حتى أتينا مدينة أمستردام، وكان فيها يومئذٍ حركة كبرى بسبب معرض عام أقامته حكومتها فتوافد الناس عليها لمشاهدة ما في ذلك المعرض، ومدينة أمستردام جميلة الموقع بهيَّة المناظر بُنِيَتْ على جزر صغيرة لا تقلُّ عن تسعين عدًّا، وهي متَّصلة بعضها ببعض بقناطر جميلة الشكل عددها ثلاثمائة، وفيها من الترع ما لا يُعَدُّ بسبب ذلك، وأهمها أربعة تحيط بالمدينة من كلِّ جهاتها، طول الواحدة منها من ٤ كيلومترات إلى ١٠ وعرضها نحو ٤٥ مترًا، والقناطر فوقها متوالية بعضها وراء بعض على نَسَقٍ يروق للناظرين.
وأهمُّ الترع في أمستردام واحدة فُتِحَتْ عام ١٨٦٢ توصِلُ المدينة بالبحر طولها ٢٥ كيلومترًا، وعَرْضُها يختلف ما بين ٦٠ كيلومترًا ومائة، فهي من الترع العظيمة تمخر فيها الباخرات الكبرى ذاهبة إلى المستعمرات الهولاندية وراجعة منها، وقد أنفقوا على حفر هذه الترعة نحو ٧٠ مليون فرنك، وهم ينفقون على إدارتها ووقايتها وتطهيرها نحو ٢٠٠٠ فرنك كل يوم. وشوارع هذه المدينة كلها واسعة غُرِسَتْ إلى جوانبها الأشجار وقد أدَّى اتساع الشوارع إلى امتداد المدينة في مساحتها مسافة ١٢ ميلًا، وفيها الآن من السكان نحو ٤٩٠ ألف نفس ويشطرها نهر أمستل شطرين، وهو نهر كبير تدخله الباخرات الكبرى التي ترود البحار القاصية، وسنعود إلى الكلام عن تجارتها العظيمة ومينائها المشهور.
وقد مرَّ أنَّ المدينة كانت في حركة كبرى يوم زرناها بسبب المعرض؛ ولهذا قصدناه قبل غيره من المشاهد المذكورة، وكان في حديقة كبرى واسعة الأرجاء شُيِّدَت فيها الأبنية العظيمة حسب عادتهم في المعارض، فدخلتُ القسم العام منه والأقسام الخاصة بالممالك الغربية والشرقية، وفيه من حاصلاتها ومصنوعاتها واختراعاتها ما نضرب صَفْحًا عن وصفه؛ لأنه لا يخرج عن وصف ما في المعارض الأخرى، وقد ذكرنا بعضها في هذه الرحلات والظاهر أنَّ الشرقيين تحوَّلت أنظارهم إلى هذا المعرض أكثر من سواهم، فإنه كان في سوقه العمومية عدة مخازن وحانات ودكاكين لأناس من مصر والآستانة وحلب والقدس ودمشق والإسكندرية وأفراد كثيرين من كل هذه الجهات، وأُقيم إلى جانب هذه المخازن منزل عظيم للصور المجسَّمة والمناظر المشهورة، وعلى بابه اثنان من السودانيين بالملابس المعروفة في هذه البلاد، وفي يد أحدهما بوق يُنفخ فيه دعوة للسامعين، وقد رأينا في ذلك المنزل صورًا كثيرة، منها صورة الرحَّالة ستانلي في قلب أفريقيا يخابر أمين باشا في أمر إرجاعه إلى مصر، وأمامها القرية الأفريقية بأكواخها وسكانها السود ونسائها يحملن الأطفال على ظهورهنَّ ومناظر طبيعية أخرى، والناس في شئون شتَّى، منها ما استلفت الأنظار وهو عقد الإخاء على طريقة أهل أفريقيا الوسطى، وهي أن يقصد كلٌّ من المتعاقِدَين نفسه ويمصُّ الرجل من دم الآخر شيئًا، فيُعَدُّ ذلك دليلًا على الرضاء والوفاء، وقد كان ستانلي وغيره من الأوروبيين يلجئون إلى هذه الطريقة في معاملاتهم مع زعماء الإفريقيين مدة السياحات الأولى ليأمنوا شرهم وينالوا مساعدتهم.
ولو شئتُ أَنْ أُعَدِّدَ غرائب هذا المعرض وملاهيه للَزِمَ الشيء الكثير فأقتصر على القليل مما رأيتُهُ فيه، مثل باخرة كبرى بحجم البواخر التي تمخر في البحار وضعت في بحيرة داخل حديقة المعرض، وهي كاملة العدد ليس ينقصها غير الآلة البخارية، وقد جعلها أصحابها حانة ومَطْعَمًا لزائري المعرض مدة وجوده، فكان الناس يدخلونها ويأكلون فيها ويشربون ويخدمهم رجال بملابس النوتية، ويجلس معهم على المائدة رُبَّان يمثِّل حالة السفن في البواخر العظيمة، وربِحَ أصحاب هذه الباخرة من استخدامها لهذا الغرض مالًا وافرًا، وفي جملة ذلك منزل بُنِيَ على شكل الفيل بخرطومه وجسمه وأُقيمت فيه قهوة وحانة فكان الناس يصعدون هذا الفيل وأصحابه يجمعون منهم المال، ومن هذا موضع من الخشب بُنِيَ على الشكل الفلمنكي القديم، وفيه مطاعم وحانات استخدموا لها البنات بالزيِّ الهولاندي القديم وهو جلباب قصير إلى الركبتين، وسترة أكمامها قصيرة أيضًا وجوارب بيضاء صُنِعَتْ باليد وحذاء مكشوف والشعر ملفوف في طاسة نحاسية تُعلق في الرأس يقدِّمن أشكال الطعام والشراب على نغم الموسيقى الوطنية، وغير هذا كثير.
هذا بعض الذي يُقال عن معرض أمستردام، وأمَّا مشاهدها الأخرى فكثيرة، منها المتحف الهولاندي على مقربة من حديقة المعرض، وهو يشغل ١١ ألف متر من الأرض، وله واجهة فخيمة طُلِيَتْ زخارفها بماء الذهب، وفي داخله تحف وصور جميلة لا تُعد ومن أثمنها وأوفرها إتقانًا صورة زنوبيا ملكة تَدْمر بملابسها السورية القديمة، وصور من الكتاب المقدَّس، وصورة لويس نابوليون ملك هولاندا الذي ذكرناه في الخلاصة التاريخية، وصورة نابوليون بونابارت في معركة واترلو التي قضت على عزِّه وهو مطرق في الأرض مغضَب مما لحق به. وفي الدور الأسفل من هذا المعرض رسوم السفن والبواخر الحربية الهولاندية وقد كُتِبَ على كلِّ رسم اسم السفينة وتاريخها والوقائع التي حضرتها، وهنالك أعلام ومدافع قديمة غنموها في الحروب ورسوم السفن الإنكليزية التي غَنِمَها الهولانديون من الإنكليز سنة ١٦٦٦، ورسوم معركة تشاتم من شواطئ إنكلترا في سنة ١٦٦٧، وهي التي انتصروا فيها على الإنكليز أيضًا، وهم يذكرون ذلك مع الفخر وينظرون إلى هذه الرسوم معجَبين.
ومن هذه المشاهد ميدان عظيم (بلين) فيه حدائق بديعة في جوانبه الأربعة، وفي وسطها برك من الرخام الأبيض كثيرة الاتساع يخرج الماء فيها من عيون كثيرة، وتحيط بها الرياحين والأزهار والشجر الباسق ولها منظر كثير الجمال، وإلى جانب هذا الميدان قصر الصناعة الذي كان مركز المعرض السابق في هذه المدينة، دخلناه ورأينا قاعته الكبرى تضمُّ ستة آلاف شخص يجتمعون فيها لسماع الأنغام، وله رواق كبير ذات ثمانية أبواب فُتِحَتْ فيه المخازن لبيع الحرير وأشكال الأبضعة، وإلى جانبه حديقة غَنَّاء تصدح فيها الموسيقى كل يوم بالأنغام فتزيده زهاءً وجمالًا.
وتوجَّهتُ بعد مشاهدة هذه المواقع إلى القصر الملكي، وهو الذي أقام فيه لويس نابوليون مدة ملكه القصير في أول هذا القرن، وتقيم فيه الملكة الحالية حين تزور مدينة أمستردام ولا حاجة إلى القول إنه بناءٌ فخيم، من ضمن قاعاته غرفة كبرى للاستقبال لا يقلُّ ارتفاعها عن ٣٠ مترًا وطولها ٨٠ مترًا والعرض ٣٣، وجدرانها ملبَّسة بالرخام الأبيض المَطْلِي بالذهب وأرضها مفروشة بالرياش الفاخر، وفي صَدْرِها منصَّة وُضِعَ عليها عرش الملكة، وهو من القطيفة الحمراء عليه شعار الملك وأسماء الولايات التابعة لهذه المملكة، وفي القصر من أنواع الزخارف والحدائق والقاعات البديعة ما لا يمكن لنا أن نشير إليه بأكثر من هذا الإيجاز.
ومن أشهر مشاهد أمستردام، ميناؤها المشهور وهو محطُّ رِحَال السفن البخارية والشراعية تؤمُّهُ وتسافر منه إلى كلِّ جهة من جهات الأرض؛ لأن هولاندا مشهورة بتجارتها الواسعة مع المستعمرات الباقية في حوزتها وأكثر السفن التجارية الهولاندية تَعُدُّ ميناء أمستردام مقرها ومركزها؛ لأن هذه المدينة أكبر مدن البلاد وأهمها، ولئن تكن غيرها العاصمة الرسمية فهي في الحقيقة عاصمة الحركة والتجارة بلا مراء، وقد بنوا عند الميناء الطرق المنظَّمة ومدُّوا فوقها خطوط الحديد تجري عليها الأرتال حتى إنه ليمكن أن تنقلَ الأشياء من السفن في البحر على العربات في البرِّ رأسًا، وقسَّموا المينا أحواضًا ثلاثة: أحدها لسفن المتاجر الأوروبية، والثاني لسفن التجارة الشرقية في مستعمرات هولاندا، والثالث للسفن الحربية، وبُنِيَ عند هذه الأحواض مخازن ومستودَعات عديدة للطرود التي تُعَدُّ بمئات الألوف، وقد تمشَّيتُ عند خطِّ هذا المينا المشهور بحركته التجارية حتى دخلت قسمًا من المدينة يكثر فيه الزحام من الذاهبين والآيبين، وفي ذلك القسم المعامل المشهورة لقطع الألماس وصقله، وقد امتاز الهولانديُّون بهذه الصناعة من زمانٍ قديم حتى إن القِطَعَ الكبرى والصغيرة من هذا الجوهر النفيس تُرْسَل من كلِّ جهات أوروبا وأميركا إلى هذه المعامل الهولاندية لتُقطع فيها على الشكل البلوري المعروف، وقد كانت هذه الصناعة سرًّا في عائلة إسرائيلية وصلت من بلاد البورتغال وما علمها أهل أوروبا إلا من نحو ٣٠٠ عام، وهي الآن صناعة كثيرة الموارد ولها معامل كبيرة في هذه المدينة تدور آلاتها بالكهربائية، وهي إذا دارت لقطع الألماس أو جلائه أحدثت صوتًا مثل صوت الحكِّ على الزجاج يتألَّم السامع منه، وفي هذه المدينة معامل كبرى للسجاير الهولاندية، وهي ذات شهرة واسعة، أيضًا منها معمل للحكومة تعمل فيه أربعة آلاف بنت وامرأة، وأرباحه ليست بالشيء القليل، وأهل أمستردام أكثرهم من طائفة البروتستانت وبينهم نحو ٥٠ ألفًا من اليهود جلُّهم سماسرة وتُجَّار بالألماس وعُمَّال في معاملها، فقد قيل إن عمال معامل الألماس في هذه المدينة ١٠ آلاف، منهم ٩ آلاف من الإسرائيليين، ولا تقلُّ قيمة الذي يخرج من أمستردام من هذا الحجر الكريم عن مائة مليون فرنك في السنة.
لاهاي
أقمتُ زمانًا في مدينة أمستردام حتى رأيتُ كلَّ الذي يُرَى فيها، ثم برِحْتُها إلى عاصمة المملكة، وهي مدينة لاهاي، قصدتُّها عن طريق مدينتَي هاولم وليدن، ولهما شهرة ومقام؛ فالأولى يبلغ عدد سكانها ٥٠ ألفًا ولها شهرة واسعة بتربية الأزهار وإنمائها وبيع بذورها، والثانية عُرِفَتْ بمعامل القطن وبمدرسة جامعة مشهورة خَرَجَ منها الفلاسفة وأصحاب الاكتشافات الكيماوية، وقد طُبِعَتْ فيها كتب عربية كثيرة، وكنَّا نَمُرُّ في أراض فسيحة تخترقها فروع من نهر الرين وتستقي منها الأبقار الغريبة، وهي تمتاز عن نوعها في بقية الجهات في أن نصف جلدها أسود والنصف أبيض، ولتلك البقاع منظر جميل وأدلَّة الاعتناء والتعب ظاهرة في جميع جوانبها.
ودخلنا مدينة لاهاي عاصمة هذه البلاد سُمِّيَتْ بهذا الاسم؛ لأنها بُنِيَتْ في موضع غابة وتحيط بها الحِرَاج من أكثر الجوانب، ومعنى اسمها في لغة القوم غابة أو حَرَجَة، وهنا قاعدة المملكة ومركز الحكومة الهولاندية، وما يتبعها من الإدارات والمصالح وقصور الملك والسفارات وغير ذلك، وهي من العواصم القليلة التي تقلُّ في الأهمية عن غيرها من مدائن المملكة، فإن سكانها لا يزيدون عن مائتي ألف والحركة التجارية فيها لا تُذْكَر في جنب حركة روتردام وأمستردام، وهما فرضتا التجارة الهولاندية على مقربة منها، وقد امتنعت الحكومة عن وصل هذه العاصمة بالبحر مع قربها منه؛ لأنها آثرت أن تبقي المدينة بمعزِل عن الحركة التجارية وتجعلها مثل واشنطن عاصمة الولايات المتحدة مقرًّا للحركة السياسية فقط. ولمَّا وصلتُ هذه العاصمة استأجرتُ رجلًا صناعته الترجمة ومرافقة السائحين، فدلَّني إلى أهمِّ مشاهدها وذهبتُ معه إلى ميدان «بلين»، فيه أشجار الكستناء الباسقة منسَّقة تنسيقًا بديعًا، وقد أُقيم في وسطه تمثال لوليَم الأول أمير هولاندا الذي أسَّس المملكة الحالية من آل أورانج ناسو، ويحيط بهذا الميدان وزارات المملكة، لكلٍّ منها بناءٌ خاصٌّ وفنادق عظيمة ومنازل ذات حسن وبهاء، وهو على مقربة من ميدان آخر أجمل منه وأكبر يُعْرَفُ باسم فورهوت، ومن حوله صفوف من الشجر الجميل، وفي داخله حدائق صغيرة رُصِّعَتْ بأجمل الأزهار والرياحين، ويتصل به ميدان لانج فورهوت، وهو مثل الذي سبق وصفه فيه تمثال الأمير فريدريك ناسو أول ملوك الدولة الحالية من بعد خروج البلاد عن طاعة الدولة الفرنسوية في سنة ١٨١٣، والتمثال قائم على مرتَفَعٍ من الرُّخَامِ رُسِمَتْ عليه صور الولايات الهولاندية وشعار الدولة، وحوله سور من الحديد، وهنالك ميادين أخرى كثيرة الجمال، وهي متقاربة وضعًا وشكلًا، ولهذه المدينة امتياز بهذه الميادين الفخيمة وبالحراج المحيطة بها، وهي فوق جمال شجرها الطبيعي مرصَّعة بالزهر على أشكال تتضوَّع منه الروائح العطرية، وقلَّ أن ترى في المدينة شارعًا لا يطلُّ على ميدان أو غابة أو حديقة، فلا بدْعَ إذا سُمِّيَتْ باسم هذه الغابات التي تميِّزها عن سواها.
ولاهاي مثل غيرها من مدائن هولاندا مبنيَّة منازلها بالطوب الأحمر وأرض شوارعها مرصوصة بمثله أيضًا، وهي آية في نظافتها؛ لأن الشوارع وجدران المنازل تُغْسَلُ بالماء النقي من حينٍ إلى حينٍ، وللأهالي تمسُّكٌ غريب بالنظافة يُرْوَى عنهم، وقد برع الهولانديون بالفنون الجميلة، مثل التصوير والحفر والنَّقْش وقام منهم مشاهير عظام تُذْكَر أسماؤهم في متاحف الفنون الجميلة في كل البلاد، مثل فانديك ورمبراند وصورهما موجودة في كل متاحف أوروبا، مثل صور رفائيل الإيطالي، ومنها قسم عظيم في متحف هذه المدينة دخلتُه ودرتُ في جوانبه، وذُهلتُ من إتقان ما فيه من الصور البديعة التي يقفُ المرء أمامها ساعات ولا يملُّ من النظر إليها، أذكر منها صورة آدم وحوَّاء في الفردوس، وصورة هيردوس والي فلسطين يأمر بذبح الأطفال عند ولادة المسيح، وهي صورة كبيرة تَشْغَلُ جدارًا بأكمله، وصورًا أخرى لا محلَّ هنا لذكرها.
وبعد أن رأيتُ هذا المتحف الجميل ذهبتُ ومعي الدليل إلى قصر الملكة ودخلتُهُ وحدي؛ لأن التراجمة لا يحقُّ لهم مرافقة المتفرِّجين إلى داخله، كما أنَّه لا يجوز لأحد الخادمين أن يقبل مالًا من أحد الداخلين، ورأيتُ في ساحة القصر تمثال وليم الأول الذي مرَّ ذكره نُصِبَ بأمر ابنه وليم الثاني سنة ١٨٤٥، وفي القاعة العمومية من قاعات هذا القصر صور جميع الذين حكموا هولاندا من آل أورانج ناسو، في جملتهم الملكة ولهلمينا الحالية والكل بقدهم الطبيعي، وفي هذا القصر قاعات عظيمة غير هذه وُضِعَ في إحداها بعض ما أُرسل إلى ملوك هولاندا من نفيس التحف وثمين الهدايا، من ذلك أوانٍ من الفخار الصيني البديع صُنِعَ معمل سيفر الفرنسوي المشهور، أرسلها الإمبراطور نابوليون الثالث إلى وليم الثالث والد الملكة الحالية، ومنضدة من حجر المالكيت الغالي الثمن من إمبراطور روسيا إسكندر الثاني، ومنضدة أخرى من قَدَاسة البابا بيوس التاسع زُيِّنَتْ بالفُسَيفِسَاء، ورسم قلعة من الرخام قدمها الجنود الهولانديون وفي رأسها العلم الوطني وإلى جوانبها الجنود من فرقة المدفعية بمدافعهم والمشاة ببنادقهم والفرسان بخيلهم وكله حُفر على رخام هذه القلعة الصغيرة، ومن ذلك ثريا (نجفة) من الفضَّة أهدتْها بلدية أمستردام للملك وغير هذا كثير. ودخلت أيضًا قاعة المكتب، وهي ملبسة جدرانها بخشب الماهوجان الأحمر، فقاعة النوم وجدرانها ملبسة بالحرير الأحمر رُسِمَتْ عليه عروق وفروع، وهو من النوع المسمَّى «دمشقي»، ورياش الغرفة من هذا النوع أيضًا، والسرير من خشب الماهوجان فوقه ناموسية من الحرير الأبيض، وفي أعلاها التاج الملكي من الذهب.
ومن أهمِّ ما يُذْكَرُ بين مشاهد هذه المدينة قصر الغاب، بَنَتْهُ أميرة اسمها إملي سنة ١٦٤٧؛ تذكارًا لزوجها الأمير فريدريك هنري من آل أورانج، وأَنْفَقَتْ مالًا طائلًا على كتابة تاريخ هولاندا بالرسوم في جدرانه، وهذا نسق كما تعلم قليل المثال، فلَّما ولجْتُه وجدتُ جوانبه غاصَّة بالسائحين والمتفرِّجين، وفيه قاعات كبرى فُرِشَتْ على النسقِ الصيني والنسقِ الهندي وقاعة بديعة واسعة الجوانب رُسِمَ على جدرانها وسقفها البرنس فريدريك المذكور بكل أدوار حياته وحروبه واستقلاله من حكم إسبانيا وقَتْلِهِ غدرًا بإغراء فيليب الثاني ملك إسبانيا على مثل ما مرَّ في الخلاصة التاريخية. ولهذا القصر منزلة في النفوس كبيرة حتى إنهم لمَّا قرَّ رأي الدول مؤخَّرًا على اجتماع مؤتمر السلام في عاصمة هولاندا أُعِدَّ لمندوبي الدول يتداولون فيه، وهو من أهمِّ المؤتمرات السياسية التي عُقِدَتْ في العصور الحديثة.
ومما يُذْكَر أيضًا موضع مشهور في كلِّ أوروبا وُجِدَ على مقربة من هذه العاصمة واسمه شفنتجن وهو للحمَّامات العظيمة، يمكن أن يُقال إنه لمدينة لاهاي مثل سان ستفانو لمدينة الإسكندرية؛ لأنه محطُّ الرِّحال ومقصد الجماعات في أيام الصيف يأتيه الناس من كل جهة فلا يقلُّ عدد الزائرين عن خمسة وعشرين ألفًا في السنة، ويقرب الموجود منهم كل يوم من خمسة آلاف يأتون عن طريق لاهاي في عربات الترامواي البخارية، وهي تسير بهم في تلك الغابات نحو ثلاث ساعات، هذا غير الذين يأتونها رأسًا من إنكلترا في بواخر خاصة لهذا الغرض، والقارئ يعلم أن الحمَّامات البحريَّة في كلِّ موضع موصوفة بالجمال، ولكن شفنتجن هذه من أكثرها شهرةً وجمالًا بُنِيَتْ في أرض رملية وفيها من المطاعم والفنادق والحانات وأماكن ذوي الفراغ واللهو ما يُعَدُّ بالعشرات، ويمتدُّ على شاطئ البحر مسافة ثلاثة آلاف متر، ومن أشهر هذه الأبنية حانة كبرى (كازينو) فيها قاعة للموسيقى تضم ثلاثة آلاف سامع وسامعة، ومطعم فيه موضع لخمسمائة شخص وقاعة للرقص رياشها فاخر كله من القطيفة الحمراء المزركشة بالقصب وعليها شعار الدولة الهولاندية، وفي سقفها وجوانبها مصابيح تُنار بالكهربائية، وفي هذا الكازينو أيضًا قاعة للقراءة والمطالعة وضعوا فيها عشرات من الصحف والمجلات أكثرها هولاندية وبعضها فرنسوية وألمانية وإنكليزية، وفيها مناضد للكتابة وورق وبقية لوازم التحرير وصندوق للبريد ومكتب للتلغراف والتلفون، وغير هذا مما تتوفَّر معه الراحة ويكثر الهناء، وفيه قاعات للتدخين وللمسامرة ولألعاب الورق على أشكالها، ورحبات فسيحة مزخرفة الجوانب، وفي الدور الأعلى من هذا الكازينو فندق فيه مائتا غرفة، وإلى مقربة منه مرسح لتمثيل الروايات ومضمار لسباق الخيل ومسافات بعيدة من الرمل النقي يتمشَّى عليها الناس حفاة، ويلعب الصغار برملها وهم يُعِدُّون ذلك من أحسن أنواع الرياضة المفيدة للأبدان.
والحمَّامات هنالك واسعة كثيرة العدد، منها ما يختلط فيه الرجال والنساء، ومنها ما حُفِظَ للرجال وحدهم وللنساء وحدهنَّ، وقد عُني أصحاب هذه المحلات بما يلزم للسيدات من أسباب الراحة مع الحمَّام؛ فصنعوا عربات خاصة تسير بالتي تريد الاستحمام إلى الماء، ولمَّا تنتهي منه تعود بالعربة إلى حيث يمكن لها المسير، وتلبس ملابسها بالعربة، وكل ذلك حتى لا تتحمَّل مشقة المشي على الرمل إذا أرادت، وهنالك كراسي كبيرة من القشِّ يجلس إليها المرء أو السيدة بعد الاستحمام، ويلذُّ حينئذ شرب المنعشات أو مطالعة الصحف والروايات، وإلى جانب الحمامات تلك الرمال التي ذكرناها والناس يتفنَّنون في المشي عليها أو اللعب على طرق شتَّى، وبعضهم يركبون الحمير والخيل وبعضهم يجرُون على الأقدام والبعض يتمرَّغون أو يتكئون، والبعض يقفون، فترى على ذلك الشاطئ البهيِّ نحو خمسة آلاف شخص على كل حالة من الحالات يلعبون ويطربون حتى إذا تمَّ لهم ذلك، دخلوا الكازينو لسماع الأنغام في قاعة الموسيقى أو لتناول الطعام على تلك الموائد الشهية، ويقومون بعد العشاء إمَّا للرقص والمخاصرة في قاعة «البالو»، أو ينفرد الرجال منهم جماعات جماعات في غرفة المقامرة واللعب، فيقضون معظم الليل فيها، وعلى هذا يقضي الناس أوقاتهم هنا، حيث لا يُعْرَفُ الهمُّ ولا يخطر على البال كدر ولا غم.
وشوارع هذه المدينة كلها أو جلُها واسعة صُنِعَتْ على نَسَقٍ واحد بديع المنظر، فإنك ترى في أحد الجانبين صفًّا من الأبنية النظيفة وأمامه رصيف واسع لمرور الناس عليه، ومن بعده مجال واسع للعربات ومن بعد ذلك صف من الشجر الجميل وبعده الترعة، والترع كما علمت داخلة في أكثر أنحاء المدينة، وفي الجهة الثانية من الترعة شجر فمجال للعربات الذاهبة والآيبة، فرصيف للمارة فمنازل الناس ومخازنهم، بحيث إنك إذا أردتَ الوصول من طَرَفِ أحد الشوارع إلى الطرف الآخر لزِمَ لك العبور فوق القنطرة، وكل ذلك المجال في جانبي الشارع، والنزهة في ترع روتردام ولا سيما الترعة الكبرى فيها من أجمل ما يمكن للسائح أن يمتِّع به الطَّرْف، فهي تشبه ترعة السويس في أهميتها وجمال السفر فيها شبهًا كبيرًا. وفي المدينة مشاهد كثيرة، منها حديقة بديعة حَوَتْ نباتًا وزهرًا عُني أصحاب العلم بنقله من أقصى أنحاء الشرق والغرب ولأشكاله الكثيرة غرابة وجمال.
ولمَّا انتهينا من مشاهدة هذه المناظر عَزَمْنَا على مبارحة بلاد هولاندا والسفر إلى بلاد البلجيك، وهي كما علمت متاخمة لها فقمنا منها ومررنا على بلد روزنتال وعلى جسر عظيم بُنِيَ فوق نهر الموز عند مصبِّه في البحر الشمالي، ولذلك الجسر شهرة واسعة لأنه يُعَدُّ من أطول الجسور في الأرض كلها ومن أكثرها جمالًا وغرابة، يسير فوقه القطار نحو خمس دقائق، وقد بُنِيَ على ١٤ قنطرة يبلغ المجال بين الواحدة منها والثانية مائة متر، وفيه من الحديد ما يزيد وزنه عن أحد عشر مليونًا وسبعمائة وتسعين ألف كيلو، لا يقلُّ ثمنه عن اثني عشر مليون فرنك، وكان الرُّكَّاب جميعهم مدَّة مرور القطار فوق هذا الجسر يتطالون ويتطلَّعون حتى لا يفوتَهم منظر من أجمل المناظر، واستمرَّ بنا الرتل يقطع المسافات حتى بلغنا بلدة أشن، وهي عند الحدود الفاصلة بين هولاندا وبلجيكا فنزلنا هنالك للتفتيش المعتاد عند الحدود، وانتهينا بهذا من السياحة في هولاندا وهي بلاد الاجتهاد والنشاط الكثير.