مصرع مصعب بن الزبير
فجاء غلام فضربه بالسيف فقتله.
قالوا: «إن عبد الملك لما أيس من مصعب كتب إلى أناس من رؤساء أهل العراق يدعوهم إلى نفسه ويجعل لهم أموالًا عامة وشروطًا وعهودًا ومواثيق وعقودًا.»
قالوا: وكتب إلى «إبراهيم بن الأشتر» يجعل له وحده مثل ما جعل لأصحابه على أن يخلعوا عبد الله بن الزبير إذا التقوا.
فقال إبراهيم بن الأشتر لمصعب: «إن عبد الملك قد كتب إليَّ هذا الكتاب وكتب لأصحابي كلهم «فلان» و«فلان» بذلك. فادع بهم — في هذه الساعة — فاضرب أعناقهم واضرب عنقي معهم.»
فقال مصعب: «ما كنت لأفعل ذلك حتى يستبين لي ذلك من أمرهم.»
قال إبراهيم: «فأخرى.»
قال: «وما هي؟»
قال: «احبسهم في السجن حتى يتبين لك ذلك.»
فأبى، فقال له إبراهيم بن الأشتر: «عليك السلام ورحمة الله وبركاته ولا تراني — والله — بعد في مجلسك هذا أبدًا.»
وقد كان قال له قبل ذلك: «دعني أدعو أهل الكوفة بدعوة لا يخلعونها أبدًا. وهي ما شرطه الله.»
فقال له مصعب: «لا والله لا أفعل. لا أكون قتلتهم بالأمس وأستنصر بهم اليوم.»
قال: «فما هو إلا أن التقوا، فحولوا برءوسهم ومالوا إلى عبد الملك بن مروان فبقي مصعب في شرذمة قليلة.»
فجاءه «عبد الله بن ظبيان» فقال: «أين الناس أيها الأمير؟»
فقال «غدركم يا أهل العراق.»
قال: فرفع «عبد الله» سيفه ليضربه. فبدره «مصعب» بالسيف على البيضة، فنشب فيها. فجعل يقلب السيف ولا ينتزع من البيضة. قال: فجاءه غلام «لعبيد الله بن ظبيان» فضرب مصعبًا بالسيف فقتله. ثم جاء «عبيد الله» برأسه إلى عبد الملك يدعي أنه قتله. قالوا: فطرح رأسه وقال:
الأسباب التي أدت إلى مصرعه
لعل القارئ يستغني بتلك القطعة السابقة عن شرح الأسباب التي أدت إلى هلاك مصعب بن الزبير، فهي في اعتقادنا كافية لشرح أخلاقه وإظهار سر هزيمته. فأنت ترى عبد الملك لا يتعفف عن بذل المال وإغداقه على جنود أعدائه ليستميلهم به، وقد رأيت أن مصعبًا كان بخيلًا على الجند — وإن كان مسرفًا على نفسه — حتى قال فيه القائل:
وأنت ترى مصعبًا لا يأخذ الأمور بالحزم وقوة الشكيمة، ولا يتلافى الشر من أوله؛ فهو يتعرف من صديقه سر المؤامرة التي دبرها له أعداؤه ثم يأبى أن يعد لها ما هو جدير بإعداده من وسائل وقوى.
ويطلب إليه صديقه أن يستنجد بأهل الكوفة — وهو في مثل هذا المأزق الحرج — فلا يقبل له قولًا.
وإذا كانت هذه حاله وهو يجابه أشد ساعات حياته هولًا وضيقًا، فكيف به في أيام رخائه وسلمه؟
وإذا كان غيره يأخذون الأبرياء بالظنة، أفما كان جديرًا أن يفحص هذه التهمة ويتعرف صدقها من كذبها على الأقل؟ ولكنه لم يفعل، بل فرط وتهاون فلقي جزاء تهاونه وتفريطه.
•••
وقد قلنا في الفصل السابق إن الفرق بين السياستين عظيم جدًّا، وإن سياسة عبد الملك وأضرابه مبنية على الدهاء والإيقاع وبذل الرشا والمال، حينما نرى سياسة مصعب بن الزبير وأخيه عبد الله بن الزبير قائمة على الاعتقاد بحقهم الشرعي في الخلافة وحب الناس إياهم. ولكن ماذا ينفعهم إقبال الناس عليهم ما داموا لا يستزيدونهم منه ولا يعرفون كيف يستثمرونه ويتعهدونه.
لقد كان عبد الملك — كما كان معاوية — يجعل أمامه هدفًا لا يحول عنه. وهو أن يقر الناس ببيعته، فإذا رأى زعيمًا من زعمائهم تخلف وعصى أغراه بكل وسيلة من وسائل المال والأماني الخداعة، فإذا خدعه أدرك بغيته منه، وإلا لجأ إلى إغراء أنصار هذا الزعيم بالمال وبذل لهم من الوعود والمغريات مثل ما بذل لصاحبهم من قبل.
قالوا: وكتب عبد الملك إلى «بكير بن وشاح» وكان خليفة بن خازم على (مرو) بعهده على خراسان ووعده ومناه، فخلع بكير بن وشاح عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو.
•••
فخشي ابن خازم عاقبة الأمر فأراد الالتجاء إلى ابنه بالترمذ ولكن أعداءه قتلوه قبل أن يصل إليها.
هوامش
قالوا: واعتور عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجشمي ووكيع فطعنوه فصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله. فقال بعض الولاة لوكيع: «كيف قتلت ابن خازم؟» قال: غلبته بفضل القنا فلما صرع قعدت على صدره فحاول القيام فلم يقدر عليه. وقلت: يا لثارات دويلة — وكان دويلة أخًا لوكيع — قال: فتنخم في وجهي، وقال: «لعنك الله! تقتل كبش مضر بأخيك وهو علج لا يساوي كفًّا من تراب؟» قال وكيع: «فما رأيت أحدًا أكثر ريقًا منه على تلك الحال عند الموت».