مصرع سعيد بن جبير
قال: بلى قال: فما حملك على خروجك عليَّ؟
قال: عزم عليَّ.
فطار غضبًا وقال: هل رأيت لعزمة عدو الرحمن عليك حقًّا، ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ولا لي عليك حقًّا؛ اضربوا عنقه. فضربت عنقه.
سبب قتله
قلنا — في الكلام على مصرع عبد الرحمن بن الأشعث — إن سعيد بن جبير ناصره وخلع معه طاعة الحجاج، بعد أن فشل في إقناع ابن الأشعث بالرجوع عن عزمه، وكأنما كان ابن ربيعة يعنيه بقوله:
فلما هزم ابن الأشعث هرب معه سعيد وظل مختفيًا والحجاج يطلبه إلى سنة ٩٤ وأخيرًا مل سعيد الاختفاء، بعد أن ضيق عليه الحجاج الحصار.
قال له أحد خلصائه: «إن فلانًا قد أمر على مكة، وهو رجل سوء لا يؤمن، وأنا أتقيه عليك فاظعن وأشخص.»
فقال له ابن جبير: «قد واللهِ فررت حتى استحييت من الله، سيجيئني ما كتب الله لي.»
وهكذا استسلم ابن جبير لقضاء الله حتى قبض عليه عامل الحجاج وبعث به إليه.
في الطريق إلى المصرع
قالوا: ولما أقبل الحرسيَّان بسعيد بن جبير، نزل منزلًا قريبًا من «الربذة» فانطلق أحد الحرسيين في حاجته، وبقي الآخر.
فاستيقظ الذي عنده — وقد رأى رؤيا — فقال له: «يا سعيد أبرأ إلى الله من دمك، إني رأيت في منامي، فقيل: «ويلك، تبرَّأ من دم سعيد بن جبير!» اذهب حيث شئت، لا أطلبك أبدًا.»
فقال له سعيد: «أرجو العافية وأرجو.»
وأبى حتي جاء ذاك. فنزلا من الغد، فأُرِيَ مثلها فقيل: «ابرأ من دم سعيد.»
فقال: «يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك.» فلم يقبل سعيد وأصر على الذهاب معهما إلى الحجاج.
قال شاهد عيان: لما رأى الحجاج سعيد بن جبير أقبل عليه وقال له: «يا سعيد، ما أخرجك عليَّ؟»
فقال: «أصلح الله الأمير، إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة.»
قال: فغضب الحجاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه.
فقال: «يا سعيد ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟»
قال: «بلى.»
قال: «ثم قدمت الكوفة واليًا على العراق، فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية؟»
قال: «بلى.»
وهنا اهتاج الحجاج وامتلأت نفسه غيظًا وحنقًا فصاح قائلا: اضربوا عنقه.
حوار قصصي
وقد ذكروا حوارًا ظريفًا لا نشك في أن للخيال جانبًا كبيرًا فيه فقالوا: لما قدم سعيد على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال سعيد. قال: ابن من؟ قال: ابن جبير. قال: بل أنت شقي ابن كسير. قال سعيد: أمي أعلم باسمي واسم أبي. قال الحجاج: شقيت وشقيت أمك. قال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأوردنك حياض الموت. قال سعيد: أصابت إذًا أمي اسمي. فقال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارًا تلظى. قال سعيد: ولو أني أعلم أن ذلك بيدك لاتخذتك إلَهًا. قال الحجاج: فما قولك في محمد؟ قال سعيد: نبي الرحمة ورسول رب العالمين إلى الناس كافة بالموعظة الحسنة. فقال الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟ قال سعيد: لست عليهم بوكيل كل امرئ بما كسب رهين. قال الحجاج: اشتمهم أم امدحهم.
قال سعيد: لا أقول ما لا أعلم إنما استحفظت أمر نفسي. قال الحجاج: أيهم أعجب إليك؟ قال: حالاتهم يفضل بعضهم على بعض. قال الحجاج: صف لي قولك في علي؛ أفي الجنة هو أم في النار؟ قال سعيد: لو دخلت الجنة فرأيت أهلها علمت، ولو رأيت من في النار علمت، فما سؤالك عن غيب قد حفظ بالحجاب؟! قال الحجاج: فأي رجل أنا في يوم القيامة؟ فقال سعيد: أنا أهون على الله من أن يطلعني على الغيب. قال الحجاج: أبيت أن تصدقني. قال سعيد: بل لم أرد أن أكذبك. فقال الحجاج: فدع عنك هذا كله، أخبرني ما لك لم تضحك قط؟ قال: لم أر شيئًا يضحكني، وكيف يضحك مخلوق من الطين والطين تأكله النار ومنقلبه إلى الجزاء، واليوم يصبح ويمسي في الابتلاء. قال الحجاج: فأنا أضحك. فقال سعيد: كذلك خلقنا الله أطوارًا. قال الحجاج: هل رأيت شيئًا من اللهو؟ قال: لا أعلمه. فدعا الحجاج بالعود والناي قال: فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد، قال الحجاج: ما يبكيك؟ قال: يا حجاج ذكرتني أمرًا عظيمًا، والله لا شبعت ولا رويت ولا اكتسيت ولا زلت حزينًا لما رأيت. قال الحجاج: ما كنت رأيت هذا اللهو؟! فقال سعيد: بل هذا والله الخرق، أما هذه النفخة فذكرتني يوم النفخ في الصور، وأما هذا المصران فمن نفس ستحشر معك إلى الحساب، وأما هذا العود فنبت بحق وقطع لغير حق، فقال الحجاج: أنا قاتلك. قال سعيد: قد فزع من تسبب موتي. قال الحجاج: أنا أحب إلى الله منك. قال سعيد: لا يقدم أحد على ربه حتى يعرف منزلته منه، والله بالغيب أعلم. قال الحجاج: كيف لا أقدم على ربي في مقامي هذا، وأنا مع إمام الجماعة وأنت مع إمام الفرقة والفتنة؟ قال سعيد: ما أنا بخارج عن الجماعة ولا أنا براض عن الفتنة، ولكن قضاء الرب نافذ لا مرد له. فقال الحجاج: كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟ قال سعيد: لم أر شيئًا. فدعا الحجاج بالذهب والفضة والكسوة والجوهر فوضع بين يديه قال سعيد: هذا حسن إن قمت بشرطه. قال الحجاج: وما شرطه؟ قال: أن تشتري له بما تجمع الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، وإلا فإن كل مرضعة تذهل عما أرضعت، ويضع كل ذي حمل حمله، ولا ينفعه إلا ما طاب منه. قال الحجاج: جمعنا طيبًا. قال: برأيك جمعته وأنت أعلم بطيبه. قال الحجاج: أتحب أن لك منه شيئًا؟ قال: لا أحب ما لا يحب الله. قال الحجاج: ويلك! قال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة فأدخل النار. قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه. قال: إني أشهدك يا حجاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أستحفظكهن يا حجاج حتى ألقاك. فلما أدبر ضحك قال الحجاج: ما يضحكك يا سعيد؟! قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك. قال الحجاج: إنما أقتل من شق عصا الجماعة ومال إلى الفرقة التي ينهى الله عنها. اضربوا عنقه. قال سعيد: حتى أصلي ركعتين. فاستقبل القبلة وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين. قال الحجاج: اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النصارى الذين تفرقوا واختلفوا بغيًا بينهم فإنه من حزبهم. فصرف عن القبلة فقال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله الكافي بالسرائر. قال الحجاج: لم نوكل بالسرائر وإنما وكلنا بالظواهر. قال سعيد: اللهم لا تترك له ظلمي واطلبه بدمي واجعلني آخر قتيل يقتل من أمة محمد.
فضربت عنقه ثم قال الحجاج: هاتوا من بقي من الخوارج. فقرب إليه جماعة فأمر بضرب أعناقهم فقال: «ما أخاف إلا دعاء من هو في ذمة الجماعة من المظلومين، فأما أمثال هؤلاء فإنهم ظالمون حين خرجوا عن جمهور المسلمين وقائد سبيل المتوسمين.» وقال قائل: إن الحجاج لم يفرغ من قتله حتى خولط في عقله وجعل يصيح: قيدونا قيدونا يعني القيود التي كانت في رجل سعيد بن جبير، ويقال متى كان الحجاج يسأل عن القيود ويعبأ بها.
•••
وما نحسب الحجاج إلا فزع وارتاع لقتل هذه الشخصية الكبيرة الفذة وندم أشد الندم، ولكن بعد أن سبق السيف العذل.