مصرع أبي مسلم الخراساني
وأخذ أبو مسلم بيد المنصور يعركها ويعتذر إليه. ولكن المنصور أسرع فصفق بيده، فخرج عثمان بن نهيك فضربه ضربة خفيفة بالسيف فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه.
فأومأ أبو مسلم إلى رجل أبي جعفر يقبلها ويقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، استبقني لأعدائك. فدفعه برجله وقال له: لا أبقاني الله إذن، وأي عدو لي أعدى منك؟
فضربه شبيب فقطع رجله.
فقال أبو مسلم: واتعساه، ألا قوة؟ ألا مغيث؟
وصاح المنصور: اضربوه، قطع الله أيديكم. فاعتوره القوم بالسيوف فقتلوه.
(١) مقدمات المصرع
في الحج
بدأت مطامع أبي مسلم تتجلى واضحة في آخر خلافة أبي العباس وأول خلافة أبي جعفر، وبدأ النفور يظهر رويدًا حتى انتهى بهذا الموضوع المروع!
وقد بدأ الخلاف يظهر واضحًا والامتعاض يشتد حين كتب أبو مسلم إلى أبي العباس يستأذنه في الحج سنة ١٣٦، قالوا: «وإنما أراد أن يصلي بالناس.» فأذن له.
وخشي أبو العباس من نفوذ أبي مسلم وتعاظم شأنه وخطره، فكتب إلى أبي جعفر يقول: «إن أبا مسلم كتب إليَّ يستأذن في الحج وقد أذنت له، وقد ظننت أنه إذا قدم يريد أن يسألني أن أوليه إقامة الحج للناس، فاكتب إليَّ تستأذنني في الحج، فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك.» ففعل.
ولم يكد يعلم أبو مسلم بخروج أبي جعفر إلى الحج حتى امتلأت نفسه غيظًا وحقدًا وقال: «أما وجد أبو جعفر عامًا يحج فيه غير هذا.»
ولم تكن مثل هذه الحيلة لتخفى على ذكاء أبي مسلم وبعد نظره، فقد شعر أنهم ينفسون عليه مكانته ويستكثرون عليه ما ناله من رفعة وخطر. قالوا: فاضطغنها على أبي جعفر.
ولم يقف أبو مسلم عند هذا الحد، فكان يتحبب إلى العرب ويستجلب مودتهم قالوا: «وكان يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كل منزل ويصل من سأله.» قالوا: «وكسا الأعراب البتوت والملاحف، وحفر الآبار وسهل الطرق. فكان الصوت له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه.»
وفي بعض هذا ما يثير الأحقاد، ويلهب الحسد في نفس أبي جعفر الذي لم ينس له تقدمه عليه في الحج، ولم يترك حيلة إلا احتالها عليه حتى شفى نفسه بالانتقام منه.
•••
وإن أبا جعفر ليفكر في الانتقام من أبي مسلم والكيد له، إذا بأبي جعفر يُنادى به خليفة المسلمين — بعد أن مات أبو العباس — فيصبح وفي يده كل وسائل الانتقام والكيد.
ثم يكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يعزيه بأمير المؤمنين، ويغفل تهنئته بالخلافة. قالوا: «ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع.»
فيزيد بذلك غضب أبي جعفر، فيأمر بتقريعه في كتاب شديد اللهجة قاسي الأسلوب، فيبعث إليه أبو مسلم يهنئه.
ويريد أبو جعفر أن يعمل بالانتقام من أبي مسلم، فيشير إليه أحد نصحائه البعيدي النظر بالتريث حتى يعد للانتقام عدته. ويحذره من الاشتباك مع أبي مسلم في الطريق، والناس جنده وهم له أطوع وله أهيب، وليس مع أبي جعفر أحد. فيرى صواب رأي هذا الناصح فيأخذ به.
قالوا: فكان يتأخر ويتقدم أبو مسلم.
(٢) تمادي أبي مسلم في عدائه
فأبلغْ أبا أيوب أني قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه.
إنه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرؤه ثم يلوي شدقه ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر فيقرؤه ويضحكان استهزاء.
ولقد وجدت الوشايات مرتعًا خصيبًا، فقد حاول الواشون أن يتقربوا إلى هاتين القوتين بالتفرقة بينهما، وكان أبو مسلم يعرف حق المعرفة منعة جانبه وعجز أبي جعفر عن الانتقام منه.
وكان أبو جعفر يسترخص كل غال ويذلل كل عقبة في سبيل الانتقام، وكان يميل إلى سماع الاتهام، كما كان خصمه متوتر الأعصاب ثائر النفس متأهبًا للانقضاض عليه ودك عرشه.
قالوا: وخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان فتعظم قوته، فكتب إليه كتابًا يقول فيه: «قد وليتك مصر والشام، فهي خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام، فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب.»
وما كان أبو مسلم الذكي الفطن ليخفى عليه معنى هذا الكلام، فغضب أشد الغضب حين قرأه، وقال: «هو يوليني الشام ومصر، وخراسان لي.»
قالوا: وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعًا على الخلاف، وخرج من وجهه معارضًا يريد خراسان.
بين أبي جعفر وأبي مسلم
كتاب أبي مسلم
كتاب أبي جعفر
قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم؟
فأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سماعٌ ولا طاعة.
وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابًا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك.
رسائل أبي جعفر
ولم يكتف أبو جعفر بما كان يبعث به من الكتب المنمقة إلى أبي مسلم، وبما كانت تحويه من العبارات الخلابة والثناء المزيف، فقد كانوا يكتبون إليه يعظمون أمره ويشكرون ما كان منه، ويسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذرونه عاقبة الغدر ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين وأن يلتمس رضاه. نقول: لم يكتف أبو جعفر بذلك، فكان يرسل دهاة الساسة عنده إلى أبي مسلم يغررون به، ويظهرون له إعجاب أبي جعفر بحزمه وشجاعته وتقديره لخدماته وبعد نظره.
فقد بعث بأحد هذه الكتب مع أبي حميد المروروذي وقال له: «كلم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدًا، ومَنِّهِ وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد، إن هو صلح وراجع ما أحب، فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: «لستُ للعباس وأنا بريء من محمد إن مضيت مشاقًّا ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم آل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك.» ولا تقولن له هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ولا تطمع منه في خير.»
فيذهب أبو حميد في معشر من دهاة أصحابه وذوي الرأي والتأثير إلى أبي مسلم فيدفع إليه الكتاب ويقول له: «إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله وخلاف ما عليه رأيه فيك حسدًا وبغيًا يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك.»
ولا يزال يضرب له على هذه الوتيرة ويبالغ له في التعظيم، ثم يقول له: «يا أبا مسلم، إنك لم تزل أمين آل محمد، يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذاك أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينك الشيطان.» فيقول له أبو مسلم: «متى كنت تكلمني بهذا الكلام؟!»
فيقول له متظاهرًا بالإخلاص له والحب: «إنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبي ﷺ بني العباس، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك، فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم وألَّف بين قلوبنا بمحبتهم وأعزنا بنصرنا لهم، ولم نَلْقَ منهم رجلًا إلَّا بما قذف الله قلوبنا حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن نفسد أمرنا ونفرق كلمتنا، وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه وإن خالفتكم فاقتلوني.»
وهنا يقبل أبو مسلم على أحد أصفيائه فيقول له من غير أن ينخدع: «يا مالك، أما تسمع ما يقول لي هذا؟ ما هذا بكلامه يا مالك.»
فيقول له صاحبه موافقًا: «لا تسمع كلامه ولا يهولنك هذا منه، فلعمري لقد صدقت، ما هذا بكلامه، ولما بعد هذا أشد منه فامض لأمرك ولا ترجع، فوالله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع في نفسه منك شيء، لا يأمنك أبدًا.»
ثم يأمرهم بالقيام فينفض المجلس، ويرسل أبو مسلم إلى «نيزك» فيعرض عليه الأمر، فيشير عليه أن يقيم بالري ولا يذهب إلى أبي جعفر، ويقول له: «فيصير ما بين خراسان والري لك، وهم جندك ما يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جندك وكانت خراسان من ورائك، ورأيت رأيك.»
ثم يرسل أبو مسلم إلى أبي حميد رسول أبي جعفر ليبلغه رفضه نصيحته، ويقول له أبو مسلم: «ارجع إلى صاحبك فليس من رأيي أن آتيه.»
فيقول له أبو حميد مدهوشًا: «أعزمت على خلافه؟» فيقول له أبو مسلم: «نعم» فيقول له أبو حميد: «لا تفعل.»
ويدور بينهما حوار يتمثل في دهاء أبي حميد ويقظة أبي مسلم، فيلجأ أبو حميد إلى إظهار عاقبة المخالفة وما ينتج عنها من النتائج الخطيرة، فيبدو الوجوم على وجه أبي مسلم، ويتردد في قراره، ثم يصرف عنه أبا حميد.
ولا يفوت أبا جعفر أن يتقرب إلى أنصار أبي مسلم وأعوانه الأشداء بكل وسيلة، فيبعث إلى «أبي داود» خليفة أبي مسلم بخراسان: «إن لك إمرة خراسان ما بقيت.» فيصبح بهذا الوعد من أشد أنصار الخليفة المتحمسين لطاعته، فيكتب إلى أبي مسلم: «إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه ﷺ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه.» ويوافيه كتاب أبي داود وهو على هذه الحال من التردد والقلق فيزيده رعبًا وهمًّا، فيبعث إلى أبي حميد فيقول له: «إني كنت معتزمًا على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه فإنه ممن أثق به.»
فإذا ذهب أبو إسحاق — الذي يثق به أبو مسلم — إلى الخليفة أبي جعفر تلقاه الخليفة بالبشر والترحيب وأجازه ورغبه بكل وسائل الترغيب، وقال له: «اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان.»
فيعود أبو إسحاق ووجهه طافح بالبشر لما لقي من عطف الخليفة ولما ظفر به من جائزة ووعد، فيقول لأبي مسلم: «ما أنكرت شيئًا، رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما لا يرون لأنفسهم …» ثم يختم كلامه بنصحه أن يذهب إلى أبي جعفر فيعتذر إليه مما كان منه.
وهكذا تتضافر الظروف كلها على خلق جو من الرهبة، والأمل في نفس أبي مسلم، فيعتزم المضي إلى أبي جعفر، وكأنما كان يصف ابن الرومي حاله حين قال:
وكأنما كان يتنبأ بمصيره حين سأله نيزك ليثنيه عن الذهاب: «قد أجمعت على الرجوع؟»
فقال له أبو مسلم: نعم، وتمثل:
فقال له نيزك: «احفظ عني واحدة، إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك.»
(٣) أبو مسلم في طريقه إلى مصرعه
وهكذا خُدع أبو مسلم وهو الذكي الفطن، ونسي عزمه على الخلاف ونسي أن أحقاد الخلفاء وذوي السلطة لا سبيل إلى إزالتها إلا بقتل مثيرها. وكتب أبو مسلم إلى الخليفة أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه:
ثم أعد أبو مسلم عدته للذهاب، وسار في طريقه إلى الموت حتى وصل المدائن.
أبو جعفر يتأهب لقتل أبي مسلم
والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.
قال: فرمى به إليَّ فقرأته، ثم قال: «والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.»
فقلت في نفسي: «إنا لله وإنا إليه راجعون، طلبت الكتابة، حتى إذا بلغت غايتها فصرت كاتبًا للخليفة وقع هذا بين الناس.
والله ما أرى أنا إن قتل يرضى أصحابه بقتله، ولا يدعون هذا حيًّا ولا أحدًا ممن هو بسبيل منه.»
قال: «وامتنع عني النوم، ثم قلت: لعل الرجل يقدم وهو آمن، فإن كان آمنًا فعسى أن ينال ما يريد، وإن قدم وهو حذر لم يقدم عليه إلا في شر، فلو التمست حيلة.» وقد تملك الخوف قلبه وخشي أن يخفق التدبير المحكم في قتل أبي مسلم ففكر في حيلة أخرى تضمن الفوز.
قال: فأرسلت إلى سلمة بن سعيد فقلت له: «هل عندك شكر؟»
فقال: «نعم.» فقلت: «إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق تدخل معك حاتم بن أبي مسلم سليمان أخي؟»
قال: «نعم.» فقلت وأردت أن يطمع ولا ينكر: «وتجعل له النصف؟» قال: «نعم» قلت له: «إن «ككر» كالت عام أول كذا وكذا وكذا، ومنها العام أضعاف ما كان أول، فإن دفعتها إليك أصبت ما تضيق به ذرعًا.»
قال: «فكيف لي بهذا المال؟»
قال: «تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه غدًا وتسأله أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه أن تتولاها أنت بما كالت في العام الأول، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه — إذا قدم — ما وراء بابه ويستريح ويريح نفسه.»
قال: «فكيف لي أن يأذن أمير المؤمنين في لقائه؟»
قلت: «أنا أستأذن لك.»
ودخلت إلى أبي جعفر فحدثته الحديث كله، فدعا سلمة وقال له: «إن أبا أيوب استأذن لك، أفتحب أن تلقى أبا مسلم؟»
قال: «نعم.» قال: «فقلت أذنت لك، فاقرأه السلام وأعلمه بشوقنا إليه.»
وهكذا أحكمت المؤامرة من كل جهاتها وافتنّوا في تدبيرها ما شاء لهم الحقد أن يفتنوا حتى أوقعوا أبا مسلم في حبالهم وهو آمن من مكرهم.
ولم يكد يخرج سلمة فيقابل أبا مسلم حتى قال له: «إن أمير المؤمنين أحسن الناس فيك رأيًا» ثم عرض عليه ما جاء فيه من أمر. فانخدع أبو مسلم وطابت نفسه — بعد أن كانت كئيبة — ووعده خيرًا.
قالوا: «ولم يزل مسرورًا حتى قدم.»
بين يدي المنصور
قال أبو أيوب: فلما دنا أبو مسلم من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه، فلما كان عشية قَدِمَ دخلت على أمير المؤمنين، وهو في خباء على مصلى.
فقلت: «هذا الرجل يدخل العشية فما تريد أن تصنع؟»
قال: «أريد أن أقتله حين أنظر إليه.»
قلت: «أنشدك الله، إنه يدخل معه الناس — وقد علموا ما صنع — فإن دخل عليك ولم يخرج لم آمن البلاء، ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف، فإذا غدا عليك رأيت رأيك.»
قال أبو أيوب: «وما أردت بذلك إلا دفعه بها، وما ذاك إلا من خوفي علينا جميعًا من أصحاب أبي مسلم.»
فدخل عليه أبو مسلم — من عشية — وقام قائمًا بين يديه، فرحب به المنصور وتلطف معه، ولم يبد له شيئًا من النفور حتى لا يرتاب في نواياه.
وقال أبو جعفر: «انصرف يا عبد الرحمن فأرح نفسك وادخل الحمام، فإن للسفر قشفًا، ثم اغد علي.» فانصرف أبو مسلم وانصرف الناس معه.
وقد ندم أبو جعفر على تضييع هذه الفرصة بعد أن خرج أبو مسلم من عنده ونقم على أبي أيوب مشورته وقال له: «متى أقدر على مثل هذه الحال منه التي رأيته قائمًا على رجليه ولا أدري ما يحدث في ليلتي.»
ولما جاءه أبو أيوب في اليوم التالي قال له أبو جعفر والغيظ يكاد يقتله: «يا ابن اللخنا لا مرحبًا بك، أنت منعتني منه أمس، والله ما غمضت الليلة.»
قال أبو أيوب: «ثم شتمني حتى خفت أن يأمر بقتلي.»
(٤) اللقاء الأخير
فقال عثمان قولة ضعيفة: أقتله.
ثم دنت الساعة الحرجة التي يفصل فيها التاريخ قوتين قاهرتين، ويغلب إحداهما على الأخرى، فإما أن ينتصر أبو جعفر فيطيح برأس أبي مسلم، وإما أن يتغلب عليه أبو مسلم فيطيح به وبخلافته ويغير وجه التاريخ.
ولقد كان اسم أبي مسلم وحده كافيًا في إزعاج من يسمعه، وكان أبو جعفر يعرف حقيقة ما يقدم عليه من أمر خطير يتوقف مجده على النجاح فيه، ولم يكن أحد يجهل أن فشل المنصور في قتل أبي مسلم معناه الاشتباك معه في حرب طاحنة لا يعرف أي نتيجة تسفر عنها، وأن قتله ربما أثار عليه جنده فعاثوا في المدينة نهبًا وقتلًا ثم لا يدري أحد عاقبة الأمر. على أن من حسن حظ المنصور أن قواد أبي مسلم وأنصاره كان أكثرهم يخلص له خوفًا من بطشه وجبروته، فلم يكد يقتله المنصور ويغريهم بالمال حتى انضموا إليه ونفضوا أيديهم من الأخذ بثأره، بعد أن أمنوا غائلته وبطشه بهم.
وليس أدل على الخوف من أبي مسلم من تلك الدهشة التي كانت تستولي على كل شجاع جريء حين يطلب إليه أبو جعفر أن يفتك بأبي مسلم.
انظر إلى ابن نهيك يدعوه المنصور فيقول له: «كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟» فيجيبه متحمسًا: «إنما أنا عبدك، والله لو أمرتني أن أتكئ على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت.»
فيقول له وهو في حماسته هذه: «كيف أنت إن أمرتك بقتل أبي مسلم.»
وهنا يرتاع عثمان بن نهيك ويبدو عليه الذعر من هول ما يطلب إليه الإقدام عليه، وكأنما انقضت عليه صاعقة من السماء. أيقتل أبا مسلم الذي روع الدنيا ودوخ الممالك وقلب دولة وأقام مكانها أخرى، وكان يهزم الجيش الجرار اسمه وحده؟ هنا يبدو التردد والخوف. وتفتر الحماسة المتقدة، فقد طلب إليه ما لم يكن يخطر على بال.
قالوا: ووجم ساعة لا يتكلم، فقال له أبو أيوب: «ما لك لا تتكلم؟»
فلما أُحرج ابن نهيك قال قولة ضعيفة: «أقتله؟!» قال: «انطلق فجئ بأربعة من وجوه الحرس.» فلما كان عند الرواق ناداه: «يا عثمان، يا عثمان.» فرجع، فقال له: «اجلس وأرسل إليَّ من تثق من الحرس.» وكأنما خشي المنصور أن يتردد ابن نهيك في عزيمته، إذا بعد تأثير شخصيته عليه فأمر ببقائه، وأرسل في طلب أربعة أشداء.
ولقد كان الموقف غاية في الحرج، فقد صار أبو مسلم مع المنصور في بلد واحد، وأصبح أقل همس يصل إليه عن هذه المؤامرة كافيًا لإحباطها وقلب التاريخ رأسًا على عقب.
وقد كان من الطبيعي أن يتقرب أحد هؤلاء إلى أبي مسلم فيفضي إليه بسر المؤامرة وينال الحظوة عنده، فقد كانت الآمال معقودة به كذلك.
ولما أحكمت المؤامرة أمرهم الخليفة أن يكونوا خلف الرواق حتى إذا صفق خرجوا فقتلوا أبو مسلم، قالوا: «أرسل إليهم رسلًا بعضهم على إثر بعض.» فقالوا: «قد ركب.»
قال أبو أيوب: «فقلت يا أمير المؤمنين ألا أخرج فأطوف في العسكر فأنظر ما يقول الناس، هل ظن أحد ظنًّا أو تكلم أحد بشيء؟»
قال: «بلى» فخرجت، وتلقاني أبو مسلم داخلًا فتبسم، وسلمت عليه ودخل فكان هذا آخر أيام أبي مسلم من الدنيا.
(٥) بين براثن الموت
ولما دخل عليه أبو مسلم قال له أبو جعفر: «أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بن علي؟» قال: «هذا أحدهما الذي عليَّ.» قال: «أرنيه» فانتضاه، فناوله فهزه أبو جعفر ثم وضعه تحت فراشه. وأقبل عليه يعاتبه، فقال: «أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين؟»
قال: «ظننت أخذه لا يحل! فكتب إليَّ فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم.» قال: «فأخبرني عن تقدمك إياي في الطريق؟»
قال: «كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك التماس المرفق.»
قال: «فقولك حين أتاك الخبر بموت العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إليَّ «نقدم فنرى من رأينا» ومضيت فلا أنت أقمت حتى نلحقك ولا أنت رجعت إليَّ؟»
قال: «منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب المرفق بالناس وقلت تقدم الكوفة فليس عليه مني خلاف.»
قال: «فجارية عبد الله بن علي، أردت أن تتخذها؟»
قال: «لا، ولكني خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها.» قال: «فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟»
قال: «خفت أن يكون دخلك مني شيء، فقلت آتي خراسان فأكتب إليك بعذري، وإلى ذاك قد ذهب ما في نفسك علي.»
قال: «تالله ما رأيت كاليوم قط، والله ما زدتني إلا غضبًا.»
فقال أبو مسلم: «ليس يقال هذا بعد بلائي وما كان مني؟»
فقال: «يا ابن الخبيثة، والله لو كنت أمة أو امرأة مكانك لبلغت ما بلغت، إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلًا.
ألست الكاتب إليَّ تبدأ بنفسك؟ والكاتب إليَّ تخطب آمنة بنت علي وتزعم أنك أبو مسلم بن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت — لا أم لك — مرتقى صعبًا.»
وكان أبو جعفر يقول ذلك — ويده ترتعد — فلما رأى أبو مسلم غضبه قال: «يا أمير المؤمنين، لا تدخل على نفسك هذا الغم من أجلي، فإن قدري أصغر مما بلغ منك هذا.»
وأخذ أبو مسلم يده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، ولكن أبا جعفر أسرع فصفق بيده، فخرج عثمان بن نهيك فضربه ضربة خفيفة بالسيف، فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه، فأومأ أبو مسلم إلى رجل أبي جعفر يقبلها ويقول: «أنشدك الله يا أمير المؤمنين، استبقني لأعدائك.» فدفعه برجله وقال له: «لا أبقاني الله إذن، وأي عدو لي أعدى منك؟» فضربه شبيب فقطع رجله.
فقال أبو مسلم: «وا تعساه، ألا قوة ألا مغيث!»
فاعتوره القوم بالسيوف فقتلوه.