خاتمة
لقد كان كبار مُلَّاك الأراضي الزراعية يكوِّنون طبقةً اجتماعيةً تضمُّ أصحاب وسائل الإنتاج من شركات تجارية وصناعية وأراضٍ زراعية وبنوك ومؤسسات مالية، ولقد بدأت هذه الطبقة تتكون منذ مطلع القرن الحالي، حيث بدأت الملكية الفردية للأرض الزراعية تستقر منذ أواخر القرن التاسع عشر (١٨٩١م)، كما أخذت في الاتساع منذ البدء في بيع أراضي الدائرة السنية (١٩٠٦م)، وأراضي الدومين أو الأراضي الميري (١٩١٢م).
ولقد اعتمدت هذه الطبقة على الأرض الزراعية كمصدر أساسي للثروة، ولم يقتصر استغلالهم لها على زراعتها بالمحاصيل المختلفة والإتجار فيها، بل كانت الأرض نفسها سلعةً تُباع وتُشترى بأسلوب رأسمالي بحت هدفه الحصول على الفوائد الناتجة من انخفاض وارتفاع أسعار الأرض بين آونة وأخرى، وطبقًا للظروف الاقتصادية الموضوعية، ولقد ظلُّوا بعيدين عن مجال النشاط التجاري والصناعي فترةً غير قصيرة، ربما لأن الأجانب كانوا متفوقين في هذه المجالات وكان من الصعب منافستهم، وربما لأن الدخول في هذه المجالات يتطلب قدْرًا من المغامرة، وهو ما كانوا يفتقدونه. غير أنهم بدءوا يستثمرون جزءًا من أموالهم في تأسيس الشركات التجارية والصناعية، وكان إنشاء بنك مصر في عام ١٩٢٠م يمثل منعطفًا رئيسيًّا في هذا الاتجاه الذي أخذ يتدعم وينمو بعد ذلك.
ولكن من المُلاحَظ أن استثمارات هذه الطبقة في تلك المجالات كان يقتصر على شراء الأسهم المالية التي كانت تطرحها الشركات التجارية والصناعية، أيْ إنهم كانوا مساهمين أكثر منهم منتجين، ومن ناحية أخرى فقد كان محور أعمال الشركات المساهمة التي تأسست بمعرفة هذه الطبقة، أو بمشاركة بعض أفرادها، يدور حول تصنيع القطن والإنتاج الزراعي بصفة عامة كجزء من محاولة حلِّ مشكلات الإنتاج التي كانت تواجه هذه الطبقة.
ولقد كانت تحكم هذا النشاط الاقتصادي المتعدد علاقات إنتاجية مع أطراف آخرين، ذلك أن اعتماد المالك الكبير على الإيجار كوسيلة أساسية في استغلال أرضه أدخله في علاقات مع فئة من مستأجري الأرض الزراعية، سواء كان التأجير بالنقد أو بالمزايدة والممارسة أو بالمزارعة، وكانت هذه العلاقة علاقةً تعاقديةً يحكمها العُرف والتقاليد والقانون أيضًا، وذلك في شكل عقود الإيجار التي كانت تضمن في كل بنودها مصالح المالك، ولا تقيم أدنى اعتبار للظروف المناخية أو الاقتصادية التي تتعرض لها الزراعة، وتؤثر بالتالي على المستأجر في الوفاء بقيمة الإيجار وشروطه. وفي حالة قيام المالك بزراعة أرضه على الذمة، أيْ بنفسه، فإنه كان يدخل في علاقة أخرى مع عمال الزراعة تقوم على الأجر الذي كان يتراوح بين الأجر النقدي أو العيني، وكان يختلف في تقديره من مكان إلى مكان على امتداد الأرض المصرية، أيْ إنها علاقة عمل كتلك التي تقوم بين أصحاب المصانع والعمال في النظام الرأسمالي.
ولقد سعت هذه الطبقة إلى حماية مصالحها الاقتصادية بالعمل على تخفيض نفقات الإنتاج وزيادة الأرباح في نفس الوقت، واتسمت اقتراحاتهم في هذا المجال بالنظرة الجزئية من زاوية المصلحة الخاصة، كما أنها كانت تتم بمعزل عن الظروف والاعتبارات الاقتصادية القائمة، وكانت وسائلهم في ذلك السُّلطة التشريعية والسُّلطة التنفيذية، حيث احتفظوا في كلٍّ منها بنسبة عالية تمكِّنهم من إصدار التشريعات المناسبة وإبطال التشريعات التي تكون في غير صالحهم، وكذلك كانت النقابة الزراعية العامة إحدى هذه الوسائل.
على أن هذه الوسائل، رغم أهميتها، كانت قاصرةً عن وضع الحدود اللازمة لحماية مصالحهم بالصورة الواجبة، فالنقابة الزراعية العامة — وكانت تضمُّ صفوة كبار المُلَّاك الزراعيين — ظلَّت تنظيمًا فوقيًّا لا يستند إلى نقابات فرعية في الأقاليم تمدُّها بأسباب القوة والاستمرار، لأن النقابة وضعت في اعتبارها أن تقوم الحكومة بتأسيس هذه النقابات بالأموال المتحصلة من ضريبة القطن، فلم تهتم الحكومة بذلك، ولم تحاول النقابة من ناحيتها الاعتماد على وسائل أخرى في تحقيق هذه الغاية، بل ظلَّت تضع في اعتبارها الاعتماد على الحكومة في مسائل تعدُّ من أهم خصائص الحركة النقابية.
أمَّا السُّلطتان، التشريعية والتنفيذية، بصورهما وأشكالهما المختلفة، فقد كانتا عاجزتَين عن حماية مصالح هذه الطبقة الحماية الواجبة بسبب الامتيازات الأجنبية التي كانت تحدُّ من الإجراءات التي كانت تتخذها، أيْ من هاتين السُّلطتين، لأن حماية المصالح الزراعية كانت تؤدي بالضرورة إلى الانتقاص من امتيازات أصحاب المصالح التجارية والصناعية التي يسيطر الأجانب على معظمها، ولم يكُن هذا متاحًا بأيِّ شكل من الأشكال خلال الفترة، حيث ظلَّت هذه الامتيازات باقيةً من الناحية الفعلية حتى عام ١٩٤٩م؛ تاريخ إنهاء العمل بالمحاكم المختلطة، وهي التي كانت تمثل الأداة القانونية لحماية الامتيازات الأجنبية.
ورغم ضيق فرص حماية مصالح هذه الطبقة، فلقد أمكن الوصول إلى قدْر من الحماية كلما أمكن عدم التصادم مع المصالح الأجنبية، مثلما حدث في التخفيضات الجزئية لضريبة القطن وتخفيض رسوم الواردات على الآلات والأسمدة الزراعية وزيادتها على المنتجات المماثلة للإنتاج المحلي، وتخفيض رسوم التصدير على القطن وبذرته وعلى بعض المواد الأخرى. وكذلك الحال بتدخل الحكومة شاريةً في سوق القطن في المواسم المختلفة، ومنح سُلف زراعية تُعِين المُزارع على عدم الإسراع ببيع محصوله بالأسعار البخسة التي كان يحدِّدها تجار الصادرات الأجانب. ولعلَّ أبرز صور هذه الحماية كانت التسويات العقارية التي نظمتها الحكومة مع البنوك العقارية ابتداءً من مارس ١٩٣٣م، والتي تحملت الخزينة العامة بسببها جزءًا غير قليل من الأموال العامة، أموال دافعي كل الضرائب.
ولم تقتصر حمايتهم لمصالحهم على تخفيض نفقات الإنتاج وزيادة الأرباح … إلخ، بل اهتموا في المحلِّ الأول بحماية الملكية الزراعية والحيلولة دون التعرض لحجمها بأيِّ حال من الأحوال، أو الحدِّ من التملُّك بأيِّ قدْر من المقادير، ولهذا وقفوا ضدَّ مشروعات الإصلاح الزراعي التي كانت تنادي بتحديد الملكية الزراعية، رغم أن هذه المشروعات لم تكُن تطالب بإلغاء الملكية الفردية، مثلًا، بل كانت في خدمة هدفهم الرئيسي؛ وهو زيادة الأرباح لأنها كانت تقدِّم فرصًا لنقل استثمار الأموال من مجال الزراعة إلى مجالات النشاط الأخرى التجارية والصناعية، إلا أنهم رفضوا ذلك لارتباط الملكية الزراعية بالمكانة الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع.
ولقد أثبتت الإجراءات التي اتُّخذت لحماية مصالح طبقة كبار المُلَّاك أن الحكومة كانت في النهاية تعبيرًا عن مصالح الطبقة التي كانت تملك وسائل الإنتاج، وكان هذا يتمشى إلى حدٍّ كبير مع المنهج الليبرالي السائد آنذاك، والذي كان يحدِّد دور الحكومة في القيام بعمل رجل الحراسة الليلي الذي يسهر على حماية المصالح الاقتصادية، دونما تدخل في شئون الفرد ومؤسساته التي يجب أن تكون فوق الحكومة وسُلطاتها. وكان هذا يتضح أيضًا في صياغة دستور ١٩٢٣م الذي ضمن تمثيل هذه الطبقة تمثيلًا كافيًا في السُّلطة التشريعية، ومحاولته تحديد دور الملك عن طريق تقييد ما كان يُعرف بحقوق العرش.
وكانت الأحزاب السياسية وسيلةً أخرى من وسائل حماية مصالح هذه الطبقة، فبواسطتها يمكن الوصول إلى السُّلطة التشريعية والتنفيذية وممارسة الحكم، ولهذا انتشر أفراد هذه الطبقة في كل الأحزاب السياسية التي شهدتها الفترة، دون تمييز بين حزب وآخر، وبحيث يصعب في النهاية الإشارة إلى حزب معيَّن بأنه يمثل هذه الطبقة دون غيره من الأحزاب، وإن كان حزب الأحرار الدستوريين أكثر الأحزاب تمثيلًا لأفراد هذه الطبقة، وكان الحزب الوطني وحزب الوفد أقلَّها في الواقع.
ويُلاحَظ أن عضوية أيِّ فرد من أفراد هذه الطبقة، لأي حزب من تلك الأحزاب، لم يتسم بصفة الدوام والثبات، بل كثيرًا ما كان ينتقل من حزب لآخر بين كل دورة انتخابية وأخرى، ميلًا مع ميزان القوة ولأيِّ حزب يتجه، كما يُلاحَظ أن أفراد الأُسرة الواحدة كانوا ينتمون لأكثر من حزب، حتى تحتفظ الأُسرة دائمًا بسند لها في السُّلطة في أيَّة انتخابات تحدث.
ولقد كان هذا التعدد الحزبي في النهاية، ومع وحدة برامج هذه الأحزاب، ومع عدم وجود اختلاف دقيق بين أيٍّ منها، يدل على أن الانتماء الحزبي لأفراد هذه الطبقة هو من قبيل الترف السياسي والتمتع بقدْر من السُّلطة يُضفي رونقًا على المركز الاجتماعي الذي يتمتعون به.
ولقد وقفت هذه الطبقة — في سبيل حماية مصالحها — ضدَّ أيَّة محاولات للتغيير الاجتماعي، وكانت تصف أصحاب هذه المحاولات بالتطرف والتخريب، ويؤكد هذا المواقف التي وقفتها إزاء المسائل الاجتماعية المختلفة مثل مسألة التعليم الإلزامي ومسألة الإصلاح الزراعي. ومسألة العلاقات مع الفلاحين، سواءٌ مستأجرو الأرض الزراعية أو عمال الزراعة وغيرها من المسائل التي كانت تتعرض، بصورة أو بأخرى، لتغيير شكل العلاقات الاجتماعية السائدة أو نمط الحياه نفسها.
وإذا كنا قد انتهينا إلى أن كبار المُلَّاك الزراعيين كانوا يكوِّنون طبقةً اجتماعيةً داخل المجتمع المصري، إلا أن ذلك لا يعني أنهم كانوا يكوِّنون نظامًا إقطاعيًّا بالمعنى الذي عرفته أوروبا في مراحل تطورها الاجتماعي، ذلك أن النظام الإقطاعي له مواصفات معيَّنة ينبغي توفرها في أيِّ نظام يوصف بهذه الصفة.
فمن الناحية السياسية يتصف النظام الإقطاعي المركزي باللامركزية؛ بمعنى تفتت السُّلطة العامة وتوزيعها على سادة الإقطاع، كلٌّ في منطقته أو مقاطعته، ومن الناحية الاقتصادية يقوم النظام الإقطاعي على وحدات مغلقة أو شبه مغلقة أساسُها نشاط زراعي قائم على استغلال طبقة من الأشراف لرقيق الأرض، يُلزم فيها المنتج (رقيق الأرض) بأداء بعض الحاجات الاقتصادية للسيد الإقطاعي، وجوهره أن يخضع العبد قبل سيد الأرض لعدد من الالتزامات مصدرُها تبعيته لهذه الأرض إما بالمولد أو بطول الإقامة. ففي هذا النوع من الرقِّ تنفصم العلاقة الشخصية المباشرة القائمة على ملكية الرقيق، وتحلُّ محلَّها علاقة أساسُها السيادة على الأرض من جهة السيد والتبعية لهذه الأرض من جهة العبد.
ولم يكُن يُسمح للفلاح بترك الأرض أو المنطقة التي يعيش فيها إلا بإذن من سيد الأرض، وكان الغرض من ذلك إبقاء الفلاحين لزراعة الأرض وتأدية ما عليهم من الفرائض المتنوعة التي يستحقها السيد، وفي مقابل ذلك لم يكُن لهذا الأخير الحقُّ في طرد الفلاح أو حرمانه من زراعته، كما كان عليه الالتزام بحمايته من اعتداء الغير وتدبير ما تحتاج إليه حياته من مرافق عامة، كالفصل في المنازعات مثلًا، أو إنشاء منشآت يعجز الفلاحون عن إقامتها بأنفسهم (طاحونة أو معصرة)، ولم يكُن رقُّ الأرض مبنيًّا دائمًا على عُرف تسنده قوة السيد القهرية، بل كان مرجعه أحيانًا إلى رضا الفلاح بالتنازل عن حريته في مقابل تعهد السيد بحمايته.
أمَّا النظام الذي اتبعه كبار المُلَّاك في مصر في استغلال أراضيهم، فقد كان بعيدًا عن مواصفات النظام الإقطاعي لعوامل كثيرة أهمُّها في تقديرنا ما يلي:
-
أن كبار المُلَّاك في مصر لم يكونوا مقيمين بمناطق ملكياتهم كما كان أمراء الإقطاع في أوروبا، بل كان أغلبهم يعيش في المُدن الرئيسية مثل القاهرة والإسكندرية وعواصم المديريات، وكان جزء آخر يعيش خارج البلاد في تركيا وأوروبا، ولهذا فهم لا يتحملون أيَّة مسئوليات اجتماعية تجاه الفلاحين، وكل ما يربطهم بالأرض أنها مصدر للثروة، وكل ما يربطهم بالفلاح أنه قوة عمل.
-
أن العلاقة بين الأرض والفلاح ليست علاقةً إقطاعيةً بمعنى التبعية مقابل الحماية كما عرفها النظام الإقطاعي، وإنما كانت علاقةً تعاقديةً تقوم على الإيجار إذا اعتمد المالك في استغلال أرضه على الغير بطريق الإيجار، أو علاقة عمل إذا كان يزرع أرضه بنفسه ويعتمد على عمال زراعة، وهذا نوع من العلاقات يُعتبر علاقةً رأسمالية كالتي تقوم بين أصحاب العمل والعمال وليس علاقةً إقطاعية.
-
أن المالك في مصر كان يتصرف في أرضه بالبيع والرهن بحيث كانت سلعةً تُباع وتُشترى بهدف الحصول على الربح المناسب، بينما المالك الإقطاعي لا يتصرف في أرضه إلا بالهبة والتوريث.
-
أن الأرض في الأصل كانت ملكًا للدولة التي كان لها سُلطة مركزية قوية على جميع مرافق الحياة بطريقة تجعلنا نقول إن مصر لم تشهد في أيِّ عصر من عصور تاريخها النظام الإقطاعي بمعناه العلمي، فيما عدا العصر المملوكي الذي كاد ملتزمو الأرض يتحولون فيه إلى أمراء إقطاع. وحين استقرت الملكية الفردية في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، استخدمت الدولة في سجلاتها الرسمية كلمة «مكلفة زراعية» للدلالة على الملكية الفردية، أيْ إن الملكية الفردية بهذا المعنى كانت من وجهة نظر الدولة تكليفًا للمالك بزراعة أرض كانت أصلًا في حوزة الدولة.
ولكل هذه الاعتبارات لا يمكننا وصف نظام استغلال الأرض الزراعية في مصر خلال الفترة بأنه نظام إقطاعي، بل يمكن وصف هذا النظام بالرأسمالية الزراعية التي تقف إلى جانب الرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية والرأسمالية المالية (البنوك)، مكوِّنين ملامح النظام الرأسمالي في صورته العامة المتكاملة.
وإذا كانت الامتيازات الأجنبية قد حالت في كثير من الأحيان دون استخدام كبار المُلَّاك سُلطاتهم في حماية مصالحهم إلى حدٍّ كبير، وهي الامتيازات التي ظلَّت قائمةً من الناحية العملية حتى عام ١٩٤٩م، إلا أن ذلك لم يجعل كبار المُلَّاك يقفون مكتوفي الأيدي أمام هذه العقبة الكبيرة، بل حاولوا إزالتها من طريقهم منذ البداية حتى تحقَّق ذلك بمعاهدة مونتريه ١٩٣٧م.
وحين بدأ الوعي الطبقي يكتمل لدى كبار المُلَّاك، وتصل العلاقات بينهم إلى مراحل عالية من النضج والتكامل، وزالت الامتيازات الأجنبية ومحاكمها المختلطة، وأصبح الطريق ممهَّدًا أمامهم، جاء قانون الإصلاح الزراعي في ٩ سبتمبر ١٩٥٢م ليجردهم من المصدر الرئيسي للثروة والقوة، ألا وهو الملكية الزراعية التي تحدَّدت بمِائتَي فدَّان، ووضع بداية أخرى في نظام استغلال الأرض الزراعية في مصر.
ويقودنا هذا التطور للملكية الفردية للأرض الزراعية وعلاقتها الإنتاجية إلى مناقشة إشكالية تفسير التطور الاجتماعي في مصر في ضوء التراث النظري الخاص بهذا الجانب منذ وضع كارل ماركس نظرية التفسير المادي التاريخية.
والحقُّ أن دراسة الملكية تحظى بأهمية خاصة عند دارسي التاريخ الاجتماعي، لما دار حولها من جدل بين أصحاب الاتجاهات المختلفة الذين يستخدمون التفسير المادي للتاريخ، سواءٌ أكانوا من الماركسيين أو غيرهم، فالماركسيون يرون في الملكية شكلًا شرطيًّا تاريخيًّا لملكية الثروة المادية، يوضح العلاقة بين الناس في عملية الإنتاج الاجتماعي، وشكل الملكية — عندهم — يعبِّر عن العلاقة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية من ناحية، ووسائل الإنتاج من ناحية أخرى، ويحدِّد تطور أشكال الملكية بتطور قُوى الإنتاج، فالتغيير في نمط الإنتاج يقود إلى تغيير في شكل الملكية، وتمثل الأشكال المختلفة للملكية — في الوقت نفسه — مراحل في تطور تقسيم العمل.
ورغم اختلاف غير الماركسيين مع الماركسيين حول المراحل الخمس لتطور المجتمع البشري على ضوء شكل الملكية، فهم يتفقون معها في القول بالعلاقة الوثيقة بين الملكية الخاصة والتكوينة الاجتماعية الرأسمالية، وارتباط ظاهرة الملكية خاصةً بوجود الطبقات، والليبرالية وما ارتبط بها من نسق اجتماعي-سياسي.
من هنا كانت دراسة الملكية موضع اهتمام المؤرخين الماركسيين والليبراليين على حدٍّ سواء، ولكن معظم الجدل الذي دار بينهم كان يتمركز حول التجربة الأوروبية، أمَّا بقية بلدان العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية فتم قياس تجاربها على ضوء التجربة الأوروبية، ودخل معظمها عند الماركسيين في إطار ما سُمِّي بأسلوب الإنتاج الآسيوي، وعند الليبراليين في إطار ما سُمِّي ﺑ (المجتمع التقليدي)، ولمَّا كانت مصر تدخل ضمن هذه المجموعة، فإن دراسة الملكية فيها تصبح على درجة كبيرة من الأهمية لإلقاء الضوء على التجربة التاريخية لها، وتحديد موقفنا من القوالب النظرية للماركسية والليبرالية التي تتفق على التسليم بالمركزية الأوروبية، وبفكرة النموذج الأوروبي كمقياس للتطور تُقاس به تجارب المجتمعات غير الأوروبية.
لقد أغرى النموذج المصري للملكية — كما عرضنا له في الفصلَين الأول والثاني — بعض الباحثين بالقول بأن مصر تدخل في نطاق أسلوب «الإنتاج الآسيوي»، فكتب أحمد صادق سعد كتابًا من جزأين أجهد نفسه كثيرًا ليُثبت انطباق النموذج الآسيوي على مصر، فالأرض ملك للدولة، والحاكم يملكها نيابةً عن المجتمع، فهي نوع من المشاع، وعلاقات الإنتاج تصبح نوعًا من «العبودية العامة»؛ بمعنى أن الأفراد المنتجين في حيازات المشاع هم في حقيقة الأمر «عبيد» للدولة ممثلةً في شخص الحاكم، ولمَّا كان كل تكوين اجتماعي يحوي أكثر من نمط إلى جانب نمط الإنتاج السائد، فلا بدَّ أن يتسم بسمات انتقالية تعكس وجود تناقضات داخلة قد تكون أسبابًا للتطور إذا توافرت الظروف المناسبة والمهيئة له، أمَّا إذا لم تتوفر تلك الظروف بقي الحال على ما هو عليه، وعانى المجتمع من الركود، ورأى المؤلِّف أنه في حالة مصر، لم يحدث التغيير إلا نتيجة ضغوط خارجية، ويرى أن الاحتلال البريطاني لعب الدور الرئيسي في اتجاه مصر نحو الرأسمالية، وبذلك اكتملت — في نظره — مكونات النمط الآسيوي على نحو ما حدَّده الماركسيون؛ فهو:
- أولًا: يتميز بغياب الملكية الفردية وبسيادة نظام الحيازة العامة للأرض، مع وجود أشكال أخرى ضعيفة وغير مؤثرة في الملكية.
- ثانيًا: أن هذا النمط بدائي من حيث ارتباطه بالقُوى الطبيعية، متطور من حيث وجود طبقات اجتماعية به.
- ثالثًا: أنه يتميز بوجود الدولة المركزية ذات المهامِّ الاقتصادية والاجتماعية، فهي ليست مجرد دولة مركزية، وإنما لها مهامٌّ محدَّدة إذا لم تقُم بها اختلَّ هذا الكيان تمامًا، وتعرَّض لحالات من الفوضى والاضطرابات، وعلاقة الاستغلال في هذا النمط تتمثل في استحواذ الطبقة الحاكمة على فائض الإنتاج وعمل الفلاحين.
وهنا يجب أن نتساءل: هل النموذج الأوروبي (الغربي) هو المعيار الأمثل للتطور الذي يجب الوصول إليه، ومن ثَم يصبح على المجتمعات غير الغربية أن تحذو حذوه، وإلا حكمت على نفسها بالتخلف والاضمحلال؟ وبعبارة أخرى، هل هناك قوالب صارمة يجب أن تشكل المجتمعات على نمطها؟ أو هل هناك قانون واحد يحكم تطور المجتمع، أيِّ مجتمع؟
والإجابة على هذه التساؤلات تقتضي — في رأينا — الانتباه إلى أن كلًّا من الماركسية والليبرالية وضعت في اعتبارها عند صياغة أفكارها الأساسية منطقةً بعينها من أوروبا، هي غرب القارة الذي شهد الثورة الصناعية وتداعياتها، وما ترتَّب عليها من نتائج ذات أبعاد واسعة المدى على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي تطورات تباينت من حيث الشكل والمضمون والآثار من بلد إلى آخر في أوروبا الغربية ذاتها، على حين اختلفت ظروف بلدان شرق أوروبا اختلافًا ملحوظًا عن بلاد غرب ووسط القارة، فشهد التطور في شرق القارة ظروفًا خاصةً جعلته يتشكل على نحو مغاير للمجتمعات الأوروبية الأسبق على طريق الانتقال إلى الرأسمالية، بل إن الانتقال إلى الرأسمالية ذاته كان موضع جدل واسع النطاق دار حول سماته وطبيعته، وتعايشت في شرق أوروبا أنماط إنتاج تنتمي إلى مرحلة ما قبل الرأسمالية، جنبًا إلى جنب، مع نمط الإنتاج الرأسمالي، بما ترتَّب على ذلك من اختلاف في البنية الاجتماعية لتلك البلاد عنها في غرب أوروبا، بل من بلد لآخر في شرق أوروبا ذاتها.
فإذا كانت أُطر التحليل النظرية الماركسية والليبرالية لا تقدِّم لنا أفكارًا مجردةً تصلح لتفسير تطور المجتمع البشري، بدليل عجزها عن تقديم تفسير جامع مانع للقارة النموذج (أوروبا)، بسبب اختلاف ظروف التطور في كل مجتمع عن غيره من المجتمعات، تصبح فكرة «المركزية الأوروبية» نفسها مشكوك في صحة تطبيقها على المجتمعات غير الأوروبية كمقياس للتقدم والتأخر.
إن نظرية «نمط الإنتاج الأسيوي» التي أتى بها الماركسيون، تعدُّ أضعف جوانب الفكر الماركسي، فعندما طرح ماركس الفكرة لم يكُن لديه معرفة جيدة بظروف التطور خارج أوروبا، سوى معلومات عامة سطحية، جعلته يحار أمام المجتمعات الشرقية القديمة التي كانت مهدًا للحضارات العريقة، وخاصةً أن نماذجها تختلف عن تصوره لمراحل التطور الخمس التي رآها لازمةً لتطور المجتمع، فاكتفى بوضعها في سلَّة واحدة سمَّاها «نمط الإنتاج الآسيوي»، وجاء بعض شرَّاح الماركسية ليضيفوا فكرة «الاستبداد الشرقي»، والربط بينه وبين ظاهرة الدولة المركزية في المجتمعات الزراعية النهرية مثل الصين والهند ومصر، على الرغم مما بين هذه المجتمعات من اختلافات تفوق ما يمكن اعتباره ملامح مشتركة بينها، قادت مفكري الماركسية إلى توصيفها وتصنيفها باعتبارها مجتمعاتٍ يسودها نمط إنتاجي تغلب عليه صفة الركود والتخلف، وهي فكرة لا تخلو من ملامح العنصرية.
إن المجتمع لا يمكن أن يشكَّل في قالب معيَّن، فهو كائن عضوي متغير، تحكم تطوره ظروف موضوعية مادية، لا تتفق بالضرورة مع بعضها البعض من حيث المظهر والجوهر، ولا تتساوى بالضرورة — أيضًا — من حيث ما تتركه من أثر على المجتمع، فوجودها وطبيعتها ودورها في دفع التغير يختلف اختلافًا جذريًّا من مجتمع إلى آخر. ولا نستطيع أن نقبل استخدام إطار نظري بعينه لتفسير تطور مجتمع ما، فالنظرية تقوم على التجريد الذي قد يضع في اعتباره ظروف مجتمع بعينه، قد تصدُق عليه النظرية بحذافيرها، وقد تصلح لتفسير مرحلة معيَّنة من مراحل تطور ذلك المجتمع بالذات دون غيرها من المراحل، ولكننا نقع في خطأ فادح إذا قبلنا تعميم النظرية لنحوِّلها إلى قالب (يجب) أن يُضفي ملامحه وقسماته على (كل) المجتمعات، وإلا كانت تلك المجتمعات التي لا تتلاءم مع مقاييس النظرية، خارج إطار النموذج، تمثل حالةً شاذة، تتطلب علاجًا يجعلها قادرةً على الدخول في قالب النظرية.
ولا يعني ذلك أن نطرح جانبًا المقولات النظرية، فالقول بذلك هو الجهل بعينه، بل علينا أن نستفيد من النظرية في تفسير (بعض) مراحل تطور المجتمع التي تصلح النظرية كأداة منهجية لتحليلها، وعلى المؤرخ أن يفسر خصوصية التطور في مراحل أخرى خارج الإطار النظري الذي صيغ بصورة تجريدية وفق معطيات معيَّنة، ولا أدل على ذلك مما تعرضت له مقولات الماركسية الأساسية من نقد على يد بعض الماركسيين المحدثين، بعدما أثبتت الدراسات الأمبريقية عدم دقة نظرية المراحل الخمس، والحتمية التاريخية، بل ودور الصراع الطبقي في تحقيق الانتقال من مرحلة لأخرى. ولم تكُن أفكار الحداثة أحسن حظًا، لأن التغير الناتج عن مؤثر خارجي، لا يحقِّق التطور بنفس الدرجة التي يحقِّقها التغير في الظروف الموضوعية المحلية، ما لم يمتد التغيير ليشمل البنية الأساسية جميعها، وهو ما يصعُب تحقيقه في إطار «التحديث».
ولعلَّ نماذج التطور لمجتمعات كروسيا والصين واليابان تقدِّم دليلًا واضحًا على بُطلان أفكار آلية التطور وفق نسق نظري معيَّن، فقد كانت روسيا — وليس بريطانيا — هي البلد الذي شهد الانتقال إلى الاشتراكية دون أن تنضج فيه مرحلة التحول الرأسمالي حسب مواصفات الماركسية، وكذلك الحال بالنسبة للصين، وشهدت اليابان ثورتها الصناعية على يد الأرستقراطية الإقطاعية، وعلى نسق وظفت فيه الموروثات الثقافية لما سُمِّي بالمجتمع التقليدي.
ولعب رأس المال التجاري دورًا مهمًّا في تتجير الزراعة في التجربة المصرية، وتوجيهها لخدمة متطلبات السوق المحلية والسوق الخارجية على حدٍّ سواء، وحققت البيوتات التجارية قدْرًا ملحوظًا من تراكم رأس المال، وكان دور السُّلطة المركزية رقابيًّا على السوق المحلية حاميًا (أحيانًا) للتعامل مع السوق الخارجية، وجاء دور السُّلطة في عهد محمد علي في توجيه الإنتاج في سياق الدور التاريخي الذي لعبته الدولة في مصر.
ولعب العامل الخارجي (العدوان) دورًا بارزًا في إجهاض تجربة محمد علي، ليقطع بذلك الطريق على محاولة التنمية الذاتية، وليربط الاقتصاد المصري بروابط التبعية للاقتصاد الأوروبي، وهو السياق الذي تم توجيه التشريع في إطاره (في أواخر القرن التاسع عشر) للنصِّ على الملكية الفردية، الذي قُنِّن وضعًا كان قائمًا عرفًا، ولكنْ لصالح الاستثمارات الأجنبية في قطاع الائتمان الزراعي.
وأتاحت أوضاع الملكية في التجربة المصرية الفرصة لظهور بنية اجتماعية طبقية تتركز على الملكية، وإن انفردت مصر بظاهرة اتخاذ السُّلطة سببًا إلى الملكية، فالملكية كانت سبيل الوصول للسُّلطة، كما أن السُّلطة كانت أداةً لتوسيع الملكية، فكان هناك المُلَّاك الكبار في السُّلطة وخارجها على السواء، وكانت الفرصة متاحةً لتوسيع نطاق الحيازات الصغيرة، كما كانت هناك البروليتاريا الريفية.
وكان دور السُّلطة المركزية في التجربة المصرية محوريًّا في التنظيم والرقابة وتوفير الأمن الداخلي والخارجي، ولا أدل على ذلك من ارتباط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بضعف السُّلطة المركزية، وعجزها عن ممارسة مهامِّها التنظيمية والرقابية، وتحقيق الازدهار والانتعاش والرخاء عندما يشتدُّ عود السُّلطة المركزية، وتقوى قبضتُها، على عكس ما هو شائع في الأدبيات النظرية الماركسية والليبرالية على حدٍّ سواء، بل لعبت السُّلطة دورًا بارزًا في تطوير هياكل البنية الأساسية في عهد محمد علي، وعلى يد ثورة يوليو ١٩٥٢م.
وهكذا يتضح لنا من دراسة الملكية، ما تتسم به التجربة المصرية من خصوصية يجب أن نضعها في اعتبارنا عند تحليل وتفسير التطور التاريخي لهذه التجربة التي تؤكد على تعددية طرق التطور، وعدم منطقية فكرة المركزية الأوروبية، والحاجة إلى أدوات منهجية جديدة عند التعامل مع المجتمعات التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، والتي كان لها نسق خاص مميز للتغير، لا تصلح للتعامل معه الأُطر النظرية التي تروِّج للمركزية الأوروبية كأدوات منهجية.