قامت على الملكيات الزراعية الكبيرة مصالح اقتصادية لفئاتٍ اجتماعيةٍ متعددة، انحدرت
من
أصول متباينة، وشكَّلت في مجموعها «طبقة كبار المُلَّاك الزراعيين»، وقد تكونت ملكيات
كل
فئة من تلك الفئات في ظروف تختلف عن بعضها البعض، وإن حكمتهم جميعًا في النهاية الظروف
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ساعدت على تطور الملكيات الزراعية الكبيرة. وندرس
فيما يلي ظروف تكوين ملكيات كل فئة من هذه الفئات الاجتماعية المختلفة، وما طرأ على
ملكياتهم من تطور.
(١) أُسرة محمد علي
وتأتي أُسرة محمد علي في مقدمة كبار المُلَّاك الزراعيين، فقد امتلكت مساحاتٍ واسعةً
من الأراضي الزراعية، وكان كل والٍ من أفراد تلك الأُسرة يسعى — بشتَّى السبل — لتوسيع
ملكياته الخاصة، وساعدهم على ذلك أن ملكية الأرض كانت حتى النصف الأول من القرن التاسع
عشر بيد الدولة، ولم يكُن هناك حدٌّ فاصلٌ بين ممتلكات كلٍّ من الحاكم والدولة، لذلك
كان الحاكم يضع يده على معظم أراضي الدولة ويعطي لنفسه حقَّ التصرف فيها.
١
وعلى هذا النحو تكونت ملكيات أُسرة محمد علي، من أراضي الأواسي المحلولة بعد إلغاء
نظام الالتزام، وأطيان الأبعاديات التي أخذت شكل إنعامات خلعها الوالي على نفسه وأولاده
وبناته، وعند نهاية حكمه كانت أُسرته تضع يدها على ٥٤١٤٤١ فدَّانًا من أطيان الأواسي
والعهد بخلاف الأبعاديات.
وحين تولى عباس الأول الحكم (١٨٤٨–١٨٥٤م) أغدق الهبات من الأراضي على بعض أفراد
الأُسرة الحاكمة، فمنح لكل زوجة من زوجات محمد علي وإبراهيم خمسة آلاف فدَّان، بالإضافة
إلى ما كان لهن من أملاك.
٢ كما منح أبناء وبنات أحمد باشا يكن، وإبراهيم باشا يكن — وهم من أقارب
الأسرة الحاكمة — ١١٥٠٠ فدَّان، بواقع ألف فدَّان لكل ولد وخمسمائة فدَّان لكل بنت.
٣
واستولى محمد سعيد باشا (١٨٥٤–١٨٦٣م) على مساحات من الأراضي البور تولى استصلاحها،
كما ضمَّ لأبعادياته في البحيرة ستة آلاف فدَّان من الأطيان الخَراجية التي تركها
الفلاحون تخلصًا مما عليهم من أعباء مالية.
٤
واستولى على أراضي بعض الأفراد بحجَّة تداخلها في أراضيه، وأعطى لهم بدلًا منها أراضي
أخرى من البور الخارجة عن الزمام.
٥ وكانت الجفالك الخاصة بدائرة محمد سعيد باشا تقع في الدلتا، وخاصةً
البحيرة، حيث كان يملك ١٩٦٦٨ فدَّانًا من أراضيها، وكذلك الشرقية وكان له فيها ١٨٧٣٤
فدَّانًا من أراضي الوادي التي باعها لشركة قناة السويس، وقد بلغت مساحة أطيان دائرته
—
عند وفاته — ٣١١١٧ فدَّانًا، بينما كان ابنه وزوجاته يمتلكون ١٩١٧٠ فدَّانًا من أجود
الأراضي الزراعية بالغربية والدقهلية.
٦
وكثيرًا ما كان الفلاحون يُجبَرون — في عهد سعيد — على التنازل عن أراضيهم لأفراد
الأُسرة الحاكمة الذين يرغبون في ضمِّ تلك الأراضي إلى مزارعهم، وسواءٌ عوَّضوا أصحابها
عنها بأراضٍ أخرى أقلَّ خصوبةً أو لم يعوِّضوهم عنها شيئًا، وكان الجلْد جزاء مَن يرفض
التنازل عن أرضه.
٧ كما كان الفلاحون يُجبَرون على العمل في استصلاح أطيان عبد الحليم باشا —
نجل محمد علي — بالمطاعنة التابعة لمديرية قنا وإسنا، وبناء مضخَّات الريِّ الآلية
اللازمة لها، وتحملت خزانة المديرية جميع نفقات تشييد تلك المُنشآت.
٨
وكان إسماعيل — قبل أن يتولى الحكم — يتولى عهدة إحدى وخمسين قريةً من قُرى المنيا
وبني مزار وأسيوط والشرقية، تحولت جميعًا إلى ملكٍ خاصٍّ له، وقد خصَّصها لزراعة قصب
السكر، وكانت له فيها خمس مضخَّات آلية للريِّ ومصنعٌ للسكر.
٩
وحين تولى الحكم، أخذ يوسع مساحة ممتلكاته، فأجبر عمَّه عبد الحليم باشا، وأخاه مصطفى
فاضل باشا، على أن يبيعاه دائرتيهما اللتين بلغت مساحتهما حوالي ٧٥ ألف فدَّان بجميع
محتوياتهما من مبانٍ ومضخَّات للريِّ ومصانع للسكر، ليقطع الصلات التي تربطهما بمصر،
ويتخلص من منافستهما السياسية له. كذلك استولى على مساحات واسعة من الأراضي المتروكة
والأراضي المُستبعَدة وأخرج تقاسيطها باسمه، وابتدع في إصلاح بعضها طريقةً مبتكرة،
فوزعها على الفلاحين، وأقام لهم مساكن خاصة بهم، وأعفاهم من مالها مدَّة خمس سنوات،
وأمدَّهم بالتقاوي والمواشي اللازمة للزراعة في السنة الأولى، على أن تُقسط عليهم
قيمتها على خمس سنوات، وبعد مرور السنوات الخمس يبدأ في تحصيل إيجارٍ منهم.
١٠
وأنعم إسماعيل أيضًا على أولاده وبناته وزوجاته وجواريه بمساحات واسعة من الأطيان
المتروكة والمُستبعَدة، كما اشترى بعض الأراضي بأسمائهم من بعض الأفراد، وسدَّد أثمانها
من خزانة الدولة.
١١ ولم تكد تمرُّ ثماني سنواتٍ على حكمه حتى كان أفراد أُسرته يملكون ٤٧٢١٠٢.
١٢ وقد شكَّلت هذه الأراضي — فيما بعد — «أطيان الدومين» التي تنازل عنها
الخديو إسماعيل — نيابةً عن أُسرته — في أغسطس ١٨٧٨م، ورُهنت ضمانًا لقرض جديد، وكانت
مساحتها في ذلك الحين تبلغ ٤٢٥٧٢٩ فدَّانًا.
١٣ أمَّا أملاك إسماعيل الخاصة فقد شكلت الدائرتين؛ الدائرة السنية والدائرة
الخاصة، وتكونت الأولى من ٤٣٤٩٧٥ فدَّانًا، كان من بينهما ٨٩ ألف فدَّان من الأراضي غير
القابلة للزراعة. ويقع أربعون ألفًا منها في الدلتا والباقي في الصعيد، حيث كانت تشمل
مواقع مصانع السكر والمباني الخاصة بالجفالك، وكانت أطيان الدائرة السنية تتضمن ٨٠ ألف
فدَّان من الأراضي المُستصلَحة كونت جفلك الغربية، وكان الخديو يؤجِّرها للفلاحين
بإيجار سنوي قيمته ثمانية جنيهات للفدَّان الواحد، وبينما كانت هناك ٨٣ ألف فدَّان أخرى
تؤجَّر بما يزيد قليلًا عن الجنيه للفدَّان الواحد، كانت بقية أراضي الدائرة، وقدرها
١٨٢ ألف فدَّان، تُزرع مباشرةً لحساب الخديو، وتتضمن مزارع القصب بالصعيد التي قام
عليها ١٩ مصنعًا للسكر، كانت غالبيتها تُدار بمعرفة الفرنسيين إلى جانب بعض الإنجليز.
١٤ وقد سخَّر الأهالي في حفر تُرعة الإبراهيمية لتوفير المياه اللازمة لمَزارع
القصب في المنيا وأسيوط.
١٥
أمَّا الدائرة الخاصة فكانت أقلَّ اتساعًا من الدائرة السنية، إذ كانت تبلغ مساحتها
حوالي ٥٠ ألف فدَّان يقع معظمها في مديرية الغربية، كان من بينها عشرة آلاف فدَّان من
الأراضي الخصبة التي تُزرع بمعرفة الدائرة، أمَّا الباقي فكان الفلاحون يقومون بزراعته
لقاء إيجارٍ سنوي.
١٦
وقد رُهنت أطيان الدائرتين ضمانًا لقرضَين عُقدا في ١٨٦٥م و١٨٧٠م، ووُضعتا تحت إشراف
إدارة خاصة تتولى سداد القروض من رِيعهما.
وهكذا كانت مساحة أملاك الخديو إسماعيل وعائلته تبلغ ما يقرب من مليون فدَّان، أيْ
ما
يوازي ٢٠٪ من مساحة الأراضي الزراعية في مصر في ذلك الحين.
١٧ هذا بخلاف ما كان يملكه بقية أفراد أُسرة محمد علي. ولم تكُن هذه الأراضي
تتضمن أوقاف الأُسرة التي أوقفها بعض أفرادها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد
كان وقْف إسماعيل يشمل ١٢ ألف فدَّان بإيتاي البارود التابعة لمديرية البحيرة، أوقفها
على زوجاته الثلاث في حياتهن ثم على ورثتهن.
١٨ وحوالي ١٢٠٠ فدَّان في المنتزه بالقرب من الإسكندرية، و٢١١٠ فدَّان في
حلوان والجيزة، و١٨٤٥٠ فدَّانًا في الوادي بالقرب من التلِّ الكبير، وحوالي ٣٢ ألف
فدَّان بالصعيد. هذا بالإضافة إلى وقْف قولة الذي أوقفه محمد علي باشا، ويشمل ١٠٧٤٢
فدَّانًا موزَّعةً على إحدى عشرة قريةً من قُرى كفر الشيخ، و٣٢ ألف فدَّان بالمحلة
الكبرى، وخُصِّص هذا الوقف لإقامة الشعائر الدينية والإنفاق على المدرسة والمكتبة التي
أنشأها محمد علي في مدينة قولة مسقط رأسه.
١٩ ووقف ماه دوران قادن — الزوجة الثانية لمحمد علي — الذي بلغت مساحته ١٧٧٦٣
فدَّانًا من أجود الأراضي بالدلتا، الذي خصَّصته لعتقائها من العبيد والجواري ولورثتهم
من بعدهم.
٢٠ ووقْف زينب بنت محمد علي بالسنبلاوين، وقد بلغت مساحته ١١ ألف فدَّان
خصَّصتها للأغراض الخيرية، وكذلك وقْف بنبا قادن — والدة عباس باشا — وكان يتكون من ١٣
ألف فدَّان في الغربية والقليوبية أوقفتها على عتقائها وعلى أعمال البر.
٢١ وغيرهم كثيرون ممَّن أوقفوا الأراضي من أفراد أُسرة محمد علي.
وحين سيطرت الدولة على أراضي الدائرة السنية وأراضي الدومين، حصل أفراد الأُسرة
الحاكمة — في البداية — على مخصَّصات مالية سنوية، تبعًا لمساحة وقيمة الأطيان التي كان
يملكها كلٌّ منهم، واستُبدلت هذه المخصَّصات — اعتبارًا من عام ١٨٨٨م — بأراضٍ من
الدومين بلغت مساحتها ٣٩٨٧٥ فدَّانًا، أُعطيَت لإسماعيل (الخديو) وبعض الأمراء الآخرين،
واشترط أن يوقف الأمراء ثُلثي هذه الأطيان، وأن يوقف إسماعيل نصف ما خصَّه منها، لصالح
ورثتهم، وأُضيفَت مساحات أخرى للأمراء في عام ١٨٩٣م، واستطاعوا عن هذا الطريق — وبشراء
مساحات من أطيان الدومين والدائرة السنية التي كانت تُعرض للبيع — أن يعيدوا تكوين
ملكياتهم من جديد.
فكانت ملكية أُسرة محمد علي تتوزع بين حوالي ٤٢٥ فردًا من أمراء وأميرات البيت
المالك، ومعظمها أنصبةٌ واستحقاقاتٌ في أوقاتٍ متعددة، لم يكُن من السهولة معرفتها على
وجه التحديد خلال الفترة وقبل إصدار قوانين الإصلاح الزراعي وإلغاء الوقف الأهلي، فعلى
سبيل المثال بلغ عدد المستحقين في وقْف القصر العالي (٢٨١٤ فدَّانًا) مائةً وثلاثين
عضوًا من الأُسرة، وعدد المستحقين في وقْف الخديو إسماعيل بالجيزة (٢١١٠ أفدنة) خمسين
فردًا، وفي وقف الأميرة نجية إلهامي (٦٠٣١ فدَّانًا) سبعة عشر فردًا، وفي وقْف الأمير
محمود حمدي (٤٦٥٧ فدَّانًا) اثني عشر فردًا أيضًا. وتوزعت ملكيات أُسرة محمد علي بين
فروعها المختلفة — عند صدور قوانين الإصلاح الزراعي — كما يلي:
-
فرع إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي، كان يملك ٧٣٦٠٠ فدَّان، يخصُّ فؤاد
بن إسماعيل وورثته منها ٤٨٩٢٤ فدَّانًا، والباقي وقدُره ٢٤٦٧٦ لأولاد
إسماعيل الآخرين.
-
أمَّا فرع أحمد بن إبراهيم بن محمد علي فكان يملك ٣١٦٠٦ أفدنة، يخصُّ
أبناء الأمير أحمد كمال منها ١٥٦٨٥ فدَّانًا، والباقي وقدرُه ١٥٩٢١
فدَّانًا كان يخصُّ أولاد إبراهيم الآخرين؛ أيْ إن ما كان يخصُّ فرع
إبراهيم باشا وحده (إسماعيل وأحمد) قد بلغ ١٠٥٢٠٦ أفدنة.
-
أمَّا فرع سعيد بن محمد علي فقد كان يخصُّه ٢٣٥٠٠ فدَّان، وفرع محمد عبد
الحليم بن محمد علي كان يخصُّه ١٣٤٧٥. ويلاحظ أن ملكية هذه الأُسرة كانت
تتركز في مديريات البحيرة والشرقية وقنا.
٢٢
(٢) كبار الموظفين
كانت الفئة الاجتماعية الثانية التي دخلت ضمن كبار المُلَّاك الزراعيين هي فئة «كبار
الموظفين»، فقد كانت معظم وظائف الدولة الكبرى — حتى أواخر القرن التاسع عشر— وقفًا على
الأرستقراطية التركية التي كانت تضمُّ أخلاطًا من أتراك آسيا الصغرى والمغرب وتونس
والشراكسة، بالإضافة إلى الأكراد والشوام والأرمن،
٢٣ وكان العنصران الأخيران هما الغالبَين على مناصب الإدارة المالية ووظائف
الخارجية لتضلُّعهم في الأمور المالية وحذقهم للغات الأجنبية.
٢٤ وكان يجمع بين هذه العناصر التمسك بالعادات والأخذ بأساليب الحياة التركية
واتخاذ اللغة التركية لغةً للتخاطب والمعاملة.
٢٥ وتضمنت تلك الفئة بعض المصريين الذين هيأت لهم ثقافتهم وإجادتهم للغة
التركية فرصة ولوج الوظائف الكبرى والمشاركة في إدارة البلاد.
٢٦ وكان عددهم محدودًا، وحرص الحكام على صبغهم بالصبغة التركية، فكانوا
يزوجونهم من جواريهم المعتقات التركيات والشركسيات حتى يألفوا العادات وأساليب الحياة
التركية، وكان مَن يحظى بهذا الأمر من المصريين يصبح مؤهلًا لتولي المناصب الكبرى.
٢٧
وكانت وظائف الدولة الكبرى — في عهد محمد علي وخلفائه — هي السبيل للحصول على
الملكيات الزراعية الكبيرة، فقد أراد هؤلاء الحكام أن يخلقوا لكبار الموظفين — الذين
كان أكثرهم من غير المصريين — مصالح اقتصادية في البلاد تربطهم بالنظام الذي وفرها لهم،
وتدفعهم إلى المحافظة عليه وضمان استمراره، لذلك كانت معظم الأراضي الواسعة التي مُنحت
للموظفين في عهد محمد علي من نصيب هذه الفئات، وقد عُرف هؤلاء ﺑ «الذوات» للدلالة على
ما كانوا يتمتعون به من ثراء عريض ومركز اجتماعي ممتاز.
وكانت مساحة الأطيان التي تُمنح للموظفين، في عهد محمد علي، تتراوح ما بين مائة
فدَّان وثلاثة آلاف فدَّان، فقد أنعم الوالي على مصطفى باشا محافظ كريت بثلاثة آلاف
فدَّان، وعلى أحمد باشا المانكلي وكيل الجهادية بألف فدَّان.
٢٨ وعلى بعض ضباط الجيش بمساحات تتراوح بين ١٠٠–٥٠٠ فدَّان وفقًا لرتبهم العسكرية.
٢٩
وواصل عباس الأول — الذي كان شديد الميل إلى الأتراك — نفس السياسة، فوزع بعض الأطيان
على المقربين من رجاله، فأعطى ٨٥٠ فدَّانًا لإبراهيم أدهم، و٧٥٠ فدَّانًا لصالح باشا،
و٣٥٠ فدَّانًا لكلٍّ من خورشيد باشا وحمزة باشا، وأنعم بأطيان أقلَّ مساحةً من هذه على
عدد كبير من رجاله.
٣٠
وشهد مطلع عهد إسماعيل توسعًا كبيرًا في منح الأراضي لكبار الموظفين، ونستنتج من
الوثائق
٣١ أن هذه الهبات تراوحت مساحتها بين مائة فدَّان وألف فدَّان، فأنعم على كبار
رجال الإدارة من النظَّار بألف فدَّان لكلٍّ منهم، كما أعطى كبار ضباط الجيش من رتبة
اللواء ٦٠٠ فدَّان لكل واحد منهم ولمَن في مستواهم من الموظفين المدنيين، و٣٠٠ فدَّان
لكلٍّ من مديري المديريات، وأقل من ذلك لمَن دونهم مرتبة.
وهناك أمثلة عديدة
٣٢ لكبار الموظفين الأتراك الذين ساقت إليهم وظائفهم ملكياتٍ كبيرةً استطاعوا
تنميتها بمرور الزمن، فمحمد شريف باشا الذي تقلَّد الكثير من المناصب الإدارية
والعسكرية وتولى النظارة ورئاسة النظارة في عهد إسماعيل، حصل على أطيان بلغت مساحتها
٤٥١٧ فدَّانًا من أطيان القليوبية والمنيا وبني مزار، وقد أنعم عليه محمد علي بتلك
الأطيان — على مر السنوات — مكافأةً له على خدماته، وقام شريف باشا بشراء أطيان أخرى
أضافها إلى ملكيته، وتوالت عليه إنعامات عباس الأول وإسماعيل، حتى بلغت مساحة ما كان
يملكه من الأطيان ٢٠١٦٤ فدَّانًا في عام ١٨٧٠م. وحصل حسن باشا المناسترلي — الذي تولى
وظيفة الكتخدا في عهد محمد علي — على ٢٦٠٤ أفدنة من أطيان الجيزة والفيوم وبني سويف
والبحيرة، وامتلك خورشيد باشا — حكمدار السودان — ألف فدَّان بالمنيا وبني مزار أنعم
بها عليه محمد علي تقديرًا لخدماته، أمَّا نوبار باشا — الأرمني الذي تقلَّد عددًا من
المناصب الكبرى وكان أول رئيس للنظار — فقد أنعم عليه سعيد بثمانمائة فدَّان من أطيان
المنيا وبني مزار، ومنحه إسماعيل ألف فدَّان أخرى، ثم أصبح يمتلك ٢٦٤٤ فدَّانًا في عام
١٨٧٠م، وغيرهم كثيرون ممَّن تولوا المناصب الإدارية والعسكرية.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، طرأ تغيير جوهري على فئة كبار الموظفين، إذ اتسعت قاعدة
المصريين المنتمين إلى تلك الفئة، فبالإضافة إلى بعض المصريين الذين أتاحت لهم ظروف
تعليمهم فرصة تولي الوظائف الكبرى، كان هناك بعض المصريين ممَّن أظهروا كفاءةً خاصة،
وحذقوا اللغة التركية، وتولوا بعض الوظائف الإدارية الصغرى في عهد محمد علي، فيذكر كلوت
بك
٣٣ أن المصريين كانوا يشغلون — في أواخر عهد محمد علي — وظائف نظَّار الأقسام،
أمَّا مناصب حكام الأخطاط (المديرين) فكانت وقفًا على الأتراك وحدهم، ثم ما لبث محمد
سعيد باشا أن فتح باب الوظائف أمام المصريين من أبناء الفلاحين، فأصدر التعليمات إلى
جميع المديرين لاختيار الأكفاء من شيوخ القُرى وعُمَدها يتولون وظائف نظَّار الأقسام
وحكام الأخطاط، بحيث يخصُّ المصريين ثُلث الوظائف الأولى ورُبع الوظائف الثانية،
ليحلُّوا محلَّ الأتراك تدريجيًّا في مناصب الإدارة، فإذا لم يُثبتوا قدرتهم على ذلك
عاد الوالي إلى استخدام الأتراك.
٣٤ وخطا سعيد — أيضًا — خطوةً هامَّةً حين قام بتجنيد بعض أبناء شيوخ القُرى
في الجيش، وفتح أمامهم أبواب الترقِّي إلى رتبة القائمقام
٣٥ وقد كان الضباط من أبناء الفلاحين الذين التحقوا بالجيش في عهد سعيد هم
زعماء الثورة العرابية فيما بعد.
وتابع الخديو إسماعيل هذه السياسة، فعيَّن من المصريين في وظائف المديرين بدلًا من
الأتراك، وبذلك دخل عددٌ من أعيان المصريين في عداد كبار الموظفين، ونالوا نصيبهم من
هبات الأطيان التي كان يغدقها الحكام على الموظفين الكبار. وكان من هؤلاء الموظفين
المصريين علي باشا مبارك — الذي تقلَّد بعض الوظائف الكبرى ووصل إلى منصب النظارة — فقد
أنعم عليه عباس الأول بثلاثمائة فدَّان من أراضي الدقهلية.
٣٦ ورفاعة بك رافع الطهطاوي، الذي أنعم عليه محمد علي بأبعادية مساحتها ١٥٠
فدَّانًا من أطيان مديرية أسيوط، وأنعم عليه سعيد ﺑ ٦٢٥ فدَّانًا من أطيان جرجا وأسيوط،
واستطاع أن يضيف إلى أملاكه ٧٧١ فدَّانًا اشتراها من أطيان الميري خلال عهد إسماعيل.
٣٧
وكذلك ترقَّى أحمد المنشاوي — الذي كان فلاحًا بسيطًا — إلى وظيفة ناظر قسم طنطا،
وتولى ابنه محمد منصب وكيل مديرية الدقهلية، واستطاع — هو وأولاده — أن يكوِّنوا
أملاكًا بلغت مساحتها ٨١٩ فدَّانًا في عام ١٨٧٠م،
٣٨ كانت معظمها إنعامات من الحكام، ووسع حفيده أحمد المنشاوي باشا أملاك
الأُسرة، فأصبحت تربو على عشرة آلاف فدَّان عند مطلع القرن العشرين، هذا عدا أوقافه
التي بلغت مساحتها أربعة آلاف فدَّان، كانت جميعها من أجود أراضي الغربية.
٣٩
أمَّا أحمد عرابي باشا، فكان أحد أبناء شيوخ القُرى الذين دخلوا الجيش وترقَّوا إلى
رُتب الضباط، وقد حصل على بعض الأطيان كمنحةٍ من الحكام، استطاع أن يزيدها عن طريق شراء
مساحات من أطيان الميري حتى بلغت جملة أملاكه ٨٧٧٫٥ فدَّانًا في عام ١٨٨٢م.
٤٠
وكان محمد سلطان باشا أحد أولئك الفلاحين الذين خدموا في وظائف إدارة الأقاليم حتى
وصل إلى منصب مدير أسيوط، وقد منحه محمد سعيد باشا ١٣٧ فدَّانًا، وأنعم عليه الخديو
إسماعيل بثلاثمائة فدَّان، واستطاع أن يوسع مساحة أملاكه حتى بلغت ألفَي فدَّان في عام
١٨٧٠م،
٤١ تركزت جميعها في مديرية المنيا وخاصةً بني مزار.
وعندما بلغت الأزمة المالية ذروتها في نهاية حكم إسماعيل ومطلع عهد توفيق، صدر قرار
بإبطال منح الأراضي كهبات الأفراد (أكتوبر ١٨٧٩م)، وأن يكون الأمر قاصرًا على بيع
الأراضي الخارجة عن الزمام بالمزاد العلني كغيرها من أراضي الدولة (أطيان الميري).
٤٢
وبالإضافة إلى الهبات، استطاع بعض الموظفين أن يوسعوا مساحة أملاكهم عن طريق شراء
أطيان الميري الخارجة عن زمام القُرى، والتي كانت تُطرح للبيع بالمزاد العلني، فاستغل
بعض النظَّار وكبار موظفي الدولة مناصبهم في الاستيلاء على مساحات واسعة من أطيان
الميري بأبخس الأثمان، رغم الأوامر الخاصة ببيع تلك الأطيان — التي صدرت في عام ١٨٦١م
—
كانت تنصُّ على حظر دخول الموظفين كمشترين في المزادات، حتى لا يستغلوا سلطتهم في إرساء
المزاد عليهم.
٤٣ ورغم ذلك نجد أن أحمد باشا رشيد — ناظر ديوان المالية — يشتري في أغسطس
١٨٦٢م أطيانًا بلغت مساحتها ١٠٢٥ فدَّانًا من أراضي الغربية، وأرسلان بك — مدير المنيا
وبني مزار— يشتري ٥٥٦ فدَّانًا بنفس المديرية، وإسماعيل باشا راغب — مفتش الحسابات
بالأقاليم — يشتري ٣٤٢٥ فدَّانًا من أطيان الميري بالغربية، كما اشترى حسن بك راسم —
مدير الدقهلية — أطيانًا بنفس مديريته بلغت مساحتها ١١١٤ فدَّانًا.
٤٤
ثم ما لبث الخديو إسماعيل أن رفع الحظر الذي كان مفروضًا على دخول الموظفين كمشترين
في مزادات بيع أطيان الميري (أكتوبر ١٨٦٤م)؛
٤٥ مما أدَّى إلى زيادة إقبال الموظفين على شراء أطيان الميري، واستغل رجال
الإدارة بالأقاليم مناصبهم في إرساء المزادات على بعضهم البعض، وكان هذا محلَّ شكوى
الكثيرين من أعيان الريف، بقدر ما كان سببًا في توسيع ملكيات بعض كبار الموظفين
وإثرائهم ثراءً فاحشًا.
٤٦
لذلك أصدرت الحكومة قرارًا في ٢٧ يونيو ١٨٩٦م؛ يقضي بأنه لا يجوز لموظفي الحكومة
أن
يدخلوا — بشكل أو بآخر— في مزادات بيع الأطيان التي تطرحها الحكومة أو السُّلطة
القضائية للبيع في دائرة وظائفهم.
٤٧ وإن كان هذا القرار لم يقضِ على استئثار كبار الموظفين بشراء أراضي الدولة،
لأنه كان باستطاعتهم أن يتحايلوا على القانون، فيشتري هذا أطيانًا في دائرة عمل ذلك،
وهلمَّ جرًّا، فظلَّت الظاهرة قائمةً حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م.
كذلك حصل بعض كبار الموظفين على مساحات واسعة من الأراضي البور في عام ١٨٦٦م، على
أثر
صدور قرار مجلس شورى النواب الذي كان يقضي بإعطاء ذلك النوع من الأراضي — لمَن يرغب في
استصلاحها — كرزقة بلا مال، لمدَّة تتراوح بين خمسة أعوام وخمسة عشر عامًا (حسب درجة
خصوبتها)، تُربط في نهايتها بالعشور. ولمَّا كان هذا النوع من الأراضي يحتاج إلى نفقات
كثيرة لاستصلاحه وزراعته، لذلك لم يُقدِم على طلب تلك الأراضي إلا الأثرياء من كبار
الموظفين أمثال عارف باشا فهمي — عضو مجلس الأحكام — الذي حصل على ٣٦٣٥ فدَّانًا من
الأراضي البور بالبحيرة،
٤٨ ومحمد سلطان باشا الذي حصل على ٨٠٠ فدَّان، من نفس النوع، بمديرية بني سويف.
٤٩
وكان ثمة مصدر آخر لملكيات كبار الموظفين، تمثل في الأطيان التي كانت تُعطَى لهم
كمَعاشٍ عند إحالتهم إلى التقاعد، وفقًا للقرار الصادر في نوفمبر ١٨٦٠م، الذي كان يقضي
بمنح كل من يرغب من المستخدمين أطيانًا بدلًا من مَعاشهم،
٥٠ ثم أصبح إعطاء الأراضي للموظفين بهذه الصفة إجباريًّا بعد ذلك، فصدر أمرٌ
في يناير ١٨٦١م؛ يقضي بأن مَن لا يوافق على أخذ الأطيان نظير مَعاشه يُحرم من المعاش
«لأنه لا يوجد طريق آخر لترتيب المعاش»، وأن تكون مساحة الأطيان التي تُعطَى للمتقاعدين
وفقًا لرُتبتهم العسكرية، أو وفقًا لما يعادلها من مُرتَّبات المدنيين.
٥١
(٣) الأعيان
أمَّا الفئة الثالثة من فئات كبار المُلَّاك الزراعيين، فكانت «أعيان الريف»، فقد
قامت في الريف المصري بعض العائلات الكبيرة من الفلاحين، استطاع شيوخها أو (رؤساؤها)
أن
يحرزوا نفوذًا كبيرًا في المجتمع الريفي، وارتكز هذا النفوذ على الدور الذي يلعبونه في
خدمة السُّلطة، وعلى مساحة الأراضي الزراعية التي تضع عائلاتُهم أيديهم عليها.
وترجع الأهمية التاريخية لرؤساء العائلات الريفية إلى وقت مبكر، منذ كان نظام
الالتزام هو الطابع المميز لحيازة الأراضي الزراعية، واستطاع شيوخ العائلات — الذين
اعتُبروا مسئولين أمام الملتزم من حيازات ذويهم — أن يحرزوا بعض النفوذ في ظلِّ هذا
النظام على أفراد عائلاتهم، وغيرها من العائلات الأقلِّ شأنًا، فأصبح مَن يرأس أكبر
عائلات القرية شيخًا للقرية كلها. وهيأ هذا الوضع لبعض الشيوخ فرصة تكوين ثروات
(كبيرة)، كانت — حتى نهاية القرن الثامن عشر — تُستمدُّ من ثلاثة مصادر؛ فقد كان شيوخ
القُرى يضعون أيديهم على جانب من أطيان الرزق الإحباسية، التي كان جزءٌ منها مخصَّصًا
لإطعام عابري السبيل، كما كانوا يضعون أيديهم على جانب كبير من الأراضي التي لم تكُن
مُدرَجةً ضمن زمام القرية، هذا بالإضافة إلى مساحة من الأرض كان يتركها لهم الملتزم
نظير ما يؤدونه من خدمات، وعُرفت بأطيان المسموح.
٥٢
وأدَّى إلغاء نظام الالتزام في عهد محمد علي إلى ازدياد النفوذ الإداري والقضائي
لمشايخ القُرى، إذ أصبحوا يمثلون سلطة الدولة، ومنح الباشا شيوخ القُرى حوالي ٥٪ من
زمام قُراهم عُرفت ﺑ «مسموح المصاطب»،
٥٣ نظير قيامهم بأعباء الإدارة واستضافتهم لعمال الحكومة وعابري
السبيل.
وحول هذه النواة قامت ملكيات شيوخ القُرى الذين أصبحوا يعرفون بالعُمَد في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر، وقد سلك هؤلاء في توسيع ملكياتهم سُبلًا غير قانونية، فقد
كانوا — بحكم مناصبهم — لا بدَّ أن يمثلوا في اللجان التي تتولى مساحة الأطيان وتقدير
الضرائب عليها، واستعانت الحكومة بهم في تحديد الأشخاص الذين تكلف عليهم الأطيان،
ولمَّا كانت الضرائب تُربط على أطيان القرية ككل، ويعدُّ جميع الفلاحين من سكانها
مسئولين مسئوليةً جماعية، فقد أتاح هذا النظام لمشايخ القُرى فرصة التلاعب بمكلفات
الأطيان، ووضع أيديهم على مساحات واسعة من الأراضي أصبحت — بمرور الزمن وبتطور حقوق
الملكية الفردية — ملكًا خاصًّا لهم.
وكانت أطيان المُتوفَّين أسهل منالًا بالنسبة لهم، وخاصةً إذا لم يكُن لصاحب الأثر
المُتوفَّى ورثةٌ أو ترك ورثةً قاصرين، فكان مشايخ القُرى يضعون أيديهم على تلك الأطيان
ويُبقون تكاليفها على اسم الشخص المُتوفَّى، أو يقومون بتزوير مستنداتٍ تُثبت أن
المُتوفَّى قد أسقط لهم حقَّ الانتفاع بها قبل وفاته. وهم لا يعدمون السبل لذلك، كما
كانوا يضعون أيديهم على أطيان «المتسحبين» الذين يفرون من القرية تخلصًا من الأعباء
الضريبية المُلقاة على عاتقهم.
٥٤
وهكذا استطاع شيوخ القُرى أن يضعوا أيديهم على مساحات واسعة من أطيان قُراهم، وأثرى
بعضهم ثراءً عظيمًا، حتى إن محمد سعيد باشا أرغم بعض هؤلاء الشيوخ الأثرياء على أن
يتعهدوا ببعض القُرى، فتولى على البدراوي — عُمدة فوه — عهدة أقسام فوه وشياخات
المحلَّة، كما وزَّع جانبًا من قُرى الغربية على أربعةٍ من العُمَد الأثرياء وألزمهم
بعهدتها، ووعد بمكافأةٍ مَن يسدِّد ما على قُرى عهدته من بقايا، وبمعاقبة مَن يعجز عن
ذلك بالسجن مدى الحياة.
٥٥ وقد بقيت بعض أطيان العهدة بأيدي المتعهدين من العُمَد، وتحولت إلى ملكٍ
خاصٍّ لهم، واستطاع بعض العُمَد والشيوخ أن يوسعوا مساحة ملكياتهم بشراء مساحات من
أطيان الميري التي تُطرح للبيع، فتحدِّثنا الوثائق عن البدراوي أحمد — عُمدة إحدى قُرى
الغربية — الذي اشترى ١١٥٣ فدَّانًا من أطيان الميري بالغربية، وسدَّد ثمنها دفعةً واحدة.
٥٦ كذلك اشترى بعضهم أطيانًا عشوريةً من تلك التي كان يملكها بعض كبار
الموظفين، مثل الشيخ سيد أحمد زغلول (جد سعد باشا زغلول) — عُمدة أبيانه بمديرية
الغربية — الذي اشترى ٢٣٠ فدَّانًا من الأطيان العشورية؛ كانت ملكًا لورثة محمد فاضل
باشا مدير الغربية.
٥٧
ونال بعض العُمَد الحظوة لدى الحكام، فأنعموا عليهم بالأطيان مكافأةً لهم على
خدماتهم، ومن هؤلاء الشيخ عبد العال — عُمدة سمنود — الذي منحه الخديو إسماعيل ٤٠٠
فدَّان من الأطيان العشورية ببعض قُرى الغربية رزقةً بلا مال.
٥٨ كما كان بعض الأعيان يحصلون على مساحات واسعة من الأراضي البور — بدون
مقابل — وفقًا لقرار مجلس شورى النواب الصادر في عام ١٨٦٦م، ليتولوا استصلاحها، ثم
تُربط عليهم بالضريبة بعد عدد معيَّن من السنوات تحدِّدها درجةُ خصوبة الأرض.
٥٩
وكوَّن بعضُ العُمَد ثرواتهم عن طريق الاشتغال بتوريد بعض المواد لجهات الحكومة،
مثل
علي البدراوي الذي كان زياتًا، ثم مشدًّا بقرية سمنود، وأهَّلته كفايتُه إلى أن يصبح
—
في عهد محمد علي— شيخًا من شيوخ القرية، ثم ناظر قسم، فحاكم خط، فمأمورًا وناظرًا لبعض
الجفالك والورش الأميرية. وفي عهد عباس الأول التزم مصلحة عوائد المطرية (التي كانت
تفرض على الصيادين) بنحو ٧٠٠٠ كيس، والتزم الملاحة بنحو ١٦ ألف كيس، وتعهد بتوريد القطن
اللازم لورش الأميرية والمواشي الخاصة بالجفالك والمصالح الحكومية، والمسلى لقصر الباشا
وبعض جهات الحكومة. واستمرت هذه الالتزامات في يده حتى وافته المنيَّة في عام ١٨٦٧م،
فترك — بعد وفاته — أربعة آلاف فدَّان وعددًا من العقارات بسمنود وطنطا والقاهرة
والإسكندرية، بالإضافة إلى مبلغ كبير من المال.
٦٠
ومن ثَم يتبيَّن لنا أن ملكيات أعيان الريف تكونت نتيجةً لتطور المعاملات داخل مجتمع
القرية ذاتها، بعكس ملكيات أفراد الأُسرة الحاكمة وملكيات كبار الموظفين التي قامت
أساسًا على ما كان يمنحه الحكام من أراضٍ للأفراد.
وكان ثمة عائلات توارثت منصب العُمدة في القُرى لأجيالٍ متعددة، واشتهرت بالثراء
الواسع الذي يقوم أساسًا على ملكية أكبر مساحة من أطيان القرية، فنسمع عن عائلة
الشندويلي التي توارثت هذا المنصب في قرية شندويل التابعة لمديرية جرجا (سوهاج
حاليًّا)، وكانت تُوزَّع على نحو ألفَي فدَّان،
٦١ وعائلات شعير بكفر عشما-منوفية، والهرميل بإبيار-غربية، وأبي حشيش
بالمرصفا-قليوبية، وعائلة أبي محفوظ بالحواتكة-أسيوط التي كانت تزرع آلاف الأفدنة من
الأطيان الخصبة،
٦٢ وعائلة سليمان ببني عبيد-المنيا التي كان عميدها، حسن أبو سليمان، يمتلك
نحو ١٢ ألف فدَّان.
٦٣
كما كانت هناك بعض العائلات التي اكتسبت مكانتها في الريف من خلال اشتغال أفرادها
بالوظائف الحكومية، ثم أصبح لأفرادها نفوذٌ كبيرٌ في قُراهم، وتولى بعضهم منصب العُمدة
بها، مثل عائلة عبد الغفار بتلا-منوفية، التي يرجع نفوذها — الذي امتدَّ حتى منتصف
القرن العشرين — إلى ما اكتسبه عميدها البكباشي أحمد عبد الغفار
٦٤ — الذي كان جنديًّا ترقَّى من تحت السلاح — من أراضٍ منحها له الخديو
إسماعيل، ثم وسعت الأُسرة مساحة ملكياتها حتى أصبحت من أبرز عائلات الأعيان في
البلاد.
(٤) شيوخ البدو
وبالإضافة إلى ملكيات الأعيان، كان ثمة ملكيات كبيرة لشيوخ البدو، تكوَّن بعضُها في
ظروف شبيهة بتلك التي كُوِّنت فيها ملكيات أعيان الريف، ونشأ بعضُها الآخر نتيجةً
لسياسة توطين البدو، التي اتبعها محمد علي وخلفاؤه، في القرن التاسع عشر.
وإلى النوع الأول، تنتمي ملكيات بعض شيوخ البدو الذين استوطنوا الصعيد وأطراف الدلتا،
ودخل بعضُهم في زُمرة الملتزمين — في القرن الثامن عشر— ومن ثَم خرجوا من نطاق البداوة
وأَلِفوا حياة الاستقرار، وكانت ملكيات الأعيان مَصونةً من التفتُّت، بفضل القرار الخاص
بتكليف الأطيان باسم أكبر أولاد الأثر (عام ١٨٦٩م)، فقد كفل هذا القرار لملكيات الأعيان
التماسك، ودعم سلطة رؤساء العائلات وسيطرتهم على سائر أفراد العائلة، وقد استمر العمل
بذلك القانون حتى عام ١٨٨١م، حين كثرت شكايات الناس من استبداد رؤساء عائلاتهم بهم
وبخسهم لحقوقهم، فصدر قرار بإبطال تكليف الأرض باسم الأرشد (٩ يوليو)، وأن تُقسم
الأطيان على الورثة حسب الأنصبة الشرعية.
٦٥ وبذلك بدأت أطيان الأعيان تتعرض للتفتُّت، وبدأ يتداعى نسبيًّا نفوذُ رؤساء
العائلات.
وتمتعوا بنفوذٍ كبيرٍ في الريف المصري في تلك الحقبة، وتأثروا بالإجراءات التي اتخذها
محمد علي لتصفية نظام الالتزام، ثم ما لبثوا أن أعادوا تكوين ثرواتهم واستعادوا ما كان
لهم من نفوذ، وأصبحوا من جملة شيوخ القُرى وعُمَدها، وعاشوا نفس ظروفهم، وتقلَّد بعضهم
الوظائف الحكومية وتدرَّجوا فيها حتى وصلوا إلى أرفع المناصب.
ومن هؤلاء آل مناع — من قبيلة أولاد يحيى — الذين كانوا ملتزمين لبعض بلاد قنا، ثم
أصبحوا — في القرن التاسع عشر — شيوخًا لقرية أبي مناع بقنا، وترقَّى كبيرهم (أحمد بك
مناع) في وظائف الحكومة حتى وصل إلى عضوية مجلس الأحكام في عهد سعيد، وأصبح ابنه عمر
مديرًا لجرجا ثم أسيوط في عهد الخديو إسماعيل، وتولى كلٌّ من ولدَيه محمد وعلي وظيفة
وكيل مديرية على عهد الخديو إسماعيل، وكانت لهم أملاك واسعة وحدائق للفاكهة ببلدة أبي
مناع.
٦٦
وكذلك آل أبي كريشة، الذين استقروا ببعض النجوع في قسم المُنشأة بمديرية جرجا (سوهاج
فيما بعد)، وكوَّنوا من تلك النجوع قريةً سُمِّيت «عرابة أبي كريشة» التي كان شيخها،
أحمد أبو كريشة، من أوائل مَن شغلوا وظيفة ناظر قسم، في عهد محمد علي — عام ١٨٣٣م —
وبلغت مساحة ما كان يزرعه من الأطيان نحو ١٦ ألف فدَّان.
٦٧
وكان شيوخ قرية «أم دومة» — مديرية جرجا (سوهاج فيما بعد) — من شيوخ البدو كذلك،
وتولى كبيرهم «السيد عبد الرحمن أبو دومة» وظيفة ناظر قسم على عهد محمد علي، وكان ابنه
عبد الرحمن ناظرًا لقسم طهطا في عهد الخديو إسماعيل، وأصبح من أعضاء مجلس شورى النواب،
واشتهرت هذه العائلة بالثراء الواسع والسطوة على الفلاحين.
٦٨
ومن أهمِّ كبار المُلَّاك الذين ينحدرون من أصول بدوية، وكوَّنوا ملكياتهم في ظروفٍ
مشابهة لتلك التي تكوَّنت فيها ملكيات الأعيان، آل أباظة بالشرقية؛ وهم — في رواية علي
مبارك — من عشائر قبيلة العائد التي نزلت بمصر في القرن الرابع عشر الميلادي واستقرت
بالشرقية، واستولت على أراضي بعض القُرى، وسخَّروا الفلاحين في زراعة أطيان تلك القُرى،
وبقوا على بداوتهم فترةً طويلةً من الزمان، وحين تولى محمد علي الحكم خيَّرهم بين أن
يُعامَلوا معاملة الفلاحين، فيكون لهم ما لهؤلاء من حقوق، وعليهم ما على هؤلاء من
واجبات، وبين أن يُعامَلوا معاملة البدو، فينزع ما تحت أيديهم من أطيانٍ وضعوا أيديهم
عليها بدون وجه حق. فقَبِلوا أن يُعامَلوا معاملة الفلاحين، ومن ثَم أَلِفوا حياة
الفِلاحة، واعتادوا الاستقرار والخضوع للسلطة. وبرز بيت أباظة من بينهم فشغل حسن أباظة
وظيفة شيخ مشايخ نصف الشرقية في عام ١٨١٢م، وكان يزرع نحو ٤٠٠٠ فدَّان، وأصبح ابنه
السيد أباظة باشا رجلًا «عظيم الشأن»، تقلَّد بعض المناصب الكبرى. وتعهد بنحو ٢٠ قريةً
من قُرى الشرقية في عهد محمد علي وإبراهيم، وكان يمتلك نحو ٦٠٠٠ فدَّان في نحو ١٥ قرية،
وقد تراوحت ملكيات بقية أفراد عائلة أباظة ما بين ٥٠٠–٢٠٠٠ فدَّان.
٦٩
وكان آل الشواربي ينتمون إلى قبائل عربية من الحجاز نزحت إلى مصر في القرن الثالث
عشر
الميلادي، وأسند الظاهر بيبرس (١٢٥٩–١٢٧٧م) إليهم الأعمال، وأنعم عليهم بأطيان رزقة
بقرية البرادعة (بالقرب من قليوب)، وكان محمد بن سالم الشواربي شيخًا لقليوب، ثم
مأمورًا لقسم أول قليوب على عهد محمد علي (عام ١٨٣٣م)، وتعهد بأراضي ناحية قليوب، وقد
بلغت زراعته ٤٠٠٠ فدَّان، وكان من بينها ٤٠٠ فدَّان أُعطِيَت له كمسموح مشيخة. وتولى
أولاده المناصب الكبرى، ولم يكَد يقترب القرن التاسع عشر من نهايته حتى كانت عائلة
الشواربي تمتلك نحو ٥٨٪ من زمام قرية قليوب، بالإضافة إلى جميع حوانيت البلدة
ووكالاتها، وبساتين فاكهةٍ بها، إلى جانب معملين لتفريخ الدجاج وحلج القطن، وثماني
مضخَّات آلية للري، وكانت جميعًا ملكًا خاصًّا لهم.
٧٠
أمَّا النوع الآخر من ملكيات شيوخ البدو، فقد ارتبط تكوينه بسياسة محمد علي الخاصة
بتوطين البدو الذين كانوا ينزلون على أطراف الصحراء الشرقية والغربية بالقرب من الأراضي
الزراعية، وشكَّلت غاراتهم خطرًا كبيرًا على الحياة الاقتصادية، فضلًا عن اضطراب الأمن،
وحتى يتخلص الباشا من متاعبهم منح شيوخهم مساحاتٍ واسعةً من أطيان الأبعادية، وأعفاها
من الضرائب، ولم يُعطِهم تقاسيطَ تُثبت حيازتهم لها، وإنما وعدهم بألَّا يُكلَّفوا
بأعمال السُّخرة أو الخدمة العسكرية.
٧١
وما كان البدو ليألفوا حياة الاستقرار بسهولة، فلم يغير كثيرٌ منهم أنماط حياتهم،
وظلوا يسكنون الخيام، وتركوا الأرض للفلاحين يزرعونها لحسابهم مقابل نصف المحصول، فصدر
أمر في عام ١٨٣٧م؛ قضى بمنع شيوخ البدو من تأجير أطيانهم أو مزارعتها، وأُلزِموا أن
يتولوا زراعتها بأنفسهم.
٧٢
ورغم الأوامر والتعليمات المتكررة، استمر البدو على تلك الحال، واستبدوا بالفلاحين،
فكانوا يأخذون ما يروق لهم من الأراضي الخصبة، ويتركون للفلاحين الأراضي الأقلَّ خصوبة،
ولا يدفعون الضرائب التي رُبطت على الأرض، ويطلقون إبلهم وأغنامهم في حقول الأهالي،
ووضعوا المجرمين والمتهربين من سدادٍ ما عليهم من ضرائب تحت حمايتهم، فكانت الحكومة
تجرد الحملات عليهم لتأديبهم وانتزاع ما تحت أيديهم من الأطيان. ولكن سطوة الدولة
اضطرَّت شيوخ البدو إلى الدخول في طاعة الحكومة، فصدر أمرٌ في عام ١٨٤١م؛ يقضي بأن تكون
الأراضي التي تُعطَى للبدو هي تلك التي تقع على أطراف الأراضي الزراعية بالبلاد التي
لا
يكون بها ما يزيد عن حاجة الأهالي من الأطيان المعمورة أو المُستبعَدات، وألَّا يُسمح
لهم بنقل شيءٍ من غلَّات زراعتهم إلا بعد أن يسدِّدوا الأموال الأميرية المقرَّرة عليهم.
٧٣
وما لبث البدو أن عادوا سيرتهم الأولى من التمرد على الحكومة والارتكان إلى السلب
والنهب، فأصدر عباس الأول أمرًا في عام ١٨٥٠م؛ هدَّدهم فيه بنزع أطيانهم إذا لم يتولوا
فِلاحتها بأنفسهم.
٧٤
وحين استمروا على حالتهم، جرد محمد سعيد باشا الحملات العسكرية عليهم، واضطرَّهم
إلى
الفرار إلى الصحراء الغربية، وصادر أملاكهم، وأعطى بعضها لمَن دخل في طاعة الحكومة من
شيوخهم.
٧٥ وبعد بضع سنوات عاد بعض شيوخ البدو المغضوب عليهم، والتمسوا العفو عنهم
واستردُّوا ما صُودِر من أملاكهم، فأُجيبوا إلى طلبهم، وكان من بين هؤلاء آل الطحاوي
—
شيوخ قبيلة الهنادي — الذين استردُّوا (عام ١٨٥٨م) ٤٥٠٠ فدَّان من أطيان القليوبية،
كانت قد صُودِرت في عام ١٨٥٤م بسبب خروجهم على الحكومة.
٧٦
واستمرت سياسة توطين البدو — عن طريق ربطهم بالأرض الزراعية — تتعثر حتى عصر إسماعيل،
الذي شهد اضطراب الأمن ببعض جهات الصعيد بسبب اعتداء البدو على الفلاحين، واضطرَّت
الحكومة إلى انتزاع ما كان بحوزة شيوخ قبيلة الجوازي من أطيان المنيا — بلغت مساحتها
ألف فدَّان — ثم ردتها لهم حين رفعوا لواء الطاعة من جديد.
٧٧
وكانت أطيان البدو تعدُّ عشوريةً حتى عام ١٨٥٥م، ثم أصبحت خَراجية — بعد ذلك التاريخ
— تُربط عليها الضريبة بنفس فئة الأطيان المماثلة لها بالناحية.
٧٨ وفي نوفمبر ١٨٦٣م خطت الحكومة خطوةً أخرى في سبيل توطين البدو، فأصدرت
أمرًا إلى تفتيش عموم الأقاليم؛ يقضي بعدم تصرف البدو في الأطيان المُعطاة لهم بالبيع
أو الهيئة أو الاستبدال أو الرهن أو غير ذلك من ضروب التصرف، وألَّا تُنزع الأطيان من
أيديهم ما داموا يسدِّدون ما عليها من أموال بشرط أن يتركوا سُكنى الخيام، أمَّا مَن
يُتوفَّى منهم فلا يكون لورثته حقٌّ في أطيانه، وتئول هذه الأطيان إلى الدولة إذا لم
يكُن هناك مَن يستحقُّ أن يأخذها.
٧٩
ولمَّا كانت أطيان شيوخ البدو قد أصبحت خَراجيةً منذ عام ١٨٥٥م، فقد عُومِلت معاملة
ذلك النوع من الأطيان، ومن ثَم استفادت من قانون المقابلة (عام ١٨٧١م)، وتطورت حقوق
الملكية عليها تبعًا لتطورها على هذا النوع من الأراضي.
ومما هو جديرٌ بالملاحظة أن تقاسيط الأطيان التي كانت تُعطَى للبدو، وكانت تصدُر
بأسماء شيوخ القبائل دون أن يحدَّد فيها نصيب كل فردٍ من أفراد القبيلة، بل ودون أن
ينصَّ على أن ملكية تلك الأطيان مشاعٌ بين أفرادها، وقد ترتَّب على ذلك — مع تطور
الملكية الفردية — أن أصبحت هذه الأراضي ملكًا لعائلات الشيوخ، وخرج أفراد القبيلة صفر
اليدين، وتحولوا إلى مجرد أجراء لدى شيوخهم، ثم ما لبثت وحدة القبائل أن تفتَّتت بمرور
الزمن، فتحول الشيوخ إلى أعيان في قُرى الريف، ومنهم مَن اجتذبتهم حياة المُدن فنزحوا
إليها وتقلَّدوا الوظائف الكبرى وسلكوا سبل المُلَّاك الكبار، فاتصلوا بالطبقة الحاكمة،
بينما انتشر أفراد القبائل في القُرى يلتمسون سبيل العيش بالفِلاحة أو نقل البضائع على
ظهور الإبل، وبذلك ذاب البدو في بوتقة الريف المصري، واعتادوا حياة الفِلاحة والاستقرار
وتخلَّوا — تدريجيًّا — عن عاداتهم القديمة.
وقد زودت عمليات توطين البدو — التي تمَّت في القرن التاسع عشر — كبار المُلَّاك
الزراعيين بفئة اجتماعية جديدة، ففي مديرية الفيوم وبني سويف تركزت ملكيات شيوخ قبائل
البرادعة والفوايد،
٨٠ وفي الشرقية كانت هناك أراضٍ واسعةٌ يملكها شيوخ قبيلة الهنادي، هذا
بالإضافة إلى ما كان يملكه شيوخ قبيلة العائد من أطيان واسعة بتلك المديرية، وتركزت
أطيان شيوخ قبيلة أولاد علي بالبحيرة،
٨١ وغيرهم كثيرون.
(٥) الأقباط
وكان من بين أصحاب الملكيات الكبيرة فريقٌ من الأقباط كوَّنوا ملكياتهم في ظروفٍ تتسق
مع وضعهم في المجتمع المصري في القرن التاسع عشر.
فقد كان الأقباط يشكِّلون عصب الجهاز الإداري في مصر منذ القِدم، فكانوا يشتغلون
بمساحة الأطيان، وجباية الضرائب والكتابة في الدواوين، وأعمال المحاسبة. وكانوا
يتوارثون هذه الأعمال جيلًا بعد جيل، واحتكروا معظم وظائف ديوان الروزنامجة، وكان رئيس
ذلك الديوان واحدًا منهم،
٨٢ وقد شغل باسيليوس بك ابن المعلم غالي هذه الوظيفة في عهد محمد علي، وأنعم
عليه الباشا بمساحات واسعة من الأطيان حتى بلغت أملاكه نحو ألفَي فدَّان، وبعد وفاته
كان ورثته يضعون أيديهم — في العقد السابع من القرن التاسع عشر — على نحو ألف فدَّان
من
أطيان المنيا وأسيوط والقليوبية. وكذلك دوس طوبيا بك الذي كان يمتلك ١٠٦٥ فدَّانًا،
وحنا بحري بك الذي كانت له ٥٠٠ فدَّان، وهما من كبار موظفي الروزنامجة،
٨٣ وحصلوا على هذه الأطيان كإنعامات من الولاة.
ولمَّا كان الأقباط يشغلون معظم وظائف دواوين المديريات، فقد أتاحت لهم مراكزهم
الوظيفية فرصة تكوين ملكيات عن طريق شراء أطيان الدولة (الميري)، التي كانت تُطرح للبيع
بالمزاد العلني في دوائر وظائفهم، فعلى سبيل المثال اشترى المعلم صليب منقريوس المليح
الكاتب بديوان الغربية أطيانًا بكفر الجرايدة — بنفس المديرية — بلغت مساحتها ٢٠٠ فدَّان،
٨٤ كما اشترى المعلم رزق صليب، الكاتب بمديرية البحيرة، ٢٠٥ أفدنة من أطيان
الميري بنفس المديرية، واشترى أخوه سيداروس صليب باشكاتب مديرية البحيرة ٣٠٠ فدَّان من
أطيان المديرية ذاتها.
٨٥
وكانت أعمال جباية الضرائب تكاد تكون وقفًا على الأقباط وحدهم، وهيأ ذلك لهم نفوذًا
واسعًا على الفلاحين، واستطاع بعضهم أن يستغلوا وظائفهم في تكوين ملكيات كبيرة بقيت في
أيدي ورثتهم حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى، ومن هؤلاء المعلم رزق الذي كان مسئولًا
عن جباية أموال الميري (باشصراف) في البلاد الواقعة شرق فرع دمياط زمن محمد علي
وخلفائه، واقتنى مساحاتٍ واسعةً من الأراضي كوَّنت في مجموعها «كفور رزق» بالقرب من ميت
غمر، وظلت أطيان هذه الكفور ملكًا لأولاده وأحفاده حتى القرن العشرين.
٨٦
وثمة بعض الأقباط الذين نهجوا نهج شيوخ القُرى، وكوَّنوا ملكياتهم بنفس الطريقة التي
كوَّن بها الأعيان ملكياتهم، ومن هؤلاء «ميخائيل بك اسناثيوس الأشروبي» الذي كان شيخًا
لإحدى قُرى المنيا، واستطاع أن يقتني مساحةً واسعةً من أجود الأراضي الزراعية بالمنيا،
وزادها أخوه «حنا» اتساعًا حتى أصبحت عائلتهم تعدُّ من أبرز العائلات الثرية بالصعيد،
ثم خلَفه نجله «ناشد بك حنا» الذي كان واحدًا من أبرز كبار المُلَّاك الزراعيين في
البلاد عند مطلع القرن العشرين.
٨٧
ومن هؤلاء — أيضًا — المعلم جريس الذي كان شيخًا لقرية اللاوندي بالدقهلية، وكانت
أملاكه تربو على ألفَي فدَّان، وامتلك محلجًا للقطن، ومعصرةً للقصب، وعددًا من مضخَّات
الريِّ الآلية،
٨٨ وفي مطلع القرن العشرين كانت عائلته من أكبر عائلات الأعيان بالوجه البحري،
وشغل حفيده «واصف بك جريس» منصب قنصل البرتغال بالمنصورة.
٨٩
كذلك كان المعلم بطرس شيخًا لقرية الشيخ زايد بمديرية جرجا — في عهد سعيد وإسماعيل
—
وامتلك ما يزيد على ألفَي فدَّان ومئاتٍ من رءوس الماشية والأغنام والإبل، وعيَّنته
روسيا قنصلًا لها بمديرية جرجا.
٩٠
ولكن القسم الأهم من كبار المُلَّاك الأقباط تكوَّن من أولئك الذين كانوا يشتغلون
بالتجارة، وخاصةً التجارة الخارجية — كوكلاء لبيوت تجارية أوروبية — والذين ازداد
نشاطهم منذ سقوط نظام الاحتكار، فتراكمت في أيديهم رءوس الأموال، وشجعهم ما طرأ على
حقوق الملكية الفردية للأرض من تطور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ورواج سوق
المحاصيل الزراعية نتيجة تطور الزراعة بصورةٍ جعلت عائد الاستثمار فيها مضمونًا
ومجزيًا، على أن يستثمروا أموالهم في الزراعة، فاقتنوا الضِّياع الواسعة. ولما كان
بعضهم يشغل الوظائف القنصلية لبعض الدول الأجنبية، فقد استفادوا من الامتيازات
الأجنبية، ومن المؤسسات التي كانت ترعى مصالح الأجانب كالمحاكم المختلطة، وزادت ثرواتهم
وأملاكهم نموًّا تحت الاحتلال البريطاني الذي يسَّر لهم سُبل استثمار أموالهم، وحماهم
من مصادرة الحكام لها.
وإلى هذا الفريق تنتمي عائلة بشارة بالأقصر، التي كان عميدها «أندراوس بشارة» يشتغل
بتجارة بضائع الشرق الأقصى حتى أثرى ثراءً كبيرًا، وعمل قنصلًا لإيطاليا وبلجيكا
بالأقصر، وبعد الاحتلال حوَّل مجال استثماراته إلى الزراعة، فاشترى ألف فدَّانٍ دفعةً
واحدة، ثم زادت مساحة أملاكه اتساعًا حتى أصبح يمتلك ستة آلاف فدَّان في مدى عشر سنوات،
واشترى أربعة آلاف فدَّان من أطيان الدائرة السنية بالاشتراك مع بعض المُموِّلين
الآخرين، كما اشترى — بالاشتراك مع نجله يسي بك — تفتيش المطاعنة الذي كانت تبلغ مساحته
٤٧٠٠ فدَّان.
٩١
ومن هؤلاء، عائلة ويصا بأسيوط، التي كان عميدها «ويصا بقطر» يشتغل بالتجارة حتى كوَّن
ثروةً عظيمة، واختارته الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا قنصلًا لهما بأسيوط، وبدأ
منذ أواخر السبعينيات يشتري الأبعاديات، حتى باتت مساحة أطيانه نحو ١٢ ألف فدَّان في
عام ١٨٩٨م، وكانت جميعًا من أجود الأراضي بمديرية أسيوط. وأضاف إليها ١٦ ألف فدَّان من
أطيان الدائرة السنية بأسيوط، وتخصَّص في زراعة قصب السكر، وكان لديه مصنعٌ لعصر القصب
وتكريره في بني قرة، وامتلك معظم أسهم «شركة سكك حديد الفيوم الضيقة».
٩٢
ومنهم أيضًا عائلة ميخائيل بأسيوط، التي كان عميدها يشتغل بالتجارة، وتولى منصب قنصل
روسيا بأسيوط، ثم استثمر أمواله في الزراعة منذ الرُّبع الأخير من القرن التاسع عشر،
حتى أصبح من كبار المُلَّاك بأسيوط، وإن كانت دائرة استثماراته لم تقتصر على الزراعة
وحدها، فقد أنشأ مصرفًا بأسيوط لإقراض الأموال للفلاحين، أصبح يُعرف في أوائل القرن
العشرين باسم «بنك البكوات بشري وسينوت حنا»، وحين مات في عام ١٩٠١م تولى أولاده بشري
وسينوت وراغب إدارة أعماله الواسعة، وخلَفه أولهم في منصب قنصل روسيا بأسيوط.
٩٣
وغير هؤلاء كثيرون ممَّن كوَّنوا رءوس أموالهم من العمل بالتجارة، ثم مدُّوا نطاق
استثماراتهم إلى الزراعة، فامتلكوا آلاف الأفدنة كعائلة «مقار» بأسيوط، وعائلتَي
«قرياقص» و«عبيد» بقنا، وعائلة «حنا سوريال» بالمنيا، ولم يكُن هؤلاء أكثر كبار
المُلَّاك الأقباط ثراءً فحسب، بل كانوا من أبرز كبار المُلَّاك بالصعيد خاصةً ومصر
عامة.
ونستخلص من ذلك كله، أن ملكيات الأقباط، وإن كان بعضها قد تكوَّن في ظروفٍ مماثلةٍ
لتلك التي تكونت فيها ملكيات كبار الموظفين والأعيان، إلا أن الجانب الأكبر منها كان
وليد الأوضاع الاقتصادية والسياسية في مصر في الرُّبع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان
لأصحاب تلك الملكيات — كما سنرى — دورٌ بارزٌ في الحياة السياسية يتفق مع مصالحهم
المادية.
(٦) الأجانب
أمَّا الفئة الأخيرة من كبار المُلَّاك الزراعيين فكانت تتكون من الأجانب (ونقصد
بهم
الأوروبيين)، وترجع بداية تكوين ملكياتهم إلى عهد محمد علي الذي منح أطيانًا من
الأبعادية لبعض الأجانب الذين استعان بهم في الجيش وغيره من أعمال الحكومة، كما منح
أطيانًا من الأبعادية لكثير من التجار اليونانيين الذين كانت لديهم رءوس أموال
استثمروها في استصلاح الأراضي، وكان الباشا يساعد مَن لا تتوافر لديهم رءوس الأموال؛
فيقدِّم لهم القروض والماشية والبذور، كما حصل عددٌ من التجار الإنجليز على هباتٍ من
الأطيان، وقد بلغت مساحة ما كان يملكه الإنجليز في عام ١٨٤٠م نحو ٢٥ ألف فدَّان من
أطيان الأبعادية،
٩٤ وقد أصبحت الأراضي التي حصل عليها الأجانب ملكًا لهم وفقًا للقرار الصادر
في فبراير ١٨٤٢م، رغم أنه لم يكُن لهم — حتى ذلك الحين — حقُّ ملكية العقارات في الدولة
العثمانية. كذلك تعهد بعض الأجانب بالقُرى العاجزة عن سداد الضرائب، فوضعوا أيديهم على
بعض أطيان العهدة، وتمتعوا بحقِّ الانتفاع بها.
٩٥
وسمح سعيد للأجانب بشراء مساحات واسعة من أطيان «المتروك» الخَراجية التي طُرحت للبيع
بالمزاد، بعد أن رغب الفلاحون عنها تخلصًا من التزاماتهم المالية قبل الدولة (١٥ جمادى
الأولى ١٢٧٥ﻫ/يناير ١٨٥٩م)، ثم تحولت هذه الأراضي إلى أطيان عشورية وعوملت معاملة تلك
الأطيان، فأصبح لأربابها الأجانب حقُّ الملكية التامة عليها كأطيان الأبعادية سواءً بسواء.
٩٦
وبعد صدور اللائحة السعيدية وما ترتَّب عليها من تثبيت حقِّ الانتفاع للأرض
الخَراجية، بدأ الأجانب يُقبِلون — كأفراد — على استثمار أموالهم في تلك الأطيان،
فوضعوا أيديهم على مساحات واسعة من الأطيان الخَراجية،
٩٧ إمَّا عن طريق الشراء، أو عن طريق تقديم القروض المالية للفلاحين، ثم
الاستيلاء بالتالي على أطيان مَن يعجزون عن سداد ما عليهم من ديون، وما كان أكثر
هؤلاء.
وفي نوفمبر ١٨٦٠م أصبح من حقِّ الأجانب أن يقيموا محالج للقطن بأطيان المزارع
الخَراجية التي تئول منفعتها إليهم بشرط أن يخضعوا للإجراءات التي تتبعها الحكومة مع
الرعايا الوطنيين، ولكن هذا الشرط لم ينفذ على الإطلاق، وقد كان لكل قنصلية — حتى تأسيس
المحاكم المختلطة في ١٨٧٦م — مكتب خاص لتسجيل العقود الناقلة لملكية الأطيان والعقارات
وعقود الرهونات، وكان كلٌّ من تلك المكاتب يُطبِّق قوانين دولته ولا يُلقي بالًا إلى
القوانين المحلية السارية في البلاد.
٩٨
وكثيرًا ما كان الأجانب يمتنعون عن دفع الضرائب، استنادًا إلى الامتيازات الأجنبية
(رغم أنها لم تكُن تعطيهم ذلك الحق)، مما دفع الحكومة إلى إصدار الأوامر (يوليو ١٨٦٠م)،
التي تؤكد ضرورة تأدية الأجانب للضرائب ولغيرها من الالتزامات التي تقع على الأطيان
الزراعية كغيرهم من المُلَّاك الوطنيين.
٩٩
ولم ترخِّص الدولة العثمانية للأجانب بملكية العقارات في ولاياتها إلا في يونيو
١٨٦٧م، حين صدر القانون الخاص بمنح الأجانب هذا الحقَّ في سائر الولايات ما عدا إقليم
الحجاز، على أن يلتزموا بالخضوع للقوانين واللوائح المعمول بها في أراضي الدولة، وأن
يؤدوا ما عليهم من التزامات وأموال كغيرهم من رعايا الدولة العثمانية، وأن يرجعوا إلى
السلطات القضائية العثمانية في كل نزاع يتعلق بملكية العقارات دون المساس بالامتيازات
التي كفلتها لهم المعاهدات.
١٠٠
ولكن ظلَّ الأجانب — رغم ذلك — ينفرون من الخضوع للسلطات المصرية، ويلجئون إلى
المحاكم القنصلية في كل نزاعٍ يتعلق بملكياتهم، حتى تأسست المحاكم المختلطة في عام
١٨٧٦م، فتولت تسجيل عقود التصرفات الخاصة بأراضي الأجانب، والعقود الخاصة بأطيان
الأهالي التي ترهن لدى الأجانب مقابل قروضٍ مالية، وترتَّب على زيادة حجم معاملات
الأجانب في هذا المجال توسيع إدارة التسجيل الملحقة بالمحاكم المختلطة، وتشعب عملها،
١٠١ وأصبح هناك أساسٌ موحَّدٌ للمعاملات الخاصة بأطيان الأجانب.
وبلغت مساحة ما كان يملكه الأجانب من الأطيان الزراعية في مصر ٢٢٥١٨١ فدَّانًا في
عام
١٨٨٧م، وزادت هذه المساحة زيادةً كبيرةً في خلال عشر سنوات، فبلغت ٥٧٣٨١٩ فدَّانًا في
عام ١٨٩٦م، و٦٢٢٥٢٢ فدَّانًا في عام ١٩٠٦م،
١٠٢ أيْ ما يتراوح بين ١٠-١١٪ من جملة مساحة الأراضي الزراعية في البلاد، وكان
٩٠٪ من ملكيات الأجانب تزيد مساحتها على ٥٠ فدَّانًا، وقد امتلك الأجانب — في عام ١٩٠٦م
— حوالي ٢٧٫٥٪ من جملة الملكيات التي تزيد عن خمسين فدَّانًا.
وقد تركزت ملكيات الأجانب في الدلتا، وخاصةً في منطقة القناة ومديرية البحيرة، حيث
تقع بالقرب منها مراكز تجمع الأجانب في الإسكندرية وبورسعيد، كما امتلكوا مساحات كبيرة
من الملكيات الواسعة في شتَّى المديريات، ولعلَّ ذلك راجعٌ إلى تراكم أراضي المُلَّاك
المصريين في أيدي الدائنين الأجانب بسبب عجزهم عن سداد ما عليهم من ديون.
١٠٣
وكان ثمة بعض الأجانب الذين حصلوا على أملاكهم في شكل إنعامات من الحكام، ومن هؤلاء
الحكيمباشي يوركر بك، الذي أنعم عليه الخديو إسماعيل بخمسمائة فدَّان من أطيان
الأبعادية، وكذلك باولينو بك كبير الصيادلة الذي حصل على ١٤٨٥ فدَّانًا بالبحيرة، كانت
موزَّعةً بين ثلاث قُرًى بالقرب من كفر الدوار،
١٠٤ كذلك قامت ملكية درانت باشا — الذي كان مديرًا للأوبرا الخديوية — على ما
كان يمنحه له إسماعيل من الأطيان، وقد بلغت مساحة أطيانه ببعض قُرى كفر الدوار ١٢ ألف
فدَّان في مطلع القرن العشرين.
١٠٥
ولكن الجانب الأكبر من ملكية الأجانب تمثل في شركات الأراضي التي تأسست في
الثمانينيات والتسعينيات من القرن التاسع عشر، وكانت تعتمد على رءوس الأموال الأجنبية
إلى جانب قدرٍ محدودٍ من رأس المال المحلي، وقامت تلك الشركات بشراء مساحات واسعة من
الأراضي البور، أو حصلت عليها كمنحةٍ من الخديو، ثم عكفت على استصلاحها، وبيع بعضها
للغير وزراعة بعضها الآخر.
وتأسست أولى هذه الشركات في عام ١٨٧٤م برأسمالٍ فرنسيٍّ تحت اسم «شركة الكوم الأخضر
الزراعية»، واشترت مساحاتٍ من الأراضي البور بأثمان بخسة، ثم حصلت على بضعة آلاف من
الأفدنة كمنحةٍ من الحكومة المصرية، وبلغت مساحة ما كانت تملكه الشركة بالبحيرة تسعة
آلاف فدَّان، وشرعت بعد ذلك في شقِّ تُرعة لتوصيل المياه من تُرعة المحمودية إلى
أراضيها، ولكن نفقات استصلاح الأراضي كانت باهظة، وانتهى الأمر بإفلاس الشركة وتصفيتها
في عام ١٨٨٨م.
١٠٦
وأُنشِئت شركة ريِّ البحيرة في عام ١٨٨٣م — برأسمالٍ كان معظمه إنجليزيًّا — لتتولى
شقَّ تُرعة الخطاطبة، وإقامة بعض مضخَّات الريِّ الآلية، على أن تدفع لها الحكومة ٢٦٣٢٠
جنيهًا مصريًّا سنويًّا، عدا ما تأخذه من الأهالي كأجرٍ عن ريِّ أراضيهم، ونصَّ في عقد
امتيازها على أن تظلَّ الحكومة تدفع لها هذا المبلغ حتى عام ١٩٠٠م، حتى لو كانت أحوال
الريِّ قد تحسنت بشكل يدعو إلى الاستغناء عن عمل الشركة، ولذلك حين تحسنت أحوال الريِّ
بالبحيرة بعد إصلاح القناطر الخيرية وتعميق رياح البحيرة، حصلت الشركة — في مايو ١٨٩٤م
— على أطيان تفتيش بسنديلة التابع للدائرة السنية، وتبلغ مساحته ١٢٣ ألف فدَّان وفاءً
لالتزامات الحكومة المالية قبلها حتى نهاية مدَّة الامتياز،
١٠٧ وتحولت إلى شركة زراعية باسم «شركة أراضي البحيرة»، ثم زادت ملكيتها بعد
ذلك تدريجيًّا.
وكوَّن بعض المُموِّلين الإنجليز «شركة أراضي أبو قير» في عام ١٨٨٧م، لتتولى تجفيف
بحيرة أبي قير واستصلاح أراضيها، كما تأسست «الشركة الزراعية الصناعية المصرية» — في
عام ١٨٩٧م — برأسمال بلجيكي، وزيد رأسمالها بعد خمس سنواتٍ من تأسيسها، من ١١٤ ألف جنيه
إلى ٧٠١ ألف جنيه.
وفي عام ١٨٩٨م، تأسست «شركة أراضي الدائرة السنية» برأسمالٍ كان معظمه إنجليزيًّا،
وتولت تقسيم أراضي الدائرة السنية وبيعها.
١٠٨ كذلك تأسست «شركة الاتحاد العقاري المصري» برأسمالٍ فرنسي-مصري مشترك،
واشترت مساحاتٍ كبيرةً من الأراضي لتتولى استصلاحها وبيعها للأهالي. ولم يكَد يمرٌّ
عامٌ على تأسيسها حتى كانت تضع يدها على ١٢ ألف فدَّان.
١٠٩
وزاد إقبال رءوس الأموال الأجنبية على الدخول في مجال الاستثمار الزراعي بعد حادث
فاشودة (١٨٩٩م)، الذي دعم مركز الاستثمارات الأوروبية في البلاد، إذ أصبح واضحًا أن
الوجود البريطاني في مصر أصبح مدعمًا، ولذلك ارتفعت قيمة رءوس الأموال الأجنبية
المُستثمَرة في مصر — بصفة عامة — من ٣٠٨٦٨٠٠٠ جنيه في عام ١٨٩٧م، إلى ٤٤٢٩٩٢٠٠٠ جنيه
في عام ١٩٠٢م، أيْ بنسبة ٢٦٫٥٪،
١١٠ وهي زيادة كبيرة بالنسبة للفترة الزمنية التي وقعت فيها.
وتبع ذلك زيادةٌ ملحوظةٌ في حجم الاستثمارات في الشركات الزراعية، فارتفعت قيمة رأس
المال المُستثمَر في شركات الأراضي من ١٣٤٢٠٠٠ جنيه مصري في عام ١٨٩٧م، إلى ٢٩٧٤٠٠٠
جنيه مصري في عام ١٩٠٢م، إلى ١٩٣٥٦٠٠٠ جنيه مصري في عام ١٩٠٧م.
١١١
كذلك كان بعض كبار المُلَّاك الزراعيين من الشوام (الموارنة) واليهود يحصلون على
جنسيات أجنبية، ليستفيدوا من الامتيازات التي كان يتمتع بها الأجانب. وظهرت مساحات
ملكياتهم في الإحصائيات ضمن ملكيات الأجانب، ومن هؤلاء سليم بك شديد الذي كان يمتلك ٣٣
ألف فدَّان وحصل على الجنسية البرتغالية، ورزق الله بك شديد الذي كان يمتلك ١٦ ألف
فدَّان وينتمي إلى ألمانيا، وسكاكيني باشا وحبيب باشا لطف الله اللذان كانا يملكان آلاف
الأفدنة وحملا الجنسية الفرنسية،
١١٢ بل إن بعض كبار المُلَّاك من الأتراك حصلوا على رعوية أجنبية ليحتموا في
ظلِّها من نقمة الحكام، وليأمنوا على أراضيهم وأملاكهم من المصادرة، ومن هؤلاء علي باشا
شريف الذي كان رئيسًا لمجلس شورى القوانين (١٨٩١–١٨٩٤م)، وحصل على الجنسية الإيطالية
في
عهد إسماعيل، وكان يمتلك نحو ١٣ ألف فدَّان من أجود الأراضي الزراعية.
١١٣
وبذلك كانت ملكيات الأجانب تضمُّ فئاتٍ اجتماعيةً متعددة، لا يربط بينها إلا ما كانت
تتمتع به من امتيازات جعلتها فوق مستوى أهالي البلاد، وما كانت تجده من استثمار مربح
لرءوس أموالها، فشملت أخلاطًا من الناس جمعت بينهم مصالح اقتصادية مشتركة.
أمَّا فيما يتعلق بحركة الأجانب وجهودهم من أجل التملك في مصر، فيُلاحَظ أنه حتى
العشرينيات من القرن العشرين كان نشاط الأجانب موجهًا إلى المهن المختلفة في مجالات
الصناعة والتجارة والمال والخدمات بنسبة أكبر من تلك التي كانت للمصريين. أمَّا في مجال
الزراعة فإن نسبة الأجانب الذين وجهوا جهودهم نحوها كانت تتراوح بين ١-٢٪ بينما بلغت
نسبة المصريين حوالي ٦٠٪. ورغم أن عدد الأجانب كان قليلًا ولا يزيد عن ٢٪ من السكان فقد
كانوا يمتلكون أكثر من ١٠٪ من الأراضي حتى العشرينيات، وأكثر من ٨٫٥٪ حتى منتصف
الثلاثينيات، وأكثر من ٦٪ حتى أواسط الأربعينيات، وهذا يرجع إلى أن جهودهم كانت محصورةً
في تكوين شركات الأراضي التي كانت تمثل الجزء الأكبر من ملكية الأجانب، والتي كانت تقوم
باستصلاح الأراضي البور وبيعها — كما سبق ذكره — بحيث يكون من الخطأ تصور أن الأجانب
كانوا راغبين عن استثمار أموالهم في مجال الزراعة، بل إن الأجانب المقيمين بمصر من
اليونان والطليان استثمروا أموالهم في هذا المجال، وخاصةً في أوقات ارتفاع قيمة الأراضي
والإيجارات، فمثلًا امتلك كلٌّ من جانكليس وبيراركوس اليونانيَّين حوالي ٧٠٠٠ فدَّان
في
البحيرة، وامتلك تومايدس اليوناني أيضًا حوالي ١٤٣٥ فدَّانًا بالشرقية كما تملَّك
أرمانت السندريني
Armant Alessandrini الإيطالي أكثر من
٢٤٠٠ فدَّان، كان يزرع منها بالفعل حوالي ١٦٠٠ فدَّان.
١١٤
وإذا كانت ملكيات المصريين تقسم عادةً بين صغيرة وكبيرة، فإن ملكيات الأجانب كانت
ملكيةً كبيرةً دائمًا، سواءً على مستوى الأفراد أو الشركات، ففي سنة ١٩١٩م بلغت نسبة
الملكيات الكبيرة للأجانب ٩٢٫٩٪ من مجموع الملكيات الأجنبية؛ ٩٣٪ في عام ١٩٢٩م، ٩١٫٢٪
في عام ١٩٣١م، ثم وصلت إلى ٩٠٫٩٪ في عام ١٩٤٩م.
١١٥
وإذا كانت الفترة من ١٩٠١م إلى ١٩١٠م تُعتبر فترة ازدهار بالنسبة لتوسع الأجانب في
تملُّك الأراضي، حيث زادت مساحة ما كانوا يملكون من ٥٥٤٤٠٩ أفدنة إلى ٧٢٠٢٣٠ فدَّانًا
من مجموع المساحة الكلية، أيْ بنسبة ١٠٫٩٪–١٣٫٢٪، فإن الفترة من ١٩١٧م إلى ١٩٢٠م شهدت
انكماشًا حادًّا في هذا المجال، فقد تقلَّصت الملكية من ٧١٣١٠٥ أفدنة (١٩١٧م) إلى
٥٥٣٢٧١ (١٩٢٠م)، أيْ من ١٣٪ إلى ١٠٪ بالنسبة لمجموع الملكية الفردية، وأرغمت هذه الحالة
الشركات على إيقاف معاملاتها المالية من قروض وغيرها، واضطرَّ بعضها مثل الشركة المصرية
الجديدة والاتحاد العقاري المصري لبيع قدرٍ كبيرٍ من أراضيها بنسبةٍ لم تحدث من قبل،
كما انخفضت رءوس الأموال المُستَثمرة في هذا المجال من ١٨٤٧٧٠٠٠ جنيه مصري في ١٩١٥م إلى
١٤٩٣٩٠٠٠ جنيه مصري في ١٩٢١م، وقد ازدادت ملكيات الأجانب حوالي ٤٠٠٠٠ فدَّان خلال
الثلاثينيات نتيجة مشتريات شركة كوم أمبو في عام ١٩٣١م.
١١٦
على أن حجم ملكية الأجانب كان يتأثر ارتفاعًا أو انخفاضًا بالوضع السياسي في البلاد،
ففي أعقاب معاهدة ١٩٣٦م وإلغاء الامتيازات الأجنبية في ١٩٣٧م بمعاهدة مونتريه، انخفضت
نسبة ملكياتهم انخفاضًا كبيرًا إلى حوالي ٧٠٠٠٠ فدَّان، وإلى حوالي ١٠٠٠٠ فدَّان في عام
١٩٤٨-١٩٤٩م، كما أن قانون الشركات الذي صدر في عام ١٩٤٦م حدَّ من نشاط الأجانب في
امتلاك الأراضي، لدرجة أن شركة كوم أمبو أعادت تسجيل نفسها كشركة مصرية وليست أجنبية.
١١٧ يُضاف إلى هذا مشروع القانون الذي قدَّمه عبد الرحمن الرافعي في مجلس
الشيوخ في ٨ ديسمبر ١٩٤٨م بحظر بيع الأراضي للأجانب.
لقد انحدر كبار المُلَّاك الزراعيين — إذَن — من فئات اجتماعية متعددة، اتفقت مصالحها
المادية بقدر ما اختلفت أصولها الاجتماعية. فهل كان ثمة تجانس بين هذه الفئات جعلها
تكوِّن طبقةً اجتماعيةً متماسكةً بكل ما تحمل الكلمة من معنى؟
إذا أمعنَّا النظر في الفئات التي سبق أن عرضنا لها، والتي كوَّنت في مجموعها «كبار
المُلَّاك الزراعيين»، نجدها تنتمي — في نهاية الأمر — إلى ثلاثة عناصر رئيسية
هي:
-
الأتراك (الذوات): ونعني بهم الأقلية الحاكمة، سواءٌ في ذلك أفراد أُسرة محمد علي أو
كبار الموظفين الأتراك من أبناء آسيا الصغرى وأتراك تونس والجزائر
وشركس والأكراد والأرمن والشوام، الذين كانوا يتخذون التركية لغة
التخاطب، ويتمسكون بالتقاليد وأساليب الحياة التركية.
-
المصريون: (أو أولاد العرب، أو الفلاحون كما كانوا يسمونهم)، ونقصد بهم كبار
الموظفين الذين تقلَّبوا في مناصب الحكومة، وأعيان الريف بما فيهم
الأقباط الذين يندرجون في هذه الفئة، وشيوخ البدو الذين أَلِفوا حياة
الاستقرار في وقتٍ مبكر، وسلكوا سبيل الطبقة الحاكمة من سُكنى المُدن
والارتكان إلى الدعة ولين العيش.
-
الأجانب: وهم أولئك الأوروبيون الذين استثمروا أموالهم في الأراضي الزراعية،
ومَن ارتبط بهم من حيث الوضع القانوني من الشوام والموارنة واليهود،
بالإضافة إلى بعض العائلات القبطية التي اشتغلت بالتجارة الخارجية،
وشغل أفرادها المناصب القنصلية للدول الأوروبية، وتمتعوا بكافة
الامتيازات التي كانت للأجانب في مصر.
أمَّا الأتراك، فقد ظلُّوا يحرصون على التمسك بالتقاليد التركية، ويستخدمون اللغة
التركية كلغةٍ للتخاطب بين الصفوة الممتازة ذات المركز الاجتماعي المرموق،
١١٨ ولبثوا ينظرون إلى المصريين نظرة المتبوع للتابع، ويعتبرونهم — مهما علا
قدرُهم — مجرد «فلاحين»، ولكن تقلُّد المصريين للوظائف الحكومية، وفتح باب الترقي
أمامهم، ووصول بعضهم إلى المناصب الكبرى، ومن ثَم تعلُّقهم بأذيال الأتراك، واتخاذهم
سُبل الحياة التركية، كسر حدَّة انعزال هذه الفئة الاجتماعية على نفسها، وحمل إليها
دماءً جديدةً، ازداد تدعيمها نتيجة حرص كبار الموظفين من المصريين على الإصهار إلى
الأُسر التركية، مما أدَّى إلى إيجاد روابطٍ وصِلاتٍ اجتماعيةٍ بين الأتراك وبعض
المصريين من الأعيان.
ولم يكَد القرن التاسع عشر يبلغ نهايته حتى كانت تلك الفئة قد انحصرت في أُسرة محمد
علي بفروعها المختلفة، وبعض العائلات التركية التي تلوذ بها، وساعد على ذلك أن سيل
الأتراك — الذي انهمر على مصر خلال عهد محمد علي وعباس الأول — أخذ في الانحسار بعد
ذلك، ولم يعد أيُّ عنصر من العناصر الشركسية أو الكردية أو التركية — التي كوَّنت معظم
الطبقة التركية — تُقبِل على الهجرة إلى مصر، كما أن توقُّف جلْب المماليك منذ عهد
إسماعيل، حرم تلك الطبقة من المورد الذي يضمن لها استمرار نموها.
١١٩
ثم زاد اضمحلال شأن الأتراك — كفئةٍ اجتماعية — بعد الاحتلال، فقد أصبحت الوظائف
الحكومية الكبرى من نصيب الأوروبيين عامةً والإنجليز خاصةً، واتجهت سلطات الاحتلال إلى
إسناد الوظائف الإدارية الهامَّة إلى عددٍ من السوريين، وإلى الجيل الجديد من أبناء
أعيان المصريين الذين تلقَّوا تعليمهم في أوروبا.
١٢٠ ومع العقود الأولى من القرن العشرين ذاب معظم الأتراك في بوتقة المجتمع
المصري.
أمَّا عن المصريين من كبار المُلَّاك الزراعيين، فقد قلَّد معظمهم الأتراك في أسلوب
حياتهم، كما أخذوا بمظاهر المدنية الأوروبية مثلهم، فسكنوا المُدن وأقاموا القصور
المشيَّدة على أحدث الطُّرز، والمضايف المتسعة الأرجاء، واقتنوا الجواري والعبيد،
وعاشوا حياة اللهو والترف، مما جعلهم موضع انتقاد الكثير من الكتَّاب — منذ الثمانينيات
من القرن التاسع عشر — فقد نعوا عليهم إنفاق أموالهم فيما لا يعود على مواطنيهم
بالفائدة، وحثُّوهم على إقامة مؤسسات تعليمية والعمل على خلْق صناعة مصرية تدرأ عن
البلاد زحف المصالح الاقتصادية والأوروبية.
١٢١ كذلك كان من أعيان المصريين مَن يتقرب إلى الذوات الأتراك، ويسعى لإقامة
علاقات اجتماعية مع بعضهم، فكان يحرص على زيارة أمراء الأُسرة الحاكمة والوزراء وكبار
الذوات الأتراك في الأعياد، حتى ولو لم تكُن بينه وبين هؤلاء أيُّ صلةٍ سابقة، ولكن ذلك
كان مَثار استياء الأتراك إلى درجة أن إسماعيل أباظة باشا كتب مناشدًا إخوانه الأعيان
العزوف عن هذا المسلك صَونًا لكرامتهم.
١٢٢ وبمرور الزمن تزايد أعيان المصريين وتناقص الذوات الأتراك نتيجةً للظروف
السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بالبلاد، وازداد شعور أعيان المصريين ﺑ
«مصريتهم» نتيجةً للدور الذي لعبوه في الحياة السياسية، ومن ثَم شاع التندُّر بالأتراك
والسخرية منهم.
أمَّا الأجانب ومَن ارتبط بهم من الفئات الاجتماعية الأخرى، فقد ظلُّوا يشكلون شراذم
تعيش كلٌّ منها حياتها الاجتماعية في محيط الجالية أو الطائفة التي تنتمي إليها،
واحتفظوا بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع العنصرَين الآخرَين من كبار المُلَّاك، ولكنها كانت
علاقاتٍ اقتصاديةً — أساسًا — بحكم كونهم يمثلون مصادر التمويل للنشاط الاقتصادي،
وكانوا حريصين على توثيق صلتهم بالدولة أكثر من اهتمامهم بتوثيق صلتهم بالمجتمع.
وقد أدَّى الإحساس بوحدة المصالح الاقتصادية إلى تخفيف حدَّة التناقضات التي كانت
قائمةً بين الفئات الاجتماعية المختلفة التي كونت في مجموعها «طبقة كبار المُلَّاك
الزراعيين»؛ تلك الطبقة التي كانت أبوابها مفتوحةً — دائمًا — أمام كل مَن يستطيع أن
ينمي ملكيته الزراعية بصورةٍ تُكسبه وضعًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا ممتازًا يجعل له
وزنًا في الحياة السياسية، ويخرج من زمرة تلك الطبقة كل مَن تتضاءل ملكيتُه بشكلٍ يؤثر
على حالته المالية ووضعه الاجتماعي، فهي «برجوازية زراعية» في بلد كانت تقوم حياته
الاقتصادية على الزراعة، في وقتٍ لم تنشأ فيه مجالات جديدة لاستثمار الأموال، ويُقاس
فيه الثراء بما يملكه الفرد من الأطيان الزراعية. ورغم اتساع دائرة نشاط هذه الطبقة على
الساحة الاقتصادية، ودخولها في مجالات أخرى غير الزراعية، ظلَّت تستمدُّ مكانتها
الاجتماعية — ومن ثَم السياسية — من حجم ملكياتها الزراعية ومدى تأثيرها على الفلاحين
الذين مثلوا غالبية السكان.