الفصل الرابع
النشاط الاقتصادي لكبار المُلَّاك
رغم قيام محمد علي، منذ ١٨١٦م، بإنشاء بعض المصانع الحديثة، ظلَّت الزراعة تمثل الإنتاج
الاقتصادي الأساسي في مصر وحتى ثلاثينيات القرن العشرين. أمَّا الصناعات التي أقامها
محمد
علي فقد ارتبطت بخدمة النشاط الحربي العسكري، ومن هنا فعندما فُرضت تسوية لندن ١٨٤٠م
ونقص
عدد الجيش إلى ١٨ ألف عسكري، انكمش المشروع الصناعي. وحين قام الخديو إسماعيل بمتابعة
تجربة
التصنيع اتجه إلى الاهتمام بالصناعات المرتبطة بالاقتصاد الزراعي، والتي تقوم على ما
توفره
الزراعة من مواد أولية، فنشطت في عهده صناعة السكر وحلج القطن وعصر الزيوت وصناعة أنواع
رخيصة من الأقمشة القطنية على نطاق محدود، وقد قُدِّر لهذه الصناعات أن تُعمَّر
طويلًا.
كذلك كانت حركة التبادل التجاري، طوال تلك الفترة، تعتمد على المحاصيل الزراعية، وخاصةً
القطن الذي كان له نصيبٌ كبيرٌ من صادرات البلاد، وخاصةً خلال الحرب الأهلية الأمريكية
(١٨٦١–١٨٦٥م)، حيث اضطرَّت المصانع البريطانية إلى الاعتماد على القطن المصري بدلًا من
القطن الأمريكي.
وبوقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني (١٨٨٢م) قامت السياسة الاقتصادية في مصر على أساس
التخصُّص، فأصبحت مصر مزرعةً واسعةً لإنتاج المحاصيل الزراعية، وارتبط إنتاج القطن المصري
بأسواق أوروبا، وتحدَّدت أسعاره وفقًا لمتطلبات السوق البريطانية على وجه الخصوص. وتميزت
الفترة حتى نهاية القرن التاسع عشر بالتوسع في الزراعة، وزيادة حجم رأس المال المُستثمَر
في
مشروعات الريِّ الكبرى، وإنشاء شبكة من التُّرع، ومدِّ
شبكة من الخطوط الحديدية، على حين بقيَت الصناعة بسيطةً تسدُّ مطالب سكان المُدن، ومن
ثَم
ظلَّ الاعتماد على الخارج قائمًا فيما يتعلق بالإنتاج الصناعي.
ولقد تعرضت سياسة التخصُّص هذه لنقدٍ شديدٍ يتلخص في أنها أضرَّت بمصالح مصر، وأنها
كانت
موجَّهةً لتحقيق مصالح بريطانيا لاستخدام الفائض الذي يتحقق من تجارة القطن في دفع أقساط
وفوائد الديون.
١ على أن عصر التخصُّص هذا لم يأخذ شكله الكامل والطبيعي في مصر، كما هو الحال
بالنسبة لما كان سائدًا في دول التخصُّص وحرية التجارة. حقيقة كانت هناك بعض الصور
النموذجية لهذا النظام في مصر مثل عدم وجود قيود على انتقال رءوس الأموال عبر حدودها،
وبعدم
وجود ضرائب على الدخل أو الثروات باستثناء الضرائب العقارية، فالمعروف أن الدولة في إطار
هذا النظام تقوم فقط بدور «الحارس الليلي» تاركةً النشاط الاقتصادي لحرية الفرد ومؤسساته،
ولم يكُن هذا قائمًا في مصر. حقيقة كانت هناك بعض الأسواق للتعامل في الأرض والعمل، إلا
أن
الزراعة في حوض النيل كانت تتطلب إشرافًا قويًّا مركزيًّا على نظام الريِّ قبل كل شيء.
كما
أن قلة رءوس الأموال في أيدي الأفراد بصفة عامة، دفع الحكومة إلى ارتياد ميدان المشروعات
العامة مثل السكك الحديدية والقناطر والموانئ؛ الأمر الذي جعل الدولة تحتفظ في حياة مصر
الاقتصادية بمكانة عالية، وإن مالت إلى التناقص، وهي مكانة لا توجد عادةً في البلاد التي
تسير على نظام الاقتصاد الحر.
٢
أمَّا فيما يتعلق بأسلوب الإنتاج الزراعي، فمن المُلاحَظ أن طرق الإنتاج التقليدية
ظلَّت
متبعةً في الزراعة حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ ظلَّت الدورة الزراعية القديمة
سائدةً، فيما عدا أراضي الجفالك، حيث كانت الدورة تُحدَّد سنويًّا بمعرفة «ديوان الجفالك
والعُهد السنية»، ثم أُعيدَ تنظيمُها فيما بعد نتيجة انتشار الريِّ الدائم في معظم مناطق
الدلتا ومصر الوسطى، حيث أصبح في الإمكان إنتاج أكثر من محصول في العام الواحد. واستمر
استخدام الآلات الزراعية التقليدية دون تعديل، ثم طرأ تطور طفيف على هذه الأدوات منذ
النصف
الثاني من القرن التاسع عشر، ظهر في أراضي أفراد الأُسرة الحاكمة، تمثَّل في استخدام
مضخَّات الريِّ الآلية التي تُدار بالبخار، وخاصةً في أراضي الخديو إسماعيل في المنيا
وأسيوط،
٣ وكذلك أراضي مصطفى فاضل باشا وعبد الحليم باشا في قنا وإسنا والمنيا.
٤
وقد قدَّمت جفالك الدائرة السنية نماذج متعددة للمشروع الزراعي المتكامل بالمفهوم
الاقتصادي، حيث خصَّصت مساحاتٍ معيَّنةً من الجفلك لإنتاج محاصيل بعينها تقوم عليها صناعة
تحويلية مثل زراعة القصب وصناعة السكر، وزراعة القطن ومصانع حَلْجِه وكبسه للتصدير، فضلًا
عن إقامة ورش للصيانة وتصنيع قِطَع الغيار، وتولَّى إدارة تلك المصانع فنيُّون أوروبيون.
أمَّا إدارة المَزارع فكانت بيد مفتشين ومأمورين ونظَّار من المصريين والأتراك.
٥
وعلى هذا اشتملت الدائرة السنية على العناصر المحدَّدة لشكل المشروع الاقتصادي
enterprise، فهي تقدِّم نموذجًا خالصًا للاستثمار
الرأسمالي في الزراعة، وإن افتقر العمل فيها إلى التنظيم الدقيق، فلم ينسق المشرفون على
بعض
المَزارع خُططهم مع المشرفين على المصانع الملحقة بها، ولم تُراعَ المتطلبات الضرورية
للإنتاج الاقتصادي، ومن ثَم فشل المشروع في نهاية الأمر.
٦
وإلى جانب الدائرة السنية كان ثمة صورٌ متعددةٌ للمشروع الزراعي تمثلت في مزارع شركات
الأراضي، والملكيات الكبيرة الخاصة بالأجانب في البحيرة والشرقية على وجه الخصوص، ذلك
أن
طبيعة هذين الإقليمين دفعت المستثمرين الأجانب إلى إدخال بعض الوسائل الحديثة في الإنتاج
الزراعي، لاستصلاح الأرض والحصول على عائدٍ مُجزٍ لأموالهم المُستثمَرة فيها، فقاموا
باستيراد الأسمدة والمخصبات الكيماوية، واستخدموا الآلات الحديثة لفرز البذور وتنقيتها،
واستخدم بعضهم الآلات لبذر القمح بدلًا من البذر اليدوي، وكانت هذه الآلات توفر نحو ٣٥٪
من
كمية البذور المستخدمة. وكذلك الآلات البخارية لدرس القمح، ومحاريث آلية، وربطوا أركان
مزارعهم بخطوط حديدية سارت عليها عربات النقل الصغيرة (الديكوفيل)، التي تجرُّها الثيران
أو
البغال، وأقاموا مشاريع لتربية الماشية وتحسين سلالاتها لتوفير كميات اللبن اللازمة لمعامل
منتجات الألبان التي أُقيمَت على تلك المَزارع.
٧
وقد أقام بعض كبار المُلَّاك الأجانب محالج للقطن ومضارب للأرز، لتتولى خدمة مَزارعهم
والمَزارع المجاورة لها، الخاصة بأعيان المصريين أو الفلاحين. وخصَّص بعضهم مساحاتٍ من
أراضيه لإجراء التجارب الزراعية، ولتجربة زراعة أنواع جديدة من النباتات والأشجار، وزودوا
مَزارعهم بمعامل للتحاليل الكيماوية لتقوم بفحص البذور وتحليل التربة والأسمدة والمخصبات
التي تُستخدم في المزرعة.
٨
وكان اقتناء المزيد من الأرض أحد مجالات الاستثمار الرئيسية، بحيث أصبحت الأرض سلعةً
تُباع وتُشترى، ليس بهدف توسيع رقعة الملكية فقط، ولكن بهدف الربح أيضًا، وذلك بالاستفادة
من ارتفاع وانخفاض قيمة الأرض، وإن تسبَّب هذا النوع من الاستثمار في وقوع بعض المُلَّاك
أسرى شركات الأراضي وبنوك الرهن العقارية، وهم أولئك الذين كانوا يشترون الأرض بالتقسيط
من
إحدى شركات الأراضي؛ اعتمادًا على ارتفاع قيمة المحاصيل التي يُسدَّد منها الأقساط في
سنة
معيَّنة، ثم يُفاجئون بانخفاض قيمتها (أي المحاصيل) في السنوات التالية؛ الأمر الذي يُعجزهم
عن الوفاء بالأقساط في مواعيدها، فتتعرض أراضيهم الجديدة والقديمة، على حدٍّ سواء، لخطر
بيعها في المزادات الجبرية التي كانت تُقام لحساب الشركات الدائنة.
٩
أمَّا شركات الأراضي الأجنبية فقد كانت وظيفتها الأساسية هي بيع وشراء الأرض، وتأتي
شركة
أراضي البحيرة في مقدمة هذه الشركات؛ إذ كانت وظيفتها الأساسية إصلاح الأرض وإعداد وسائل
الريِّ والصرف المختلفة بها، ثم بيعها في قِطعٍ كبيرةٍ لكبار المُلَّاك، أو تقوم بتأجيرها
قِطعًا صغيرةً للفلاحين، حيث يجهِّز كل فلاح القنوات الفرعية الخاصة بأرضه، فإذا رغب
الفلاح
في شرائها يقوم بدفع عربون معيَّن بسيط، إلى حدٍّ ما، ثم يدفع للشركة جزءًا من أرباحه،
وهو
عادةً أعلى من قيمة الإيجار السنوي. وبعد دفع ثلث المبلغ المتفق عليه بهذه الطريقة يصبح
باستطاعته تسجيل الأرض باسمه، على أن يدفع باقي الثمن على أقساط سنوية لمدَّة تتراوح
ما بين
عشرين أو خمسةٍ وعشرين عامًا. ومعظم شركات الأراضي التي كانت موجودةً في مصر آنذاك كانت
تتعامل بمثل هذه الوسائل في بيع وشراء الأرض.
١٠
والحقيقة أن كبار المُلَّاك لم يحاولوا أن يستثمروا أموالهم في أيِّ مجال غير الزراعة،
لاطمئنانهم إلى ما توفره لهم من إيراد سنوي مضمون، ومن ثَم لم يحاولوا المخاطرة برءوس
أموالهم، واقتحام مجالات جديدة للاستثمار، واقتصر نشاطهم على ما يتصل بالزراعة من أعمال،
فساهم بعضهم في أعمال المقاولات الخاصة بحفر التُّرع وإقامة الجسور — بقدر محدود في البداية
— ثم ما لبثوا أن وسعوا نشاطهم في هذا المجال، حتى أصبح نحو نصف عمليات المقاولات الخاصة
بالريِّ طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بأيدي ٤٧ مقاولًا مصريًّا، تراوحت قيمة
العمليات المُسنَدة إلى كلٍّ منهم ما بين ١٢ ألف وبضع مئات من الجنيهات.
١١
وكانت الشركات الزراعية أكثر اجتذابًا لرءوس الأموال، فأقبل كبار المُلَّاك على استثمار
أموالهم فيها بحكم خبرتهم بمجال الاستغلال الزراعي، من ذلك تأسيس شركة زراعية بملوي عام
١٨٩٥م، بلغ رأسمالها ٢٠٠ ألف جنيه، امتلك معظم أسهمها توني بك محمد أحد أعيان ملوي
بالاشتراك مع آخرين من أعيان أسيوط، وتخصَّصت تلك الشركة في إنتاج قصب السكر وحصلت على
امتياز من شركة السكر بتوريد القصب إلى مصنعها بملوي اعتبارًا من عام ١٨٩٦م.
١٢ كذلك تألفت شركة من بعض أعيان المصريين عام ١٨٩٧م، كان من بين المساهمين
الرئيسيين فيها أحمد السيوفي باشا ومحمد الشواربي باشا وحسن بك عبد الرازق وعلي بك شعراوي
والخواجة سوارس. وقد حدَّدت هذه الشركة غرضها في شراء تفتيش ببا والفشن التابعَين للدائرة
السنية بمليون وربع مليون جنيه، على أن يُدفع الرُّبع نقدًا ويُقسط الباقي على ١٥ سنةً
بفائدةٍ قدرُها ٥٪ سنويًّا.
١٣
وساهم بعض الذوات في شركة زراعية تكونت في عام ١٨٩٨م برأسمالٍ مصري-بلجيكي مشترك؛
هي
الشركة الزراعية والصناعية المصرية التي بلغ رأسمالها ٢٠٠ ألف جنيه مصري، واشترت فور
تأسيسها ٩٠٠٠ فدَّان بالغربية والشرقية و٤٨٠٠ فدَّان من أراضي الدومين، وكانت تتولى زراعة
بعض هذه الأراضي، وتستصلح بعضها الآخر لإعادة بيعه لمَن يرغب في الشراء، وكان على رأس
المساهمين في تلك الشركة الأمير حسين كامل الذي تولى رئاستها، وكذلك مصطفى رياض باشا،
بالإضافة إلى بعض المُموِّلين المصريين والأجانب.
١٤
وهناك بعض الحالات النادرة التي حاول فيها فريقٌ من كبار المُلَّاك الزراعيين استثمار
رءوس أموالهم في مشاريع بعيدة عن مجال الزراعة، ولكن التوفيق لم يكُن حليفهم، ومن هؤلاء
أحمد المنشاوي باشا وحسن بك عبد الله اللذان أنشآ مصنعًا للزجاج بالإسكندرية في عام ١٨٨٥م،
وكذلك بعض الأعيان من السوريين الذين كوَّنوا في عام ١٨٩٨م شركة سكة حديد الفيوم الضيقة
بالاشتراك مع مصريين. كما أسَّس فريقٌ آخر من الأعيان والذوات شركةً للغزل والنسيج
بالإسكندرية (ديسمبر ١٨٩٦م). غير أن اشتغال المُموِّلين المصريين بالأعمال المالية
والصناعية كان لا يلقَى تشجيعًا من سلطات الاحتلال من ناحية، ولعدم القدرة على التنافس
مع
الإنتاج الأجنبي وعدم حماية المنتج المحلي من ناحية أخرى، ومن ثَم كان إخفاق هذه المشروعات
وتلاشيها.
على أن هذه الأمثلة لا تعدُّ دليلًا على تقبل كبار المُلَّاك الزراعيين لفكرة استثمار
أموالهم في مشروعات غير زراعية، لأن المساهمين فيها كانوا أفرادًا ممَّن تمرَّسوا بالتجارة
والأعمال المالية، وكان لهم في مجالها باعٌ طويل. وإذا كانت هذه المشروعات لم تنجح النجاح
المرجو، فإن ذلك كان يعود إلى عوامل خارجة عن إرادة أصحابها، وتعود في المحلِّ الأول
إلى
حرص سلطات الاحتلال على إبقاء المُموِّلين المصريين في إطار الدور المحدَّد لهم داخل
نظام
اقتصادي متخصِّص في إنتاج المواد الأولية للصناعة البريطانية، وبذلك تظلُّ مصالحهم
الاقتصادية مرتبطةً بالاستعمار البريطاني.
وعلى هذا كانت السمة الغالبة على نشاط كبار المُلَّاك الزراعيين؛ الحرص الشديد على
عدم
المغامرة في مشروعات مالية واسعة، والابتعاد عن الإنتاج الصناعي الكبير، والاقتصار على
الاشتغال بالزراعة وتجارة القطن، وترْك ما عدا ذلك للأجانب دون منافس حقيقي.
١٥ ومن المُلاحَظ أنه حتى عام ١٩٤٧م، كان جزءٌ من مدخَّرات هؤلاء المُلَّاك يودع
في البنوك التجارية التي كانت في حقيقتها فروعًا لبنوك عالمية، وبهذا كان هؤلاء المُلَّاك
يساهمون في تنمية مختلف القطاعات في الخارج لا في مصر، باعتبار أن هذه البنوك توظف الجزء
الأكبر من أرصدتها في الخارج. حقيقة أن ظاهرة تسرب الأموال المصرية إلى الخارج قد خفَّت
بعد
عام ١٩٤٧م، إلا أن مساهمة كبار المُلَّاك في مجالات التنمية الداخلية كانت تتوقف على
مدى
إقبالهم على هذا النوع من الاستثمار.
١٦
وليس من المعروف على وجه الدقة أسباب إحجام كبار المُلَّاك على استثمار أموالهم في
مجالات
الإنتاج الأخرى وخاصةً الصناعة، ولكن إذا طرقنا باب الاجتهاد وجدنا أكثر من احتمال، فربما
يكون السبب أنهم وجدوا الأجانب قد سبقوهم إلى هذه المجالات وبرزوا فيها بل وسيطروا، ومن
ثَم
خشيتهم من عدم القدرة على المنافسة، وهنا تقع مسئولية الامتيازات الأجنبية التي منحت
الأجانب فرص العمل والاستثمار في الميادين المختلفة. وربما كان السبب في أصول الشريعة
الإسلامية التي كانت تحرِّم الربا تحريمًا تامًّا، وكان الثابت في الأذهان لدى البعض
أن
فوائد المال من الاستثمار في البنوك أو الشركات تعادل الربا تمامًا. ويذكر كروتشلي
١٧ أنه حدث نوعٌ من التسامح والمرونة في تفسير الفرق بين الربا والفائدة بمناسبة
افتتاح مكتب البريد في ١٩٠١م، حين أفتى مُفتي الديار المصرية بأن إيداع الأموال في هذا
المكتب لا يتناقض مع الشريعة الإسلامية، وعلى هذا الأساس جعل من حقِّ المُودِع المسلم
أن
يسمح لمدير المكتب بأن يستخدم أمواله فيما لا يتناقض مع الشريعة الإسلامية. ومع هذه
التحفظات لوحظ أن أحد التقارير السنوية للمكتب يشير إلى وجود مبلغ ١٤٤١٢٠ جنيهًا مصريًّا
مُودَعًا بدون فوائد كطلب للمُودِعين، ولكنْ بعد الحرب العالمية الأولى زاد الإقبال على
إيداع الأموال في البنوك، وربما كان السبب يكمن في التكوين الثقافي لكبار المُلَّاك
وافتقادهم روح المغامرة بأموالهم في المشروعات الصناعية والتجارية، فطبيعة هذه المشروعات
تتطلب قدرًا كبيرًا من المغامرة بعكس التعامل مع الأرض.
والحقيقة أن هذه الاحتمالات يكمل بعضها بعضًا ولا نستطيع تغليب واحدٍ على الآخر،
حتى إذا
ثبتت صحته دون غيره، وإن كنا نرجح احتمال فقدان روح المغامرة لدى هؤلاء المُلَّاك، فالثابت
أنهم أحجموا حتى عن المشروعات التي كانت تضمن حلًّا لمشكلة تسويق القطن، عماد الثروة
الأساسي، سواءً بمحاولة تصديره بمعرفتهم دون وساطة الأجانب، أو بمحاولة تصنيعه (غزله
ونسجه)
بإنشاء الشركات الصناعية اللازمة، وذلك رغم النداءات والدعوات التي وُجِّهت في هذا المجال،
وهو أمر ظلَّ قائمًا حتى إنشاء بنك مصر.
١٨
وقبل تأسيس بنك مصر في عام ١٩٢٠م كان نشاط المُلَّاك في مجال التجارة والصناعة نشاطًا
فرديًّا، فمثلًا كان لبشري وسينوت حنا تجارة واسعة في الأقطان،
١٩ وكذلك كان محمد الشناوي يملك في المنصورة مطاحن للدقيق ومكابس للحلاوة ومضارب
للأرز ومصانع لأعمال الحدادة والنجارة؛ وكلها مجهزة على الطُّرز الحديثة آنذاك.
٢٠ وفي أغسطس ١٩١٩م تأسست أول شركة مصرية لتصدير القطن برأسمالٍ قدرُه خمسون ألف
جنيه بألف سهم، قيمة كل سهم خمسون جنيهًا، امتلك معظمها أمين باشا يحيى، وأحمد بك يوسف
الجمال، إذ كان للأول ثلاثمائة سهم (١٥٠٠٠ جنيه)، وكان للثاني ٥٢٠ سهمًا (٢٦٠٠٠ جنيه).
وقد
أجرت الشركة اتصالاتٍ مع مَعامل الغزل والنسيج في إيطاليا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا والنمسا
وتركيا، حيث كان لبيت الجمال اتصالات واسعة بهذه البلاد قبل خمسين سنة من عام ١٩١٩م.
٢١
على أن إنشاء بنك مصر كان المنعطف الأساسي — في الواقع — في استثمارات كبار المُلَّاك
في
مجالات إنتاج جديدة غير الزراعة وملكية الأرض، وإن اقتصرت هذه الاستثمارات في معظم الأحوال
على جانب شراء الأسهم المالية في أكثر من شركة، والتمتع بعضوية مجالس إدارة هذه الشركات،
فمؤسسو بنك مصر
٢٢ الأساسيون — وهم ثمانية — كانوا من كبار المُلَّاك، حيث ساهم عبد العظيم المصري
بألف سهم (السهم أربع جنيهات)، وخمسمائة سهم لكلٍّ من مدحت يكن ومحمد طلعت حرب، ومائتين
وخمسين سهمًا لكلٍّ من يوسف قطاوي وعبد الحميد السيوفي وفؤاد سلطان وإسكندر مسيحة وعباس
بسيوني الخطيب، كما كان من كبار المكتتبين محمد الشريعي (٥٠٠ سهم)، وعدلي يكن (٢٥٠ سهمًا)،
وعبد الستار الباسل (٢٥٠ سهمًا)، وعلي إسلام (٢٥٠ سهمًا)، وصاروفيم مينا عبيد (١٢٥ سهمًا)،
ومرقص حنا (١٠٠ سهم)، وجميعهم من كبار المُلَّاك.
٢٣
ويُلاحَظ أن استثمارات كبار المُلَّاك في هذا المجال سارت في الاتجاهات التالية
تقريبًا:
-
أولًا الشركات التجارية: وخاصةً تجارة الأقطان ومن ذلك «الشركة المساهمة المصرية لتجارة الأقطان
وحَلْجِها» التي تأسست في أكتوبر ١٩٢٤م برأسمالٍ قدرُه ثلاثون ألف جنيه بين
بنك مصر وأحد عشر مؤسِّسًا، بينهم ستة من كبار المُلَّاك،٢٤ والشركة المصرية لتصدير الخضر والفاكهة، وذلك بعد النجاح الذي
أحرزته المنتجات المصرية في سوق تل أبيب عام ١٩٣٢م.٢٥
-
ثانيًا الشركات الصناعية: وخاصةً صناعة غزل ونسج القطن، كما هو الحال في التجارة، ومن ذلك وعلى
سبيل المثال تأسيس «شركة مكابس الإسكندرية» في ١٥ فبراير ١٩٢٥م برأسمالٍ
قدرُه مائة ألف جنيه.٢٦ وفي خلال ١٩٢٧م تكونت أربع شركات كل مؤسِّسيها من كبار
المُلَّاك الزراعيين، وهذه الشركات هي: شركة مصر للكتان وتأسست في ٢٦ أغسطس
١٩٢٧م برأسمالٍ عشرة آلاف جنيه، وشركة مصر لنسج الحرير وتأسست في ٢٦ أغسطس
١٩٢٧م برأسمالٍ قدرُه عشرة آلاف جنيه، وشركة مصر لغزل ونسج القطن وتأسست في
٢٧ أغسطس ١٩٢٧م برأسمالٍ قدرُه ثلاثون ألف جنيه، والشركة المساهمة المصرية
لتجارة وحلْج الأقطان. وهذه الشركات كانت تعدُّ أكبر تجمعٍ لكبار المُلَّاك
الزراعيين خلال النصف الأول من القرن العشرين. كما يلاحظ أن بنك مصر كان
قاسمًا مشتركًا في تأسيس هذه الشركات.٢٧
-
ثالثًا شركات الاستيراد والتصدير: وخاصةً في الآلات الزراعية، من ذلك «الشركة المساهمة المصرية للمحاريث»
وتأسست في ٣ سبتمبر ١٩٢٩م برأسمالٍ قدرُه أربعون ألف جنيه، كان من
المؤسِّسين اثنان فقط من كبار المُلَّاك الزراعيين (٧٥٠ سهمًا).٢٨
-
رابعًا مجالات متنوعة: مثل الشركة المساهمة للصحافة المصرية في ٩ فبراير ١٩٢٥م برأسمالٍ قدره
خمسة عشر ألف جنيه من ثمانية مساهمين؛ منهم ستة من كبار المُلَّاك الزراعيين،٢٩ وشركة مصر لمصايد الأسماك في ٢٦ أغسطس ١٩٢٧م برأسمالٍ قدرُه
عشرون ألف جنيه، ومن بين المؤسِّسين المجموعة التأسيسية لبنك مصر.٣٠
وقد نقل أفراد من أُسرة محمد علي من ملاك الأراضي الزراعية جانبًا من استثماراتهم
إلى
مجال الشركات الصناعية والتجارية،
٣١ بل إن الجمعية الزراعية الملكية — وكانت تضمُّ كبار المُلَّاك — نقلت جانبًا من
استثماراتها في مجال الإنتاج الصناعي أيضًا.
٣٢ حتى لقد لاحظ مدير الاتحاد العقاري (ليوبولد جوليان) وجود دقة في توظيف رأس
المال لم تكُن موجودة من قبل.
٣٣ ولقد زاد من هذا الاتجاه انخفاض أسعار المحصولات الزراعية خلال أزمة ١٩٢٩م،
وارتفاع الأرباح الناتجة من الاستثمار الصناعي خاصةً بعد فرض الحماية الجمركية عام ١٩٣٠م،
مما شجع كبار المُلَّاك على نقل استثماراتهم إلى هذا المجال.
يتضح من تعدد مجالات استثمارات كبار المُلَّاك لأموالهم في غير الأرض محاولة السيطرة
على
كافة مجالات النشاط الاقتصادي في التجارة والصناعة بعد الزراعة والحلول محلَّ الأجانب
شيئًا
فشيئًا، بل ومنافستهم كذلك. حقيقة أن هذه المجالات، وإن طرقت ميدان التجارة والصناعة،
إلا
أنها كانت في النواحي التي تخدم الزراعة بطريقة أو بأخرى في المحلِّ الأول، فيما عدا
مجالات
الصحافة أو الطباعة على وجه العموم، ولو قُدِّر لهذه الخطوات التي بدءوها بتوسع منذ أواخر
العشرينيات أن تستمر لنضجت النضج الكافي، ولاستطاعوا الوصول إلى مراحل عالية من النمو
الرأسمالي كالاحتكار وتكوين كارتل الإنتاج الصناعي الذي يُعتبر في هذا المجال أسهل وأيسر
من
مجال الزراعة، حيث يكثر عدد المنتجين فضلًا عن انتشارهم في مناطق واسعة، وعدم المساواة
في
ظروف الإنتاج بينهم وهي أحد شروط الكارتل الأساسية.
٣٤
ويتصل بميدان الاستثمار عضوية مجالس إدارة الشركات التي كان يساهم فيها هؤلاء المُلَّاك،
أو التي تمتعوا بعضويتها باعتبارهم من «طائفة» المستوزرين، بحيث كان الواحد عضوًا في
أكثر
من شركة.
٣٥
وقد تلازم مع امتلاك الأرض الزراعية امتلاك المباني العقارية، فقد زاد حجم استثمارات
كبار
المُلَّاك في هذا المجال في النصف الأول من القرن العشرين بعد ١٩١٤م، ففي تلك السنة كان
عدد
المباني في القاهرة ١٩١٤ مبنًى، فأصبحت ٥٧٥٦٠ في سنة ١٩٢٣م، وفي الإسكندرية كان عددها
٢٧٠٣١
في عام ١٩١٤م، زادت إلى ٣١٧٧٣ في عام ١٩٢٣م. وفي المُدن والبنادر الأخرى زادت من ٨٦٧٩٦
في
عام ١٩١٤م إلى ١٠٧٩٨٢ في عام ١٩٢٣م، واستمر هذا النمو ملحوظًا بعد الحرب العالمية الثانية.
٣٦
ولقد وجه بعض كبار المُلَّاك جانبًا من نشاطهم الاقتصادي في تكوين جمعيات التسويق
التعاوني كجزء من محاولة زيادة أرباحهم بإلغاء دور الوسيط التجاري، ذلك أن التسويق التعاوني
لا يقضي على الربح في مجال التعامل، ولكنه يحول الربح من الوسيط لعضو الجمعية التعاونية،
ولهذا فالتسويق التعاوني بهذا الشكل هو أحد صور الرأسمالية تسعى كأيِّ تنظيم رأسمالي
لتحقيق
الربح، بدليل أن إلغاء دور الوسيط لا ينتج عنه تخفيض ثمن السلع لصالح المستهلك.
٣٧
ولقد أدَّى نجاح بعض هذه الجمعيات إلى اهتمام السلطات البريطانية والبحث عن كيفية
استيعابها، ففي عام ١٩١٣م فكر اللورد كتشنر في إصدار قانون لتنظيمها، وفي يونيو ١٩١٤م
وافقت
الجمعية التشريعية على قانون التعاون، ولكنْ رُئي آنذاك تعديله، وفي عام ١٩١٧م شكَّل
ريجنالد وينجت لجنةً لدراسة هذا المشروع، ولكنه لم يصدُر لعدم موافقة لجنة الامتيازات
بالمحكمة المختلطة على كثير من بنوده، فأُهمل مرةً أخرى إلى أن أصدر مجلس الوزراء في
١٥
ديسمبر ١٩١٩م بيانًا خاصًّا بإنشاء جمعيات التعاون الزراعية، دعا فيه مجالس المديريات
إلى
الاهتمام بها واعدًا بذل النصح والمساعدة لذلك الغرض،
٣٨ إلى أن صدر القانون رقم ٢٧ لسنة ١٩٢٣م بتأسيس شركات التعاون الزراعية. وكثيرًا
ما طالبت النقابة الزراعية العامة — الممثلة لصالح المُلَّاك — الحكومة بإمداد هذه الشركات
بجزء مما تحصِّله من ضريبة القطن على سبيل الإعانة المالية، أسوةً بما كانت تفعله حكومتا
فرنسا والهند.
٣٩
ثم جاء إصدار قانون التعاون في ١٩٢٧م ليغير الاسم إلى «جمعيات التعاون الزراعية»،
وكانت
تلك خطوةً كبيرةً نحو الاعتراف باتفاقات المنتجين الزراعيين (الكارتل)، وذلك بتأليف جمعيات
تعاون مركزية.
٤٠ ومع هذه التيسيرات القانونية فلم تنتشر الجمعيات المركزية انتشارًا واسعًا،
فحتى نهاية الأربعينيات لم يوجَد في مصر أكثر من خمس جمعيات كارتل مجموع رأسمالها ٤١١٨
جنيهًا؛ واحدة منها لمنتجي البطاطس، وواحدة لمنتجي البصل، وثلاثة لمنتجي الموالح، وكان
غرضها الأساسي التصدير، على أن أنشطها جميعًا جمعية الإسكندرية التي كانت تبيع بما يزيد
على
رُبع مليون جنيه سنويًّا من إنتاج أعضائها من الخضر والموالح، وتقدِّم قروضًا لأعضائها
نحو
مائة ألف جنيه سنويًّا، حتى لقد تنازلت لها بلدية إسكندرية عن حقِّ إصدار الرخص لعربات
الخضار التي يصرح لها بدخول مدينة الإسكندرية
٤١ وفي هذا نوعٌ من احتكار التوزيع.
وربما يرجع عدم انتشار التعاون الزراعي وإكسابه قوة الاستمرار، إلى غياب معظم كبار
المُلَّاك عن هذا النشاط لأسباب تكمن في شروط تكوين التعاونيات التي اشترطت ألا يزيد
قيمة
ما يمتلكه الفرد الواحد من الأسهم عن ٢٠٠ جنيه، بحدٍّ أقصى عشر مجموع رأس المال،
٤٢ وهذا لا يتفق مع ميول المالك الكبير ومركزه الاجتماعي، الذي يجعله يتمتع
بالسيطرة في أيِّ مجال من المجالات، فضلًا عن أن قاعدة التصويت داخل الجمعيات عددية وليست
بقيمة رأس المال، ثم إن شراء السندات المالية وشراء أسهم الشركات المساهمة الكبيرة أربح
له
من شراء أسهم في الجمعيات التعاونية، خاصةً وأنه — أي المالك الكبير— لا يقوم بزراعة
أرضه
بنفسه حتى يخشى على تسويق محصوله، ولا هو مقيم بالقرية، ومن هنا كان ابتعاد معظم كبار
المُلَّاك عن هذا اللون من النشاط.
وإذا كانت تلك هي مجالات النشاط الاقتصادي لكبار المُلَّاك، فلقد أنفق هؤلاء جزءًا
من
نشاطهم في حماية مصالحهم، حتى نشأ ما كان يُعرف بمشكلة أصحاب المصالح الخاصة، والتي بدأت
بمطالبة معونة الحكومة وانتهت بتدخلها لحماية هذه المصالح.
والملاحظ بصفة عامة أن الأساليب والوسائل التي انتهجها هؤلاء المُلَّاك لحماية مصالحهم،
كانت تتنوع وتختلف باختلاف وتنوع جوانب نشاطهم الاقتصادي، لإقناع الحكومة بمساعدتهم.
وإذا
كانت الظروف غير مواتية تمامًا حتى الثلاثينيات، حيث كانت حرية التجارة وما يرتبط بها
من
وسائل هي شكل الاقتصاد السائد، فضلًا عن الاتفاقيات التجارية مع الدول الأجنبية التي
كانت
تحُول دون حماية الإنتاج المحلي، فإن تغير الظروف ابتداءً من الثلاثينيات وتدخُّل الدولة
لحماية الإنتاج ساعد كبار المُلَّاك على الوصول إلى مآربهم والتمتع بقدرٍ كبيرٍ من
الاستقرار والاطمئنان بحماية مصالحهم تحت رعاية الدولة.
ولا نغالي إذا قلنا إن محصول القطن، من زراعته إلى تصريفه، كان وراء كل نشاط المُلَّاك
في
حماية مصالحهم. ولا عجب في هذا فالقطن على حدِّ تعبير أحد المعاصرين هو «نقدنا الذي نتعامل
به والذي نسدِّد به قيم وارداتنا وديوننا وفوائدها، وعلى أسعاره تتوقف أيضًا قيمة أسهمنا
المالية جميعها، فكل زيادة في أسعاره تزيد من قيم ثروتنا المذكورة وفي ثقتنا المالية».
٤٣
حول القطن إذَن تركز نشاط كبار المُلَّاك الذي بدأ بمحاولة حماية أسعاره من التدهور،
عن
طريق تأجيل عرضه في سوق البيع، حتى تتحسن أسعاره ومحاولة تجميع أكبر عدد ممكن من المزارعين
حول هذا الرأي. وقد بدأت المحاولات بالدعوة إلى التريث في بيعه كما يفعل مزارعو الولايات
المتحدة.
٤٤ وطالب الكثيرون ﺑ «الاعتصاب» وعدم بيع القطن إلا بالثمن الذي يوافقهم،
٤٥ أو يقوم كبار المُلَّاك بتسليف صغار المزارعين، حتى لا يبيع هؤلاء بأيِّ سعر
فتكون الخسارة للكبار.
٤٦
ولقد بدأ تجمع المُلَّاك لحماية سعر القطن باجتماع دعا إليه الأمير عمر طوسون بقصره
في
الإسكندرية في ٢ سبتمبر ١٩١٦م، لمناقشة قرار البورصة بتحديد ٢٣ ريالًا أعلى سعر للقطن.
٤٧ وكانت استجابة المُلَّاك لدعوة الأمير بمثابة اعترافٍ بقيمة التضامن، ومن ثَم
فقد تحرك أصحاب المصالح نحو تكوين النقابة الزراعية المصرية العامة في ١٢ فبراير ١٩٢١م
(تاريخ أول جلسة لمجلس الإدارة)، وكان أول مجلس إدارة لها من كبار المُلَّاك الزراعيين.
٤٨
ووضعت النقابة العامة نصب أعينها هدف إنشاء النقابات الفرعية في الأقاليم لتكون عونًا
لها، وقد اعتمدت في تحقيق هذا الهدف على معونة الحكومة لها، من حيث تمويلها بالأموال
اللازمة من حصيلة ضريبة القطن، غير أن الحكومة لم تحرك ساكنًا، ولم تبذل النقابة العامة
جهودًا جديةً في سبيل هذا الهدف سوى النداءات والقرارات والتوصيات التي كانت تنشرها في
الصحف أو ترفعها إلى السلطات الحكومية. ومن هنا بقيت النقابة خلال الفترة تنظيمًا فوقيًّا
لا يرتبط بتجمعات إقليمية تعطيها أسباب القوة والاستمرار، ومن هنا أيضًا كان الانفصال
بين
كبار الزراعيين وبين صغارهم.
٤٩ ورغم كل هذا فقد ظلَّت النقابة الزراعية العامة رمزًا لتجمع المصالح الزراعية
العامة ومصالح كبار المُلَّاك على أيِّ حال.
على أن فكرةً تجمع أصحاب المصالح الزراعية أخذت بُعدًا آخر وضح في الدعوة إلى إنشاء
ما
يُعرف ﺑ «حزب المزارعين الاقتصادي»، الذي دعا إليه أحد كبار ملاك بالدقهلية على أن يتكون
من
«نخبة من المزارعين الذين لهم المصالح الحقيقية في البلاد والأحرار في معاملاتهم»، ولا
يشتغل بالسياسة ولا يشتغل أعضاؤه بوظائف الحكومة وتكون له جريدة ترشد الفلاح إلى مصالحه
وتعلمه أحوال الزراعة».
٥٠
ولقد وجدت هذه الدعوة تأييدًا من آخرين علَّقوا الأمل على معاونة الحكومة «تحرِّيًا
لمصلحتها هي في ذلك»، وعلى تأييد كبار المُلَّاك وفي مقدمتهم البدراوي عاشور، وفوده،
والأتربي، وعبد العظيم المصري.
٥١
واستمرت الدعوة قائمةً فتألفت اتحادات نوعية مثل «الاتحاد الزراعي لتصريف الخضر والفاكهة»
و«الاتحاد الزراعي لتصريف البطاطس» في أبريل ١٩٣٣م.
٥٢
ولكن الدعوة إلى تكوين اتحاد زراعي عام ظلَّت قائمةً
تتجدد في مختلف المناسبات، ففي ديسمبر ١٩٣٨م، دعا أحدهم إلى وجوب إنشاء هذا الاتحاد تجاه
ما
يواجه الزارع من صعاب كل عام، سواء في عملهم أو تصريف حاصلاتهم بأثمان بخسة.
٥٣ وفي يوليو ١٩٣٩م، دعا آخر إلى اجتماع عام يحضره مَن يُهمُّه أمر الفلاح من
أعضاء الهيئات النيابيَّة وعُمَد وأعيان البلاد، لتوثيق الروابط والتشاور فيما يجب عمله
لتوحيد الكلمة.
٥٤
غير أننا لم نعد نسمع عن هذه الدعوات بعد ذلك، فقد
أُعلنت الحرب العالمية الثانية، وشغل الجميع بتطورات الأحداث السياسية التي مرت بالمجتمع
المصري خلال الحرب وبعدها. ومن المُلاحَظ أن مثل هذه الدعوات التي كانت تهدف إلى تجميع
أصحاب المصالح الزراعية، لم تكُن تجد الاستجابة الكافية لأنها فيما يبدو، لم تكُن تظهر
إلا
في أوقات أزمة انخفاض سعر المحصولات الزراعية — وخاصةً القطن — حتى إذا انتهت الأزمة
ومرت
بسلام بتدخل الحكومة أو بطريق آخر، فتر الحماس وعاد كلٌّ إلى أحواله الخاصة.
وإذا كانت فكرة النقابة الزراعية قد راودت أصحاب المصالح الزراعية كهيئةٍ تعبِّر عن
مصالحهم، فلقد ناضلوا نضالًا دون توقفٍ لإنشاء بنكٍ لتسليف الزراعيين بالأموال اللازمة،
حتى
يتجنبوا اللجوء إلى البنوك الأجنبية وبيوت الرهونات، فيطمئنَّ الفلاح على محصوله وأرضه.
وكما كانوا يأملون في مساعدة الحكومة لهم في إنشاء النقابات الزراعية، علقوا عليها أملهم
أيضًا في إنشاء بنوك التسليف، ولم يختلف أحدٌ ممَّن دعوا إلى هذه الفكرة (حتى إنشاء بنك
التسليف الزراعي في عام ١٩٣٠م)، على أن يكون إنشاء مثل هذه البنوك من أموال ضريبة القُطن
التي تحصِّلها الحكومة، والتي ظلَّ المزارعون يعتقدون أنها تجبي بدون وجه حق.
ويُعتبر قليني فهمي باشا من أقدم المناضلين من كبار المُلَّاك لإنشاء بنوك التسليف
الزراعية، فلم يترك أيَّ فرصة إلا وعرض فيها فكرته، سواءً في الصحافة أو في الهيئات
التشريعية أو قدَّمها إلى المسئولين،
٥٥ وشاركه آخرون معاصرون في الدعوة إلى إنشاء بنك حكومي مصري لمواجهة احتكار
الأجانب لأسواق المال وتسببهم في الأزمات.
٥٦
كما دعت النقابة الزراعية العامة إلى تأسيس بنك زراعي تعاوني أهلي، تستمدُّ منه النقابات
الفرعية الأموال اللازمة لتسليف الفلاح الصغير،
٥٧ وسمَّاه البعض «البنك الملكي المصري» الذي يكون تحت إدارة المجلس الاقتصادي وإشرافه،
٥٨ أو بنك الفلاح الذي يكون له فروع في جميع مراكز الأقاليم يقرض المزارعين على
أقطانهم في موسم القطن،
٥٩ أو إنشاء بنوك زراعية في المديريات تؤيدها الحكومة، كما هو الحال في بلاد
سويسرا، فقد يستغرق البنك الزراعي الحكومي وقتًا طويلًا.
٦٠
ولم يتخلف النواب من المُلَّاك عن إثارة فكرة إنشاء بنك التسليف في مجلس النواب كلما
واتتهم الفرصة، فمنذ البرلمان الأول (١٩٢٤م) لم تتوقف الاقتراحات أو المشروعات،
٦١ وحتى حين وعدت الحكومة في خطاب العرش بإنشاء هذا البنك، تساءل أصحاب المصالح
الزراعية الصناعية عمَّا إذا كان سيمتدُّ نشاط هذا البنك للتسليف الصناعي، أو التفكير
في
إنشاء مثل هذا البنك لمساعدة الصناعات.
٦٢
وقد واكبت فكرة إنشاء بنك التسليف فكرةٌ أخرى لإنشاء بنك عقاري وطني، لحفظ الملكيات
الزراعية من الوقوع في أيدي الأجانب وفاءً للديون، وفكرة إنشاء بنك لتأمين الفلاح ضدَّ
ما
يصيب المحصول من الآفات،
٦٣ وفكرة إنشاء بنك أمريكي مركزه الإسكندرية يكون حلقة وصل بين البنوك الأمريكية
والصيارفة المصريين، وهي فكرة عُرضت على وفد تجاري أمريكي خلال زيارته للقاهرة في مارس
١٩٢٣م، بل لقد سافر أمين يحيى باشا — وهو من كبار الماليين — إلى الولايات المتحدة، لإقناع
ذوي الشأن من أصحاب الأموال الأمريكية بإنشاء فرع للبنك الأمريكي بالأستانة.
٦٤
تلك كانت جهود كبار المُلَّاك من أجل بنوك التسليف وبنوك التأمين والبنوك العقارية،
وإذا
كانت جهود المُلَّاك من أجل إنشاء الاتحاد الزراعي العام قد انتهت بإقامة النقابة الزراعية
العامة، التي ظلَّت رمزًا لتجمع أصحاب المصالح الزراعية أكثر منها منظمة أو هيئة ذات
فاعلية، فإن جهودهم من أجل إقامة بنوك التسليف الزراعي قد كُلِّلت بالنجاح حين أنشأت
الدولة
بنك التسليف الزراعي عام ١٩٣٠م، وإن كان هذا يعدُّ استجابةً للظروف الاقتصادية المتغيرة
عقب
الأزمة العالمية وتدخل الدولة لحماية الإنتاج المحلي، أكثر منه استجابة لجهود كبار
المُلَّاك في هذا المجال.
إذ كانت النقابة الزراعية العامة — رغم ضعفها — تجمعًا يحمي مصالح كبار المُلَّاك،
وكانت
بنوك التسليف التي دعوا إليها — على اختلاف مسمياتها — مصادر تحمي الثروة من الضياع في
أيدي
المُرابين وبنوك الرهن الأجنبية، فلقد كانت لكبار المُلَّاك قضية أخرى تتصل اتصالًا وثيقًا
بحماية مصالحهم؛ وهي تخفيض تكاليف الإنتاج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وقد دفعهم هذا
الهدف
إلى مناقشة أمور كثيرة في هذا المجال، مثل ضريبة الأطيان وضريبة القطن وغيرهما من الضرائب،
ونفقات النقل والحليج والمواد الأولية كالفحم … إلخ.
والحقيقة أن شكوى كبار المُلَّاك من الضرائب، كانت ترجع إلى أن قواعد الضريبة التي
تقررت
بالقانون الصادر في ١٠ مايو ١٨٩٩م، لم تحقق المساواة في توزيع أعباء الضريبة على جميع
أهالي
مصر، إذ كانت الضرائب تُفرض على الدخول العقارية دون الثروات المنقولة، وكان من نتائج
ذلك
أن تحملت بعض الفئات العبء دون غيرها، ورغم أن المالك الكبير كان أحيانًا ينقل عبء هذه
الضريبة على المستأجر، ورغم أنه كان يتساوى مع المالك الصغير والضئيل من حيث قيمتها،
بل كان
يتفوق عليه عند تقرير القيمة الإيجارية لأراضيه، توطئةً لفرض ضريبة عليه أو عند تقسيطها
عليه في وقت الأزمات المالية،
٦٥ إلا أنهم كانوا في مقدمة مَن طالبوا بتعديل ضرائب الأطيان وتطبيقها على جميع
أهالي البلاد كضريبةٍ على الثروة بصفة عامة.
ومحاولة تحقيق هذا الهدف قديمةٌ قِدَم قانون الضرائب العقارية ١٨٩٩م، حتى إن محمد
فريد
أثارها في المؤتمر الوطني (٧ يناير ١٩١٠م)، حين قال إن أصحاب الأطيان يدفعون ٢٨٪ من الإيجار
كضريبة، بينما يدفع أصحاب العقارات المبنية في المدن ٨٪ من الإيجار، والتجار لا يدفعون
شيئًا، وكذلك المصارف وأصحاب الأموال المنقولة، أيْ حملة الأسهم في البنك العقاري، أو
البنك
الأهلي، وأهاب بالكتاب والخطباء أن يشرحوا هذه المسائل لمناقشتها في ميزانية عام ١٩١١م.
٦٦
ومنذ أثار محمد فريد هذه المسألة، وجهود المُلَّاك لم تتوقف، سواءً فيما نشرته الصحافة
من
مقالات وصرخات وبرقيات، أو فيما أعلنه النواب في المجالس النيابيَّة من المطالبة بتعديل
ضرائب الأطيان والتصدي لمَن يحاول المطالبة بتحميل المُلَّاك ضرائب أخرى. وفي مناقشات
اللجنة العامة لدستور ١٩٢٣م،
٦٧ عرض مشروع المادة ٩٣، وتنصُّ على أنه «لا يجوز إنشاء ضريبة أو تعديل ضريبة أو
إلغاؤها إلا بقانون». وفي مناقشة هذه المادة وضح اتجاه كبار المُلَّاك، فقد حاولوا جعل
هذا
الحقِّ من سلطة المجلس لأن أغلبيته منهم، فيكونون بذلك أحرص من غيرهم على الضرائب وتقريرها.
٦٨ كما طالبوا بإلغاء ضريبة القطن التي كانت قد تقررت اعتبارًا من موسم ١٩٢٠م،
بواقع خمسة وثلاثين قرشًا على القنطار بعد حَلْجِه، سواءً من خلال الصحف أو من خلال مجالس
المديريات والنقابة الزراعية أو البرلمان.
٦٩
لقد كان كبار المُلَّاك في صراعهم لتخفيف ضريبة القطن أو إلغائها يعبِّرون عن مصالحهم
الذاتية، ولا شك، وكأيِّ صاحب مصلحةٍ كانوا يعالجون شئونهم الخاصة بمعزلٍ عن الظروف
القائمة، ففي مطالبتهم بإلغاء الضريبة نسوا أن ميزانية الدولة بُنيت في باب الإيرادات
على
هذه الضريبة وعلى غيرها، فإذا أُلغيت من حساب الإيرادات كان لا بدَّ من الاقتصاد في
المصروفات بما يوازي قيمة الضريبة أو تقرير ضريبة جديدة بالقيمة نفسها، ولم يكُن هذا
متاحًا
آنذاك بالقدر الكافي. ولقد عبَّر إسماعيل صدقي في عام ١٩٢٦م عن ذلك — وظلَّت هذه وجهة
نظر
الحكومة — إذ قال إن الاقتصاد في المصروفات أصبح صعبًا بسبب زيادة النفقات مع زيادة مرافق
الدولة … وأمَّا تقرير ضريبة جديدة محلَّ ضريبة القطن فيحُول دونه الاتفاقيات الدولية
القائمة التي سوف تنتهي في عام ١٩٣٠م،
٧٠ ورغم هذا فقد جاء عام ١٩٣٢م ولم تُلغَ الضريبة، ولكنْ خُفِّضَت إلى عشرة قروش،
حتى إذا ما طالب النواب بخفضها إلى خمسة قروش، رفض إسماعيل صدقي نفسه حتى يكون هناك بديلٌ
للإيرادات.
٧١
وكما بذل أصحاب المصالح الزراعية جهودهم لتعديل ضرائب الأطيان وإلغاء ضريبة القطن
كوسيلة
من وسائل تخفيض نفقات الإنتاج، فقد بذلوا جهودًا أخرى في سبيل هذا الهدف، كتخفيض أسعار
حلْج
القطن لدى المحالج، وخفض أجور النقل والرسوم الجمركية على الواردات من الآلات والمواد
الزراعية.
٧٢
وتمشيًا مع هدف تقليل النفقات وزيادة الأرباح، سعى أصحاب المصالح الزراعية، منذ وقت
مبكر،
إلى الاتصال بمصانع الغزل الإنجليزية مباشرةً، دون وساطة تجار الصادرات في بورصة مينا
البصل
أو غيرها، الذين كانوا يتقاضون مبالغ كبيرة لقاء القيام بهذه العمليات، فلقد قدَّم محمد
أبو
الفتوح — أحد كبار المُلَّاك — مذكرةً إلى مجلس التجارة الزراعية؛ يقترح تشجيع أصحاب
مصانع
الغزل في إنجلترا بإيجاد وكلاء لهم بالمُدن يشترون القطن من المُزارعين مباشرة.
٧٣
واهتمت النقابة الزراعية العامة بمسألة إلغاء الوسطاء فوضعت مشروعًا في فبراير ١٩٢٢م،
بتأليف جمعية من داخل النقابة تقوم بشراء واستلام القطن من الراغبين، وعلى هذه الجمعية
أن
تختار البنوك التي تتعامل معها بمعرفتها، وكذلك اختيار المحلات والوكالات التي تقوم بحركة
البيع لحسابها داخل مينا البصل.
٧٤
وفي يونيو ١٩٢٢م، أعلنت النقابة أنها تسعى إلى تأسيس شركة لشراء الأقطان من المُزارعين
مباشرةً والعمل على تقليل الوسطاء بين المُنتِج المصري والغزَّال الأجنبي في إنجلترا
وفرنسا
وألمانيا لزيادة أرباح المُزارع المصري.
٧٥
وخلال عام ١٩٣٦-١٩٣٧م، وضعت النقابة مشروعًا لإقناع الغزَّالين في الخارج بتفضيل
القطن
المصري على سواه، وإغرائهم بتقديم سلفيات للغزَّالين الذين يغيرون مغازلهم لتصبح صالحةً
لغزل أصناف القطن المصري.
٧٦
ولقد ظلَّت هذه المشروعات تعبيرًا عن حماس أصحاب المصالح الزراعية لتخفيض نفقات الإنتاج،
ولم تصل إلى نتائج إيجابية، فلم يكُن من المتصوَّر مثلًا أن ترسل مصانع الغزل بإنجلترا
أو
غيرها كلما احتاجت للقطن المصري مندوبيها للتجول في قُرى ونجوع القطر المصري لشراء ما
يلزمها، هذا في الوقت الذي لم تكُن فيه النقابات الزراعية — على ضآلتها — مهيأةً للقيام
بتجميع الأقطان في شونها، وإرسالها للنقابة المركزية لتوضَع تحت تصرف مندوبي مصانع الغزل.
٧٧
وكما كانت محاولات كبار المُلَّاك تعديل ضرائب الأطيان وإلغاء ضريبة القطن وتخفيض
أجور
النقل والحلْج، وإلغاء الوساطة بينهم وبين الغزَّالين، وسيلة من وسائل تخفيض النفقات
وزيادة
الأرباح، فقد سعوا — تحقيقًا لنفس الهدف — إلى حماية إنتاجهم من المنافسة الأجنبية، وقد
سارت جهودهم في هذا المجال في خطَّين متوازيين:
-
الأول: المطالبة بزيادة الرسوم الجمركية على الواردات التي لها مثيل مما ينتجه
المُزارعون.
-
الثاني: المطالبة بتخفيض رسوم التصدير على ما يصدر من هذا الإنتاج.
فعندما رفعت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية رسم الوارد على بعض
المنتجات المصرية كالقطن والبصل في عام ١٩٢٩م لحماية إنتاجها المحلي، ثار
المنتجون المصريون وطالبوا بإقناع الحكومة الأمريكية بالعدول عن هذا
الموقف، كما طالبوا الحكومة المصرية برفع الضريبة الجمركية على البضائع
الأمريكية إلى نسبة ٦٠٪ مقابل العشر ريالات التي قررتها الولايات المتحدة
على كل قنطار قطن مصري يدخل أراضيها.
٧٨
كما طالبوا من خلال مجلس النواب والنقابة الزراعية بزيادة التعريفة الجمركية على
الواردات
والحاصلات التي تنتجها أرض مصر بكثرة، وزيادة الرسوم تدريجيًّا على الأصناف التي تنتجها
مصر
بكميات لا تزال غير كافية،
٧٩ وزيادة الرسوم على المنتجات الحيوانية المصنوعة وغير المصنوعة اللازمة للصناعة
المصرية والتي تنتج في مصر.
٨٠ وأيضًا زيادة الرسوم على الوارد من الفاكهة والخضر المزروعة في مصر.
٨١
ويُضاف إلى هذا المذكرات العديدة التي تقدَّم بها مزارعو القصب إلى الحكومة بشأن
خطر
منافسة السكر الأجنبي، وضرورة تشجيع المستهلك المصري للسكر المحلي، وهذا لا يتأتَّى إلا
بوضع رسم جمركي على السكر الوارد، يتعادل مع الثمن المراد تحديده لقنطار قصب السكر.
٨٢
وفي نفس هذه الاتجاهات سارت جهود أصحاب المصالح الزراعية، في محاولةٍ لإلغاء رسم
التصدير
المقرَّر على القطن وبذرته وبعض المنتجات الأخرى التي تصل في إنتاجها إلى مرحلة التصدير؛
وهي جهود بدأتها النقابة الزراعية العامة منذ أبريل ١٩٣١م، ولم تخرج محاولاتها — شأن
كل
المحاولات — عن استعطاف الحكومة لإلغاء رسوم التصدير المقرَّرة.
٨٣
لقد كانت حماية الإنتاج الداخلي مسألةً ضروريةً، وبدونها — كما عبَّر أحد كبار المُلَّاك
— لا جدوى من العناية بالزراعة في مختلف مراحلها.
٨٤
وقد تُفسَّر محاولات كبار المُلَّاك في هذا الصدد على أنها حماية للإنتاج المحلي أكثر
منها حماية لمصالح ذاتية، ومع هذا يصعب تجاهل عامل المصلحة الخاصة في هذه الجهود.
كما طالب أصحاب المصالح الزراعية الحكومة بالتدخل لحماية سوق القطن، مصدر ثروتهم
الرئيسي،
عن طريق إصلاح نظام بورصة مينا البصل حيث يُباع القطن، والتدخل في سوق القطن شارية أو
تقييد
المساحة المزروعة من القطن والتسليف عليه.
٨٥
ومن المُلاحَظ أن محاولات إصلاح البورصة قد ظلَّت قائمةً دون جدوى حتى نهاية الفترة
تقريبًا، ولعلَّ الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة التي ظلَّت قائمةً من الناحية
العملية حتى عام ١٩٤٩م، كانت الصخرة التي تحطمت عليها كل الجهود التي بُذلت. فعلى سبيل
المثال، وضعت الحكومة في ١٩٢٤م مشروع قانون يحظر بيع القطن تحت القطع، سواءً على الكونترات
أو بالوجه، وأُرسل إلى الجمعية العمومية بالمحكمة المختلطة لإقراره، غير أن الحكومة سحبته
تحت تأثير معارضة التجار الأجانب المنتفعين من هذه الطريقة.
٨٦
وفي خلال سنوات هبوط أسعار القطن، كان المُلَّاك يطالبون الحكومة بالتدخل في السوق
بشراء
كميات كبيرة لحسابها حتى تعيد للسوق توازنه. والحقيقة أن المطالبة بتدخل الحكومة على
هذا
النحو، كانت تصاحبه المطالبة بتحديد مساحة القطن إلى الرُّبع أو الثُّلث، فإذا كان التدخل
مطلوبًا في سنة، كان التحديد مطلوبًا في السنة التالية. وترجع هذه المسألة — كما شرحتها
النقابة الزراعية
٨٧ — إلى موقف الغزَّالين، فهم يريدون كمياتٍ وفيرةً بثمن قليل، والمُنتِج لا
يستطيع التوفيق بين هذين الأمرين؛ لأن الآفات قد تصيب القطن فيقلُّ المحصول. فإذا رأى
المُنتِج هبوطًا في أسعار القطن، أنقص المساحة في السنة التي تليها حتى يرغم الغزَّال
على
دفع الثمن المناسب، وهذا ما كان يسبب نقص المساحات القطنية عقب السنة التي يكون فيها
السعر
منخفضًا، وزيادتها عقب السنة التي يرتفع فيها السعر.
وفي هذا النطاق تحركت جهود أصحاب المصالح الزراعية، ففي ٢٩ نوفمبر ١٩٢٠م زار وفدٌ
من
كبارهم قصر عابدين والوزراء مطالبين بقيام الحكومة بإصدار قوانين تحدِّد المساحة التي
تُزرع
قطنًا في الموسم القادم بثُلث الزمام،
٨٨ كما وجه المُزارعون نداءاتهم لإعداد رُبع المساحة فقط للقطن.
٨٩
وهكذا كان الحال في كل سنوات انخفاض الأسعار في ١٩٢٦م،
٩٠ ١٩٣٠م،
٩١ ١٩٣٧م.
٩٢ هذا إلى أن النقابة أكثرت من نصحها للمُزارعين بإنقاص مساحة القطن، كما أكثرت
من طلبها تدخُّل الحكومة في تحديد المساحة.
٩٣
على أيَّة حال، لقد كان تحديد زراعة القطن بثُلث الزمام من ابتكار كبار المُلَّاك
٩٤ كوسيلة من وسائل حماية أسعار القطن، وذلك بالإقلال من عرضه عن طريق تقليل كمية
المنتج، وهذا التحديد لم يكُن يضرُّ بمصالح كبار المُزارعين لكبر حجم مساحة ملكياتهم،
بحيث
يكون ثُلث المساحة في أيِّ الأحوال مناسبًا، ولكنه كان مضرًّا ولا شكَّ بصغار المُلَّاك
لضآلة حجم ملكياتهم، ومن هنا كانت مطالبتهم بشدة للحكومة بتطبيق قانون الثُّلث في أوقات
أزمات أسعار القطن، ولو أنهم في الأوقات العادية يجعلون من قانون الثُّلث قانونًا للنصف
كما
سبقت الإشارة.
أمَّا المطالبة بتدخُّل الحكومة في سوق القطن شارية،
فكما ذكرنا كان يسير جنبًا إلى جنب مع مطالبتها بتحديد زراعة القطن،
ولقد جعلته النقابة الزراعية أول أعمالها في الاجتماع
الأول لها بعد تشكيلها، حيث قررت أن تطالب الحكومة بشراء مليونَي قنطارٍ من البضاعة
الحاضرة، ومطالبة الأهالي في نفس الوقت بالاحتفاظ بمليونَين آخرَين.
٩٥
وحين قررت الحكومة شراء صفقات صغيرة من القطن لا
تتجاوز الواحدةُ مائةَ قنطار تخفيفًا للعبء عن صغار المزارعين، تساءلت النقابة الزراعية
العامة قائلةً «وهل كبار المزارعين من رعايا الحكومة لا يستحقون أيضًا العطف عليهم؟»
٩٦ ثم تقدمت في ديسمبر ١٩٢٢م بمذكرة إلى رئيس الوزراء، أعلنت فيها «أن الحكومة إذا
أرادت انتشال البلاد من الوهدة المالية التي هي فيها، فلا سبيل إلى ذلك إلا بدخولها على
الفور شاريةً في سوق القطن»،
٩٧ وتكرَّر منها ذلك الموقف في كل الأزمات التي تعرَّض لها سوق القطن.
٩٨
وفي الأوقات التي كانت الحكومة تتردَّد فيها في دخول سوق القطن شارية، كان أصحاب
المصالح
الزراعية يطالبونها بتقديم السلفيات للمُزارعين، حتى لا يضطروا لعرض محصولهم للبيع بأثمان
بخسة. وقبل إنشاء بنك التسليف كان المُلَّاك يطالبون الحكومة بالتدخل لدى البنك الأهلي
لتسليف المُزارعين بالضمانات اللازمة،
٩٩ أو تكليف بنك مصر بهذه المهمَّة بعد تزويده بمبلغٍ وافٍ من المليون جنيه التي
كان البرلمان قد أقرَّها لمشروع التعاون الزراعي،
١٠٠ وأن تقوم الحكومة بالتسليف من الخزانة العامة بمعرفتها وبالشروط التي تراها
بحيث تكون في صالح الزرَّاع،
١٠١ كأن تكون ثلاثة جنيهات ونصف على القنطار من القطن الأشموني، وأربعة جنيهات ونصف
جنيه على القطن من السكلاريدس، على أن يقوم المالك بتوريد القطن إلى البنك الذي تحدِّده
الحكومة،
١٠٢ وقيام الحكومة بهذا الدور يعادل ما تقوم به الحكومة الأمريكية بالنسبة لمُزارعيها.
١٠٣
فلما أُنشئ بنك التسليف الزراعي (نوفمبر ١٩٣٠م) لمساعدة صغار المُزارعين، أراد كبار
المُلَّاك الإفادة منه، فطالبت النقابة الزراعية العامة بألا يقصر التسليف على كل مالك
لا
يزيد ملكه على ٢٠٠ فدَّان، كما كان شروط البنك، بل يشمل كل مالك كبير مهما بلغت مساحة
ملكياته،
١٠٤ ولو أن البعض اعترض على مبدأ التسليف؛ هذا لأنه يؤدي إلى الإكثار من المخزون
القطني باستمرار.
١٠٥
والمُلاحَظ بصفة عامة أن الاعتراض على مبدأ التسليف على الأقطان أو على مبدأ دخول
الحكومة
سوق القطن شارية، كان يأتي من جانب كبار المُلَّاك الزراعيين التجاريين؛ لأنه في الحالتين
سوف يحُول بينهم وبين الانفراد بسوق الشراء اعتمادًا على حاجة الفلاح، بينما وقفوا إلى
جانب
المطالبين بتدخل الحكومة في إصلاح بورصة العقود، حتى يستطيعوا انتزاع الأرض من تحت أقدام
تجار الصادرات الذين كان أغلبهم من الأجانب، حتى كبار المُلَّاك الذين كانوا يطالبون
الحكومة بالتدخل في الشراء أو التسليف لحماية المُزارع الصغير كانوا — في الواقع — يخدمون
أنفسهم بطريق غير مباشر، لأن اضطرار المُزارع الصغير إلى البيع بالأسعار البخسة — وفي
ضوء
الظروف الموجودة — سيؤدي إلى حصول تجار الصادرات على حاجاتهم من المحصول المعروض في السوق،
ومن ثَم يتحرج مركز كبار المُلَّاك، ولا يملكون في هذه الحالة إلا تخزين محصولهم، وهكذا
كانوا يظهرون دائمًا بمظهر المُشفق على «الفلاح الصغير».
على أن اعتماد أصحاب المصالح الزراعية على تدخُّل الحكومة، بل ومطالبتهم بذلك، يؤكد
إلى
حدٍّ كبير أنهم لم يكونوا قد وصلوا بعدُ إلى درجة عالية من النضج والتوحد وامتلاك ناصية
الأمور في أيديهم، حتى يستطيعوا تقرير ما يريدون بدون استجداء الحكومة واستعطافها، وقد
تبدو
هذه النتيجة غير منطقية مع حقيقة أنهم موجودون في أجهزة السُّلطة الحكومية على نحو ما
سيأتي
ذكره. وأغلب الظن أن القيود الاقتصادية التي فرضتها الامتيازات الأجنبية قد شلَّت حركة
أصحاب المصالح الزراعية حتى عن الدفاع عن مصالحهم وحمايتها من التدهور.
على أيَّة حال، لقد بذل كبار المُلَّاك جهودًا ضخمةً في سبيل حماية مصالحهم الاقتصادية،
فلم يتركوا بابًا إلا وطرقوه بحثًا عن وسائل حماية هذه المصالح، حتى لقد أوقعهم حرصهم
هذا
في تناقضٍ مع موظفي الدولة حين كانوا يطالبون بتخفيض مُرتَّباتهم «وتسريح» نصفهم، حتى
تحصل
الدولة على فائض من الأموال يجعل بإمكانها التنازل عن ضريبة القطن وغيرها من الضرائب،
فقد
نادوا بأن أولى وسائل تدبير الأموال لخزينة الدولة هو خفض مربوط الوظائف الكبيرة،
١٠٦ وتخفيض ميزانية مُرتَّبات موظفي الدولة إلى النصف على الأقل،
١٠٧ أو تخفيض ١٥٪ من مُرتَّبات الموظفين الذين يتقاضون أكثر من ٢٥ جنيهًا شهريًّا.
١٠٨ كما اقترح الرجوع بمُرتَّبات الموظفين إلى ما كانت عليه قبل الحرب العالمية
الأولى، فقد كانت مُرتَّباتهم في عام ١٩١٣م تبلغ ١٧٪ من مصروفات الدولة، وأصبحت في
الثلاثينيات تبلغ ٤٢٪.
١٠٩
وفي مناقشة ميزانية الدولة لكل عام، كان النواب يطالبون بتخفيض مصروفات الدولة عن
طريق
خفض مُرتَّبات الموظفين وإنقاص درجاتهم وعلاواتهم أو إيقافها.
١١٠ كما طالبوا بإلغاء الفقرة الثانية من المادة ٢٣ من لائحة المستخدمين الصادرة في
٢٤ يونيو ١٩٠١م، التي تجيز ترقية المستخدم إلى أكثر من درجة.
١١١
وواضح هنا الرؤية الذاتية في مناقشة موضوع مُرتَّبات موظفي الدولة، فالرجوع بها إلى
ما
قبل الحرب العالمية الأولى دون تقدير للارتفاع النسبي في الأسعار الذي شمل كل مرافق الحياة
بصورة جعلتهم — وهم أصحاب الأراضي والضِّياع — يشكون، فيه افتئاتٌ على فئةٍ اجتماعية
كانت
وما زالت تُعتبر من الفئات الكادحة، فضلًا عن أن زيادة نسبة المُرتَّبات في الدولة من
١٧٪
في عام ١٩١٣م إلى ٤٢٪ في الثلاثينيات راجع، بلا شك، إلى زيادة حجم الأعباء التي أصبحت
تقوم
بها الدولة مما استتبع زيادة عدد الموظفين وهكذا.
•••
لقد اتجه النشاط الاقتصادي لكبار المُلَّاك بصفة أساسية إلى استغلال الأرض الزراعية
بأسلوب الإنتاج الرأسمالي القائم على الإيجار الذي اتخذ من الأرض سلعةً تُباع وتُشترى،
بهدف
الحصول على الأرباح للإفادة من تغير أثمان وقيمة الأراضي من آنٍ لآخر.
ولقد ظلَّت الزراعة مجالًا لاستثماراتهم لفترة طويلة، كما ظلوا محجمين عن الدخول في
مجال
النشاط التجاري والصناعي، تاركين هذا الميدان لرءوس الأموال الأجنبية. وعندما دخلوا هذا
المجال منذ أواخر العشرينيات، اقتصر أغلب نشاطهم فيه على شراء الأسهم في الشركات المساهمة،
فكانوا مساهمين أكثر منهم منتجين، وكان طبيعيًّا أن يبذل كبار المُلَّاك جهودًا لحماية
مصالحهم الزراعية من حيث تخفيض نفقات الإنتاج لزيادة أرباحهم، وطالبوا الحكومة بتعديل
ضرائب
الأطيان وإلغاء ضريبة القطن وغيرها من الضرائب المفروضة على فروع الإنتاج الزراعي.
كما طالبوا بزيادة رسوم الواردات على المنتجات المماثلة للإنتاج المحلي، وتخفيضها
بالنسبة
للآلات والمواد الزراعية الرئيسية، كما طالبوا بتخفيض رسوم الصادرات على الإنتاج المحلي
ليسهل تصديره والاتصال بأسواق العالم، كما طالبوا بالتدخل في الدورة الزراعية وتقييد
مساحة
القطن المنزرع بثُلث الزمام حين بدا أن هذا التدخل لازم لحماية أرباحهم، كما طالبوا
بالتسليف على القطن حتى لا يضطرَّ المُزارع الصغير إلى بيع محصوله بأسعار بخسة لتجار
الصادرات، فيضعف ذلك مركزهم ويضطرون هم الآخرون إلى بيع محصولهم بالأسعار السائدة.
غير أن هذه الجهود وقفت في غالب الأحيان عند حدِّ استعطاف الحكومة واستجدائها، ولم
يتمكن
كبار المُلَّاك من حماية مصالحهم الحماية الكافية، رغم تمركزهم في السُّلطة التشريعية
والتنفيذية، مما يثبت أن الامتيازات الأجنبية كانت تحُول دون فرض وسائل الحماية اللازمة،
وخاصةً تلك التي تتعرض للحدِّ من نشاط رءوس الأموال الأجنبية بأيِّ صورة من الصور.
حتى النقابة الزراعية العامة التي كوَّنها كبار المُلَّاك في مطلع عام ١٩٢١م، لم تستطع
القيام بدور إيجابي وفعال في تنفيذ السياسة الزراعية التي طالبوا بها، برغم أنها كانت
تضمُّ
كبار الشخصيات السياسية، فقد ظلَّت تنظيمًا فوقيًّا لا يعتمد على نقابات فرعية إقليمية
تمدُّه بأسباب القوة والحياة، وذلك لأنهم اعتمدوا في تحقيق هذه الأهداف على معونة الحكومة
وتدخُّلها.
ولقد ظلَّت يد كبار المُلَّاك مغلولةً عن القيام بحماية إنتاجهم ومصالحهم فترةً غير
قصيرة، إلى أن ساعدتهم الظروف على تحقيق ذلك تدريجيًّا وعلى مراحل، وكان أولها في عام
١٩٣٠م
حيث وضعت التعريفة الجمركية، وثانيها بعد إلغاء الامتيازات الأجنبية في عام ١٩٣٧م وإن
لم
يكُن بصورة مطلقة، حيث استمرت المحاكم المختلطة التي تعدُّ صورةً أساسيةً لحماية الامتيازات
الأجنبية من الناحية العملية حتى عام ١٩٤٩م.