الفصل السابع
كبار المُلَّاك والمسائل الاجتماعية
قبل أن تستقر الملكية الفردية للأراضي الزراعية في ١٨٩١م (آخر قرارات التحول)، لم
يكُن من
الممكن الحديث عن طبقة اجتماعية من كبار ملاك الأراضي الزراعية، وبالتالي البحث عن موقف
لهم
من المسألة الاجتماعية، بل كان من الممكن الحديث عن قوة اجتماعية من كبار المنتفعين
بالأراضي الزراعية، لم يكُن لها من دورٍ سوى الدور السياسي الذي اتضح في حوادث الثورة
العرابية، سواءً الذين وقفوا مع الثورة أو الذين وقفوا ضدَّها (راجع الفصل السادس من
هذا
الكتاب). أمَّا المسألة الاجتماعية فلم تكُن مطروحةً على المسرح السياسي آنذاك، فمن ناحية
لم تكُن التناقضات الاجتماعية قد برزت بعدُ لقلة عدد السكان، ومن ناحية أخرى لم تكُن
الطبقة
الاجتماعية قد تكونت، والتي يصاحبها الوعي.
أمَّا الحديث عن الموقف من المسألة الاجتماعية فيبدأ منذ مطلع القرن العشرين بعد
استقرار
الملكية الفردية، وتبلور المصالح الاجتماعية، واتساع نطاق طبقة المعدمين
landless الذين تحولوا إلى عمال زراعة ومستأجرين وعمال
صناعة في المُدن التي نزحوا إليها، أو عناصر هامشية في تلك المدن ممَّن يعملون في أعمال
ذات
طبيعة خدمية أو هامشية خارج أسلوب الإنتاج القائم في المجتمع.
غير أنه مع فكِّ الزمام وطرح أراضي الدائرة السنية وأراضي الدومين للبيع (١٩٠٦م)،
بدأ
تركُّز الملكية، وبدأ معها تبلور الوعي الطبقي، وبدأت معها المشكلة الاجتماعية في تاريخ
مصر
المعاصر، حيث إن كبار المُلَّاك كانوا النواة الأساسية للطبقة الاجتماعية المسيطرة في
مصر،
عندما نقلوا جانبًا من فائض الأرباح في شراء أسهم الشركات الصناعية والتجارية وتأسيس
البنوك.
لقد ترتَّب على تركز الملكية الزراعية في مصر، ونظام الاستغلال الزراعي الذي اتبعه
كبار
المُلَّاك في أراضيهم، نتائج هامة فيما يتعلق بتوزيع الدخل الزراعي بين السكان، وهبوط
مستوى
الأجور بين عمال الزراعة، وخلق فئة من مستأجري الأرض الزراعية كانت تزداد يومًا بعد يوم.
فقد كان دخل صغار المستأجرين وعمال الزراعة لا يزيد عن الحدِّ الأدنى للكفاف، وذلك نظرًا
لزيادة العرض عن الطلب في سوق العمل، وتمكن المالك من التحكم في قيمة الأجور استنادًا
إلى
السُّلطة وإلى العُرف والقانون في الريف،
١ وقد ترتَّب على ضآلة دخل المستأجر الصغير انحطاط مستوى معيشته وتدهور حالته
واقترابه من العامل الأجير.
٢
ولقد كان استمرار وجود فئة ثابتة من المستأجرين أحد
العيوب الاجتماعية التي شهدها العمل الزراعي في مصر، فالإيجار — كما يذهب علماء الاقتصاد
—
لا يجب أن يكون أكثر من مرحلة من مراحل التطور في حياة المُزارع، يبدؤها كعاملٍ يكتسب
فيها
الخبرة والمران العملي، ومن مدخراته يستطيع شراء مواشي وآلات زراعية تمكِّنه من استئجار
قِطَعٍ من الأرض تزداد بزيادة مدخراته إلى أن يصبح في مركز يمكِّنه من تملُّك الأرض.
٣
يُضاف إلى هذا أن الطريقة التي اتبعها كبار المُلَّاك في توظيف أموالهم أضرَّت بالمجتمع
المصري، وسبَّبت تخلفه إلى حدٍّ كبير، فقد كانوا يُودِعون جزءًا من مدخراتهم في البنوك
التجارية ولا يستخدمونها في النهوض بمستوى الإنتاج الزراعي أو إعادة استثمارها في مجالات
إنتاجية أخرى. ومن المعروف أن هذه البنوك أجنبية وكانت توظف جزءًا من أموالها في الخارج،
فكأنما بهذا كانوا يساهمون في تنمية المجتمعات بالخارج أكثر من مساهمتهم في تنمية المجتمع
المصري.
٤
لقد ساهم كبار المُلَّاك إذَن بأسلوب إنتاجهم وطرق استثماراتهم في خلق المشكلة الاجتماعية
في مصر؛ وهي المشكلة التي تتلخص في تركيز الثروة القومية في أيدي عدد قليل من الأفراد
بلغت
نسبته في مجال الزراعة ٠٫٥٪ كما سبقت الإشارة، وترتَّب على هذا التركيز وجود فوارق اجتماعية
واضحة بين مَن يملكون وسائل الإنتاج وبين مَن لا يملكون غير قوة عملهم يبيعونها لأصحاب
الثروات مقابل أجور زهيدة لا تتناسب مع مطالب الحياة.
ولقد أدَّى هذا كله — وهذا أمر طبيعي — إلى ظهور أفكار اجتماعية وحركات سياسية تنادي
بإيجاد حلول للمشكلة الاجتماعية في مصر، بعضها كان ينادي بتغيير الإطار الاجتماعي الذي
تتحرك فيه العلاقات الإنتاجية، وبعضها كان ينادي بتعديل هذه العلاقات في نطاق الإطار
الاجتماعي القائم دون مساس كبير بجوهر الثروة والسُّلطة والنفوذ.
والذي يعنينا في هذا المجال هو الكيفية التي نظر بها كبار المُلَّاك إلى المشكلة
الاجتماعية في مصر، والحلول التي رأوا أنها كفيلة بتهدئة الخواطر والنفوس الثائرة على
الأوضاع الاجتماعية. ويجدُر بنا قبل أن نتناول هذه النقطة أن نتعرف في إيجاز على الخلفية
الثقافية والاجتماعية التي واجه بها كبار المُلَّاك المشكلة الاجتماعية في مصر.
لقد رأينا في الفصل السادس كيف تمتع كبار المُلَّاك بمركز القوة في السُّلطتين، التشريعية
والتنفيذية، بحيث يصبح من المتوقَّع أن نعرف مقدَّمًا طبيعة التشريعات التي تصدُر، ونوعية
الأدوات التي تقوم بتنفيذها. كما كانت لهم السُّلطة في الأقاليم التي استمدوها من عضويتهم
في مجالس المديريات، ومن تولِّيهم منصب العُمدية في كثير من الأحيان. وكانت تقوِّي من
هذا
السلطان شبكة قوية من الأنساب والأصهار بين العائلات المختلفة.
٥ هذا فضلًا عن زواج بعض أفراد هذه العائلات من الأُسر التركية والأوروبية،
٦ مما أدَّى في النهاية إلى وجود حاجز قوي بين هذه العائلات وبين بقية فئات الشعب
المصري، لم يكُن من السهل تخطِّيه بأيِّ حالٍ من الأحوال.
ومن خلال هذه الوسائل تمكن كبار المُلَّاك من السيطرة على مقدرات الحياة في الأقاليم،
وخاصةً أولئك الذين كانت ملكياتهم تكاد تشمل نواحي بأكملها.
٧ واستطاعوا استنادًا إلى سُلطتهم الإفادة من الخدمات المتاحة في المحلِّ الأول،
إن لم تقتصر عليهم في أغلب الأحيان، وتخطِّي القانون في كثير من الأحيان، بل وارتكاب
المخالفات،
٨ وبعض هذه المخالفات كانت تتعلق بشقِّ مصارف ومساقٍ داخل الأراضي دون مراعاةٍ
للنُّظم المتبعة في مثل هذه الأحوال،
٩ أو تحميل الأهالي من صغار المزارعين والمستأجرين دفع نفقات إقامة مثل هذه
المشروعات، مع أنها تخدم أصحاب العزب في المحلِّ الأول،
١٠ بل وكان بعضهم يُحرِّم على صغار المزارعين الإفادة من المصارف التي تمرُّ في
أراضيهم، أيْ أراضي كبار المُلَّاك، حتى ولو كانت قريبةً من أراضي صغار المزارعين.
١١
وقد كان لترك كثير من كبار المُلَّاك الريف إلى المُدن، ظاهرة المالك الغائب، آثار
سيئة
على تطور الحياة في المجتمع الريفي، إذ أدت إلى إفقار الريف بحرمانه من تداول ثروات كبار
المُلَّاك فيه، وحرمانه من الإصلاحات العامة إلا فيما يتعلق بوسائل الزراعة، لأن كبار
المُلَّاك القادرين على تمويل المشروعات الإصلاحية لا يقيمون به،
١٢ باستثناء قلة قليلة من كبار المُلَّاك اهتموا بعمل شيء للنهوض بحياة عمال
الزراعة في أراضيهم، مثل تسهيل علاجهم من بعض الأمراض الطارئة وصرف الأدوية اللازمة.
١٣
أمَّا فيما يتعلق بالخلفية الثقافية لكبار المُلَّاك، فمن المُلاحَظ بصفة عامة أن
الجيل
الأول منهم، جيل القرن التاسع عشر، كان محدود الثقافة، فبعضهم لم ينَل حظًّا من التعليم،
والبعض الآخر تلقَّى علومًا أولية في مكاتب حفظ القرآن أو في الأزهر على أكثر تقدير ومدارس
الإرساليات التبشيرية الأجنبية، أمَّا أولادهم، أي الجيل الثاني والذي تلاه، فقد كانت
ظروفهم أفضل بكثير حيث أُتيحت لهم فرص التعليم في الخارج، وخاصةً في فرنسا وإنجلترا،
إما
على حساب الدولة في شكل البعثات العلمية أو على حسابهم الخاص، أو التعليم في المدارس
الأجنبية بالقاهرة والإسكندرية وعواصم المديريات.
١٤ وهكذا اتصلوا بمصادر الثقافة الليبرالية التي كانت سائدةً في أوروبا بصفة عامة،
فنهلوا منها، وتأثروا بها تأثرًا كبيرًا، وأصبحت الحرية الفردية بصورها المختلفة من حرية
العقيدة أو حرية الكلمة وحرية التملك … إلخ، تشكل مبدأً هامًّا وأساسيًا في تكوينهم
الثقافي.
ومن المُلاحَظ أن مثقفينا هؤلاء في تأثرهم بالثقافة الليبرالية لم يدركوا حقيقتَين
أساسيتَين تتعلقان بها وهما:
-
الأولى: أنها كانت تعبيرًا عن تحولات اقتصادية عريضة تمَّت على مراحل زمنية
مختلفة منذ أواخر العصور الوسطى، تم فيها تحطيم هيكل النظام الإقطاعي،
وسيادة مبدأ حرية العمل، حتى أصبح الفرد ومؤسساته فوق الحكومة، وأصبحت
سُلطة الحكومة تعبيرًا عن مصالح أصحاب وسائل الإنتاج.
-
والثانية: أن الليبرالية التي أطلُّوا عليها وانبهروا بها كانت قد تحولت إلى أداة
قهر في أيدي الرأسماليين أصحاب المصانع، لمواجهة الحركة العمالية المطالبة
بتصحيح الأوضاع.
ولا بدَّ أن ندرك هاتين الحقيقتين حتى نفهم رؤية كبار المُلَّاك للمشكلة الاجتماعية
في
مصر خاصةً، وأن مثقفيهم تأثروا بنمط الحياة الأوروبية حتى في حياتهم اليومية وفي مأكلهم
ومشربهم،
١٥ وكثيرًا ما كانوا ينظرون بازدراء إلى حياة المجتمع الريفي.
١٦
ولمَّا كان كبار المُلَّاك يحافظون على كل ما هو قديم ويقفون ضدَّ تغييره، فقد عملوا
من
البداية على وقاية النظام الاجتماعي السائد من رياح التغيير التي قد تعصف به، ومن هنا
كان
لا بدَّ وأن يقفوا ضدَّ الاتجاهات الاشتراكية وغيرها من الاتجاهات التي تهدف إلى تغيير
العلاقات القائمة، فرغم النصِّ على حرية الصحافة في الدستور، وحظر الرقابة عليها أو إنذارها
وتعطيلها، إلا أنها قد تخضع لذلك لوقاية النظام الاجتماعي، وكان الهدف من ذلك، كما جاء
في
المذكرة التفسيرية، حماية البلاد من الشيوعية.
١٧
وقد حرص الساسة المصريون باستمرار، وفي كل المناسبات، على إظهار النفور من الاشتراكية
وما
تحمله من خطورة على الكيان الاجتماعي، ففي الخطاب الذي ألقاه عدلي يكن بمناسبة إعلان
حزب
الأحرار الدستوريين، أشار إلى أن المبادئ الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم عليها سياسة
الحزب تعتمد على مبدأ الحرية الفردية المتَّشحة بظاهر من الاشتراكية التي لا تجني على
الحرية الفردية بقدر ما تخفِّف من غلواء المذهب الفردي، ولا تؤدي في الوقت نفسه إلى تحكم
الدولة في مصير الفرد كما تقرِّه مبادئ اشتراكية الدولة.
١٨
وفي خلال المناقشات التي كانت تجري بشأن تسويق
القطن ومحاولة فتح أسواق له في روسيا، حذَّر البعض من مغبَّة الاتصال بروسيا، وما قد
يترتب
على ذلك من نشر الشيوعية في البلاد «ذلك أن مصر لا ترى لها مصلحةً البتة في أن ينتشر
فيها
نظام الحكم الشيوعي».
١٩
وفي مناقشة نظام التسليف العقاري لصغار المُلَّاك، اقترح إسماعيل صدقي — بوصفه وزيرًا
للمالية ورئيسًا للمجلس الاقتصادي — عدم التوسع في الانتفاع بهذا النظام، بحيث يستفيد
منه
العدد الأكبر من المُلَّاك الزراعيين، لأن مثل هذا التوسع «سيؤدي إلى أن يوجَد في البلاد
نوعٌ من الاشتراكية الزراعية الحكومية، وهو أمر غير مرغوب فيه على الإطلاق».
٢٠
ولقد وصل التخوف من الاشتراكية إلى درجة أن وزيرًا مسئولًا يصرح أمام أعضاء مجلس
النواب
بأن الحكومة «ليست اشتراكيةً بحمد الله ولستُم كذلك»،
٢١ وإلى اتهام كل مَن ينادي بتحسين مستوى معيشة العمال والفلاحين بالشيوعية والعمل
على تخريب المجتمع، مثلما حدث في وزارة الوفد الأخيرة؛ إذ قدَّم أحمد حسين، وزير الشئون
الاجتماعية، مشروعًا يجعل الحدَّ الأدنى لأجور عمال الصناعة ٢٥ قرشًا وعمال الزراعة ٢٠
قرشًا، فثار عليه زملاؤه واتهموه بالشيوعية، وأنه يحاول قلب نظام البلد، حتى لقد طالب
عبد
اللطيف محمود، وزير الزراعة، بحبسه،
٢٢ هذا فضلًا عن إجراءات القمع والمطاردة والاعتقالات التي كانت الحكومة تقوم بها
ضدَّ التنظيمات الشيوعية، والتي بدأت منذ حكومة الوفد في عام ١٩٢٤م، واستمرت طوال الفترة،
واستصدار التشريعات التي تحُول دون تسرب المبادئ الشيوعية.
٢٣ ونحن نفهم من هذا أن معارضة هؤلاء السياسيين للاشتراكية مبعثه أنها ضدُّ شكل
العلاقة الاجتماعية القائمة ونمط الحياة الذي اعتادوه، وليس كما ذهب البعض في أن معارضة
الاشتراكية جاءت نتيجة الاعتقاد بأنها ضدُّ الدين.
٢٤
ويدعونا هذا الموقف إلى التعرف على المنهج الإصلاحي لدى كبار المُلَّاك بالنسبة إلى
المشكلة الاجتماعية في مصر، فقد ناقش مفكروهم المسألة من زاويتين رئيسيتين:
-
الأولى: زاوية الفكر الديني الإسلامي الذي يدعو للعدالة الاجتماعية، والبر
بالفقراء، وأن الله مقسِّم الأرزاق، وأنه إذا كان هناك مَن ينادي بتطبيق
الاشتراكية في مصر فإن الإسلام سبق المذاهب المعاصرة في إقرار مبادئ
العدالة والمساواة (أعطِ الأجيرَ أجرَه قبل أن يجفَّ عرقُه).
-
والثانية: زاوية الاعتزاز بالفردية والحرية المطلقة للفرد طبقًا لما تدعو إليه
الديمقراطية الليبرالية التي تهتمُّ بالفرد وتفوقه على السُّلطة الحكومية
كما سبقت الإشارة.
وكان محور هذا الفكر يدور حول الاعتقاد بأن الخلاص يكمن في احترام قواعد الدين وتعاليمه،
والاهتمام بالبر والإحسان في إطار من التضامن الاجتماعي، ورفع قيمة الضرائب على الدخول
العالية كأقصى الحلول الممكنة، ولكن دونما تعرض للملكية الفردية بأيِّ حال من الأحوال.
٢٥
وكثيرًا ما نبَّهوا إلى خطر البلشفية التي يحاول أصحابها نشرها في البلاد الإسلامية
مثل
تركيا وإيران والعراق وسوريا ومصر،
٢٦ ونبهوا إلى أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وهو يمزج بين الاشتراكية والفردية
دون إفراط بين الاتجاهين،
٢٧ وقولهم إن الإسلام وحده هو الذي يملك القدرة على علاج المشكلة الاجتماعية
«والمزج» بين الطبقات، ويضع لكلٍّ منها سياجًا يمنع أيًّا منها من الانقضاض على الأخرى،
وإنه يجب الرجوع إلى الإسلام دائمًا لاستنباط نُظم المجتمع من التشريع الإلهي الذي يوفر
لكل
طبقة حقَّها في الحياة.
٢٨
واعتقد أصحاب هذا المنهج أن إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية (١٩٤٠م)، وتوسيع نطاق
خدمات
وزارة الأوقاف، واستحداث مشروعات مثل مشروع القرض الحسن لتحسين حال الفقراء وإعانتهم،
خطوة
كبيرة في سبيل حلِّ المشكلة الاجتماعية وتطبيق للاشتراكية «الخيرية» التي تتميز عن
الاشتراكية الماركسية الهادمة.
٢٩
وكان طبيعيًّا، والحال كذلك، أن تأتي برامج الأحزاب السياسية فيما يتعلق بالمسألة
الاجتماعية مستندةً إلى ذلك المنهج في الإصلاح من حيث المحافظة على العلاقات الاجتماعية
القائمة أو تعديلها في نفس الإطار القائم، ويجب ألَّا ننسى هنا أن كبار المُلَّاك كانوا
منتشرين في كل هذه الأحزاب بنِسَبٍ متفاوتةٍ كما سبقت الإشارة. والمُلاحَظ بصفة عامة
أن
الإشارات التي جاءت في هذه البرامج، والمتعلقة بشكل علاقات العمل، كانت لا تتصل إلا
بالعلاقات بين عمال الصناعة وأصحاب المصانع، دون الإشارة ولو بطريق غير مباشر إلى حالة
عمال
الزراعة.
فحزب الأحرار الدستوريين جعل من مبادئه «السعي في تنظيم العلاقات في المصانع والمتاجر
بين
العمال وأرباب الأعمال على قاعدة العدل، اتقاءً للأمراض الاجتماعية الناشئة عن تحكم أحد
الفريقين» (مادة ١٨ من مبادئ الحزب).
٣٠
أمَّا حزب الاتحاد، فقد أشار في برنامجه إلى ضرورة تنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب
المصانع (مادة ٨)، ولكن لم يذكر قاعدته في ذلك، وعندما أشار إلى ترقية حال الفلاح ماديًّا
وأدبيًّا (مادة ٧)، رأى أن ذلك يأتي عن طريق تعميم النقابات الزراعية وإنشاء التُّرع
والمصارف وزيادة المساحات الصالحة للزراعة، فأثبت بهذا التعميم الذي تسبح فيه كلمة «فلاح»
من حيث إنها تشمل المالك والمستأجر وعامل الزراعة.
٣١
وأمَّا حزب الشعب فقد اكتفى هو الآخر بالإشارة إلى ترقية شئون العمال وتنمية روح
التعاون،
ولم يوضح ما إذا كان يقصد عمال الزراعة أم الصناعة، والمعتقد أنه كان يقصد عمال الصناعة
طبقًا للعرف السائد آنذاك.
٣٢
أمَّا حزب الوفد فقد أشار إلى اهتمامه بحالة الفلاح والقرية المصرية وما يبذله من
جهد نحو
هذا الهدف، وكان من بين البحوث التي قُدِّمت في المؤتمر الوفدي الثاني في نوفمبر ١٩٤٣م،
ثلاثة بحوث تناولت وجهة نظر الوفد في القرية المصرية، وهذه البحوث كانت: «قانون تحسين
الصحة
القروية وأثره على الصحة العامة للدكتور مصطفى أبي علم، تناول فيه جهود الوفد في إنشاء
المجموعات الصحية بالريف اعتمادًا على تبرعات كبار المُلَّاك وإعانات الحكومة، وبحث عن
«الوفد والفلاح» للنائب عبد الفتاح الشلقاني، استعرض فيه جهود الوفد في إلغاء السُّخرة
وتخفيف الضرائب وإنشاء المراكز الاجتماعية، ولكن دون إشارة إلى علاقات العمل بين المُلَّاك
والمستأجرين أو عمال الزراعة سوى أن الوفد يعمل على دراسة مختلف التشريعات والنظم الخاصة
بعمال الزراعة في الدول المختلفة، ليقتبس منها ما يلائم الظروف القائمة والمصالح المشتركة.
أمَّا البحث الذي قدَّمه فؤاد سراج الدين بعنوان «وزارة الشئون والوفد» فقد تركز على
ما
قدَّمته حكومة الوفد لعمال الصناعة، دون إشارة من قريب أو بعيد لعمال الزراعة.
٣٣
كما كانت هذه النظرة الإصلاحية مسيطرةً حتى على تجمعات حزبية أخرى أعلنت أنها تهتمُّ
بالمشكلة الاجتماعية، ولو أنه لم يكُن لها وجود في البرلمان … فعندما تأسس الحزب الديمقراطي
بقيادة مصطفى عبد الرازق ومنصور فهمي ومحمود عزمي وعزيز ميرهم ومحمد حسين هيكل، اختلفوا
حول
البرنامج الاقتصادي للحزب؛ حيث كان عزيز ميرهم يميل للاشتراكية، وكان يودُّ الوصول إلى
تحقيق طرف منها، وانتهى الأمر إلى طرح المشكلة الاجتماعية جانبًا والاكتفاء بالجانب السياسي
الذي يهدف إلى المطالبة بالاستقلال السياسي.
٣٤
أمَّا حزب الشعب الذي كوَّنه إبراهيم محمد المحامي في أغسطس ١٩٢٨م، فقد جاء برنامجه
خلوًا
من أيِّ إشارة إلى جوهر القضية الاجتماعية، فقد جعل من أهدافه الاستقلال الاقتصادي والإصلاح
المالي والصحي والأدبي والعمراني مع التشبث بالاستقلال السياسي.
٣٥
أمَّا حزب الفلاح الاشتراكي (١٩٣٨–١٩٥٢م) الذي كان أولى الهيئات لرعاية الفلاحين
والعمل
على حلِّ مشكلاتهم، فقد خلا برنامجه من الإشارة إلى معالجة سوء توزيع الملكية الزراعية،
ورغم نصِّه على أنه يستهدف الوصول إلى تحديد العلاقات الإنتاجية بين الفلاحين والمُلَّاك،
إلا أنه أعلن أن هذا التحديد يجب أن يتناسب مع مصلحة الفلاح ورفع مستواه وبحيث لا يتعارض
مع
مصلحة المالك،
٣٦ وهو أمر يصعب تحقيقه، وحتى عندما ألَّف محمد زكي عبد القادر وزملاء له «جمعية
الفلاحين»، وأشار في خطابه التأسيسي إلى الفوارق الهائلة بين زيادة السكان وثبات المساحة
الزراعية وسوء توزيع الملكية، تحرك ضدَّه القلم السياسي حتى توقَّف نشاطه الذي لم يتعدَّ
في
الواقع سوى بضعة مقالات في مجلة «الفصول»، وزيارات لبعض قُرى الريف المصري، حيث لمس فيها
فقر الإمكانات.
٣٧
وهكذا أُسقطت المسألة الاجتماعية من برامج الأحزاب السياسية خلال الفترة، ولم يقتصر
الأمر
على ذلك، بل لقد حال كبار المُلَّاك دون إصدار تشريعات لصالح هذه المسألة من قريب أو
بعيد،
فعندما اقترح علي ماهر أن يتضمن الدستور (دستور ١٩٢٣م عند إعداده) نصًّا بتحديد ساعات
العمل
في الصناعات المختلفة وكذلك طريقة تشغيل النساء والصبية … نهض عبد العزيز فهمي وطالب
بألَّا
يُذكر هذا النصُّ في الدستور على الإطلاق، وكانت حُجَّته في ذلك أن مسألة العمال «لا
تخصُّنا»، إذ لا يوجد عمال صناعة سوى لفَّافي السجائر وأضرابهم، وهم قلَّة لا تشكِّل
نواة
الثورة في البلد، وإنما العمال الحقيقيون هم الفلاحون، فإذا ما قرر الدستور هذا النصَّ
«يخشى أن تقوم غدًا ستمائة نقابة تبثُّ الفتن في الفلاحين، وتخلق مشاكل لا قِبَل لنا
بها …»
وواجه هذا الاقتراح اعتراضًا عامًّا من جانب أعضاء اللجنة العامة للدستور وتقرر رفضه
بالأغلبية.
٣٨
ولعلَّ هذا يفسر العقبات التي كانت تعترض الاعتراف بالنقابات العمالية وبتشريعات
التأمينات الاجتماعية للعمال، رغم التنويه باستمرار بأن الهيئات النيابيَّة متهمة بأنها
تمثل أصحاب رءوس الأموال الصناعية والزراعية.
٣٩
ولمَّا اعترفت الحكومة بالنقابات العمالية بالقانون رقم ٨٥ لسنة ١٩٤٢م (حكومة الوفد)،
جاء
مليئًا بالثغرات، فهو يُخرج عمال الزراعة من التكوين النقابي، ويحُول دون قيام الاتحادات
العمالية، كما فرض على النقابات تبليغ وزارة الداخلية بالاجتماعات التي تُزمع عقدها قبل
الموعد بوقتٍ كافٍ، حتى يكون في الإمكان رصد حركة العمال، كما أعطى الحكومة حقَّ حلِّ
النقابة حلًّا إداريًّا إذا ما رأت — أي الحكومة — أن النقابة تنوي ممارسة نشاط سياسي
أو
نشاط نقابي ظاهر.
٤٠
وعندما صدر قانون عقد العمل الفردي رقم ٤١ لسنة ١٩٤٤م، في ١٠ مايو (حكومة الوفد)،
أخرج
أيضًا عمال الزراعة من دائرته، وأجاز أن يكون العقد شفويًّا إذا كان أجر العامل اليومي
أو
الأسبوعي أو الشهري يقلُّ في حجمه، في مجمله، عن عشرة جنيهات، وبذلك انفتح المجال أمام
أصحاب الأعمال للتلاعب والتحايل على القانون وتعريض مصالح العمال للخطر.
٤١
ويذكر محمد زكي عبد القادر أنه أعدَّ بحثًا عن «البطالة ووسائل علاجها»، وأرسل نسخًا
منه
للمشتغلين بالشئون الاقتصادية والمالية والشئون العامة، فاستدعاه طلعت حرب مؤسس بنك مصر،
وكان ممَّن وصلتهم نسخة من هذا البحث، وقال له: إن الدعوة إلى إدخال نظام التأمين الاجتماعي
للعمال مُعرقِل لنمو الصناعات، ويؤدي إلى متاعب جمَّة، فضلًا عن أن فيه تفتيحًا للأذهان.
٤٢
على أن أقصى ما وصلت إليه اهتمامات كبار المُلَّاك بعمال الزراعة والفلاحين بصفة
عامة، هو
الدعوة إلى توفير أسباب الصحَّة والعلاج لهم،
٤٣ وذلك بردم البرك والمستنقعات المحيطة بمساكنهم، وإنشاء دورات مياه صحية في كل
قرية. أمَّا إنشاء القرية النموذجية المجهَّزة مساكنها بالغرف الصحية والحمامات وإنارتها
بالكهرباء وتزيينها بالمقاهي وأماكن التسلية، «فهذه مظاهر لا تفيد الفلاح، بل تفسده لأنها
تؤخره عن عمله وتدعوه إلى النفور من طبيعته الخشنة التي ألِفها وتعوَّد عليها آباؤه وأجداده».
٤٤
ويتصل بهذا الموقف موقف آخر لكبار المُلَّاك، وهو موقفهم من مسألة التعليم الأولي؛
فرغم
أن الدستور نصَّ على أن التعليم الأولي إلزامي للمصريين من بنين وبنات، وهو مجاني بالمعاهد
الأميرية،
٤٥ إلا أنهم أبدوا تخوفهم من تعليم أولاد الفلاحين، لأن ذلك يعدُّ خطرًا
اجتماعيًّا «حين يتعلم ابن الصرَّاف وابن الساعي»، وأنه يكفي تعليمهم القراءة والكتابة
والقرآن والتهذيب وشيئًا من الحساب لاستخدامه في البيع والشراء، وأنه يجب ألَّا نعلِّم
الأطفال تعليمًا يتنافر مع طرق معيشة آبائهم وعاداتهم.
٤٦
وتجددت هذه الآراء مرةً أخرى عند مناقشة ميزانية التعليم الأولي أو الإلزامي لعام
١٩٣٧-١٩٣٨م، حيث رأى أحد النواب من كبار المُلَّاك (محمد عزيز أباظة) أنه لا فائدة من
أن
يشمل التعليم الأولي علوم الجغرافيا والتاريخ، والأفضل أن يدرسوا الشادوف والنورج وكل
ما
يتعلق بالزراعة.
٤٧
لقد تخوف إذَن كبار المُلَّاك من تعليم أولاد الفلاحين تعليمًا أوليًّا، وكانوا يرون
في
ذلك خطرًا اجتماعيًّا هائلًا، حتى إذا أدركوا أنه ليس هناك مفرٌّ من ذلك طالبوا باقتصار
التعليم على العلوم الدينية والقرآن وقدْر بسيط من الحساب ومطالعة الموضوعات المتصلة
بالزراعة. وهذا أمر طبيعي، فإن اتصال أولاد الفلاحين بفروع المعرفة الأخرى كفيل بأن ينمي
في
أذهانهم حُبَّ المعرفة والتزود منها، ومن ثَم يتعرفون على الواقع الاجتماعي الذي يعيشون
فيه، مما يؤدي في النتائج النهائية إلى خلْق بذور الثورة الاجتماعية في نفوسهم.
لكل هذه الاعتبارات ظلَّ التعليم الأولي غير منتشر الانتشار الواجب، وغير مطبق تطبيقًا
شاملًا حتى نهاية الأربعينيات، حيث ظلَّ — كما لاحظ محمد حسين هيكل — أكثر من ثُلثَي
البنين
والبنات ممَّن في سنِّ الإلزام خارج المدارس.
٤٨
أمَّا موقف كبار المُلَّاك من الإصلاح الزراعي، وهي المسألة التي فرضت نفسها كنتيجة
لسوء
توزيع الملكية الزراعية وتركيز الكبيرة منها في ٠٫٥٪ من مجموع المُلَّاك كما سبقت الإشارة،
فقد اتصف بالحفاظ على مصالحهم ومعارضة أيِّ رأي ينادي بإعادة توزيع الملكيات الزراعية،
والوقوف ضدَّ أيِّ مشروع يتعرض من قريب أو بعيد لحجم هذه الملكيات وتحديدها، ولقد استطاعوا
بالفعل من خلال تمركزهم في السُّلطات التشريعية والتنفيذية إبطال المشروعات الخاصة بالإصلاح
الزراعي.
ومن المُلاحَظ أن مشروعات الإصلاح الزراعي التي أُثيرت خلال الفترة، كانت تنقسم إلى
قسمين
رئيسيين:
-
الأول: تحديد الملكية الزراعية الكبيرة بخمسين فدَّانًا أو مائة فدَّان.
-
والثاني: توزيع أراضي الدولة والأراضي المستصلحة على صغار المزارعين، حتى يتحقق
التوازن الاجتماعي. ولم يُنادِ أيُّ مشروع بإلغاء الملكية الكبيرة وإعادة
توزيع الملكيات الزراعية.
ومن المفيد أن نعرض لبعض الآراء التي تناولت فكرة الإصلاح الزراعي ونبهت إلى ضرورة
إيجاد
التوازن الاجتماعي، فقد ذكر الدكتور عبد الواحد الوكيل أن عدد السكان في مصر زاد بنسبةٍ
فاقت زيادة الأراضي المنزرعة، وبالتالي هبط مستوى ما يخصُّ الفرد الواحد من الأراضي من
٢١
قيراطًا في عام ١٨٩٧م إلى ١٧٫٥ قيراطًا في ١٩٠٧م إلى ١٦ قيراطًا في ١٩١٧م إلى ١٤ قيراطًا
في
١٩٢٧م، ثم إلى عشرة قراريط في عام ١٩٣٧م، كما أن أغلب الفلاحين المصريين لم يرتفعوا عن
كونهم أُجَراء أو عمال زراعة نظرًا لتركز الملكية الزراعية، ثم قال إن علاج هذا الحال
لن
يكون إلا بوضع حدٍّ أقصى للملكية الفردية كما حدث في رومانيا.
٤٩
أمَّا مريت غالي فقد نادى بأن يكون الحدُّ الأقصى للملكية الكبيرة مائة فدَّان فقط،
٥٠ وذلك بمنع تسجيل الأراضي فوق هذا الحد، أو بطريق غير مباشر، وذلك عن طريق
التصاعد في الضريبة على الأطيان.
وأوصى المؤتمر الزراعي الثالث (١٩٤٩م) بإصدار تشريع يضع حدًّا أعلى للملكيات الزراعية،
وتشريع آخر يمنع تفتت الملكية الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أفدنة، ولكنه لم
يوضح
الحدَّ الأقصى للملكية الكبيرة.
٥١
على أن أقصى ما كان يدعو إليه هؤلاء المفكرون لإيجاد التوازن الاجتماعي هو خلق طبقة
جديدة
من صغار المُلَّاك الزراعيين، يتراوح ما يملكه الفرد فيها بين فدَّان وثلاثة أفدنة تُوزَّع
عليهم من أراضي الحكومة البور، وهذا الإجراء يؤدي — فيما أملوا — إلى القضاء على كل احتمال
لنشوء الآراء الاجتماعية المطالبة بالتغيير، لأن هذه الملكيات الجديدة ستغري الفلاح الصغير
بتوسيعها أو زيادتها والاعتزاز بها والحرص عليها وتثبت في نفسه، «وهذا له أهميته»، روح
الحقد على كل رأي قد يحرمه من تلك الملكية التي ستكون مع الزمن جزءًا من كيانه.
٥٢
وهناك مَن كان يرى أن حلَّ المشكلة يأتي ببعض الإجراءات مثل تحديد إيجار الأراضي
بثلاثة
أمثال الضريبة الحكومية، وتحديد أجر العامل الزراعي بعشرة قروش في اليوم، ومنع استخدام
الآلات الميكانيكية في الزراعة لمدَّة عشر سنوات تقبل التجديد كوسيلة لاستيعاب العمال
الزراعيين، وأن تقوم شركة التعاون بالتأمين على ثروة الفلاح من الماشية، كما ينبغي أن
تقوم
الحكومة بمنح كل رجل وامرأة في الريف مبلغ خمسين قرشًا كل شهر متى بلغوا سنَّ الستين.
٥٣
ورأى آخرون أن تُفرض ضريبة إضافية على الأراضي التي آلت إلى أصحابها بطريق المنح
أو
الهبات علاوةً على ضريبة الأطيان العادية، وذلك تمييزًا لها من الأراضي التي امتلكها
أصحابها بالشراء، وفي ذلك إحداث للتوازن الاجتماعي.
٥٤
وبجانب هذه الآراء الخاصة بمسألة الإصلاح الزراعي، قدَّم أحد أعضاء مجلس الشيوخ (محمد
خطاب) مشروعًا يقضي بأن يكون الحدُّ الأقصى للملكية الزراعية خمسين فدَّانًا، بحيث لا
يجوز
أن يمتلك الفرد أراضي جديدةً فوق هذا الحدِّ، فيما عدا الأراضي التي تئول بالميراث، كما
لا
يجوز الوقْف فيما يزيد على الخمسين فدَّانًا للفرد الواحد.
ولقد واجه هذا المشروع معارضةً قويةً وشديدةً داخل المجلس، رغم أن لجنة الشئون الاجتماعية
والعمل بالمجلس عدَّلته ورفعت حدَّ الملكية إلى مائة فدَّان، وكذا ملكية الوقْف، فقد
طالب
البعض بتأجيل مناقشة هذا المشروع، وطالب البعض برفضه كلية، وطالب آخرون بإحالته على لجنة
موسعة ومناقشته خارج المجلس في شكل ندوات علمية قبل مناقشته بالمجلس.
٥٥
وكان رأي الحكومة (وزارة النقراشي) في هذا المشروع أن الأهداف المقصودة من ورائه
يمكن
التدرج في الوصول إليها بوسائل أخرى يجب استنفادها قبل التفكير في مثل هذا المشروع الخطير،
مثل فرض الضرائب التصاعدية على الإيرادات بأنواعها وتنظيم العلاقات بين المُلَّاك
والمستأجرين … إلخ. وأضافت أنه إذا كان المشروع يهدف إلى تشجيع الصناعات بطريق غير مباشر،
فلدى الحكومة من وسائل هذا التشجيع ما يُغني عنه، فضلًا عن أنه لا يتحتم أن يؤدي هذا
المشروع إلى تشجيع الصناعة بالضرورة.
٥٦
ولقد انتهى الأمر بإحالة المشروع إلى لجنة مكونة من أعضاء لجنة الشئون الاجتماعية،
أضيف
إليها ثلاثٌ من كل لجان المالية والعدل والأشغال والزراعة، على ألَّا يكون انعقاد اللجنة
صحيحًا إلا إذا حضر أغلبية ممثلي كل هذه اللجان، فإذا حضرها جميع الأعضاء إلا اثنين من
إحدى
اللجان يبطل انعقادها. وبهذا لم يكُن من الميسور انعقاد اللجنة أبدًا، وبقي المشروع معلقًا
حتى خروج محمد خطاب من مجلس الشيوخ، فكتبت اللجنة تقريرًا للمجلس دافعت فيه عن الملكيات
الكبيرة وفائدتها للاقتصاد القومي وعن قدرة المالك الكبير دون الصغير على تحسين الإنتاج
وزيادته، وأوصت برفض المشروع.
٥٧
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ، فقد كان محمد خطاب عضوًا بالهيئة السعدية، فلما
قدَّم
مشروعه عارضه النقراشي رئيس الحزب ورئيس الوزارة، فاستقال خطاب من الحزب في مايو ١٩٤٥م.
ولمَّا انتهت مدَّة عضويته من مجلس الشيوخ، وكان عضوًا معيَّنًا، رفض النقراشي إعادة
تعيينه
مرةً أخرى، فرشح نفسه للعضوية بدائرة عابدين عام ١٩٤٧م، إلا أن الحكومة حاربته مما أدَّى
إلى سقوطه في الانتخابات، هذا إلى أن رئيس مجلس الشيوخ أدلى بتصريح إلى مجلة المصور،
قال
فيه إن «مجلس الشيوخ وُجد ليحدَّ من المشروعات الثورية ومن الطفرات التي يندفع إليها
تطرف
الآراء باسم التقدم الذي لا يتفق وشرع البلاد».
٥٨
ويُلاحَظ أن هذه المشروعات الخاصة بالإصلاح الزراعي تدخل في نطاق الفكر الليبرالي
الذي
يعمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه دون التعرض لعلاقات العمل أو لإطار النظام الاجتماعي القائم،
كما تهدف إلى توسيع الملكيات المتوسطة حتى تحُول في المستقبل دون تغلغل الآراء المطالبة
بإلغاء الملكية الفردية للأراضي الزراعية.
ومع هذا فلم تلقَ هذه المشروعات آذانًا صاغيةً، لا من الحكومة ولا من المُلَّاك فكلاهما
نسيج اجتماعي واحد كما عرفنا، بل على العكس سخَّفوا من الآراء التي حاولت الربط بين انخفاض
مستوى المعيشة وسوء توزيع الملكية، وقالوا إن إعادة توزيع هذه الملكية لا يفيد الفائدة
المرجوَّة، نظرًا لضيق الأرض وتزايد السكان، وأن الرأي الصحيح هو قيام الحكومة — كما
حدث في
اليابان — بالإشراف على الصناعة والتجارة دون تقييد للملكية الزراعية، إلا إذا فشلت الحكومة
في تشجيع الأفراد على النشاط التجاري والصناعي.
٥٩
ورأى آخرون أن تحديد الملكية فيه «ظلم وخسارة على البلاد»، لأن الملكيات الكبيرة
تؤدي إلى
زيادة الإنتاج باستعمال وسائل الزراعة الحديثة مما لا يتيسر في المساحات الصغيرة، وأنه
يكفي
في هذا المجال تحديد الإيرادات بحيث لا تزيد على حدٍّ معيَّن.
٦٠
وإذا كانت هذه آراء ومواقف كبار المُلَّاك من مسألة الإصلاح الزراعي، فلقد كانت الحكومة
لا تختلف عن ذلك كثيرًا، إذ كانت سياستها — وهي تعبير عن أصحاب المصالح الزراعية الكبيرة
—
بعيدةً كل البُعد عن أيِّ محاولات للحدِّ من الملكية الزراعية الكبيرة، رغم إشارة خطب
العرش
دائمًا إلى محاولة الحكومة صيانة الملكيات الصغيرة والإكثار منها لإحداث التوازن الاجتماعي
المطلوب، ولم يكُن من المتوقَّع — في تقديرنا — أن تُقدِم الحكومة، تحت أيِّ ظرف من الظروف،
على تحديد الملكية الزراعية بحدٍّ أقصى ولو حتى لألف فدَّان، ذلك أن الدستور الذي وضعه
أصحاب المصالح الزراعية، كما سبقت الإشارة، يقدِّس الملكية وينصُّ على عدم مشروعية مصادرتها
أو حرمان أصحابها منها، فيقول إنه ﻟ «الملكية من أيِّ نوع كانت حرمة، فلا يجوز حرمان
أحد من
ملكه إلا بسبب المنفعة العامة في الأحوال المقررة في القانون، وبشرط تعويضه عنه تعويضًا
كاملًا»، ثم ينصُّ على أن «عقوبة مصادرة الأموال عامة ممنوعة».
٦١
وبهذا ظلَّ نظام الحكم في مصر مخلصًا لمبدأ حرية العمل ورفض مجرد المساس به، بل إن
الإجراءات الاجتماعية التي قررها خلال الفترة كانت ذات طبيعة إنسانية، أيْ من باب العطف
على
بقية جماهير الشعب المصري، ولم تكُن محاولةً للإصلاح الاجتماعي، وإذا كان قد اعترف
بالنقابات العمالية، مثلًا، فقد كان ذلك — كما لاحظ مارسيل كولمب — محاولةً لوضع حدٍّ
للمساوئ الصارخة وتهدئة النفوس الثائرة.
٦٢
تلك كانت آراء ومواقف كبار المُلَّاك من المسألة الاجتماعية في مصر خلال الفترة، وهي
مواقف اتسمت بالحفاظ على مصالحهم، والحيلولة دون التعرض لإطار النظام الاجتماعي القائم
والعلاقات الاجتماعية السائدة، حتى لقد وقفوا بشدة ضدَّ التيارات الفكرية التي كانت تنادي
بالتغيير، وتصدَّوا لكل محاولات الثورة على نظام الحكم القائم، ووصفوا أصحاب هذه المحاولات
بالتطرف والعصيان.
ومن هنا نفهم لماذا كانت تجمعات الإخوان المسلمين والشيوعيين ومصر الفتاة في صدام
دائم مع
سُلطات الحكم القائم ومع أيِّ حزب من الأحزاب الحاكمة، وذلك رغم ما بين هذه التجمعات
من
خلافات جذرية في الأساس، إلا أنها كانت مُجمِعة — ولا شك — على ضرورة الثورة على النظام
القائم. وحين ازداد نمو الاتجاهات الثورية المطالبة بالتغيير، تزعَّم كبار المُلَّاك
أو
أصحاب المصالح الخاصة الاتجاه الإصلاحي في المجتمع، أيْ تعديل جانب من العلاقات الاجتماعية
القائمة، ولكن دون المساس بجوهرها أو بجوهر النظام ككل، واعتقدوا أن ذلك كفيل بتهدئة
النفوس
الثائرة.
فهل كان كبار المُلَّاك إذَن يكوِّنون طبقةً اجتماعيةً واحدةً اتخذت مواقف واحدةً
وعاشت
نمطًا اجتماعيًّا واحدًا؟
في ضوء الشروط الخاصة بتحديد أصل الطبقة الاجتماعية نستطيع أن نقول إن كبار ملاك الأراضي
الزراعية في مصر كانوا يكوِّنون فئةً اجتماعيةً تجمع بين أفرادها خصيصةُ ملكية الأراضي
الزراعية باعتبارها مصدرًا من مصادر الثروة، وكانوا من ناحية أخرى جزءًا من طبقة أوسع
هي
طبقة أصحاب وسائل الإنتاج، والتي تضمُّ أصحاب الشركات التجارية والصناعية بالإضافة إلى
أصحاب الأراضي الزراعية بطبيعة الحال.
ولقد توفرت فيهم الشروط العامة للطبقة الاجتماعية، كما اتفق عليها علماء الاجتماع
والاقتصاد السياسي، إذ كانت الأرض الزراعية مصدر ثروتهم الأساسي، بالإضافة إلى استثمارهم
فائضَ أرباحهم من الإنتاج الزراعي في مجال الشركات المساهمة، كما كان عملهم يختلف بين
الزراعة والتجارة والصناعة، كذلك كانوا يعيشون حياةً اجتماعيةً واحدةً كفلتها شبكة قوية
عريضة من الأصهار والنَّسب بين العائلات بعضها بعضًا، هذا إلى أن نوع الثقافة كان واحدًا
في
أغلب الأحوال، فقد كان مصدر ثقافة الجيل الأول منهم التعليم الديني في الأزهر أو مكاتب
حفظ
القرآن في الأقاليم أو مدارس الإرساليات التبشيرية الأجنبية، أمَّا الجيل التالي لهم،
أيْ
جيل الأبناء، فقد كانت ثقافته ليبراليةً تحصل عليها من الاتصال بالمجتمع الأوروبي، سواءً
من
خلال البعثات التي أرسلتها الدولة إلى بلاد أوروبا وخاصةً فرنسا وإنجلترا، أو من خلال
انتشار مناهج التعليم في المدارس والجامعات التي كانت تنقل أنماط الحياة الثقافية والفكرية
في أوروبا، والتي كانت قائمةً على الليبرالية كمنهج في الحياة.
وإذا كان هنا تنوع في هذه الشروط بين أفراد هذه الطبقة بحيث يصعب وضعهم في قالب نمطي
واحد، فهذا لا يعني افتقاد شرط من شروط الطبقة، لأن هذا التنوع هو تنوع في إطار الوحدة،
أو
هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع على أكثر تقدير.
٦٣